مفتاح السعادة في عالم متغير
نظرة على تقرير السعادة العالمي 2025
شبكة النبأ
2025-09-10 06:16
يركز تقرير السعادة العالمية الصادر في 2025 على الروابط الاجتماعية ودورها في تعزيز الرفاهية، حيث يكشف عن تزايد الوحدة بين الشباب وتأثيرها السلبي على السعادة. ويُظهر التقرير أن الأعمال الخيرية يمكن أن تحدث فرقًا هائلاً في السعادة، مع اختلاف كبير في فعالية التكلفة بين المنظمات. بالإضافة إلى ذلك، يناقش التقرير كيفية ارتباط الرضا عن الحياة والثقة الاجتماعية بالتوجهات السياسية، مشيرًا إلى أن المستويات المنخفضة منهما ترتبط بتصاعد التصويت المناهض للنظام. ويستعرض التقرير كذلك الوفيات الناجمة عن اليأس وتأثير السلوك الاجتماعي الإيجابي عليها، ويؤكد أن ديناميات الأسرة، مثل حجم الأسرة ونوعها، تلعب دورًا محوريًا في مستويات السعادة. بشكل عام، يسلط النص الضوء على الأهمية الكبرى للعلاقات الإنسانية والعمل الجماعي لتحقيق الرفاهية على الصعيدين الفردي والمجتمعي.
مقدمة
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزايد تحدياته، يبقى البحث عن السعادة هدفًا جوهريًا للأفراد والمجتمعات على حد سواء. يأتي "تقرير السعادة العالمي 2025"، وهو منشور صادر عن مركز أبحاث الرفاه (Wellbeing Research Centre) بجامعة أكسفورد بالتعاون مع مؤسسة غالوب وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، ليقدم تحليلًا معمقًا لكيفية تأثير العناية والمشاركة (Caring and Sharing) على سعادة الناس [1، 2، 4]. هذا التقرير، الذي تم تحديثه في 13 مارس 2025 وحرره نخبة من الخبراء المستقلين، يركز على الفكرة الجوهرية بأن العناية تعود بالنفع على كل من يعطي ويتلقى [5، 6، 7]. يستكشف المقال التالي أبرز النتائج والتفاصيل التي يقدمها التقرير عبر فصوله الثمانية، مسلطًا الضوء على أهمية الروابط الاجتماعية، السلوك الإحساني، والثقة في بناء مجتمعات أكثر سعادة ورفاهية.
"دفعة الإحسان" وتفاؤل المجتمعات
يكشف التقرير أن السلوك الإحساني قد شهد ارتفاعًا ملحوظًا خلال جائحة كوفيد-19 في كل منطقة من العالم، وأن "ارتفاع الإحسان" هذا قد استمر منذ ذلك الحين، حيث لا تزال الأعمال الخيرية أعلى بنحو 10% من مستوياتها قبل الجائحة في عام 2024، رغم انخفاض طفيف عن عام 2023 [8، 14، 30]. هذا "اللطف المتوقع والفعلي" يقلل أيضًا من عدم المساواة في الرفاهية [15، 33]. ومع ذلك، يميل الناس غالبًا إلى أن يكونوا متشائمين للغاية بشأن لطف مجتمعاتهم، حيث أن معدل استرجاع المحافظ المفقودة، على سبيل المثال، أعلى بكثير مما يتوقعونه، وخاصة في البلدان الشمالية [9، 14، 29، 31]. كما يؤكد التقرير أن فوائد الرفاهية من الأعمال الخيرية تزداد عندما تتم في سياق الروابط الرعائية والاختيار والأثر الإيجابي الواضح [15، 80].
الروابط الاجتماعية: الغذاء، الأسرة، والشباب
1. مشاركة الوجبات: مؤشر حيوي للاتصال الاجتماعي:
يعتبر التقرير مشاركة الوجبات مقياسًا للاتصال الاجتماعي لم يُدرس بشكل كافٍ، ويمكن مقارنته عبر البلدان والثقافات [16، 194، 202]. يتبين أن الأفراد الذين يتناولون الطعام بشكل متكرر مع الآخرين يكونون أكثر سعادة بكثير، حتى عند الأخذ في الاعتبار حجم الأسرة [10، 200، 205]. ترتبط مشاركة الوجبات بمستويات أعلى من الدعم الاجتماعي والتبادلية الإيجابية، ومستويات أقل من الوحدة [18، 202]. ومن المثير للقلق أن الاتجاه في الولايات المتحدة يشير إلى زيادة تناول الطعام بمفردنا، حيث أفاد حوالي 1 من كل 4 أمريكيين في عام 2023 بأنهم تناولوا جميع وجباتهم بمفردهم في اليوم السابق، بزيادة قدرها 53% منذ عام 2003، وهذا الاتجاه أكثر انتشارًا بين الشباب [17، 195]. يؤكد التقرير أن قدرة مشاركة الوجبات على التنبؤ بالرفاهية تتجاوز أهمية الدخل والتوظيف في العديد من الحالات [233، 235].
2. العيش مع الآخرين: دور حجم الأسرة وروابطها:
بالنسبة لمعظم الناس في العالم، تعد العلاقات الأسرية مصدرًا مهمًا للسعادة [18، 301]. يظهر التقرير أن حجم الأسرة الذي يبلغ حوالي أربعة أفراد يرتبط بمستويات سعادة أعلى. الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم غالبًا ما يعانون من مستويات سعادة أقل بسبب انخفاض الرضا العلائقي، بينما قد يعاني الذين يعيشون في أسر كبيرة جدًا من سعادة أقل بسبب انخفاض الرضا الاقتصادي [302، 304]. التحليلات في المكسيك وأوروبا تؤكد وجود علاقة على شكل حرف U مقلوب بين الرضا عن الحياة وعدد أفراد الأسرة، حيث تُسجل أعلى مستويات الرضا في الأسر المكونة من 4 إلى 5 أفراد. وتقدم مجتمعات أمريكا اللاتينية، المعروفة بأحجام أسرها الأكبر وروابطها العائلية القوية، دروسًا قيمة في هذا الصدد [10، 303].
3. التواصل مع الشباب: جسر للسعادة في مرحلة حرجة:
الروابط الاجتماعية حيوية لرفاهية الشباب البالغين، فهي توفر حماية من آثار التوتر السلبية وتعزز السعادة بشكل كبير [19، 363، 365]. ومع ذلك، فإن الانفصال الاجتماعي يتزايد بين الشباب؛ ففي عام 2023، أفاد 19% من الشباب حول العالم بعدم وجود شخص يمكنهم الاعتماد عليه للحصول على دعم اجتماعي، بزيادة قدرها 39% مقارنة بعام 2006 [20، 363]. يشدد التقرير على مقولة: "السعادة حقيقية فقط عندما تُشارك". وتقدم النتائج من مشروع ستانفورد للمجتمعات (Stanford Communities Project) أدلة على أن الصداقات المبكرة والتأثيرات الإيجابية لـ "المناخات الاجتماعية الدقيقة" (البيئة الاجتماعية الأوسع) تساهم في الرفاهية. كما يبرز المشروع "فجوة تصور التعاطف"، حيث يميل الشباب إلى التقليل من تعاطف أقرانهم، مما يؤدي إلى فرص ضائعة للتواصل. يمكن أن تساعد التدخلات التي تبرز هذا التعاطف في توسيع الشبكات الاجتماعية للشباب [408، 409].
السلوك الإيجابي ومكافحة اليأس
يعالج التقرير مفهوم "وفيات اليأس" (Deaths of Despair)، التي تُعرّف بأنها الوفيات الناجمة عن الانتحار، تعاطي الكحول، والجرعات الزائدة من المخدرات [11، 462]. يُظهر التقرير وجود ارتباط موثوق به بين زيادة السلوك الإيجابي (التبرع، التطوع، مساعدة الغرباء) وانخفاض وفيات اليأس حول العالم [11، 20، 461]. وتشير النتائج إلى أن زيادة بنسبة عشر نقاط مئوية في نسبة الأشخاص الذين يشاركون في السلوك الإيجابي ترتبط بانخفاض يقارب وفاة واحدة سنويًا لكل 100,000 شخص. التبرعات هي العنصر الأكثر أهمية في السلوك الإيجابي، ولها تأثير أكبر وأكثر دقة على الرجال وكبار السن [471، 478].
الثقة والشعبوية: أبعاد سياسية للسعادة
يكشف التقرير عن العلاقة المعقدة بين السعادة، الثقة الاجتماعية، وصعود الشعبوية. يوضح أن تدهور السعادة والثقة الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة يفسر جزءًا كبيرًا من تصاعد الاستقطاب السياسي والأصوات المعارضة "للنظام" [21، 539]. تلعب التجارب الذاتية مثل الرضا عن الحياة والثقة دورًا أكبر بكثير في تشكيل القيم وسلوك التصويت من الإيديولوجيات التقليدية [21، 538]. ينجذب الأشخاص غير السعداء إلى أقصى الطيف السياسي؛ فالأشخاص ذوو الثقة المنخفضة غالبًا ما يوجدون في اليمين المتطرف، بينما يميل الأشخاص ذوو الثقة العالية إلى التصويت لليسار المتطرف [22، 539، 575]. وفي الولايات المتحدة، انخفضت نسبة الأمريكيين الذين يثقون بالآخرين إلى النصف تقريبًا منذ السبعينيات (من 50% إلى 30%)، وهذا التراجع يتردد صداه مع ظاهرة الامتناع عن التصويت التي ترتبط بأدنى مستويات الرضا عن الحياة والثقة الاجتماعية [551، 578، 579، 605].
العطاء الفعال: تحويل الأموال إلى سعادة أكبر
يؤكد التقرير بوضوح أن المال يمكن أن يشتري السعادة للآخرين [22، 619]. ويقدم مفهوم "سنوات الرفاهية" (WELLBYs) كمقياس موحد لفعالية التكلفة للجمعيات الخيرية [22، 619، 639]. يكشف استعراض عالمي للأدلة المنشورة أن فعالية التكلفة للجمعيات الخيرية تختلف بشكل كبير؛ فالجمعيات الخيرية الأفضل في العينة هي أفضل بمئات المرات في زيادة السعادة لكل دولار من غيرها [23، 619، 622، 666]. وهذا يعني أن المتبرعين يمكنهم مضاعفة تأثيرهم، دون تكلفة إضافية، عن طريق تمويل الجمعيات الخيرية الأكثر فعالية من حيث التكلفة [23، 619]. على سبيل المثال، تقدم جمعيات مثل StrongMinds و Friendship Bench (اللتان تقدمان علاجًا نفسيًا في أفريقيا جنوب الصحراء) خدمات صحية عقلية فعالة جدًا من حيث التكلفة. في المقابل، تشير التقديرات إلى أن الأفعال الخيرية الشائعة، مثل مساعدة المشردين، قد تكون أقل فعالية بمئات المرات، حيث يكلف توفير "السكن أولاً" حوالي 35 ألف دولار لكل WELLBY، بينما التحويلات النقدية غير المشروطة قد تكلف حوالي 19,994 دولارًا لكل WELLBY [620، 674].
المنهجيات المعتمدة
يعتمد التقرير بشكل كبير على "استبيان غالوب العالمي" (Gallup World Poll) لجمع البيانات حول السلوكيات الإحسانية وتوقعات استرجاع المحافظ المفقودة [7، 36]. كما يستخدم "مقياس كانترل للسعادة" (Cantril Ladder) لتقييم الرضا عن الحياة على مقياس من 0 إلى 10 [39، 211]. وتشمل المنهجيات الأخرى "استبيان استخدام الوقت الأمريكي" (American Time Use Survey - ATUS) لتحليل أنماط مشاركة الوجبات، و"دراسة الازدهار العالمي" (Global Flourishing Study - GFS) التي تغطي مقاييس واسعة للرفاهية [17، 195، 201، 369].
الاستنتاجات العامة:
يُقدم تقرير السعادة العالمي 2025 رؤى عميقة حول الأبعاد الاجتماعية للسعادة، مؤكدًا أن الروابط البشرية والاهتمام المتبادل هي محركات أساسية للرفاهية. من خلال تحليل بيانات عالمية شاملة، يُسلط الضوء على أن مشاركة الوجبات والعيش ضمن أسر متماسكة والتواصل الفعال مع الآخرين، خاصة بين الشباب، تساهم بشكل كبير في زيادة السعادة وتقليل الشعور بالوحدة [10، 19، 20]. كما يُبرز التقرير الدور الوقائي للسلوك الإيجابي في مكافحة "وفيات اليأس". يُشير أيضًا إلى أن تدهور الثقة الاجتماعية والتعاسة يغذيان صعود الشعبوية. أخيرًا، يُظهر التقرير أن العطاء الخيري يمكن أن يكون ذا تأثير هائل على سعادة الآخرين إذا تم توجيهه بفعالية، مؤكدًا على التباين الكبير في فعالية التكلفة بين الجمعيات الخيرية. هذه النتائج تدعو إلى استراتيجيات شاملة على المستويات الفردية والمجتمعية والسياسية لتعزيز الروابط الاجتماعية واللطف والثقة لتحقيق سعادة مستدامة.
خاتمة
يُقدم التقرير رسالة واضحة وقوية: أن السعادة ليست مجرد شعور فردي، بل هي نتاج متشابك للروابط الاجتماعية، الأفعال الإحسانية، والثقة المتبادلة. من خلال تحليل شامل للبيانات العالمية، يوضح التقرير أن الاستثمار في مجتمعات داعمة، وتشجيع الأفراد على العناية والمشاركة، ومعالجة العوامل التي تؤدي إلى العزلة وانعدام الثقة، هي خطوات أساسية نحو بناء عالم أكثر سعادة. تدعو هذه النتائج إلى إعادة التفكير في الأولويات، ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن أيضًا في صياغة السياسات العامة التي تعزز هذه المحركات الأساسية للرفاهية المستدامة.