الإيثار الفعّال
بروجيكت سنديكيت
2015-04-21 11:45
بيتر سينجر
برينستون ــ تُرى هل من الممكن حقاً تحفيز البشر بدافع الإيثار؟ في كتابي الجديد "أعظم خير يمكنك تقديمه"، أناقش الحركة الجديدة الناشئة المسماة "الإيثار الفعَال"، وفي المقابلات التي أجريها حول الكتاب، يدهشني كم يُثار هذا السؤال كثيرا.
لماذا نشك في أن بعض الناس ربما يتصرفون بشكل خال من الأنانية، ولو لبعض الوقت على الأقل؟ بالاستعانة بنظريات التطور، نستطيع أن نفهم بسهولة حس الإيثار تجاه الأقارب وغيرهم ممن يمكنهم مبادلتنا المساعدة. ويبدو من المعقول أن نتصور أننا بمجرد تطور قدرتنا على إعمال الفِكر والتأمل بالقدر الكافي لتمكيننا من فهم حقيقة مفادها أن الغرباء من الممكن أن يعانوا ويستمتعوا بالحياة مثلنا تماما، بدأ البعض منا على الأقل يتصرفون بشكل خال من الأنانية تجاه الغرباء أيضا.
سألت منظمة جالوب لاستطلاع الرأي الناس في 135 دولة ما إذا كانوا تبرعوا في الشهر الماضي بأي أموال لعمل الخير، أو تطوعوا بوقتهم لمنظمة ما، أو ساعدوا شخصاً غريبا. وتشير النتائج التي توصلت إليها جالوب، والتي تشكل الأساس لمؤشر العطاء العالمي لعام 2014، إلى أن ما يقرب من 2.3 مليار إنسان، أو ثلث سكان العالم، يقومون بعمل من أعمال الإيثار مرة واحدة على الأقل شهريا.
وهناك أدلة أكثر موضوعية على الإيثار تدعم هذه النتائج. ففي العديد من البلدان، يعتمد المدد من الدم للأغراض الطبية على تبرعات طوعية من مجهولين. وفي مختلف أنحاء العالم، سجل أكثر من 11 مليون شخص أسماءهم على سجلات المانحين لنخاع العظام، إعراباً عن رغبتهم في التبرع بنخاعهم لأشخاص غرباء. وقد ذهب عدد قليل ولكنه متنام من الناس إلى ما هو أبعد من هذا، فتبرعوا بكلية لشخص غريب. في عام 2013، سجلت السلطات في الولايات المتحدة 177 حالة تبرع إيثاري من قِبَل مانحين أحياء، وفي المملكة المتحدة 118 حالة في العام السابق لإبريل/نيسان 2014.
وهناك أولئك الذين يتبرعون لأعمال الخير. ففي الولايات المتحدة وحدها، تبرع أفراد بنحو 240 مليار دولار لأعمال الخير في عام 2013. وبإضافة تبرعات المؤسسات والشركات وصل المبلغ في مجموعه إلى 335 مليار دولار، أو نحو 2% من الدخل الوطني الإجمالي.
كثيراً ما يُقال إن الولايات المتحدة أكثر ميلاً لأعمال الخير من غيرها من البلدان؛ ولكن قياساً على نسبة السكان المتبرعين بالمال، فإن أداء ميانمار، ومالطا، وأيرلندا، والمملكة المتحدة، وكندا، وهولندا، وأيسلندا، أفضل من الولايات المتحدة. ففي ميانمار، تبرع 91% من الأشخاص الذين شملهم الاستطلاع بالمال في الشهر الماضي (وكان الرقم المقابل في الولايات المتحدة هو 68%)، وهو ما يشير إلى التأثير القوي لتقليد ثيرافادا البوذي المتمثل في التبرع لدعم الرهبان والراهبات. وكانت ميانمار أيضاً الدولة صاحبة أعلى نسبة من الأشخاص المتطوعين بالوقت (51%).
ولكن الولايات المتحدة كانت الدولة صاحبة أعلى ترتيب في "مساعدة الغريب". وهذا، فضلاً عن الترتيب العالي في تخصيص الوقت للعمل التطوعي، جعلها تتعادل مع ميانمار باعتبارها الأمة الأكثر سخاءً في العالم.
لا شك أن ليس كل العطاء دافعه الإيثار. في الشهر الماضي أعلن مركز لينكولن في نيويورك أن ميلياردير صناعة الترفيه الكبير ديفيد جيفين تبرع بمائة مليون دولار لتجديد قاعة أفيري فيشر الموسيقية في المركز، بشرط إطلاق اسم ديفيد جيفين على القاعة.
ويبدو أن الدافع وراء هذه الهبة هو الرغبة في الشهرة وليس الرغبة في عمل الخير. فكما كان جيفين يعلم في الأرجح، كان لابد من تعويض أسرة أفيري فيشر بنحو 15 مليون دولار في مقابل موافقتها على تغيير اسم القاعة. وعلى أية حال، في عالم حيث يعيش مليار إنسان في فقر مدقع، لن يكون من الصعب على من يؤثرون غيرهم من الناس على أنفسهم أن يدركوا أن هناك العديد من الطرق للقيام بأعمال خير أعظم كثيراً من تجديد قاعة للحفلات الموسيقية لعشاء الموسيقى من ميسوري الحال.
وفي الطرف المقابل لطيف العطاء، اقترح علماء النفس الذين يدرسون سولك العطاء أن الأشخاص الذين يعطون مبالغ صغيرة من المال لعدد كبير من الجمعيات الخيرية ربما يكون دافع الرغبة في مساعدة الآخرين أقل من التوهج الدافئ الذي يشعرون به من خلال التبرع. وفي المقابل يقدم متبرعون آخرون مبالغ أكبر، لحفنة قليلة عادة من المؤسسات الخيرية التي يختارونها على أساس بعض الاطلاع على الأعمال التي تقوم بها هذه المؤسسات. وهم يريدون أن يخلفوا تأثيراً إيجابياً على العالم. والواقع أن هباتهم ربما تجعل حياتهم أفضل أيضا، ولكن هذا ليس ما يحفزهم.
تتألف حركة الإيثار الفعّال من الأشخاص الذين يقوم عطاؤهم على الطريقة الثانية، فيجمعون بين العقل والقلب. ويتلخص هدفهم في تقديم أكبر قدر ممكن من الخير بالاستعانة بالموارد التي يستطيعون تخصيصها لهذا الغرض.
وقد تشمل هذه الموارد عُشر أو رُبع أو حتى نصف دخلهم. وربما يشمل إيثارهم الوقت والمواهب، وهو يؤثر على اختيارهم لمهنتهم. ولتحقيق أهدافهم، فإنهم يستخدمون العقل والدليل لضمان تحقيق الموارد التي يخصصونها لعمل الخير أياً كان حجمها أكبر قدر ممكن من التأثير والفعالية.
تشير دراسات عديدة إلى أن الأسخياء من الناس هم عادة أكثر سعادة وشعوراً بالرضا عن حياتهم مقارنة بهؤلاء الذين يمتنعون عن العطاء. وتُظهِر دراسات أخرى أن العطاء يؤدي إلى ارتفاع النشاط في مراكز الإثابة في الدماغ (تلك المناطق من الدماغ التي يحفزها أيضاً الطعام الشهي وممارسة الجنس).
لكن هذا لا يعني أن هؤلاء المانحون لا يفعلون الخير بدافع الإيثار. إن الدافع المباشر الذي يحركهم يتلخص في مساعدة آخرين، ويجعلهم عطاؤهم أكثر سعادة فقط كنتيجة لحقيقة مفادها أنه هذا العطاء يساعد آخرين. وإذا كان عدد أمثال هؤلاء من البشر بيننا أكبر فسوف يكون عطاؤنا أكبر، وهذا هو مُرادنا. إن تعريف "الإيثار" بشكل ضيق بحيث يصبح تطبيق هذا المصطلح محصوراً فقط في العطاء عندما يتعارض ذلك العطاء مع المصلحة الإجمالية لصاحبه يغفل عن نقطة مفادها أن أفضل حالة يمكن تحقيقها هي تلك حيث يكون تعزيز مصالح الآخرين متناغماً مع تعزيز مصالحنا الشخصية.