جيل جديد من الشباب يلتف على الشلل السياسي في العراق

مجموعة الازمات الدولية

2019-03-14 06:18

بقلم ماريا فانتابيه

من خلال الأبحاث التي أجرتها مستشارتنا رفيعة المستوى لشؤون العراق ماريا فانتابييه حول المحادثات الجارية لتشكيل ائتلاف عراقي حاكم جديد، وجدت بلداً تتلهف نساؤه، ومجتمعه المدني ومسؤولوه وحتى سياسيوه لإحداث تغيير من القاعدة إلى القمة لنظامِ حكمٍ موجه من القمة إلى القاعدة وصل إلى وضع مأزوم.

بغداد – لقد أمضيت جزءاً من مسيرتي المهنية – كأكاديمية ومستشارة للاتحاد الأوروبي ومحللة للسياسات – أتحدث مع كبار صناع السياسات في العراق. وفي الاجتماعات العديدة التي عقدتها معهم، حاولت أن أفهم الهيكليات السياسية المعقدة لبلد دمرته الحرب، والعقوبات، والاحتلال الأجنبي والصراع الداخلي. من السهل أن ينجرّ المرء إلى تخصيص أكبر قدر من التدقيق لما يحصل على القمة، والتركيز على الحكومة، والتحديات التي تواجهها داخل العراق وخارجه، وعيوب النظام السياسي الذي نشأ بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للبلاد في العام 2003. إننا ننزع إلى نسيان أنه عندما يخفق النظام السياسي في تقديم ما هو متوقع منه، فإن المجتمعات قد تنظّم أنفسها وتجد حلولاً بمفردها.

زرت بغداد بين تشرين الأول/أكتوبر وشباط/فبراير لأبحث في العملية الصعبة والطويلة لتشكيل الحكومة، والتي لم تكتمل بعد. تركيبة الحكومة جديدة لكنها للأسف مألوفة أيضاً. لقد شكل تعيين تكنوقراط بدلاً من أعضاء في الطبقة السياسية في المناصب الوزارية محاولة لإطلاق مرحلة انتقالية تبتعد عن نظام سياسي معطل. غير أن التكنوقراط يظلون معتمدين على الشخصيات السياسية القديمة التي ليس لها مصلحة كبيرة في إصلاح نظام يخدمها. وبذلك المعنى، فإن العراق يقف على مفترق طرق. ثمة شعور بالأمل والاستعداد للإصلاح بموازاة اعتقاد عنيد بأن نظاماً معطلاً سيستمر في مسيرته المتعثرة.

لقد أدت محاولة واشنطن بعد الغزو لإعادة تشكيل العراق إلى ترسيخ السياسات الطائفية في البلاد؛ حيث مكنت الأحزاب السياسية المنظمة على أسس عرقية أو طائفية، وجعلت من شبه المستحيل على أي شخص الارتقاء في المناصب الحكومية دون أن يكون عضواً في أحد هذه الأحزاب. كما دفعت السياسات العرقية – الطائفية، إضافة إلى الاقتصاد القائم على النفط، إلى إحباط إمكانية الترقية على أساس الجدارة في القطاع العام، الذي يوظف غالبية السكان العاملين. بل إنها شجعت، بدلاً من ذلك، الرعاية والمحسوبية التي تدفع موظفي القطاع العام و(بشكل غير مباشر) الجميع إلى الاعتماد على الطبقة السياسية للوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة، والتعليم الجيد والوظائف الجيدة. الطبقة السياسية فاقدة لمصداقيتها إلى حد كبير، وسياساتها غير فعالة وغير شعبية، لكن العراقيين يشعرون أن النظام لن يعمل بدونها.

ولأن الطبقة السياسية تستفيد بشكل عام من هذه الحلقة المفرغة، فإنني لا أفاجأ عند يقول بعضهم بصراحة: "نريد أن نحافظ على الوضع كما هو. هذا أكثر ملاءمة للجميع". إلا أن بعض التكنوقراط المعينين حديثاً متلهفون للخروج من هذه الحلقة. وأنا هنا لأفهم كيف يمكن فعل ذلك.

المنطقة الخضراء

يبدأ أسبوع معتاد باجتماع مع وزير جديد معين في الحكومة. يرسل سيارة مصفحة لتقلّني، ما يسهّل عبور الحواجز الكثيرة في المدينة. يأخذني السائق إلى المنطقة الخضراء، وهي منطقة محصنة يعيش العديد من المسؤولين العراقيين ويعملون فيها، رغم أن معظم الوزارات موجودة في أماكن أخرى من المدينة. منذ وقت طويل لا يسمح بالوصول إلى أجزاء منها، لكن منذ الغزو الأميركي، فُصل هذا الجزء عن باقي أجزاء بغداد وباتت جدرانها المرتفعة وأسيجتها من الأسلاك الشائكة تشكل ترجمة للانفصال الصارخ بين الحكومة والمجتمع إلى انقسام جغرافي محسوس.

تمثل أحد القرارات الأولى التي اتخذتها الحكومة الجديدة في كانون الأول/ديسمبر في إعادة فتح أجزاء من المنطقة الخضراء أمام السكان في الصباح الباكر وفي وقت متأخر من المساء. يتذكر السائق الذي يقلّني، عباس، تلك اللحظة بوصفها مثيرة ومفرحة، ويصر على أن نعبر اليوم جسر 14 تموز/يوليو، وهو امتياز كان الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة والحكومات العراقية التي تلته يحصره ذات يوم بأشخاص يحملون شارة مناسبة تصدرها الحكومة. ويقول وهو يعبره: "كان هذا الجسر مغلقاً أمامنا على مدى 15 عاماً. أرادوا أن يحتفظوا بهذا الجزء من المدينة لأنفسهم".

عندما يحين الموعد يقودنا الوزير إلى غرفة اجتماعات ونبدأ بالحديث حول دوره في الحكومة. إنه رجل تكنوقراطي، ويدّعي أنه لم يكن يرغب بهذا المنصب، لكن رئيس الوزراء الجديد، عادل عبد المهدي، وهو صديق قديم له، ضغط عليه ليقبل. إنه حريص على تحسين تقديم الخدمات، لكنه يصف نفسه على أنه محكوم بالفشل أو أن فرصته في النجاح ضئيلة. ويصر على أن كبار المسؤولين في وزارته سيحبطون جهوده، لأن لهم مصالحهم الخاصة التي تقضي بالمحافظة على الأمور كما هي تماماً.

ويقول: "مهما كانت الإصلاحات التي قد تكون في ذهني، فإنني لا أستطيع تنفيذها في وزارتي. قبل أن أشرع بأي إصلاح من القمة، سيترتب علي استبدال جميع المدراء العامين [مناصب رفيعة في الإدارة العراقية] أو تكليفهم بمهام مختلفة. عدد منهم حصلوا على مناصبهم من خلال عضويتهم في أحزاب قوية في البرلمان أو مرتبطة بميليشيات. من المستحيل إقالتهم". النظام مترسخ إلى درجة أنه ما من خيار أمامه سوى المشاركة في نفس اللعبة.

كما يترتب عليه حماية ظهره، والحرص على عدم استعداء آخرين في الحكومة يمكن أن يصبحوا خصوماً يحملون له الضغينة، أو أن يتخذ خطوة غير محسوبة يمكن لخصم أن يفسرها على أنها ممارسة للفساد. في نظام حافل بالانتهاكات، فإن الاتهامات بالفساد – سواء أكانت مبررة أم لا – تشكل طريقة مألوفة للتخلص من الخصوم السياسيين. ويقول لي، مشيراً إلى حقيبة سوداء على الأرض: "انظري إلى تلك الحقيبة. في الساعة الخامسة والنصف من بعد ظهر كل يوم، تأتي سيارة إلى منزلي وفيها أوراق ينبغي أن أوقعها. علي أن أقرأ كل ورقة بعناية، وأحرص على ألا تشكل أي من الأوراق التي أوقعها وثيقة تدينني لاحقاً. هذا نصف يوم عمل يضيع في توقيع الأوراق ... دون تحسين أي شيء".

تغير في منظور الأجيال

العراقيون، وخصوصاً الذين بلغوا مرحلة الشباب عند مطلع الألفية، نشأوا في نظام سياسي لا يوفر درجة كبيرة من المشاركة والتمثيل. لكن بصرف النظر عن تحصيلهم العلمي، فإن كثيرين طوروا أيضاً تطلعات لإنجاز الحقوق المدنية والمساءلة، التي غذى غيابها خيبة الأمل والإحجام عن المشاركة في كافة شرائح المجتمع.

بصفتي امرأة عاملة بشكل احترافي، فإن لدي حساسية خاصة حيال هذا التحدي. العديد من نساء جيلي أصيبوا بخيبة الأمل من المؤسسات السياسية المتحجرة المقاومة للتغيير. في شبابنا، تعلمنا الإيمان بتكافؤ الفرص. لكننا ومع تقدمنا في العمر، نجد أن التغيير يستغرق وقتاً أطول بكثير مما توقعنا، حتى في المؤسسات التي تدعي الدفاع عن تكافؤ الفرص.

في سياق بحثي في كيفية كسر مأزق النظام السياسي العراقي، أرى أنماطاً مشابهة. إن مجرد الحديث عن الإصلاح السياسي لن يوفر الحلول. في معظم الأحيان، تسخّر الكتل السياسية هذه الأفكار لخدمة أغراضها الخاصة، وتفرغها من محتواها. معظم القادة الذين أتحدث إليهم يمتلكون سمات متماثلة؛ فهم ذكور، وفي منتصف العمر، وتمتد جذورهم في نفس المؤسسات السياسية. وهذه ليست البيئة التي ستخرج منها الحلول للتحديات العميقة التي يواجهها العراق.

مع اقتراب أيام اجتماعاتي من الأسبوع، أتساءل عن ماهية القوة الجديدة التي من شأنها أن تحدث التغيير. أعتقد أن علي أن أنظر إلى السياسة العراقية من منظور جديد. قد يكون الوقت قد حان لتحديد القوة الموجودة خارج الطبقة السياسية والتي يمكن أن تدفع التغيير.

مجتمع يحكم نفسه إلى حد ما

من الواضح أن المجتمع لا يقف متفرجاً، بل إنه ينظم نفسه من القاعدة إلى القمة. والعراقيون متمرسون في هذا. خلال تسعينيات القرن العشرين، العقد الذي فرضت فيه الأمم المتحدة عقوباتها على العراق، طوَّر العراقيون قدرة مثيرة للإعجاب على التكيف مع الصعوبات. وتعلم الجيل الشاب من تجربة أهله.

من المؤكد أن أزمة التمثيل السياسي لم تحفز جميع الأشخاص في هذا الجيل الجديد. بالنسبة للبعض، عززت هذه الأزمة مناخ عدم المشاركة، إن لم يكن العدمية. هذا الاغتراب هو الذي دفع الكثير من الشباب لحمل السلاح – ضد عراقيين آخرين خلال الحرب الأهلية بين عامي 2005 و2007 ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بين عامي 2014 و2017 – أو إلى مغادرة البلاد.

لكن بالنسبة لآخرين، أحدثت أزمة التمثيل رداً براغماتياً بنّاءً. شاب في الثانية والعشرين من العمر قال لي: "إذا لم تقم الحكومة بذلك، سنقوم به نحن". الشباب والنساء العراقيات، الذين يواجهون الصعوبة الأكبر في الوصول إلى العمل السياسي الرسمي والبقاء مستقلين في الوقت نفسه، وجدوا في المجتمع المدني فرصاً للمشاركة السياسية، وقد انضموا إلى مبادرات تضع حلولاً لمشاكل السياسات لم تتمكن الطبقة السياسية من معالجتها. بعض هذه المنظمات يعمل منذ سنوات، لكن العديد منها تشكل في العام 2014، عندما سمحت الإخفاقات المتراكمة في الحكم، سمحت لتنظيم الدولة الإسلامية باحتلال مساحات واسعة من البلاد. في النهاية، استعادت الحكومة تلك المناطق، بمساعدة القوات الرديفة. إلا أن الطاقة التنظيمية التي ولّدتها صدمة العام 2014 استمرت، وقد بدأ جيل جديد من نشطاء المجتمع المدني بالظهور.

يدعو العديد من نشطاء المجتمع المدني هؤلاء إلى عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة والجدارة بدلاً من الرعاية والولاء المطلق. لقد وضعوا أجندة للحقوق المدنية والاجتماعية، ومنحوا الأولوية القصوى لتحسين التعليم والرعاية الصحية والتركيز من جديد على التغير المناخي.

قصة محامية

قررت أن ألتقي مجموعة من الناشطات، وجميعهن أعضاء في منظمات مجتمع مدني تعمل على كل شيء، من تحسين حقوق المرأة إلى المشاركة السياسية. وسيعقد هذا الاجتماع في منزل ومكتب هناء إدوار في حي الكرادة البغدادي. تقود هناء جمعية 'أمل' وهي جمعية ملتزمة بتطوير واحترام حقوق النساء في العراق.

أدخل حديقة صغيرة مشذبة بعناية فائقة. يتراكض ستة من كلاب البودل ويشيعون الإثارة من حولهم، لكن ما من علامة تدل على وجود هناء أو أي شخص آخر. أعبر الفسحة الداخلية الهادئة والمتقشفة إلى منطقة الاستقبال.

وسرعان ما تقابلني شيماء وترحب بي (جميع أسماء النشطاء والناشطات المذكورة أدناه أسماء مستعارة)، وهي امرأة في الثامنة والعشرين من العمر تخرجت حديثاً من كلية الحقوق في بغداد. بدأت شيماء، بالتعاون مع محاميات شابات أخريات، بالتطوع في العام 2016 ومن ثم أسست منظمة غير حكومية مكرسة للدفع بأجندة حقوق النساء في البرلمان. تشرح قائلة: "منذ زمن طويل والنساء ينتظرن أن يمنحن حقوقهن. نريد [أن نجعل النساء] جزءاً فعالاً من الحل من خلال المهارات والمعارف التي نقدمها". تعمل المجموعة على تسريع تمرير قانون العنف المنزلي في البرلمان، بحيث يتم تعديل المواد التمييزية في قانون العقوبات (حيث تفرض بعض المواد عقوبات مختلفة على الرجال والنساء الذين يرتكبون نفس الجريمة) ومعارضة سلطة المحاكم الدينية في موضوعي الزواج والطلاق. وتقول لي: "نحن نعمل أيضاً لكي تصبح النساء قاضيات في المحكمة الفيدرالية، التي ليس فيها أي تمثيل للنساء".

تطلعني شيماء على القانون المعني مادة مادة: تلك هي مشاريع القوانين التي أقرها البرلمان، وتلك التي تتم صياغتها وتلك مواد أخرى ينبغي تعديلها أو استبدالها. لكنها تقول إن التعاون مع البرلمان كان صعباً: "لقد فقدت لجنة المرأة أهميتها تدريجياً. في البرلمان الجديد [المنتخب في أيار/مايو 2018]، تم إدماج اللجنة مع لجنة حقوق الإنسان، حيث لم يهتم سوى عدد قليل من المشرعين في الانضمام إليها".

ثمة نقص حاد في تمثيل المرأة في النظام السياسي العراقي، رغم حصة النساء في البرلمان (حيث يخصص الدستور 25% من المقاعد للنساء). إن إصلاح النظام السياسي وتمكين النساء من المشاركة السياسية مترابطان بعمق. العديد من الناشطات في المجتمع المدني متدينات، واستناداً إلى إيمانهن بالتحديث فإنهن يُدِنَّ الأحزاب الإسلامية التي تستخدم الهوية الطائفية والدين كأدوات لإدامة سلطتها. تعبر شيماء عن هذا على النحو الآتي: "طالما ظل هناك نظام سياسي يوزع المناصب على أساس الانتماء العرقي والديني، ستظل نفس الأحزاب السياسية في السلطة. ستملأ هذه الأحزاب – والعديد منها إسلامي – حصة النساء فقط بنساء مرتبطات بهذه الأحزاب، ممن لا مصلحة لهن بالدفاع عن حقوق النساء بصفتهن مواطنات. إن غياب إصلاح النظام السياسي والتمييز ضد المرأة هما جزآن من نفس المشكلة".

قصة ناشطة في مجال المياه

اجتماعي التالي مع جيل المجتمع المدني الجديد هو في مقر مبادرة التضامن مع المجتمع المدني العراقي. ويقع المقر في منزل عادي في وسط الكرادة تم تحويله إلى مساحة عمل مشتركة لمختلف المبادرات. أحد مشاريع المبادرة مخصص لحماية موارد العراق المائية. تنخرط الحكومة في مفاوضات مع تركيا حول مياه دجلة والفرات – حيث ينبع كلا النهرين من تركيا – ومع إيران حول مياه وروافد نهر دجلة. تقوم كل من تركيا وإيران بتغيير مسار النهرين وتبنيان السدود، ما يقلص بشدة تدفق المياه إلى العراق. وبالنظر إلى أن الحكومة لم تحقق تقدماً يذكر في مجال استعادة هذا التدفق. فإن حسين، وهو أحد المتطوعين، يقول إن منظمته ركزت جهودها على إدارة المياه داخل العراق.

"إن فكرة النشاط في المجال البيئي جديدة نسبياً في العراق"، كما يقول حسين، الذي ما يزال في العشرينيات من العمر وفي العام 2016 أصبح المدير التنفيذي لمبادرة لحماية نهر دجلة. ويلاحظ: "قد تنتهي الطائفية والإرهاب مع تطور الحياة السياسية، لكن قضية المياه ستستمر. إن حماية الموارد المائية ستؤثر بوجود العراق ذاته. علينا أن نجعل الناس مسؤولين عن الطريقة التي يديرون فيها المياه ويستخدمونها". يتمثل هدف حسين، من خلال منظمته، في العمل مع المزارعين الذين يعتمدون في سبل عيشهم على النهرين لتحسين الري، والتوعية بأهمية إدارة المياه.

تتمثل إحدى أنشطة منظمته في إقامة معسكرات شبابية في الأهوار العراقية الجنوبية، التي توفر للشباب من مختلف أنحاء البلاد فرصة لمراقبة الممارسات الزراعية في هذا النظام البيئي الحساس. ويعلن حسين: "إننا نتحاور أيضاً مع نشطاء من كردستان العراق ونأتي بهم إلى الجنوب. عندما يتعلق الأمر بالطبيعة، علينا أن نعمل معاً بصرف النظر عن الاختلافات السياسية". أسأل علي، وهو ناشط آخر، عما أثار اهتمامه بحماية البيئة. يقول إنه تأثر بعمق بزيارة قاموا بها إلى أسرة في الأهوار ماتت بقرتها بسبب عدم وجود المياه.

أثار الأمر اهتمامي وفضولي، وأردت أن أعرف ما إذا كان لنشاط الشباب في مجال قضية المياه يوازيه اهتمام مساوٍ من جانب الحكومة. يرتب لي حسين موعداً في وزارة الموارد المائية.

حكاية مسؤول

في أحد أقسام وزارة الموارد المائية وسط بغداد ترحب بي مروة، وهي مهندسة زراعية في الثانية والثلاثين من عمرها. لقد طلبت موعداً مع المدير الوطني لمشاريع الري. رحبت بي في بهو الاستقبال ورافقتني إلى مكتب المدير العام. المكتب مزدحم بالزوار. وعندما قدمت طلبي الخاص لسكرتير المدير، رد عليها بشكل بيروقراطي: "إذا كانت تريد مقابلة المدير العام، سيترتب عليها أن تقدم لي طلباً خطياً". نستدير ونغادر الغرفة المليئة بالضجة وراءنا.

تدعوني مروة إلى مكتبها في الطابق الثاني. نمشي عبر ممرات معتمة نوافذها مكسرة، تنيرها أضواء النيون المتقطعة ويغطيها سقف من الكرتون. تتقاسم مروة مكتباً مع إحدى زميلاتها. ويئن مكتبهما تحت الأوراق. خرائط الممرات المائية في العراق موضوعة على الأرض قرب غلاية، وجهاز كمبيوتر صنع عام 1998 مع لوحة مفاتيح قديمة. تريني بفخر أشكال الأوريغامي التي زينت بها مكتبها. وتقول لي عن موهبتها: "لقد تعلمت هذا من اليوتيوب".

تشغّل مروة الغلاية وتقدم لي كوباً من القهوة. وتقول: "أنا محرجة من دعوتك إلى مكتبي. كما ترين، فهذا ما نفعله فعلياً من التاسعة إلى الثانية: إننا ننتج الأوراق طوال اليوم. بوسعنا استخدام جهاز كمبيوتر واحد للطباعة، ولوحة مفاتيح مكسورة. نركض من طابق إلى طابق للطلب من المدراء والمدراء العامين توقيع هذه الأوراق، ومن ثم نعود إلى مكتبنا".

لدى الوزارة مبادرتها الخاصة في إدارة المياه. إنها تختار أفراد محليين وتجعلهم مسؤولين عن توزيع المياه. المبادرة شبيهة بتلك التي أطلقها نشطاء المجتمع المدني، إلا أن نسخة الوزارة تشرك عادة قادة محليين قريبين من القوى السياسية الرئيسية، ويبدو أنها في النهاية تعود بالفائدة على بعض المقربين أكثر من ممثلي الأحزاب المحلية.

وبينما تصف لي الأثر المحدود للمبادرة، تتوقف مروة لتقول: "تطوعت بالمشاركة في لجنة مسؤولة عن التعاون مع مبادرات المجتمع المدني فيما يتعلق بالمياه. على الأقل، نستطيع أن نرى بعض النتائج من خلالها. كثيراً ما أستخدم بيانات الوزارة وأمررها للنشطاء. قد يتمكنون من استخدامها بشكل أفضل مني". تبتسم. إن عمق التعاون مع مبادرات المجتمع المدني يعتمد على المسؤول الحكومي. تشكل مروة استثناء إلى حد ما. العديد من المسؤولين العراقيين لا يثقون بمنظمات المجتمع المدني لأنهم يشكّون بأنها ممولة من الخارج ولأنهم لا يستسيغون الإشراف الخارجي على عملهم.

جسر الفجوة

لم أتمكن من الحصول على موعد مع المدير العام. لكن عندما تصحبني مروة عائدة إلى البهو، تريني صوراً على هاتفها لمبادرة خاصة بها في الوزارة. لقد وزعت دبابيس بعلامات حمراء تمثل الحملة لوقف العنف ضد المرأة، وجالت على كل المكاتب، ووصلت إلى جميع الأشخاص في الوزارة. تقول لي وهي تودعني: "أنا حقاً لا أستطيع أن أتحمل عدم القيام بشيء".

بصفتها موظفة في القطاع العام وتعمل ناشطة بدوام جزئي، فإن مروة تصارع ضد رهانات كبيرة على جسر الفجوة التي تزداد اتساعاً بين الحكومة والمجتمع، وتربط بيروقراطية كسولة بمبادرات المجتمع المدني. وفي حين أن مبادرتها تبقى مبادرة شخصية، فإن ربط القواعد بالجهاز البيروقراطي في الدولة يمثل ابتعاداً عن سنوات من الإصلاحات الفاشلة من أعلى إلى أسفل.

لقد حان الوقت الآن كي تزيد الحكومة من مشاركتها، وأن تجعل من القضايا التي يدافع عنها المجتمع المدني أولوية لها هي نفسها، وأن تعمل بالتنسيق مع المنظمات والأفراد الذين التقيتهم. في المحصلة، فإن هذه القضايا – من مساواة المرأة بالرجل إلى إدارة المياه – قضايا محورية لمستقبل العراق. ومن خلال العمل على معالجتها، ينبغي على القادة السياسيين في البلاد معرفة أن لديهم حلفاء. وهؤلاء الحلفاء ليسوا موجودين في عواصم بعيدة، بل بالقرب منهم، وفي مجتمعاتهم المحلية نفسها، ومستعدون للمساعدة.

https://www.crisisgroup.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا