الإصلاح في المشروع الحسيني نهج قرآني عصيٌّ على المساومة
د. لطيف القصاب
2025-07-31 04:30
لا يمكن فهم المشروع الحسيني للإصلاح إلا من خلال النهج القرآني الذي يمثّل المرجعية الفكرية العامة للإمام الحسين عليه السلام، فالإصلاح في المنطق القرآني لا تجلبه الرغبات والأماني، ولكن يأتي به – حسب المعطيات القرآنية- الفعل الجهادي سواء أكان ذلك قولا أم عملا، ومن هنا فإن وصفه عليه السلام بأنه طالب سلطة هو وصف واقعي لا يستلزم الردّ أو المحاججة، بل الموافقة والإذعان بملاحظة الفهم القرآني لمعنى السلطة الذي سنورده بعد قليل، فطلب السلطة من لدن شخصية كالحسين عليه السلام هو أول خطوة في طريق تحقيق غايات الإصلاح بصرف النظر عن إحراز تلك الغايات على أرض الواقع من عدمها؛ لأن التقدّم بهذه الخطوة هو القرار الإنساني المطلوب شرعا، أما النتائج التي ينتهي إليها الشروع بالمبادرة الأولى فهو قرار إلهي بحت...
إن الرسل والأنبياء بحدود ما قصّه القرآن الكريم لم يكونوا دعاة عبادات فحسب بل كانوا قادة تغيير شامل، وحَمَلة مشروع إلهي لنصب موازين المساواة، لا المساومات، ونسف جذور الفساد والإفساد، وتحقيق ما يسميه القرآن الكريم بـ(الاستخلاف) في ضوء الصلاح والإصلاح، فحركة الإمام الحسين عليه السلام بهذا المعنى متصلة بنسق إصلاحي قرآني منتفض على النظم الجائرة؛ إذ السلطة مصدر شرعي وخط إلهي، لا غنيمة دنيوية، ولكن وسيلة لنفع عموم الناس، ودفع غوائل الآفات عنهم، وعلى ذلك قوله تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)، فالغاية الأساسية من تمكين النبي داوود عليه الصلاة والسلام هي إحقاق الحق، وليست مجرد منحة ربانية لسلطان فرد وإن كان هذا السلطان نبيا كريما، بل هي منحة إلهية لسائر الجماعة المحكومة بتلك السلطة. والحكم بالحق المقصود بالآية الكريمة هو مفهوم واسع ومفتوح على مصاديق عدة يتسيّد الإصلاح على نسبة كبيرة منها، ففي قوله تعالى -مثلا- على لسان نبيه الكريم يوسف الصديق: ((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) طلبٌ صريح للسلطة التي تتوخى إصلاح الجانبين المالي والإداري، وهي بهذا الوصف أبعد ما تكون عن معناها المغرق بالسلبية أي الرغبة في التملك،والاستحواذ، والتبذير، والإسراف، وتضييع أمانات الخلق وحقوقهم كما هو ديدن أكثر القابضين في كل زمان ومكان على السلطة.
السلطة في المفهوم القرآني هي أداة للإصلاح يمرّ أحيانا عبر الدعوة للتحرر من ربقة الاستبداد، والذل، والعبودية، وهو ما يمكن تلمسه في نصوص قرآنية كثيرة كقوله تعالى مخاطبا نبييه الكريمين موسى وهارون:((فأتيا فرعون فقولا إنا رسول ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم...))، وفي ذلك بيان بليغ للمطالبة بالتحرر السياسي، والاجتماعي، وصرخة مدوية بوجوه الجبابرة العتاة، وفي ضوء هذه المقدمة الموجزة يمكن قراءة حركة الإمام الحسين عليه السلام بوصفه امتدادًا عضوياً لمسيرة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد كان خروج الحسين عليه السلام إعلانًا صريحا يفيد بأن السلطة التي يتزعمها يزيد ما هي إلا انقلاب أسود على القيم القرآنية المناهضة لتسلّط المفسدين والظالمين، والمخربين، وهو المستشف بوضوح من قوله عليه السلام: ((إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح...)).
إن السلطة بحسب الفلسفة القرآنية ليست شرًّا بحد ذاتها، أو مفسدة مطلقة كما تذهب إلى ذلك بعض (الديانات) أو الفلسفات القديمة والحديثة، بل السلطة قابلة لأن تكون وسيلة مثلى لإحقاق الحق، وهدم ركائز الباطل، وعلى ذلك قوله تعالى: ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر...)).
وبحسب السرد القرآني، وسيرة الأنبياء الهداة، واتباعهم نلاحظ اقتران الإصلاح الحقيقي عادة ببذل التضحيات الجسام، وهي النتائج المترتبة على رفض مهادنة الحكام الظلمة، ومساومتهم، أو مهادنتهم بالضد من قوانين العدل، والحق المغروسة إلهيا في فطرة الإنسان السوية، وهو ما أخذ به الإمام الحسين عليه السلام حرفيا حين رفض بيعة يزيد؛ لأنه رأى بأن التنازل عن شروط الشرعية القرآنية المطلوبة في شخصية الإمام الحاكم هو ضربٌ للإسلام في صميمه القرآني، وقبولٌ بتحويل السلطة إلى ميراث عائلي مصادر لمشيئة الأمة، وفي ذلك المنحى الحسيني غاية التوافق مع مواقف أولي العزم من الرسل، كموقف النبي إبراهيم عليه السلام من نمرود، وموقف النبي موسى عليه السلام من فرعون، وموقف النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله من كفّار قريش حين عرضوا عليه (السلطة) فأبى المساومة على المبادئ، ومضى حتى النهاية في طريق (التبليغ) بقوانين العدل والحق، وقيم الإنسان المثلى.