عوالم الاشياء والاشخاص والافكار وسر سقوط الامم
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2016-09-03 07:55
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([1])
وقال جل اسمه: (ثُمَّ ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)([2])
اشهر مباركة ومحطات كمال:
تمر علينا اشهر ذي القعدة وذي الحجة وهي تحتضن مجموعة من المناسبات المهمة، والتي تعتبر محطات تزود وكمال لطالب العلم ولكل شخص مؤمن، ومن تلك المحطات عيد الغدير الاغر في الثامن عشر من ذي الحجة، وكذلك حج بيت الله الحرام اضافة الى شهادة الباقر (عليه السلام) في السابع منه.
واما في ذي القعدة فولادة الامام الرضا (عليه السلام) في الحادي عشر منه، وشهادة الامام الجواد (عليه السلام) على بعض الروايات في اخره،, ووكذلك ولادة السيدة المعصومة (عليها السلام) في الأول منه.
ومحور حديثنا سيكون حول محوري الغدير والحج انطلاق من الآيتين المباركتين وما تيسر لنا من الاغتراف من بحر معينهما واستخراج بعض الدرر المكنونة فيهما. وكان لا بد لذلك من تمهيد مطلب هام وهو:
عوالم ثلاث واهداف مختلفة:
ان بعض المفكرين قسموا العوالم الى ثلاثة وهي : عالم الاشياء وعالم الاشخاص وعالم الأفكار، فلو لاحظنا الطفل منذ لحظات حياته الأولى فإننا سنجد انه يستأنس أولاً بعالم الاشياء ويتعرف عليها, ثم بعد ذلك يتحول الى عالم الاشخاص الى ان تتكامل مداركه شيئاً فشيئاً فينتقل الى عالم الافكار، فانه ومنذ ولادته وبدايته لا يدرك إلا الأشياء التي حوله: الحليب الذي يرتضعه من ثدي أمه، أو يد الأم التي تلمسه، ثم يبدأ يدرك عالم الاشخاص بالتدريج، واول من يدركه هو أمه كموجود حي حنون يحيط به ويرعاه ثم يدرك اباه واخاه والمحيطين به بالتدريج وعلى حسب درجة تماسه بهم([3]).
وفي مراحل من التطور والتكامل الذهني تبدأ الافكار بالتولد في باله كفكرة العداوة وفكرة الصداقة وغيرها الى ان يصل الى الافكار المجردة وتبدأ الاسئلة تحاصر ذهنه الغض حول وجوده ووجود بقية الخلق وكيفية الخلقة والهدف من الخلقة، أو حول هذا البناء ومن هو مهندسه وهكذا.
السير العكسي:
وفي المقابل قد نجد الانسان يتراجع ويتقهقر في مسيرته بين العوالم فيرجع القهقرى أو قد يبقى في العالمين الاولين أو قد يحدث له اضمحلال داخل إحدى العوالم الثلاثة كالتراجع في مستوى الفكر والتوجه فلا يسير وفق المنهج الصحيح والصراط القويم، وذلك ما يحدث للبعض في مراحل متقدمة من الشيخوخة، أو قد يحدث أثر مرض ما.
مراحل نموّ الأمم وصعودها
وكما في الطفل، كذلك الحال في الامم عادة فانها تعيش في بداية نشوئها مرحلة الاشياء المادية المبصرة او المسموعة او المشمومة والمذوقة والملموسة، وهكذا امة هي امة بدائية متخلفة والمفترض ان تترقى بعد ذلك الى عالم الاشخاص فعالم الافكار.
وهذه المراحل الثلاث قد تشمل العشيرة او الحزب او الحكومة وكل تكتل بنيوي في عالم الدنيا بفارق ان بعضها قد تبدأ من العالم الثاني مباشرة أو حتى العالم الثالث.
نماذج من عالم الأشياء والانغماس فيه:
ان مرحلة النمو البدني والتقدم في سني العمر لا يعني ان الانسان بالضرورة قد تجاوز العالم الادنى السافل الى العالم الارقى؛ فقد نجد استاذا جامعيا او طبيبا جراحا مشهورا او رئيسا او وزيرا او حتى طالب علم وهو في مرحلة عمرية كبيرة- سناً أو علماً أو مقاماً - ولكنه لازال غارقا في بحر الاشياء، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة الواقعية:
1- كثيراً ما نرى ان البعض جلّ اهتمامه هو هذا البدن الفاني وملذاته الآنية وما يغطيه من أنواع الثياب والرياش والملابس وأنواع قماشها وطرز تفصيلها ونقوشها و(موضتها) وغير ذلك مما هو زائل وحقير.
2- كما نجد البعض الآخر يتلف الكثير من أوقاته وأمواله في الديكورات وأنواع الاثاث والفرش والبسط، حتى ان البعض يقوم بتغيير أثاث منزله سنويا من غير ضرورة ولا حاجة!.
وذلك كله يمثل نوعاً من أنواع التخلف والبهيمية، فان "الْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا"([4]) كما قال سيد البلغاء.
3- كما نجد ان بعض النساء تقف لفترات طويلة جداً أمام المرآة وهي تتفنن في زج الحواجب أو رش الالوان على وجهها أو غير ذلك كي تكون اكثر جمالا مع ان كل شيء جاوز حدّه انقلب إلى ضده ومع ان عمر الإنسان أثمن من ذلك بكثير والله تعالى لم يمنح الانسان الوقت والعمر كيما يصرفه في هذه الأمور البعيدة عن مدارج الكمال.
وهذا لا يعني بحال من الاحوال الدعوة إلى عدم المحافظة على مقدار الضرورة مما تقتضيه الآداب الاجتماعية من حسن المظهر أو ما تقتضيه ضرورات الحياة الزوجية بين الزوج والزوجة، الا ان الذي نريد ان نؤكد عليه هو ان على الانسان ان لا يغرق في عالم الاشياء ليكون حاله حال الحيوانات والبهائم الرتع، بل ان بعض الحيوانات لا تهبط إلى المستوى الذي يهبط إليه هذا الانسان المسكين فاننا لا نجد مثلاً حيوانا ينام أكثر من اللازم أو ينفق جهداً أكثر من الطبيعي ليقف أمام المرآة لساعات طويلة!.
من نماذج ضياع الشباب
4- والغريب ان نجد نفس الظاهرة في بعض شبابنا في الوقت الحاضر؛ اذ ان بعضهم يقف أمام المرآة لمدة ساعة او ساعتين منشغلين بهندامهم وتسريحة شعرهم بل وتزجيج حواجبهم! وهذا ما يمثل قمة التخلف والابتعاد عن الجادة الصحيحة في حركة الانسان نحو كماله.
رجل تائه وعصي زائلة:
5- وفي مثال آخر ينقل ان احد الاشخاص المشاهير له هواية إقتناء العصي الفاخرة المتنوعة حتى انه يملك ما يقرب من 300 عصا في منزله! وقد استوردها من انحاء متعددة من العالم ليس ذلك إلا نزوة وشهوة مشوهة من حب التملك، فياله من انحطاط وتسافل.
6- والأغرب ان بعض الاشخاص مولع بالأسوأ من ذلك إذ ينقل ان احدهم قد ذاب في حبّه للأحذية وشغفه بها حتى انه ملأ كل أرجاء داره وغرف منزله بأقفاص كثيرة ملأها بالأحذية من شتى الأنواع والألوان!! فهل هذا هو مستوى الإنسان أو الحيوان؟ بل أو الأسوأ منه؟ وهل ان الله خلقنا من اجل هذه التوافه من الامور الزائلة الباطلة.
الولع بعمليات التجميل وحمى عالم المادة:
7- ومثال اخر على التشبث بعالم الاشياء هو الكثير من عمليات التجميل التي تؤدي الى اتلاف الكثير من الوقت والمال والجهد، مع ان نسبة كبيرة منها لا تؤدي الغرض المرجو بل قد تفشل وتؤدي للأسوأ، كما هو الحال في عمليات تجميل الأنف مثلاً المنتشرة في إيران والخليج وغيرهما والتي يصرف الناس عليها المبالغ الطائلة، وفي احدى الدول وبحسب بعض الإحصائيات فان المليارات تنفق على عمليات التجميل سنوياً([5]) مع ان هناك أموراً أكثر ضرورة لإنفاق الأموال: كالعلم والعمل الصالح وبناء المستشفيات والمياتم والمساجد والحسينيات وغيرها كـ: هداية الناس والدفاع عن الوطن والتقدم بالبلاد صناعياً وزراعياً وعلمياً وغيرها.
بل ان البعض يجرون العملية وقد تنجح في حد ذاتها ولكنها لا تتناسب مع مجمل وضع الوجه فتؤدي الى نتائج عكسية فتضطره إلى ان يجري العملية الثانية والثالثة من دون ان تكسب رضا العائلة او الزوج أو الزوجة أو الشخص نفسه مما يؤدي إلى الاحباط والعديد من الأمراض أو المشاكل الأخرى.
8- وكذلك ايضا نلاحظ ان أولئك الذين يعبدون الكراسي والجاه والرئاسة يندفعون بقوة نحوها بل يقاتلون من أجل الوصول إليها وليس ذلك إلا لانهم لازالوا في عالم (الأشياء) الداني والتافه حتى لو فرض انهم لم يرتكبوا المحرمات في ذلك الطريق.
الجمال جمال الفكر والقلب:
9- وكذلك فان البعض من الناس ليسوا بجميلي الظاهر فإذا كان يعيش في عالم الأشياء فانه يحزُّ ذلك في نفسه بشدة وقد لا يحمد الله على تمام العافية او الستر او الصحة وغيرها من النعم التي هو غارق فيها من دون ان يشكرها، مع ان قيمة الإنسان ليست بجمال وجهه بل بكمال عقله وأخلاقه وتمام علمه وعطائه.
والجامع ان هؤلاء يعيشون في عالم الاشياء وسكرته وقد غفلوا عن موعد الرحيل وقسوته.
شريح القاضي.. إهدار المال في البيت الفاني:
شريح القاضي عمر طويلا وقيل انه بلغ المائة وثمانية سنة وقد قضى منها 60 سنة في القضاء، وقد قيل فيه انه كان أدهى من الثعلب، وفي زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتكب أمراً فنفاه أمير المؤمنين (عليه السلام) الى قرية تسمى بانيقيا وهي قرية أكثر سكانها اليهود وهي خارج الكوفة، تأديباً له، وذات مرة اشترى داراً بـ(80 دينارا) وكتب كتابا في ذلك واشهد عليه شهودا فبلغ النبأ امير المؤمنين ع فبعث اليه وقرّعه بشدة؛ إذ ارسل اليه قنبراً واستحضره فلما حضر قال له (عليه السلام) بلغني انك اشتريت دارا بثمانين دينارا واشهد شهودا وكتبت كتابا... ولننقل نص الحادثة كما يرويها شريح نفسه إذ ينقل عاصم بن بهذله عنه قوله: " اشْتَرَيْتُ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً وَكَتَبْتُ كِتَاباً وَأَشْهَدْتُ عُدُولًا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَبَعَثَ إِلَيَّ مَوْلَاهُ قَنْبَراً فَأَتَيْتُهُ فَلَمَّا أَنْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا شُرَيْحُ اشْتَرَيْتَ دَاراً وَكَتَبْتَ كِتَاباً وَأَشْهَدْتَ عُدُولًا وَوَزَنْتَ مَالًا قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ يَا شُرَيْحُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِكَ شَاخِصاً وَ يُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً فَانْظُرْ أَلَّا تَكُونَ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكِهَا وَوَزَنْتَ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ الدَّارَيْنِ جَمِيعاً الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): يَا شُرَيْحُ فَلَوْ كُنْتَ عِنْدَ مَا اشْتَرَيْتَ هَذِهِ الدَّارَ أَتَيْتَنِي فَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ إِذَا لَمْ تَشْتَرِهَا بِدِرْهَمَيْنِ([6]) قَالَ قُلْتُ وَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ كُنْتُ أَكْتُبُ لَكَ هَذَا الْكِتَابَ - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ أُزْعِجَ بِالرَّحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً فِي دَارِ الْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ إِلَى عَسْكَرِ الْهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هَذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ فَالْحَدُّ الْأَوَّلُ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْآفَاتِ وَالْحَدُّ الثَّانِي مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْعَاهَاتِ، وَالْحَدُّ الثَّالِثُ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيبَاتِ، وَالْحَدُّ الرَّابِعُ مِنْهَا يَنْتَهِي إِلَى الْهَوَى الْمُرْدِي وَالشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَفِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ اشْتَرَى هَذَا الْمَفْتُونُ بِالْأَمَلِ مِنْ هَذَا الْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقُنُوعِ وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ فَمَا أَدْرَكَ هَذَا الْمُشْتَرِي مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى مُبْلِي أَجْسَامِ الْمُلُوكِ وَسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَتُبَّعٍ وَحِمْيَرَ وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ إِلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ وَبَنَى فَشَيَّدَ وَنَجَدَ فَزَخْرَفَ وَادَّخَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى وَنَظَرَ بِعَيْنِ الزَّوَالِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَسَمِعَ مُنَادِيَ الزُّهْدِ يُنَادِي فِي عَرَصَاتِهَا مَا أَبْيَنَ الْحَقَّ لِذِي عَيْنَيْنِ إِنَّ الرَّحِيلَ أَحَدُ الْيَوْمَيْنِ تَزَوَّدُوا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَقَرِّبُوا الْآمَالَ بِالْآجَالِ فَقَدْ دَنَا الرِّحْلَةُ وَ الزَّوَالُ"([7])
وخطاب امير المؤمنين (عليه السلام) عام للجميع وإن كان المخاطب شخصاً خاصاً كما هو واضح؛ إذ على الانسان ان لا يضيع من عمره حتى مقدار دقيقة واحدة في مشاهدة الأفلام غير النافعة أو البرامج غير المفيدة؛ ذلك ان الانسان غايته (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) وقد خُلق ليتكامل معنويا وروحيا وعلميا وعمليا وفكريا، وإضاعة حتى الثانية في زخارف الدنيا يعدّ تضييعاً لكمال من كمالات الآخرة.
التوسعة على العيال راجح ومستحب:
وعوداً على بدء فإننا عندما ننتقد التوسعة فإن المقصود من ذلك تلك التي تخرج عن حد العرف والشرع، والا فالتوسعة على العيال بقدر المعروف بدون إسراف وتبذير مطلوبة وراجحة، وكذلك سعة الدار فإنها من سعادة المرء.
وبعبارة أخرى: إن مسألة العيش بنحو مقتصد من الامور الراجحة وهو مما دفع اليه الشرع ولكن ذلك تستثنى منه بعض الامور منها الدار الوسيعة فانه يستحب شرعا سعة الدار ولعل ذلك لأنها تساعد على حسن برمجة جدول أعمال حياة الانسان فتحقق السعادة الطريقية إلى الآخرة إذ توفر القدرة الأكبر مثلاً على تربية الأطفال بشكل أفضل حتى لا يتسكعوا في الشوارع وما يجره ذلك من سلبيات وآفات. وذلك كله لا يعني الاهتمام بالزخارف والديكورات وغيرها مما يحرف المعادلة المقنننة في المقام.
إهدار مذهل لأموال المسلمين:
كما نجد في عصرنا الحاضر بعض أغرب مصاديق البهيمية والاستغراق في عالم الأشياء في العديد من الملوك والأمراء، فقد ذكر بعض الخبراء ان ملك إحدى البلاد أتخذ قراراً بأن يسافر الى المغرب مع وفد يتكون من أكثر من (4) آلاف شخص من الوزراء والاصدقاء والحرس وغيرهم، ووجهته هي منطقة سياحية هناك، وقد جرى حجز الفنادق الراقية وغيرها لمدة طويلة بل قد جرى حجزها قبل أسبوعين من الذهاب ولأسبوعين بعد الانتهاء! إضافة إلى استئجار أفخم المطاعم والسيارات من الرويز رايز وغيرها وقد قدّر بعض الخبراء تكاليف الرحلة بخمسة مليارات ريال! وهكذا نجد هؤلاء "كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا"([8]) بل اسوأ إذ ينفقون أموال المسلمين التي حصلوا عليها بالظلم والباطل والسرقات وغيرها بدون أدنى وازع من ضمير أو عقل أو دين "يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ [خَضْمَ] خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيع"([9])
السيد الوالد..... زهد وتواضع:
وفي المقابل نجد زهد علمائنا الأخيار على مر التاريخ ومن نماذج ذلك السيد الوالد رحمه الله حيث كانت له صاية واحدة فقط وعمامة واحدة أيضا وكان يقول: ان الصاية والعمامة الثانية اضافية لا حاجة لها، رغم صعوبة الاكتفاء بصاية أو عمامة واحدة، وكان أحياناً يتعطل عن بعض البرامج لمدة ساعة أو ساعتين ريثما تغسل!.
مأساة لحية الصوفي!
ينقل: بأن صوفيا قال له أستاذه: إذا كنت تريد ان تحصل على بعض الكرامات فعليك بقراءة حزمة كبيرة من الاوراد ولفترة طويلة وأن تمتنع عن أكل الحيواني من اللحوم وغيرها كالحليب والجبن والدهن، فاندفع ذلك الصوفي بحماس والتزم بكل ذلك رغم صعوبته طمعاً في الحصول على الكرامات، وهذا بنفسه توجه بهيمي؛ اذ الكرامة الحقيقية هي القرب من الحق وإخلاص النية له ثم تكون الكرامات من آثار ذلك، وليس الكرامات بكرامات لمن يريد تحصيلها من أجل الانا والتبجح والتمايز.
المهم: ان هذا الرجل الصوفي عمل بحماس لمدة طويلة ولعلها كانت سنة كاملة تجنب فيها النوم طوال الليل وترك أكل اللحوم، ولكنه بعد كل ذلك التعبد وفي نهاية الأمر لم تفتح عينه البرزخية ولا رأى شيئاً من العوالم الأخرى!! فجاء الى أستاذه الدرويش شاكياً بانه لم يحصل على شيء، وكان الأستاذ ذكيا، فرد عليه بانني وجهتك بترك كل المتعلقات الدنيوية حتى تسمو روحك ولكنك لم تلتزم!، فأجاب الصوفي المبتدئ بل انني تركت كل شيء وحوّلت حياتي إلى سلسلة من جهاد النفس وترك للملذات فنمت على الارض وتوسدت الحجر وفعلت كذا وكذا، فأجابه الاستاذ ولكنك وضعت عقلك في لحيتك وكنت بها شديد التعلق والاهتمام، (إذ كان لهذا الصوفي لحية لطيفة جميلة يسرحها باستمرار ويمشطها ويهتم بها وكان مولعا بها متعلقاً بها أشد التعلق) وهذا سرّ عدم تحليقك عالياً وعدم حصولك على الكرامات!! وعندما سمع هذا الصوفي ذلك استشاط غضباً على لحيته التي أضاعت تعب سنة كاملة من جهوده! فانتفض بقوة ضد اللحية المشؤومة وبدأ يقلعها بقوة!!، فقال له الأستاذ: أراك لازلت مشغولاً بلحيتك! فسابقا كنت مشغولاً بتمشيطها ورعايتها والآن أراك مشغلاً بقلعها والانتقام منها! والحال سيان: فأنك في كلتا الحالتين تأخذ لحيتك منك حيّزاً كبيراً!.
الحذر من عالم الأشياء: وفلسفة تحريم المحرمات
والانسان عندما خلقه الله فانه قد أحاطه بمنظومة كاملة من التشريعات، وبفلسفة دقيقة وحكمة عميقة، تعمل على تنظيم تعامله مع عالم الأشياء وصيانته من مخاطرها في الوقت نفسه؛ فان الشريعة مثلا قد حرمت النظر الى المرأة الأجنبية وذلك وقاية للإنسان من الهبوط إلى عالم البهيمية والاستغراق، خارج الحدود الشرعية، في عالم الأشياء وابتعاد عن الصراط المستقيم وعالم التجرد والكمال، ومثل هذا الشخص الذي يتطلع إلى أعراض الناس يعدّ أسوء من الدابة؛ إذ ان الدابة ليست بمكلفة ولاعقل لها كي يتوقع منها الترفع عن عالم الأشياء إلى عالم الأفكار والقيم.
وهكذا الحال في تحريم استماع الاغاني وشرب الخمر ونظائرها فان كل هذه المحرمات تهبط بالإنسان بقوة عن مستواه الإنساني إلى مستوى عالم الأشياء الضارة إذ تعمل على سلب عقله وإثارة شهوته وبهيميته فيتجرأ على الكثير من الموبقات فيفقد إنسانيته من جهة كما يبتعد عن التفكير كل التفكير في عالمه الأكبر الذي خلق له وهو الآخرة.
بل نقول : ان الإنسان لو امتلك مستوى عز النفس وشرافتها وكرامتها فانه يرفض ان يهبط الى كل هذه المستويات البهيمية والحيوانية.
وقد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([10]).
الإنسان والتفكير المستقيم:
وكذلك عندما يفكر الإنسان في عدوه فيتفجر حقداً عليه فانه يسقط من علياء مرتبة الانسانية إذا لم يفرق بين ذات الإنسان وبين فعله إذ يجب ان يكون ردّ الفعل السلبي موجهاً للفعل الطالح إذا صدر من الشخص الصالح لا إليه بنفسه لأن النفس الامارة تسعى إلى تسقيط الفاعل رغم انه قد يكون قد ندم وتاب أو أعتذر وأناب أو لم يلتفت أو كان اجتهاده دفعه لذلك النمط من الأفعال أو شبه ذلك.
فلسفة التشريعات وبناء الذات المتزنة الكاملة
بل نقول: ان من فلسفة التشريعات من الواجبات والمحرمات وغيرها هو ان يخرج الانسان من عالم البهيمية السوداء ومن عالم الأشياء الضارة إلى عالم الأفكار النافعة والقيم الفضلى والمبادئ السامية.
ونجد إشارة واضحة إلى ذلك في إحدى فقرات خطبة الزهراء البتول (عليها السلام) حين بينت فلسفة الزكاة إذ قالت في خطبتها المسجدية: "فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَمَاءً فِي الرِّزْقِ..."([11]) وهذا تصريح وبيان قوي من الصديقة الكبرى (عليها السلام) بأن العلة الغائية من الزكاة تزكية النفس فإن الزكاة تعمل على ترويض الانسان لقطع تعلّقه، ولو في الجملة، بالمال، بل انني شخصيا رأيت بعض العلماء وبعض التجار ممن كانوا يكرهون الاموال ويعتبرونها عقارب سوداء يتعاملون معها بحذر شديد ويحاولون التخلص منها بسرعة بإنفاقها في مواردها.
بل ان البذل والاعطاء من هذه الأمور الفانية تزيد الإنسان في رزقه كما صرحت به (عليها السلام)؛ لتعود دورة إنفاقه لها في سبيل الله والخيرات والمبرات أقوى من السابق.
والحاصل: ان مخرجات التقيد بالشرع والحركة في إطار المعادلات الالهية دائما تصب في صالح العبد في دنياه وآخرته معاً، والسيد الوالد قد اشار الى الكثير من ذلك في كتابه (من فقه الزهراء (عليها السلام) ) فليراجع.
ولكم في القصاص حياة:
وكذلك القصاص فان الشارع المقدس عندما قنن حكم القصاص فان ذلك لم يكن الغرض منه الانتقام والثأر بل كان الهدف صيانة حياة البشرية من المخاطر وكم هي رائعة هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)([12]) فالهدف منه حياة الأمة وليس الثأر الشخصي حتى ان بعض بلغاء العرب ذهلوا عند سماعهم هذه الآية واقروا بالإعجاز القرآني؛ وكان من جهات ذلك ان المعروف عندهم هو (القتل انفى للقتل) ولكن هذا الذي ذكروه كان متضمنا للجانب السلبي من القضية بخلاف آيتنا المباركة التي تعكس بمنطوقها الجانب الايجابي في منظومة التشريع الإلهي وبسط الكلام في ذلك يستدعي مجالاً آخر.
أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبة الوسيلة:
إن من الخطب المهمة جدا لأمير المؤمنين (عليه السلام) خطبة الوسيلة التي ذكرها صاحب الكافي، وأرى من الضروري مطالعتها والمداومة عليها والعيش في مضامينها وأهدافها؛ حيث انها تتضمن التركيز على نقل الانسان من عالم الأشياء إلى عالم القيم وهو العالم الرابع بعد العوالم الثلاث السابقة والذي لم يتطرق إليه ذلك المفكر.
كما ان الخطبة تشير الى عالم الأشخاص والتمسك بهم إشارة مركزة ولكن بالنسبة للمعصومين (عليهم السلام) فقط لكونهم هم فقط المطهرون والمنزهون والمقربون الذين امرنا الله تعالى بالشخوص إليهم، وسيأتي الكلام عن خصوص هذه النقطة، فلنبق مع نقطة عالم القيم وعالم الأفكار، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):
"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا كَنْزَ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ وَ لَا عِزَّ أَرْفَعُ مِنَ الْحِلْمِ وَ لَا حَسَبَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَدَب"([13]) وهنا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يجمع هذا الثلاثي الرائع: العلم والحلم والأدب، فإنها كمجموع تعدّ كشرط مركب لمن يريد ان يكون انسانا كاملا، فقد نجد عالما ولكنه ليس بحليم ولو استشكلت عليه لغضب بسرعة وهذا نوع نقص، أو حليماً غير عالم وهذا نقص، أو عالماً حليماً غير ذي أدب وهذا نقص أيضاً، كما نلاحظ ان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير الى ان الكنز الحقيقي هو العلم وهو النافع وإلى ان العز الحقيقي هو بالحلم وليس بالسيارات الفارهة والكراسي الوفيرة والمناصب الراقية كما يتوهمه الكثير من الناس.
ثم يقول (عليه السلام): "وَمَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ ضَلَّ وَمَنِ اسْتَغْنَى بِعَقْلِهِ زَلَّ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ" فعلى الانسان ان لا يعجب برأيه ولا يغتر بعقله، بل يكون من اهل المشورة والتكامل النوعي مع بقية الخلق.
والدقيق في تعبيره (عليه السلام): ان المعجب برأيه (ضلّ) أما المستغني بعقله (زلّ) والضلال اسوأ من الزلل فإن الإنسان إذا أضاع الطريق في الصحراء مثلاً فقد ضلّ أما إذا لم يضل عن الطريق وإنما تعثر في بعض الأشواك والحفر فقد زلّ، فالمعجب برأيه أخطر من المستغني بعقله إذ عقله يسعفه عن الضلال ولكنه لا ينجيه من الزلل بل المشورة هي الكفيلة بذلك أما المعجب برأيه فانه يضل تماماً.
وفي مقطع آخر يقول (عليه السلام): "وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ وَلَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَلَا وَحْشَةَ أَشَدُّ مِنَ الْعُجْبِ وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَلَا حِلْمَ كَالصَّبْرِ وَالصَّمْت".
وهذا السداسي العجيب – إيجاباً وسلباً - والذي ذكره أمير العقل والبلاغة هو حقاً وصفةُ نجاحٍ وفلاحٍ مذهلة، وإذا عمل الانسان على سياسة حياته كلها في ضمن هذا المركب الفريد فانه سيتعالى عن عالم الأشياء ويصل إلى عالم القيم العليا والأفكار السامية بإذن الله تعالى.
والخلاصة من كل ذلك:
إن على الإنسان أن يعرض عن عالم الأشياء إلا ما وقع طريقاً للقيم والأفكار، وعليه أن يوجه مسيرة حياته كلها نحو عوالم البقاء والرقي وهي عالم الأفكار النبيلة والقيم السامية، وسيأتي الكلام اكثر عن ذلك في ضمن الآيتين الشريفتين ان شاء الله تعالى
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين