تأملات وتدبرات في آية الاذان بالحج
مستقاة من المحاضرات التفسيرية للسيد مرتضى الحسيني الشيرازي
السيد نبأ الحمامي
2016-09-17 09:53
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً(1) وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ(2) يَأْتِينَ(3) مِنْ كُلِّ فَجٍّ(4) عَمِيقٍ(5) * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) (6)
يدور البحث حول نقطتين رئيستين:
النقطة الأولى: تدبرات في اللفظ القرآني. وتتضمن مبحثين:
المبحث الأول: دلالات حرف الكاف في (يأتوك) (7)
ان من المعلوم أن كل حرف في القرآن الكريم له من الدلالة أبلغها، وإن إضافته أو حذفه إنما هو حسب منتهى الحكمة. ومن أسرار حرف الكاف في (يأتوك):
1) دلالتها على الوسيط الإلهي، وتتضمن ثلاث فوائد، هي:
(أ) الإشارة الى الوسيط الإلهي
تشير الآية الكريمة الى وجود الوسيط الإلهي بين الخالق والخلق، وأن هذا الوسيط السماوي هو المأتي(8) إليه، وهو المقصود أيضا، إضافة الى قصد البيت بمشاعره ومشاهده. أي أن هذه (الكاف) تفيدنا بأن المقصود إضافة الى البيت، هو إمام البيت.
اذ لم يقل الله سبحانه وتعالى: (يأتون رجالا).
كما لم يقل: (يأتون البيت)، كما هو مقتضى مساق الحديث، لان فريضة الحج إنما تقع مشاعرها وشعائرها، في بيت الله تعالى، الكعبة المشرفة، وما حولها. كما قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (9)
فالمقصود -إذن- ليس هو إتيان البيت فقط، بل إتيان إمام البيت وخليفة الله أيضا.
كما أن الوسيط الإلهي يتجلى من قبلُ في كلمة (أذّن)، إذ إن الله تعالى عهد بالإعلان إلى الوسيط الإلهي (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ).
وهذا يعني أن الداعي(10) هو الوسيط، والوسيط هو المأتي إليه أيضا، وهو مزور، ومقصود أيضا، وليس البيت فقط، كما نلاحظ ذلك في آية أخرى (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (11)
ومن الواضح إن الله تعالى لا يحتاج الى وسيط، لكن هندسة الكون بنيت على نظام (الخالق)، و(الخليقة) و(الخليفة)، وهذا تأكيد لهذه الفلسفة الكونية الكبرى.
فالوسيط الإلهي في (الإعلام العام) (12) هو الوسيط، في (المقصدية الطولية) (13)
ب) منافع الحج متوقفة على إتيان ذلك الوسيط الرباني
ان وجود الكاف في (يأتوك) ووجود اللام في (ليشهدوا) يكشف لنا عن أن الثمار والمنافع التي تترتب على الحج، هي متوقفة ومتفرعة على مجموع الأمرين،(14) وليس على إتيان البيت فقط، فليس (يأتون البيت... ليشهدوا)، بل (يأتوك... ليشهدوا)، فلا يصح أن يتجرد إتيانهم البيت عن إتيانك، بل لو اجتمعا فعندئذٍ (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
إذن، قوله تعالى: (ليشهدوا) متفرع على قوله عز وجل (يأتوك)، ومعنى ذلك: أن المنافع المترتبة على الحج -بعضها على الأقل- متوقف على أن تأتي البيت، وتأتي -في الوقت نفسه- الوسيط بين السماء والأرض، قاصدا خليفة الله تعالى. وإلا فإن هذه المنافع الكثيرة سوف لا تترتب، ولا يمكن الحصول عليها. كما أن (ذكر الله) (15) سوف لا يتحقق على حسب ما طلبه الله تعالى وأمر به؛ لأن هذا الشخص الذي لم يأتِ إمام البيت، لم ينبعث عن أمر الله، كما أمر الله سبحانه وتعالى.
ج) الحركة الإيمانية حركة متجددة على مر الأزمان والعصور
إن هذه المفردة القرآنية النورانية، تدل على حركة متجددة بتجدد الأزمان، وبتجدد وجود الأجيال القادمة، إلى يوم القيامة، وليست أمرا جامدا في فترة زمنية خاصة.
فإن المراد بـ(الناس) في قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ)، الناس على امتداد الأزمان. وإن الخطاب عام لكل الناس على امتداد الأزمان، وذلك عندما اعتلى إبراهيم (عليه السلام) الجبل، وأذّن معلنا الدعوة إلى فريضة الحج العظيمة، وكان خطابه إلى الناس كافة، مَن في الأصلاب وغيرهم، مَن في الشرق ومَن في الغرب، ولم يكن الخطاب خاصا بالموجودين في ذلك الزمن، بل هو خطاب عام للأجيال على مر التاريخ، كما تدل عليه مختلف الآيات والروايات.(16)
وهنا نسأل: كيف نأتي إبراهيم النبي (عليه السلام)، أو المخاطب بهذا الضمير أياً كان، مع أنه غير موجود، قد قبضه الله اليه(17)؟
إن(18) ظاهر الآية هو أن الحركة حركة متجددة مستمرة، على مر الأزمان، وإنك إذ أذّنت بالحج فأنهم سيأتونك، والمعنى الحقيقي(19) واضح على ضوء الآيات والروايات، وذلك لأن الآية تريد أن تشير بهذه (الكاف) وبـ(الناس) الى أن إتيان الناس لإمام البيت، للوسيط بين الله تعالى وبين الخلق، لخليفته على خلائقه على امتداد الأزمان. وخليفة الله في ذلك الزمان هو إبراهيم النبي (عليه السلام)، أما خليفة الله في هذا الزمان فهو إمام العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
2) المقصود بالخطاب في كلمة (يأتوك)
هناك ثلاثة أقوال في المسألة، وهي:
القول الأول: المخاطب هو إبراهيم النبي (عليه السلام)، وتدل على هذا القول بعض الروايات. فعن علي بن إبراهيم قال: (ولمّا فرَغ إبراهيم (عليه السلام) من بناء البيت، أمره الله أن يُوذَن في الناس بالحَجّ، فقال: يا ربّ، وما يبلُغُ صوتي؟ فقال الله تعالى: عليك الأذان وعليَّ البلاغ. وارتفع على المَقام، وهو يومئذ يُلاصِق البيت، فارتفع به المقام حتى كأنه أطول من الجبال، فنادى، وأدخل إصبعَيه في أُذنيه، وأقبَل بوَجهه شرقاً وغرباً، يقول: أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العَتِيق فأجيبوا ربّكم. فأجابوه من تحت البحور السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منُقطع التُراب من أطراف الأرض كلها، ومن أصلاب الرجال وأرحام النساء، بالتَلْبية: لبَّيك اللهم لبَّيك. أوَلا ترونهم يأتون يُلبون؟ فمن حجّ من يومئذٍ إلى يوم القيامة فهم مِمَّن استجاب لله، وذلك قوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)، يعني نداء إبراهيم (عليه السلام) على المَقام بالحج) (20).
القول الثاني: المخاطب هو رسول الله المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله).
وهذا القول تذكره روايات وأقوال الفريقين. فعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحُجّ، ثمّ أنزل الله عز وجل عليه: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، فأمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم، بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يَحُجّ في عامه هذا، فعَلِم به من حضَرَ المدينة وأهل العوالي والأعراب، فاجتمعوا لحجّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّما كانوا تابعين ينظُرون ما يؤمرون به ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه. فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أربع بَقينَ من ذي القعدة...) (21)
وهنا نقول(22): لا مانعة جمع بين هذه الروايات وتلك الروايات، بل يكّمل بعضها بعضا، وبالتالي يكون هذا الجمع بين الروايات، هو مضمون الرأي الثالث الذي يجمع بينهما في ضمن إطار أعم وكليّ شامل لهما.
القول الثالث: الخطاب موجه على مدى الأزمان إلى خليفة الله سبحانه وتعالى في تلك الأزمان على الأرض، وإلى الإمام والخليفة من بعدهم الى يوم القيامة.
فعن أبي عبيدة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام)، ورأى الناس بمكة وما يعملون قال: فقال: (فعال كفعال الجاهلية، أما والله ما أُمُروا بهذا، وما أمُروا إلا أن يقضوا تفثهم، وليوفوا نذورهم، فيمروا بنا، فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم(23).
وهذا القول يوضح الحركة التجديدية في الخطاب القرآني، فقوله تعالى: (وأذِّنْ في النّاسِ) خطاب الى إبراهيم (عليه السلام) ؛ لأنه كان إمام ذلك الزمن، لا لخصوصية خاصة في شخصه (عليه السلام). فعندما نجح (سلام الله عليه) في الامتحان الإلهي(24)، أصبح خليفة الله، والوسيط بين الله وبين خلقه، ومنه تؤخذ الشرائع، وهو الحجة، وتـجب معرفته، ومن لم يعرف إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الزمن، فحجُّه غير مقبول.
فقد ورد في كتب الفريقين الحديث النبوي المشهور (من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية) (25)، ومعنى ذلك: إن في كل زمن يوجد إمام من قبل الله سبحانه وتعالى، عليك أن تعرفه.
فإبراهيم (عليه السلام) ليست له الموضوعية كشخص، وإنما لأنه إمام مجعول من قبل الله تعالى، وكذلك موسى أو عيسى في زمانه هو الإمام، والنبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) في زمانه هو الإمام،، وبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الإمامُ علي بن أبي طالب، ثم الإمام الحسن المجتبى، ثم الإمام الحسين الشهيد بكربلاء، ثم الإمام زين العابدين، الى أن تصل إلى ولي الله الأعظم الحجة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)، فهو الإمام في هذا الزمان.
فهذا القول -إذن- يرى أن الخطاب، وان كان ظاهره خاصا بإبراهيم أو النبي المصطفى (صلى الله عليهما وآلهما)، إلا أن واقعه عام للإمام بما هو إمام، لا للشخص بما هو شخص، وإن هذا المقام هو مقام خليفة الله تعالى، فهو المؤذِّن السماوي بالحج وهو المقصود للناس.
وفي الآية الشريفة: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ...) الأمر والخطاب موجه لخليفة الله تعالى، أي للوسيط بين الله وبين خلقه وإن كان شأن النزول خاصاً، ففي أي زمن كان ذلك الخليفة الإلهي وأينما وجد ذلك الوسيط السماوي، فهو المخاطب بهذه الآية المباركة(26).
وهذا الذي ذكرناه يطابق حكمة الله سبحانه وتعالى في عالم التكوين، إذ إن حكمة الله جرت على أن بناء الكون قائم على نظام (الخليفة، ثم الخليقة). وكذلك نجد أن البناء التشريعي للقران الكريم مبني على الوسائط (الربانيين) كعالم التكوين.
يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (27)، فلا يكفيهم أن يطرقوا باب الله تعالى مباشرة. بل لابد من إتيان الخليفة، ولو لم تطرق باب الله طوليا، عن طريق هذا الوسيط، فإنه لا يقبل منهم، ولا يكفي استغفارهم المجرد عن استغفار الرسول لهم، بل (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً).
المبحث الثاني: دلالات حرف اللام في (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).
هل الذهاب للحج مقتضٍ لشهادة هذه المنافع، فلا تترتب هذه المنافع الا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع، ام انها علة تامة لها، وبالتالي ستترتب هذه المنافع للذاهب - قهرا وقسرا - إلى الحج حتى لو كان ضالا أو منحرفا، قصد أم لم يقصد، كما في بعض الروايات(28)، فتكون اللام للعاقبة؟
أو إن هذه المنافع هي من المنافع القصدية، فلكي تشهد منافعه، لابد في بعض مراتبه من أن يكون هناك استعداد وإعداد وشروط، واللام ستكون – حينئذ- للغاية وبيان العلة؟
نقول في الجواب: إن هنا مطلبين يعدّان -بعد التدبر- من مفردات إعجاز القران الكريم، وهما:
الأول: معنى كلمة (تفث) في قوله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
ان كلمة (تفث) مفردة غريبة، ليست موجودة في اللغة العربية، حسب تحقيق المحققين من علماء الفريقين، وحسب تحقيق اللغويين ومنهم الزجاج(29)، والأزهري (30) فهي ابتكار قرآني، لذا فإن معناها غير معلوم في العرف واللغة قبل مرحلة نزول هذه الآية الكريمة. وما أفاده بعض المفسرين من رجوع معناها إلى: قص الشارب، والأظفار، ونتف الابط، والاستحداء، وإزالة الوسخ، هو كلام مربك ومضطرب.
ونقول: المفسرون لابد لهم من الرجوع الى مصدر الوحي مباشرة، بعد عدم معرفة أهل اللغة والعرف لمعنى هذه المفردة. وإنما علينا أن نسال الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام عن معنى هذه الكلمة القرآنية المبتكرة.
الثاني: كيف تجعل الأمور المذكورة في تفسير (التفث) غاية للحج(31)؟
وهل يعقل أن يدعو الله تعالى ملايين الحجاج ومن مسافات شاسعة، وعلى مر العصور والأزمان، كي تكون إحدى غاياتهم التي جاءت بها السماء: أن يقصوا بعض أظافرهم؟! أو يأخذوا بعض الشعر، علماً إن الإنسان يمكن أن يؤدي ما ذكر، من قص الأظفار وغيرها، في بيته، وبشكل أفضل(32).
والجواب على ذلك: إن أئمتنا الأطهار أوضحوا لنا بصريح القول إن معنى: (ثم ليقضوا تفثهم)، أي: ليلتقوا بالإمام(عليه السلام). فقضاء التفث: هو لقاء الإمام، وأن يذهب المسلم إلى الحج، لا لكي يقص أظفاره فحسب، وإن كان هذا الجزء مطلوبا في نفسه، وإنما المراد مـن (ليقضوا تفثهم): أي ليزيلوا الاوساخ الباطنية: من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وإنكار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنكار الأوصياء الذين عيّنهم (صلى الله عليه وآله)، هذه هي الاوساخ الباطنية. وأيضا تتبعُها الأوساخ الظاهرية.
وهذا هو المعنى الذي يصلح أن يكون غاية للحج. فالهدف من الحج أن تتعرف على خليفة الله في الكون، وهذا هدف معقول، بل هو من أكبر الأهداف التي اقتضت الحكمة أن يشرع الحج لأجلها. إن الله تعالى يريد من عباده ان يذكروا اسمه سبحانه ويتعرفوا على إبراهيم خليل الرحمن – وقت إمامته - ورسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعلى أوصياء رسول الله، وصولاً إلى الامام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف).
وهناك روايات عديدة تشير إلى هذا المعنى، منها: ما عن أبي عبد الله عليه السلام، في قول الله عز وجل: (ثم ليقضوا تفثهم) قال: التفث: لقاء الامام(33). وتقدمت آنفا الرواية عن أبي عبيدة عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) بهذا المضمون.
واتضح مما تقدم أن المنافع في قوله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، هي منافع قصدية، فلكي تشهد منافعه، لابد في بعض مراتبه من أن يكون هناك استعداد وإعداد وشروط، وهذا ما سنتحدث عنه في النقطة الثانية.
النقطة الثانية: تطبيقات تفسيرية مستفادة من الآية الكريمة
التطبيق الأول. الإعدادات التي تثمر هذه المنافع
إن الإعدادات التي تثمر المنافع في قوله تعالى (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)، على نوعين:
1) الإعداد المعرفي: بأن يحاول المرء أن يطّلع ويتعرف على شتى أبعاد الحج: من معارفه، وأسراره، وأحكامه، ومستحباته، وغير ذلك. ولنذكر مثالا واحدا بإيجاز:
من المستحبات التي وردت حولها روايات عديدة: أن يطوف الإنسان، أيام مكثه في مكة، بعدد أيام السنة، أي يطوف استحبابا (360) أسبوعا، وليس شوطا، فإن عجز أو عسر عليه ذلك، انتقل التكليف الاستحبابي إلى الأشواط، أي 360 شوطاً، فإن عسر عليه ذلك، فما تيسّر(34).
ويطالع على الأقل كتاب (بحار الأنوار) في آداب الحج، في سننه وواجباته، وفي حكمته وفلسفته وخفاياه وأسراره.
إضافة إلى وجوب أن يكون الإنسان المؤمن متسلحا بالمعرفة الشرعية في واجبات الحج ومحرماته، بالمباشرة، أو عن طريق المرشد الديني، كي لا يقع في الحرام.
2) الإعداد الدعوي. بأن يسعى الإنسان المؤمن بقدر طاقته وإمكانه لهداية أكبر عدد من الناس، طيلة بقائه في الديار المقدسة، على حسب مستوى إعداده، وحسب علو همته ونشاطه وجدّه واجتهاده.
أما لو رجع صفر اليدين، ولم يوفق لهداية أحد من الناس، فهذا يعني أنه لم يشهد هذا النوع من المنافع، إذ إن الحج ملتقى عالمي، لا نظير له على مر التاريخ، وإن أحجاراً وضعها نبي في غابر الأزمان غيرت وجه التاريخ، وكانت سببا لحضور ما لا يعد ولا يحصى من الناس من شتى أرجاء المعمورة على مر التاريخ. تستدعي وتستوجب إعدادا وتخطيطا دعويا شاملا.
فإذا أراد المرء الذهاب إلى الحج، فسواء أ كان حاجّا، أو مرشدا، أو حملدارا، أو غير ذلك، فعليه أن يعدّ ويستعد ويطالع مسبقا، ويستشير أهل الخبرة، إذ إنه سيلتقي بمذاهب أخرى، ويسمع أفكاراً أخرى، ويتعرف على توجهات أخرى. وكل هذا يستدعي أن يتسلح معرفيا لمواجهة كل ذلك، ويطالع كتبا تنفعه في هداية الناس، أمثال: (المراجعات، والنص والاجتهاد)، وأمثال (ثم اهتديت، ولأكون مع الصادقين)، وأمثال (الرحلة المدرسية) وغيرها.
وعليه أن يطالع ما يتعلق بشؤون سائر الملل، إذ إن هناك قوميات مختلفة، ولكل منهم سيكولوجية خاصة، وعلم نفس خاص، ومداخل نفسية خاصة، ولهم أسلوب خاص، وعندما يلتقي الإنسان بهم لا بد أن يكون مسلحا بهذه العلوم، عارفا بأساليب الحوار والنقاش.
ومن مصاديق الإعداد الدعوي: التخطيط لمؤتمرات وندوات واجتماعات. فإن الكثير من المبلغين أو سائر الناس من المؤمنين، يذهبون إلى الحج، لكنهم لا يرجعون بحصيلة جيدة من التفكير والتخطيط الأشمل لحماية أفضل للمقدسات، أو لتوفير الحماية لإتباع اهل البيت (عليهم ازكى الصلاة والسلام) في العالم، أو في كيفية إنقاذ المستضعفين فكريا وعمليا. وسوف تتحقق، بفضل الإعداد الدعوي الصحيح، جملة أكبر من المنافع التي وعدت بها الآية الشريفة.
التطبيق الثاني: تعويض الحرمان من الحج
ان الكثير من الناس قد لا يكونون قادرين على الذهاب للحج في حال عدم تيسر السبل لهم. وللتعويض عن الحرمان من الحج، ذكرت الروايات موارد عديدة لتدارك هذا الحرمان، منها:
1) كثرة الصلاة على النبي وآله.
فعن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن علي دينا كثيرا ولي عيال، ولا أقدر على الحج فعلمني دعاء أدعو به. فقال: قل في دبر كل صلاة مكتوبة: " اللهم صل على محمد وآل محمد واقض عني دَين الدنيا ودَين الآخرة ". فقلت له: أما دَين الدنيا فقد عرفته، فما دَين الآخرة؟ فقال: دين الآخرة الحج(35)
وطبقا لهذه الرواية، فإن الإنسان لو التزم بهذا الدعاء، فإن الله تعالى سيقضي حاجته المادية للدنيا، وييسر له الحج بلطفه وكرمه ولو في سنين قادمة.
2- قضاء حوائج الاخوان.
والغريب أن نجد أكثر الناس غافلين عن هذا السبيل. وهو سبيل مهم جدا، لأنه لا يخلو امرئ من حاجة، سواء كانت حاجته لمال، أو زواج، أو عمل، أو شفاعة عند صاحب سلطان، أو إجابة عن سؤالٍ او شبهةٍ، وما إلى ذلك من الحاجات التي لا حد لها.
ومن الروايات المتعلقة بمسألة تدارك ثواب الحج، ما روي عن إسحاق بن عمار قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا اسحق، من طاف بهذا البيت طوافا واحدا كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة، وغرس له ألف شجرة في الجنة، وكتب له ثواب عتق ألف نسمة، حتى إذا وصل إلى الملتزم فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يقال له: ادخل من أيها شئت(36). قال: فقلت: جعلت فداك هذا كله لمن طاف؟ قال نعم، أفلا أخبرك بما هو أفضل من هذا؟ قلت: بلى، قال من قضى لأخيه المؤمن حاجة كتب الله له طوافا حتى بلغ عشرا(37)
ومن كان في الحج، يمكنه أن ينال الخيرين، ويجمع الخيرات من أطرافها، بأن يجنّد نفسه لقضاء حوائج المؤمنين، كما يفعل المرشدون، والموظفون لخدمة الحجاج، ويقومون بأداء فريضة الحج في الوقت نفسه. سواء كان قضاء حوائج المؤمنين فرديا، أو مؤسسيا، أو دوليا، أو باي شكل من الأشكال، فكل عمل له أجره عند الله تعالى.
3- زيارة الإمام الحسين عليه صلوات الله وسلامه.
ولعل البعض يرى أن زيارته (عليه السلام)، وإن كانت ذات ثواب، إلا أنه لا يصل إلى ثواب الحج. إلا إن من يطلع على الروايات الشريفة ينكشف له خلاف ذلك. والروايات في ذلك كثيرة، منها:
ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ان الرجل إذا خرج من منزله يريد زيارة الحسين شيّعه سبعمائة ملك من فوق رأسه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه، حتى يبلغونه مأمنه، فإذا زار الحسين (عليه السلام) ناداه مناد: قد غفر الله لك فاستأنف العمل، ثم يرجعون معه مشيعين له إلى منزله، فإذا صاروا إلى منزله قالوا: نستودعك الله، فلا يزالون يزورونه إلى يوم مماته(38)، ثم يزورون قبر الحسين (عليه السلام) في كل يوم، وثواب ذلك للرجل(39) (40)
ومن الروايات المتعلقة بمقام تعويض ثواب الحج، ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زار قبر الحسين (عليه السلام) يوم عرفة كتب الله له الف الف حجة مع القائم، والف الف عمرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعتق الف الف نسمة، وحملان الف الف فرس في سبيل الله، وسماه الله عز وجل: عبدي الصديق امن بوعدي، وقالت الملائكة: فلان صديق زكاه الله من فوقة عرشه وسمي في الأرض كروبا(41)
إشكال ورد
الإشكال:
ان الروايات الواردة من طريق أهل البيت(ع) البالغة حد التواتر في فضل زيارة الإمام الحسين (ع) على حج بيت الله، وإن كانت تورث القطع واليقين للمنتمي لمدرسة أهل البيت(ع). إلا أن الكلام والإشكال قد يوجّه من المخالفين من العامة، ممن ينكر هذه الروايات، ولا يعتبرها حجة عليه.
الجواب:
لنا من الدليل ما يثبت مقام أفضلية زيارة الإمام الحسين(ع) على حج بيت الله، من نفس أدلتهم، إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم. وهو (القياس)، الذي يُعتبر مصدراً من أهم مصادر التشريع عندهم، بحيث ان الزمخشري ينقل: إن أبا حنيفة كان يفاضل بين الفرائض، ثم عندما ذهب الى الحج عندها لم يكن يفضّل على الحج شيئا من العبادات(42)، قياسا واستحسانا. فنقول:
إن الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت(ع) والمثبتة لأفضلية زيارة الحسين (ع) حتى على الحج، هي على مقتضى القاعدة، ويمكن إثبات حجيتها من طريق (القياس) (43) الذي هو حجة عندهم. وذلك بالمقايسة بين آيتين كريمتين(44) واستكشاف المفاضلة بينهما عن طريق القياس. والآيتان هما:
الأولى: قوله تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (45)
ومعنى ذلك أن المكلف بتطهير البيت من الأصنام، ومن القذارة الظاهرية: هما إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).
الثانية: ما رواه مسلم في صحيحه، في باب فضائل الحسن والحسين (قالت عائشة خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (46)
ويمكن عمل قياسين في الآيتين الكريمتين: الأول باعتبار الفاعل، والثاني باعتبار القابل:
1- القياس باعتبار الفاعل.
ان الله تعالى، بذاته القدوسية، هو الذي تصدى لتطهير أهل البيت (عليهم أزكى الصلاة وأزكى السلام) مباشرة، ولم يوكل ذلك إلى نبي من الأنبياء، خلافا لمسألة تطهير بيته فإنه تعالى أوكل أمر تطهير البيت الى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).
فنقول: إن مقتضى القياس – حسب مبانيهم - أن الله تعالى رب العزة والجلال بنفسه هو الذي تصدى لتطهيرهم (عليهم السلام) مباشرة وبدون واسطة، وأين إبراهيم من رب العزة والجلالة؟ وأين الخالق من المخلوق؟ إذ إن إبراهيم على - علو منزلته - يبقى عبدا من عبيد الله تعالى الصالحين.
وحينئذ ينتج من هذا القياس: إن من تكفّل الله الخالق القادر بتطهيره، (وهم رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم)، أعظم قدرا وأعلى مكانة ممن أوكل الله تطهيره إلى عبد من عباده(وهو بيت الله)، وإن كان ذلك العبد الذي أوكل إليه التطهير من أعظم أنبياء الله. وهذه من أعلى المقامات، ان لم يكن أعلاها على الإطلاق.
2- القياس باعتبار القابل.
ان الكعبة جماد، وقد شرفها الله تعالى بانتسابها إليه(47)، ولا يتصور التطهير فيها إلا بالتطهير الظاهري، بأن لا تكون فيها أصنام، أو قذارة ظاهرية. أما الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، فهم خير البشر، وقد فضل الله تعالى البشر بالعقل على سائر المخلوقات، وكان وجود العقل عندهم هو المقتضي لتوجه التكاليف الإلهية والابتلاءات، فالمناسب من الطهارة التي يفضلون بها المخلوقات أن تكون طهارة معنوية جوهرية، فهي أسمى وأرفع، وأوفق بوجود الروح والعقل.
وتكون نتيجة القياس: بأن من فضلهم الله تعالى على سائر مخلوقاته – حتى الكعبة المخلوقة من الحجارة – وهم رسول الله وأهل بيته(صلوات الله عليهم أجمعين)، بوجود العقل والروح، وكان تطهيرهم باطنيا متعلقا بالروح والعقل، هم أفضل – قطعا – من الحجر المفضول الخالي من العقل والروح، ولا يتصور تطهيره إلا بالتطهير الظاهري.
ويتحصل مما تقدم: إن زائر سيد شباب أهل الجنة الذي طهره الله تطهيراً، خير عند الله تعالى من زائر بيت الله، وإن هذا التفضيل هو على مقتضى القاعدة، ولا سبيل لإنكاره حتى من المخالفين. إذ أين من يزور ما طهّره الله تعالى بنفسه، ممن يزور ما طهره مخلوق من مخلوقاته؟ بل إن (مليون) ضعف ليست بالغريبة أبداً. ألا ترون أن فضل الخالق على الخلق ليس بمليون ضعف بل بما لا نسبة ولا قياس أبداً.