تكاليف الخروج البريطاني: هجرة العقول

بروجيكت سنديكيت

2019-02-14 05:58

ادواردو كامبانيلا

ميلانو ــ إذا أتمت المملكة المتحدة انسحابها من الاتحاد الأوروبي، فربما تكون واحدة من أشد العواقب غير المقصودة ضررا هجرة حصة كبيرة من كبار المحترفين المتخصصين من لندن. والواقع أن باريس وفرانكفورت ودبلن وأمستردام ومدن أخرى في القارة العجوز تتنافس الآن بالفعل على اجتذاب المصرفيين والأطباء والمعماريين والأكاديميين من المملكة المتحدة.

كان "استنزاف العقول" على هذا النحو شائعا في التاريخ. ولكن لم يسبق من قبل قَط أن شهدت ديمقراطية راسخة مثل هذه الخسارة الكارثية لرأس المال البشري في فترة من السلام والازدهار. فعادة، يتطلب الأمر تغييرا مفاجئا للنظام الحاكم، أو صراعا عنيفا، أو ظروفا اقتصادية قاسية، لحمل النخبة المهنية في أي بلد على الهروب جماعيا.

على سبيل المثال، رحل العديد من المثقفين عن تركيا في السنوات الأخيرة نتيجة لحكم الرئيس رجب طيب أردوغان المتزايد التسلط. وفي اليونان، خلال أزمة الديون السيادية، دُفِع العمال من ذوي المهارات العالية إلى الخروج من البلاد بسبب الافتقار إلى الفرصة الاقتصادية. وفي ألمانيا النازية، أُجبِر اليهود وغيرهم من الأقليات الموهوبة المضطهدة على البحث عن ملاذ في الخارج.

لن نجد هجرتين جماعيتين متماثلتين على الإطلاق؛ ولكن لكي نفهم ماذا ينتظر لندن، فلا يزال بوسع أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي أن يتعلموا شيئا من التاريخ. رغم كل التحذيرات، قد ينتهي خروج بريطانيا إلى حدث أشبه بذلك الذي أفضى إليه قرار لويس الرابع عشر الذي طرد البروتستانت الفرنسيين من فرنسا، وبالتالي الحكم على باريس بالتخلف الاقتصادي والعزلة السياسية لعقود من الزمن.

بموجب مرسوم نانت لعام 1598، مُنِح البروتوستانت الفرنسيون حرية العبادة والحقوق المدنية بوصفهم أقلية بروتستانتية في فرنسا الكاثوليكية. ونظرا لأخلاقياتهم الكالفينية الصارمة، كانوا يعملون بجدية بلا كلل أو ملل، وكانوا يميلون إلى شغل المهن التي تتطلب القدر الأكبر من المهارة في ذلك الوقت (بما في ذلك نسج الحرير، وصياغة الذهب وصنع السلاح، والطباعة، وصنع الساعات). ولكن في عام 1685، ألغى لويس مرسوم نانت، فترك البروتوستانت الفرنسيون فرنسا تدريجيا للانضمام إلى مجتمعات بروتستانتية أخرى في مختلف أنحاء شمال أوروبا.

وكما هي الحال مع خروج بريطانيا اليوم، سارعت الدول الأوروبية إلى اجتذاب العمال المؤهلين الذين خوفتهم فرنسا فرحلوا عنها. وفي غضون أسبوع من إلغاء المرسوم، أصدر أمير براندنبورج مرسوما دعا البروتستانت الفرنسيين رسميا إلى دخول أراضيه، في حين سعت هولندا إلى إغرائهم بوعد المواطنة الفورية والإعفاءات الضريبية لثلاث سنوات.

وأخيرا، استقر نحو 150 ألف بروتستانتي فرنسي في هولندا، والسويد، وروسيا، وأيرلندا، ووجد 50 ألفا آخرون طريقهم إلى المملكة المتحدة. وكما هي الحال غالبا في استنزاف عقول النخبة، كانت أعدادهم الصغيرة متناقضة مع الأثر الاجتماعي الاقتصادي الهائل الذي قد يخلفونه.

في حين عانى الاقتصاد الفرنسي لعقود من الزمن، استفادت بريطانيا من مواهب البروتوستانت الفرنسيين لكي تصبح أول قوة صناعية هائلة في العالَم. فقد اخترع أحد أفراد البروتوستانت الفرنسيين الذين خرجوا من فرنسا، وهو دينيس بابين، سلف المحرك البخاري. وساعد كثيرون آخرون في تحسين التقنيات والأساليب التي حولت صناعات النسيج والطباعة والهندسة المعمارية في بريطانيا إلى صناعات متطورة ورائدة عالميا.

واليوم، أصبح العالَم مرة أخرى على أعتاب ثورة صناعية، وبدأ خروج كبار المتخصصين. من المفهوم على نطاق واسع أن الدول التي تتمتع بالعمالة الأعلى مهارة والقدرات العقلية الأقوى ستحظى بميزة كبرى في سباق التكنولوجيا في القرن الحادي والعشرين.

في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تأمل دول شمال أوروبا مرة أخرى في الاستفادة من الفرار المفاجئ لرأس المال البشري في جيرتها. ومن عجيب المفارقات أن فرنسا قد تعوض أخيرا عن الخسارة غير الضرورية للمواهب التي عانت منها قبل ثلاثة قرون من الزمن.

ولا تقف أوجه التشابه بين خروج بريطانيا وإلغاء مرسوم نانت عند هذا الحد. فكل من الحدثين يلخص الصراعات السياسية الصاخبة في عصريهما. ففي حين كان خط الصدع السياسي في أوروبا قبل ثلاثة قرون من الزمن قائما بين البروتوستانت والكاثوليك، نجد أن خط الصدع اليوم يمر بين أنصار وخصوم المشروع الأوروبي. ولابد أن نفهم هجرة البروتوستانت الفرنسيين والهجرة الجماعية الوشيكة من لندن على أنهما من الأعراض الجانبية المرتبطة بحسابات سياسية خاطئة في سياق معارك إيديولوجية أكبر.

من منظور لويس، كان اضطهاد البروتوستانت الفرنسيين منسجما مع رؤيته لأوروبا الكاثوليكية ــ وهي الرؤية التي تعززت بفِعل صعود ابن عمه الكاثوليكي المتعصب جيمس الثاني إلى العرش الإنجليزي. وعلى هذا، فبدلا من الأمر بنفي البروتوستانت الفرنسيين، فرض لويس في واقع الأمر حظرا صارما على الهجرة لمنع رحيلهم، بغية إرغامهم على التحول إلى الكاثوليكية.

ولكن بدلا من التحول إلى الكاثوليكية، قرر البروتوستانت الفرنسيون الفرار. وبمجرد خروجهم، استشاط البروتستانت الأوروبيون غضبا ضد فرنسا. وبعد سقوط جيمس الثاني بفِعل الثورة المجيدة في عام 1688، صعد الحاكم العام الهولندي ويليام الثالث، أمير أورانج، إلى عرش إنجلترا، حيث قام بتشكيل تحالف مع هابسبرج النمسا والعديد من الولايات البروتستانتية الألمانية لإغراق الفرنسيين في سلسلة من الحروب الدينية.

بالعودة إلى يونيو/حزيران 2016، بدا الأمر وكأن الخروج من الاتحاد الأوروبي يتيح لبريطانيا الفرصة لهجر الاتحاد الأوروبي الكثير الأزمات لكي تنضم إلى مجال إنجليزي أكثر ديناميكية. وقد وَعَد أنصار الخروج بوضع حد لهجرة العمال من ذوي المهارة المتدنية من أوروبا الشرقية، وكان هذا هو الأمر الأكثر أهمية. فإذا ترك كبار المحترفين المتخصصين لندن، فسوف يُنظَر إليهم باعتبارهم ضحايا مقبولين. ومنذ البداية كان خروج بريطانيا يدور حول عدم التسامح مع "الآخر".

لكن على النقيض من البروتستانت الفرنسيين، فإن أولئك الذين يستعدون لمغادرة لندن من أعضاء النخبة العالمية من ميسوري الحال. وعلى هذا فإن رحيلهم في حد ذاته ربما يؤدي على الفور وبشكل مفاجئ إلى تآكل ما تتمتع به المملكة المتحدة من مكانة ونفوذ على الصعيد الدولي. كان لزاما على البروتستانت الفرنسيين أن يشاركوا في حروب دينية دموية دامت قرنا من الزمن لتوجيه ضربة قوية بنفس القدر لموطنهم الأصلي.

ليس من الحكمة أبدا إطالة أمد المقارنات التاريخية أكثر مما ينبغي. ولكن يجدر بالبريطانيين مع ذلك أن يلتفتوا إلى كلمات دوق سانت سيمون: "كان إلغاء مرسوم نانت، دون أدنى ذريعة أو أي ضرورة، سببا في حرمان المملكة من ربع سكانها، وتخريب تجارتها، وإضعافها في مختلف أجزائها". صحيح أن الخروج البريطاني من شأنه أن يدفع عددا أقل من الناس إلى الرحيل، لكنه أثره قد يكون أسوأ.

* ادواردو كامبانيلا، زميل مستقبل العالم في مركز إدارة التغيير بجامعة آي إي في مدريد
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا