الإمام علي الهادي (ع) واستراتيجية المواجهة للظلم والظالمين

شبكة النبأ

2025-12-24 04:46

يستعرض الكتاب الموسوم بـ "حياة الإمام علي الهادي (عليه السلام)، دراسة وتحليل" للمحقق والمؤرخ الكبير الشيخ باقر شريف القرشي جوانب متعددة، مبتدئاً بنشأته المباركة ومقاماته العلمية والروحية التي بوّأته الإمامة في سن مبكرة. ثم ينتقل الكتاب ليغوص في عمق الصراع السياسي والاجتماعي في ذلك العصر، محللاً الظروف القاسية التي أحاطت بالإمام بعد استدعائه قسراً من المدينة المنورة إلى "سامراء" وفرض الإقامة الجبرية عليه.

تستعرض هذه السطور المقتبسة من الكتاب مفهوم الظلم عند الإمام الهادي، وكيفية تشخيصه له، والأدوات الاستراتيجية التي استخدمها لمواجهته، والتي تراوحت بين البناء الفكري، والتنظيم الاجتماعي (نظام الوكلاء)، والمواجهة الروحية.

ويركز الشيخ القرشي في تحليله على المواجهة مع السلطة وكيف أدار الإمام الصراع مع المتوكل العباسي بحكمة، مواجهاً سياسات التنكيل والتجويع الاقتصادي بأسلوب "المواجهة الناعمة" والثبات المبدئي، وكيف تصدى لمحاولات السلطة النيل من هيبته عبر المجالس والمناظرات.

كما يسلط الضوء على دور الإمام في تحصين الأمة من التيارات المنحرفة كالغلاة والمجبرة، وتأصيله للعقيدة الصحيحة من خلال نصوص جوهرية مثل "الزيارة الجامعة الكبيرة".

ويشرح كيف بنى الإمام شبكة تواصل سرية ومحكمة (نظام الوكلاء) لإدارة شؤون الشيعة مالياً ودينياً، مما مهد الطريق لغيبة الإمام المهدي (عج).

ويخلص إلى أن الإمام الهادي (عليه السلام) لم يكن شخصية زاهدة منعزلة، بل كان قائداً رسالياً نجح في الحفاظ على هوية التشيع وكيان الأمة الإسلامية في وجه أعتى موجات الاستبداد، مؤسساً لمدرسة في الصبر والمقاومة أثمرت بقاء هذا النهج حياً عبر العصور.

الإمامة في قلب العاصفة

تُعد فترة إمامة الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) منعطفاً تاريخياً حاسماً في مسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام). لم يكن التحدي مقتصراً على الاستبداد السياسي التقليدي، بل واجه الإمام (عليه السلام) منظومة معقدة من الانحرافات شملت "الانقلاب العباسي" الذي قاده المتوكل، وسيطرة القادة الأتراك على مفاصل الدولة، وانتشار التيارات الفكرية الهدامة. في ظل هذه الظروف، حيث نُقل الإمام قسراً من مدينته إلى "سامراء" ليكون تحت الإقامة الجبرية والمراقبة اللصيقة، تجلى دوره العظيم كقطب للرحى، يدير دفة القيادة الروحية والاجتماعية للأمة بأسلوب فريد جمع بين "التقية المكثفة" و"المواجهة المبدئية الصارمة"، وبين "القوة الناعمة" و"التنظيم السري".

تشريح مفهوم الظلم

لم يتعامل الإمام الهادي (عليه السلام) مع الظلم كحدث سياسي عابر، بل قدم تشخيصاً عميقاً للظلم باعتباره منظومة متكاملة تبدأ من فساد العقيدة وتنتهي بفساد الواقع. وقد حدد الإمام ثلاثة أبعاد رئيسية للظلم يجب مواجهتها:

1. الظلم العقائدي: التأسيس لشرعية الطغيان (خرافة الجبر)

رأى الإمام أن أخطر أنواع الظلم هو ذلك الذي يتدثر برداء الدين. في عصره، روجت السلطة العباسية وعظماء البلاط لعقيدة "الجبر"، التي تدعي أن الله يجبر العباد على أفعالهم. كان الهدف السياسي من هذه العقيدة هو تبرير جرائم الحكام باعتبارها "قضاءً وقدرًا" من الله، وبالتالي فإن الخروج عليهم هو اعتراض على مشيئة الله.

تصدى الإمام لهذه الفكرة بحزم، معتبراً إياها أعظم أنواع الظلم لأنها تنسب الفحشاء إلى الله. وقد ورد عنه (عليه السلام) في رسالته لأهل الأهواز دحضاً لهذه الشبهة: "ما جبر الله أحداً من خلقه على معصية، بل اختبرهم بالبلوى... ولو كان (القضاء والقدر) حتماً لازماً لبطل الثواب والعقاب... وتلك مقالة عبدة الأوثان". بهذا التأسيس، نزع الإمام الشرعية الدينية عن الظالمين، موضحاً أن الحاكم الظالم معتدٍ على إرادة الله وليس منفذاً لها.

2. الظلم الاقتصادي والاجتماعي: سياسة الترف والتجويع

تجسد هذا البعد في ممارسات السلطة العباسية من استئثار بالفيء (المال العام)، وهدر أموال المسلمين على مجالس اللهو والغناء، في حين يعاني عامة الناس -والعلويون خاصة- من الفقر المدقع. يصف الشيخ القرشي في كتابه كيف كان المتوكل "يغدق الأموال بسخاء على المغنيين والعابثين، وكانت لياليهم الحمراء حافلة بجميع ما حرمه الله".

اعتبر الإمام الهادي أن هذا التفاوت الطبقي وسرقة قوت الأمة هو جوهر الظلم الاجتماعي. لذا، لم يكتفِ بالرفض القلبي، بل حرم التعامل مع هؤلاء الظالمين، معتبراً أن أي معاونة لهم هي مشاركة في سرقة حقوق الفقراء.

3. الظلم الداخلي: الغلو والانحراف

لم يحصر الإمام مواجهته للعدو الخارجي، بل اعتبر "الغلاة" (الذين ادعوا ألوهية الأئمة) و"المتصوفة المنحرفين" ظالمين لأنفسهم وللدين. رأى الإمام في هؤلاء خطراً أشد من النواصب، لأنهم ينخرون العقيدة من الداخل ويشوهون صورة التشيع النقية. شن الإمام حملة تطهير واسعة، وأمر شيعته بالبراءة من الغلاة (مثل فارس بن حاتم القزويني) وطردهم، مؤكداً أن أهل البيت "عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون".

استراتيجيات المواجهة (بين المقاطعة والبناء)

أمام جبروت السلطة التي تملك الجيوش والسجون، لم يختر الإمام الهادي طريق الصدام العسكري، بل انتهج استراتيجية "المقاومة الشاملة" أو ما يمكن تسميته بـ "حرب المواقع"، التي تعمل على عدة جبهات:

1. سلاح المقاطعة السلبية والاختراق الإيجابي

اتخذ الإمام موقفاً فقهياً صارماً بتحريم العمل مع السلطة الظالمة لقطع شريان الشرعية عنها، ولعزلها اجتماعياً.

* الفتوى الحاسمة: عندما سُئل عن تولي المناصب في الدولة العباسية، كان جوابه دقيقاً: "ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل العذر، وما خلا ذلك فمكروه (أو حرام)".

* الاختراق المدروس: استثنى الإمام حالة واحدة فقط للعمل مع الدولة، وهي "خدمة المؤمنين". قال (عليه السلام): "من فعل ذلك (لإدخال السرور على المؤمنين ودفع الضرر عنهم) فليس مدخله حراماً بل أجراً وثواباً". هذا التوجيه خلق "طابوراً خامساً" للمؤمنين داخل جهاز الدولة (مثل علي بن يقطين في العصور السابقة، ومن هم على شاكلته في عصر الهادي) لخدمة المظلومين من الداخل وتخفيف وطأة الظلم عنهم.

2. التحصين الفكري: الزيارة الجامعة الكبيرة كدستور

في الوقت الذي سعت فيه السلطة لطمس ذكر أهل البيت وتقزيم مكانتهم، قام الإمام الهادي بعملية "توثيق عقائدي" كبرى من خلال "الزيارة الجامعة الكبيرة". هذه الزيارة لم تكن مجرد نصوص للتلاوة، بل كانت "بيان" عقائدي يحدد معالم الإمامة الإلهية بدقة متناهية وبلاغة معجزة.

من خلال عبارات مثل "ساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الإيمان"، رسخ الإمام في وعي الأمة أن الشرعية الحقيقية هي لأهل البيت، وأن الحكام الظلمة ليسوا إلا مغتصبين. كانت هذه الزيارة تتردد في المشاهد المقدسة كوثيقة احتجاج سلمي دائم.

3. المواجهة العلمية: كشف زيف وعاظ السلاطين

حاول المتوكل إحراج الإمام من خلال عقد المناظرات واستدعاء كبار العلماء (مثل يحيى بن أكثم) لطرح مسائل تعجيزية. كان الهدف هو كسر الهيبة العلمية للإمام أمام الناس. لكن النتيجة كانت دائماً عكسية؛ فقد كان الإمام يجيب عن أعقد المسائل الفقهية والعقائدية ببديهة حاضرة ومنطق دامغ، مما كان يضطر خصومه للاعتراف بفضله، وبالتالي تحولت هذه المجالس إلى منابر لنشر علم أهل البيت بدلاً من تحجيمهم.

الدولة الموازية (نظام الوكلاء)

لعل أبرز إنجازات الإمام الهادي التنظيمية هو تطويره لـ "نظام الوكلاء" (المنظمة السرية). نظراً للإقامة الجبرية في سامراء وصعوبة الاتصال المباشر بشيعته، بنى الإمام شبكة محكمة من الوكلاء الثقات (مثل عثمان بن سعيد العمري).

أهداف هذا النظام:

1. الاستقلال المالي: جمع الحقوق الشرعية (الخمس والزكاة) وتوزيعها على الفقراء والمستضعفين، مما وفر استقلالاً مالياً للتيار الشيعي بعيداً عن هيمنة الدولة الاقتصادية وسياسة التجويع.

2. التواصل الآمن: نقل التوجيهات والفتاوى والرسائل السياسية بين الإمام وقواعده الشعبية بسرية تامة.

3. التمهيد للغيبة: كان هذا النظام تدريباً عملياً للشيعة على الرجوع إلى "النواب" بدلاً من الاتصال المباشر بالإمام، وهو ما مهد الأرضية النفسية لقبول فكرة "الغيبة" والنيابة عن الإمام المهدي (عج) لاحقاً.

المواجهة الروحية والمباشرة

رغم الحذر، لم يخلُ نهج الإمام من المواجهة المباشرة الصادمة حينما يتطلب الموقف إحقاق الحق، واستخدم في ذلك سلاحين:

1. سلاح الكلمة الصادقة (حادثة المجلس)

تُعد حادثة استدعاء الإمام ليلاً إلى مجلس المتوكل وهو يشرب الخمر من أشهر المواقف التاريخية. حينما طلب الطاغية من الإمام أن ينشده شعراً، لم يعتذر الإمام بخوف، بل أنشده قصيدته الشهيرة التي زلزلت كيان الطاغية:

*"باتوا على قلل الأجبال تحرسهم... غُلب الرجال فما أغنتهم القللُ"*

*"واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم... وأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا"*

كانت هذه الكلمات بمثابة "محاكمة علنية" للظالم في عقر داره، تذكره بنهايته المحتومة. وقد بلغ تأثيرها أن بكى المتوكل (رغم قسوته) ورفع الخمر، مما شكل انتصاراً لهيبة الإمام المعنوية على جبروت السلطة المادي.

2. سلاح الدعاء (قوة المظلوم)

استخدم الإمام الدعاء كسلاح سياسي وإعلامي، فكان دعاؤه في القنوت بياناً ضد الظلمة: "اللهم اكشف العذاب عن المؤمنين واصبه جهرةً على الظالمين... اللهم بادر أعوان الظلم بالقضم".

كما اشتهر عنه استخدام "دعاء المظلوم على الظالم"، كما حدث مع الوزير "أحمد بن الخصيب" الذي توعده الإمام بالهلاك فهلك سريعاً. كان هذا السلاح يفتت عضد الظالمين ويرعبهم، ويبث الأمل والسكينة في نفوس الموالين بأن لهم ركناً شديداً يأوون إليه.

خاتمة

إن قراءة سيرة الإمام علي الهادي (عليه السلام) تكشف لنا عن قائد استثنائي استطاع أن يحول "المحنة" إلى "منحة". فمن قلب الإقامة الجبرية في سامراء، وبدلاً من أن يذوب التشيع وينتهي تحت وطأة القمع العباسي، خرج أكثر تماسكاً وتنظيماً.

لقد قدم الإمام الهادي (عليه السلام) نموذجاً حضارياً في مواجهة الظلم؛ حيث واجه الفكر بالفكر (ضد الجبر والغلو)، وواجه الحصار الاقتصادي بالتكافل الاجتماعي (نظام الوكلاء)، وواجه الاستبداد السياسي بالرفض والمقاطعة والكلمة الحرة. وبهذا الدور التاريخي العظيم، سلم الإمام الهادي الراية إلى ولده الحسن العسكري (عليه السلام) والأمة محصنة عقائدياً وتنظيمياً لاستقبال عصر الغيبة الكبرى.

-------------

من مواعظ الامام علي بن محمد الهادي عليه السلام

- الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون.

- من جمع لك وده ورأيه فاجمع له طاعتك

- الحكمة لا تنجع في الطباع الفاسدة

- من أكرمك فأكرمه، ومن استخفك فأكرم نفسك عنه

- إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال، إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا ظلم غفر.

- من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق

- خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه.

- الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أو جبت الشكر لان النعم متاع، والشكر نعم وعقبى.

- من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره.

- من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه.

- إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يعمل في عدوك.

- الغضب على من تملك لؤم.

- مخالطة الأشرار تدل على شرار من يخالطهم.

- شر من الرزية سوء الخلف.

- العقوق يبعث القلة ويؤدي إلى الذلة

- من لم يستح من العيب ويرعو عند الشيب ويخشى الله بظهر الغيب فلا خير فيه.

- إن الظالم الحالم يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه، وإن المحق السفيه، يكاد أن يطفئ نور حقه بسفهه.

- اذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوءا حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لاحد أن يظن بأحد خيرا ما لم يعلم ذلك منه.

- القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها، واعلموا أن النفس أقبل شيء لما أعطيت وأمنع شيء لما منعت.

- من سأل فوق قدره استحق الحرمان.

- العتاب مفتاح الثقال، والعتاب خير من الحقد.

- المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة والوثيقة، وأقل مافيه أن يكون فيه المغالبة، والمغالبة اس أسباب القطيعة.

- لا تطلب الصفا ممن كدرت عليه، ولا الوفاء لمن غدرت به، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، فإنما قلب غيرك كقلبك له.

- إن الحرام لا ينمي وإن نمى لا يبارك له فيه وما أنفقه لم يؤجر عليه وما خلفه كان زاده إلى النار.

ذات صلة

الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيالإمام علي الهادي (ع) ومنهج البقاء الحر في زمن التضييقالغضب.. أوله جنون وآخره ندماستراتيجية الأمن القومي الأميركي.. كيف قرأناها؟متى يجب أن تحكم الأغلبية؟