كيف تغيّر نفسك وتسيطر على أعصابك.. وكيف تصنع مشجّرة الأطاريح والمحاضرات؟
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2025-11-01 03:50
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[1].
سبقت الإشارة إلى بعض البصائر في باء (بِقَوْمٍ) و(بِأَنْفُسِهِمْ)، وستأتي بإذن الله تعالى بصائر أخرى حول مفردة (التغيير) وبعض أعماقها وزواياها، وحول غيرها أيضاً.
ما هو السرّ في ثَراء اللغة العربية؟
وقبل أن نكمل بحثنا عن مشجَّرة الأسئلة عن (التغيير)، وعن مطلق الموضوعات ومحاور البحوث والدراسات، لا بدَّ أن نتوقّف قليلاً عند سرِّ ثراءِ اللغة العربيّة الذي لا نظير له، والذي يوضّح لنا أكثر فأكثر أهميّة التفقّه في مفردات القرآن الكريم، باعتباره أعلى مراحل كمال اللغة العربيّة الذي لا يمكن لبشرٍ، مهما حلّق، أن يصل إليه.
فإنَّه إذا كانت اللغة العربيّة بذلك العُمق والثراء وبتلك الأغوار، فما بالك بالقرآن الكريم! فلا يبقى مجال لأن يستنكر مستنكر، أو يذهل ذاهلٌ، أو يتوقّف متوقّفٌ في مدى صحّة أو حُسن أو ضرورة التدبّر والتوغّل والتعمّق في كلِّ ما يمكن للبشر أن يصل إليه من دلالات ألفاظ القرآن الكريم، ولكن ضمن الشروط التي أشرنا إليها في كتاب (مناهج التفسير واتجاهاته).
التقسيم الثلاثي: العرب البائدة، العاربة، المستعربة
فنقول: ذكر العديد من المؤرّخين والنسّابة أنَّ العرب تنقسم إلى ثلاثة أقسام: البائدة، والعاربة، والمستعربة.
قال بعضهم[2]: 1- أمّا العرب البائدة: فهم مثل أقوام عادٍ، وثمود، وهما مذكوران في القرآن الكريم، وجديس، وعبيل، وجُرهُم، وقد أطلق عليهم اسم "البائدة" لقدمهم النسبيّ، ولاندثارهم قبل الإسلام.
2- وأمّا العرب العاربة: فهم القحطانيّون، أبناء قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، كما يذكر ذلك أكثر النَسّابين.
3- وأمّا العرب المستعربة (أو المتعرّبة): ويقال لهم العدنانيّون، أو النِزاريّون، أو المعديّون، وهم من صلب سيّدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، الذي تزوّج من رعلة الجُرهُميّة، فتعلّم منهم العربيّة، فسمُّوا المستعربة، وصار نسلهم من العرب، واندمجوا فيهم، وهم ينتسبون إلى عدنان من نسل سيّدنا إسماعيل عليه السلام، غير أنَّ ثمّة خلافاً كبيراً بين النَسّابين في عدد الآباء بينهما[3].
وقال بعض المؤرخين: (يرى بعض المؤرّخين من أهل الأخبار أنَّ العرب المستعربة هم الطبقة الثالثة من طبقات العرب بعد العرب البائدة والعرب العاربة، ويطلَق على العرب المستعربة أيضاً اسمُ "العدنانيّين" نسبةً إلى عدنان، أو "المعديين" نسبةً إلى معد، أو "النزاريّين" نسبةً إلى نزار، ويرجع المؤرخون نسبهم إلى نبيّ الله إسماعيل بن إبراهيم الخليلِ - عليهما السلام- وزوجته رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي من قبيلة جرهم بن قحطان، وأطلِقَ عليهم اسم العرب المستعربة؛ لأنَّهم اندمجوا بالعرب العاربة بعد أن انضمّوا إليهم في الحجاز، وأخذوا منهم اللغة العربية، وقد تعلَّم منهم النبيُّ إسماعيل اللغة العربية، وبذلك يعدُّ هو جدّ العرب المستعربة)[4].
و(أمّا من حيث النسب، فقد قسموها إلى طبقتين اثنتين هما: العرب العاربة أو القحطانيون، وهي القبائل العربية من سلالة قحطان، والتي كانت منازلها الأولى في بلاد اليمن، والعرب المستعربة أو العدنانيون، وهي القبائل العربية من سلالة عدنان، والتي كانت منازلها الأولى في بلاد الحجاز.
كما كان بينهم شبه اتفاق على أنَّ القحطانيين هم العرب الخلّص الأوائل، وهم أصل العرب، بينما العدنانيون فرع لاحق، أخذوا اللغة العربية عنهم وسكنوا مناطقهم بعد أن جاءها إسماعيل وتعلّم لغتهم بعد اللغة الآرامية أو الكلدانية أو العبرانية التي كان يتكلمها، وهي لغة أبيه إبراهيم عليه السلام.
وبعضُ المؤرخين يقسمون العرب إلى قسمين فقط: عرب عاربة وعرب مستعربة، ويجعلون العرب العاربة في قسمين أيضاً، وهم: العرب البائدة كعادٍ وثمود وجديس وطسم وأميم وجاسم، والعرب الباقية وهم القحطانيون.
وإنَّ تقسيم العرب بتلك الصورة لا وجود له في مصادر الثقافات الأخرى، لا في التوراة ولا في بقية المصادر اليهودية، ولا في المصادر اليونانية ولا في اللاتينية ولا في السريانية، والمؤكد أنَّه تقسيم عربي بحت، وقد نشأ ذلك التقسيم من الجمع بين من بادَ من قبائل العرب قبل الإسلام، وبين من بقي منهم من قبائل قحطانية أو عدنانية، ومعظم أسماء العرب البائدة أخذها النسابون من التوراة ومن مراجع أهل الكتاب، وكانوا يربطون بينها وبين القبائل التي ذكروا أنَّها عرب بائدة وشكلوا من خلال ذلك الطبقة الأولى للقبائل العربية)[5].
مكمن الخطأ في (العرب المستعربة)
لكنَّنا نرى أنَّ هذا الكلام، الذي تضمّنته بعض الحدسيات والظنون، يعاني من إشكال جوهري، وهو أنَّ إسماعيل، ومن ثمَّ جميع نسله، بما فيهم الرسول الخاتم وأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، هم من العرب المستعربة، أي أنَّهم، بعبارةٍ أخرى، دخيلون على العربية، لصيقون بها، فكأنَّهم طفيليُّون، والعياذ بالله.
لكنَّ الحقَّ أنَّ إسماعيل هو أصل اللغة العربية، وأنَّ الرسول وآله هم امتدادٌ لذلك الأصل، والدليل على ذلك الروايات المستفيضة الواردة من طرق الخاصَّة والعامَّة.
وقبل ذلك، نشير إلى أنَّ المؤرّخين والنَسَّابة لم يتَّفقوا على المذكور أعلاه كما زعمه بعضهم، بل إنَّ هناك جمعاً معتنى به، كابن الكلبي وغيره، ذهب إلى أنَّ عدنان وقحطان كليهما من سلالة إسماعيل على نبيِّنا وآله وعليه السلام، لا أنَّ عدنان من نسله، أمَّا قحطان، الذي قيل إنَّه واضع لغة العرب، فهو من نسل غيره.
الروايات: الله تعالى أَلْهَمَ إسماعيلَ العربية والهمها الرسولَ (صلى الله عليه وآله) فهم الأصل فيها
بل تصرِّح الروايات أنَّ اللغة العربية ألهم بها إسماعيل إلهاماً، ثمَّ (بعد أن اندرست إلى حدٍّ ما أو تغيَّرت إلى حدٍّ)، ألهم بها الرسول (صلى الله عليه وآله) على ما كانت عليه لدى إسماعيل إلهامًا، وقد جمع بعض المحققين بعض الروايات الواردة من طرق الخاصة والعامة كالآتي:
وهذه بعض الروايات:
فمن طرق الخاصة عن الإمام الباقر (عليه السلام): (أَوَّلُ مَنْ شُقَّ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (عليهما السلام)، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ لِسَانُهُ عَلَى لِسَانِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَطَقَ بِهَا وَهُوَ الذَّبِيحُ)[6].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (أَنَّ إِسْمَاعِيلَ أَوَّلُ مَنْ شُقَّ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَكَانَ أَبُوهُ يَقُولُ لَهُ وَهُمَا يَبْنِيَانِ الْبَيْتَ: يَا إِسْمَاعِيلُ هابي ابن[7]، أَيْ: أَعْطِنِي حَجَراً، فَيَقُولُ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَتِ، هَاكَ حَجَراً، فَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ)[8].
وفي إثبات الوصية: (روي أنّ هاجر وإسماعيل كانا في ذلك الوقت قد صعدا إلى الجبل في طلب الماء، فلما بصرت هاجر إلى الماء صارت إليه وصاحت بإسماعيل بالعبرانية فأجابها بالعربية: لبيك لبيك، ونسي ذلك اللسان، فهو أول من تكلّم بالعربية في ذلك الزمان[9]، وفيه أيضاً: (أن إسماعيل هو أول من تكلّم بالعربية وأبو العرب)[10]، وجاء في خطبةٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام): (ثم خصصت به إسماعيل دون ولد إبراهيم، فأنطقت لسانه بالعربية التي فضّلتها على سائر اللغات)[11].
وأمّا من طرق العامّة فعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه تلا قرآناً عربياً، ثم قال: (ألهم إسماعيل (عليه السلام) هذا اللسان العربي إلهاماً)[12]، وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل (عليه السلام) وهو ابن أربع عشرة سنة)[13]، وعنه (صلى الله عليه وآله): (كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل (عليه السلام) فحفظنيها، فحفظتها)[14].
وقال: (أنا أفصح من نطق بالضاد)[15]، وعن عبد الأعلى قال أبو عبد الله (عليه السلام): (أَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه)[16]، وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ بِعَرَبِيَّتِهِ)[17].
ولكن قد يعترض بأنَّ قريشاً كانوا يتكلَّمون العربية زمن الرسول، وأنَّ آباءه وأعمامه كانوا يتكلَّمون بها؟، والجواب: إنَّ الظاهر أنَّ المراد أنَّه (صلى الله عليه وآله) قد ألهمه الله تعالى العربيةَ الصحيحة السليمة الكاملة التي ألهمها إسماعيل إلهاماً، من دون أن يتعلَّمها من أحد من قريش، كما أنزل عليه القرآن إنزالًا، وكما ألهمه كلَّ العلوم إلهاماً: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظيماً)[18]، وأنَّ إسماعيل علَّمه الله اللغة العربية، ولم يتعلَّمها من قوم جُرهُم أو غيرهم، كما علَّم آدم الأسماء كلَّها: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيم)[19].
وعليه: فالأصل في العربية هو (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار إذ (أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا)[20]، فإذا حصل تعارض فرضاً بين قولهم (عليهم السلام) في معنى كلمةٍ أو في إعرابٍ أو تعريفٍ أو تصريفٍ أو جهةٍ بلاغيّةٍ، مع أديبٍ أو بليغٍ أو نحويٍّ أو صرفيٍّ، بل حتّى مع أعاظمهم، فإنَّ قولهم (عليهم السلام) هو المقدَّم، لأنَّهم اشتقوه من إلهامٍ إلهيٍّ مباشر، أمّا غيرهم فعلومهم علومٌ بشريّةٌ فلعلّهم زادوا فيها أو نقصوا بمرور الأزمان.
مشجّرة الأسئلة
إذا اتّضح ذلك، فلنعد إلى مشجّرة الأسئلة، فنقول:
إنَّ مشجّرة الأسئلة توفّر لنا البناء الهندسي والهيكل العام المتكامل، الذي يجب أن تتمحور حوله الكتب، ورسائل الماجستير، وأطاريح الدكتوراه، والمحاضرات، ومحاور البحث كلّها، وقد سبق الكلام عن بعضها، ونضيف بعض الأسئلة والمحاور الأخرى:
السؤال بـ (من أين) نبدأ التغيير؟
أين: فإنَّ من أهمّ الأسئلة التي تشكّل الأعمدة الرئيسة للبحث، سؤال (أين) أو (من أين؟)، فإذا كان الحديث عن (التغيير) كان السؤال هو: (من أين يبدأ التغيير؟)[21] وقد أجاب قومٌ: من البرلمان، وآخرون: من المرجعيات، فإنَّ عليها تقعُ مسؤوليةُ التغيير، وأجاب جماعةٌ: من الحكومات... وهكذا تعددت الإجابات... ولكنَّ الأصحَّ من كلِّ الأجوبة، والأسبق منها رتبةً، هو أنَّ التغيير يبدأ من ههنا: من الفرد نفسه، من آحاد المجتمع، من كلِّ واحدٍ واحدٍ منهم.
جواب الحكيم عن ذلك السؤال
وقد سُئل أحد الحكماء: ما هو منشأ الفساد في العالم؟ فأجاب بجوابٍ بدا غريباً، قال: (منشأ الفساد هو أنا)! والمقصود هو معنى أعمق من ظاهر الكلمة، فإنّ من الواضح أنَّه لا يقصد أو لا ينبغي أن يقصد أنَّه هو منشأ مفاسد العالم، بل المقصود معنى كنائي، وهو أنَّ منشأ الفساد هو كلُّ واحدٍ واحدٍ منَّا، وأنَّه لو فكَّر كلُّ واحدٍ منَّا كذلك، أي فكّر في نواقصه ومعاصيه وظلمه وعدوانه وأنَّه هو المنشأ، وأصلح كلُّ واحدٍ منَّا نفسه، لصلح العالم كلُّه.
وذلك في الواقع مُستقى من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)، ولم يقل: حتى يغيّروا حكوماتهم! أو حتى: حتى يغيّروا برلماناتهم! فإنَّ الأنفس إذا تغيّرت تغيّر كلُّ ذلك وأكثر، وإذا لم تتغيّر لم يؤثّر كثيراً تغيّرُ الحكومة أو مجلس الشورى، بل سرعان ما يطاح بتلك الحكومة، أو إنَّها تتغيّر لتكون كالناس تماماً!
إنّ المشكلة فينا هي (ترامي المسؤولية)، فبدل أن يفكِّر كلٌّ منَّا في نفسه وإصلاحها كبداية، ينصرف إلى رمي المسؤولية على عاتق غيره... ألا ترى أنَّه إذا وقع خلاف بين زوجين، فإذا فكَّر الزوج: أنَّ الزوجة هي المسؤولة 100% وإذا فكَّرت الزوجة: أنَّ الزوج هو المسؤول 100%، وكال كلٌّ منهما التهم للآخر، لتجذَّرت حينئذٍ الخلافات، وازدادت، وتعمّقت، وتوسَّعت، عكس ما لو حمَّل الزوج نفسه المسؤولية، وحمَّلت الزوجة نفسها المسؤولية، فإنَّه إذا كان على كل منهما يقع بعض الوزر والأخطاء، كما هو كذلك غالباً، فأصلح كلٌّ منهما نفسه، عادت المياه إلى مجاريها بينهما طبعاً، بأسرع السبل وأيسرها وأفضلها.
وكذلك لو اختلف صديقان أو زميلان أو جاران أو مسؤولان حزبيان، أو مديرا شركتين، أو شيخا عشيرتين، أو أستاذ جامعي أو حوزوي مع آخر، أو تاجر مع تاجر... وهكذا.
كلمة عيسى المسيح (عليه السلام) في تقييم الناس
وقد عبّر عيسى المسيح (عليه السلام) عن ذلك بعبارةٍ أخرى تعد من أروع العبارات، إذ قال فيما نقل عنه ما مضمونه: (مالكم ترون القذى في أعين غيركم ولا ترون الجذع في أعينكم!).
إنّ طبيعة كثير من الناس هي كذلك، فإنّه لا يرى أخطاءه ورذائله الخلقية ومعاصيه، أو يتجاهلها تماماً، بينما يرصد أخطاء الآخرين ومعاصيهم... بل إنّه ينظر إلى عيوب الآخرين وأخطائهم بعينين كعيني الصقر، فيرصد حتى القذى والوسخ الضئيل جداً في أعينهم، ولا يرى الجذع في عينه هو! فهذا بعض الكلام عن (من أين).
سؤال مَن القابل ومَن ننتخب؟
مَن، ومن الثلاثيات: مَن الفاعل ومَن القابل ولمن؟
ولنقتصَر على مثالٍ واحد من أمثلة مَن القابل، وهو: مَن ننتخب؟
والسؤال مطروح على المستوى السياسي كما هو مطروح على المستوى الاجتماعي والديني وعلى المستوى الشخصي.
فإنّ كثيراً من الناس في مختلف الدول يتساءل: مَن ننتخب من المرشحين لمجلس الشورى، أو لرئاسة الوزراء، أو لرئاسة الجمهورية (حسب اختلاف الدول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي)، والمهم أنّ هذا السؤال ليس سؤالاً سياسياً فحسب، بل هو سؤال اجتماعي وديني، وقد أجابت المرجعية الدينية عن السؤال بعباراتٍ متقاربة طوال العقود الماضية: حيث وضعت ضوابط للمنتخَب، وهو: الأمين، النزيه، الصالح، أو ما يقارب تلك العبارات بحسب المرجعيات الدينية المختلفة التي يرجع إليها مختلف الناس.
الأركان الثلاثة للقوي في الآية الشريفة
ولكي تكون الحجة قوية على الجميع، شيعةً وسنةً، لا بد أن نُرجِع الجواب على هذا السؤال إلى جذوره القرآنية، فنقول: قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمين)[22].
والآية تمنحنا قاعدة عامة في المستأجَر، وإنّ كان المورد خاصاً، والحكام ما هم إلا أُجَراء ومستأجرون لإدارة شؤون البلد بما يُصلِح أمر العباد والبلاد، بعبارة أخرى: الحكام والمسؤولون ما هم إلا خَدَم للناس، عكس ما قد يتصورونه هم أو يصوِّرونه للناس من أنهم مخلوقات عُلوية لها امتيازات إلهية! ولذلك تراهم يتسلحون بأسلحة وعناوين ذات أردية وأغلفة دينية، كـ: خليفة المسلمين، وولي أمرهم، وخادم الحرمين، والحاكم بأمر الله، والمقتدر بالله، وهكذا.
ثم إنّ القوي – وهذا هو بيت القصد – تعني القوي على حمل المسؤولية وأداء الأمانة. قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)[23].
والقوة على أداء الأمانة تستبطن ثلاثة أركان: الكفاءة، والعزيمة، وفريق العمل المتجانس الجدير بالنهوض بالمسؤولية.
1- القوي هو الكفوء بجدارة
أولاً: أنّ القوي على أداء أمانة الحكومة هو الكفوء. ومشكلة أحزابنا وحكوماتنا أنها ترجِّح الولاءات على الكفاءات، وهذا هو مكمن الخطأ الجسيم، ألا ترى أنك إنما تراجع الطبيب لكفاءته لا لأنّه ابن عمك أو أخوك وإن لم يكن كفوءًا في الطب؟ وهل ترى عاقلًا يفعل ذلك؟ فإذا لم نكن نرضى بذلك في مسألة شخصية، فكيف نرضى بتسليم مقاليد العباد والبلاد، في وزارة الزراعة، والصناعة، والتجارة، والداخلية، والشرطة، والجيش، والمحافظة... إلخ، إلى أشخاص لا يتميزون بشيء إلا أنهم أقرباء المسؤول أو أحبابه أو اتباعه وموالوه؟
إذاً، في الجواب عن سؤال مَن ننتخب؟ نجيب: ننتخب ذا الكفاءة فقط، وننتخب من نعلم أنّه لا يختار إلا الكفاءات ليكونوا أعوانه ومساعديه وسكرتاريته، لا لأن هذا من حزبه، وذاك من عشيرته، وذاك لأنه متفضل عليه، وهكذا.
القوي هو ذو الإرادة الصلبة والعزيمة الراسخة
ثانياً: القوي على أداء أمانة الحكومة، بالعزيمة وامتلاك إرادة فولاذية وعزيمة جبارة لا تلين في محاربة الفساد المالي والإداري وغيره.. ذلك أنّ الشخص، وإنّ كان كفوءًا ونزيهًا، فإنه إذا لم يتحلّ بالإرادة الجبارة، فإنّه سرعان ما يخضع لخفافيش الظلام والفاسدين المتغلغلين في جسم الحكومة؛ إذ إنّهم بما يملكون من قوة ونفوذ يحاولون إخضاعه بشتى السبل: بالتطميع في الأموال الجمّة الغفيرة، والسماح له بالحصول على النفوذ الأكثر، والبقاء في السلطة أو في البرلمان لدورات قادمة، أو بالترهيب بتشويه السمعة عبر طرق مختلفة، واتهامه بأنّه هو الفاسد، وهو يعلم بأنهم قادرون على اصطناع ملفات فساد له، خاصة وأنّهم مسلحون بمحامين أقوياء وامتدادات في السلطة والإعلام وغيرها، فإذا لم يكن المسؤول أو النائب ذا إرادة قوية، فإنّه سرعان ما يرفع راية الاستسلام وينضم إلى ركب الفاسدين.
فعلى الناخب أن يدرس شخصية المرشّح أولاً من حيث الكفاءة، ثانياً من حيث تاريخه، وَأَنَّه كان طوال مسيرته المهنية والاجتماعية ذا إرادة قوية، أو أَنَّه كان يخضع رغم قناعاته، للضغط الاجتماعي والسياسي وغيرهما فيتخلّى عن الحق إذا ما واجهته جيوش الباطل.
القوي هو من يكوّن فريق عمل متكامل كفوء
ثالثاً: فريق العمل، فإنَّ أكثر الناس قوّةً وكفاءةً، فكيف بمن هو أدنى منه، لا يمكنه إدارة شؤون الوزارة أو المحافظة أو الحزب أو العشيرة، أو حتى الجمعية والشركة، أو الحوزة والمرجعية، وغير ذلك، إلا مع تكوين فريق عمل متجانس وبالمستوى إذ (يدُ اللَّهِ على الجَماعَةِ)، خاصة وأنّ المهامّ والمسؤوليات أصبحت من الجسامة بحيث لا يمكن لشخص واحد مهما بلغت كفاءته وقوّته وإمكاناته، القيام بها كما ينبغي.
وهذه نصيحة لكل طالب علم، أو شاب جامعي، أو مسؤول هيئة، أو مؤسسة: ابحثوا عن الكفاءات المخلصة، وكوّنوا فريق عمل متجانس منها لإدارة مؤسساتكم الحالية أو المستقبلية، أو حتى لإدارة جمهوركم في مثل الخطيب وغيره، فإن للناس حاجات وشبهات، ومقترحات، وآراء، ونقد، ولا يمكن للفرد الواحد أن يتعامل مع جميعهم مباشرة، فلا بد له من أمرين معاً:
أ- فتح باب اتصال الناس به مباشرة يومياً لساعة، أو على الأقل أسبوعياً مرة، دون حواجز ومن دون حاجةٍ إلى حجز وقت مسبق، وإلا فإن البيروقراطية والروتين ستمنع معظم الناس، حتى الوجهاء والفضلاء، من الوصول إلى الشخص، أو إن وصلوا إليه فإنهم سيجدون الجوّ غير مشجّع على إبداء رأي، أو تقديم نصح، أو تسجيل نقد، مع أنّه ورد: (أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي)[24].
ب- العمل مع فريق عمل متكامل، وعلى حسب قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ)[25]، وإلا فسرعان ما ينسحب المخلّص الكفوء، أو يبقى خاملاً مطيعاً لا يتجرّأ على إبداء نقد ورأي، فيلزم من ذلك نقض الغرض، وقد ورد: (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا)[26]، و(قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا الْحَزْمُ؟ قَالَ: مُشَاوَرَةُ ذَوِي الرَّأْيِ وَأَتْبَاعِهِمْ)[27].
ضرورة استمرار رقابة الناس اليومية على أداء النواب والمسؤولين
ثم بعد ذلك كله، وحتى إِذا اجتمعت الشروط السابقة: (الكفاءة، العزيمة، وفريق العمل بالمستوى)، إضافةً إلى الأمانة والنزاهة والإخلاص، فإن من الخطأ المشهور، ويا للأسف، ما يتصوره كثير من الناس من أنّ مسؤوليتهم تنتهي عند انتخاب الأمين الكفوء الصالح، وتبدأ مسؤولية المنتخَب.. كلا.. بل الانتخاب هو بداية مسؤولية الناخبين، أي المنتخِبين وليس نهاية أبداً.. ويوضّحه أَن شخصاً لو تزوج امرأة فتصوّر أن هذه نهاية مسؤوليته، ألا يكون مخطئاً؟ بل الا يعدّ جاهلاً أبلغ الجهل؟ إنّ الزواج بداية المسؤولية التي تمتد على امتداد الأيام والأسابيع والشهور والسنين، وليس نهاية لها.
كذلك الانتخاب... فإنّ الناس إذا انتخبوا مرشّحهم، فعليهم أن يراقبوا أداء أولئك المرشحين يوميّاً، وأن يتواصلوا معهم ومع مكتبهم ويضغطوا عليهم باستمرار. ولذلك آليّات كثيرة، من أبسطها أن يُرسل كلّ منتخب ١٤ رسالة يوميًّا على الأقلّ عبر وسائل التواصل المختلفة[28] إلى النائب وإلى أعوانه، بالمطالبة بالوفاء بالوعود. فإذا سوّفوا، فعليهم إرسال الرسائل لسائر الناخبين وللجهات المسؤولة. وإذا لم يُؤثّر، فعليهم أن يستمروا يوميًّا بإرسال الرسائل للصحف والإذاعات وللأمم المتحدة... إلخ.
وتصوّروا لو أنّ ملايين الناخبين التزموا بمراقبة أداء نوّابهم والوزراء وأعضاء الحكومة يوميّاً، وإرسال ١٤ رسالة يوميّاً، بين تقييمٍ ونقد للأداء السيء، وإشادةٍ وثناءٍ على الأداء الجيّد... وهكذا، هل كان يُعقل أن ينزلق مسؤول أو نائب في مستنقع الفساد؟ ولو أنه انزلق فرضاً، لشكّل عليه الناس والإعلام، بتلك الطريقة الآنفة ونظائرها، أكبر ضغط حتى يستقيم أو يستقيل.
إنّ مشكلتنا أنّنا نعيش اللحظة، ونُبتلى بقِصر النفس، وعدم إدراك أنّ النائب والوزير والمسؤول كثيرًا ما يتغيّر، إذ إنّ الكرسي يُغيّر حتى أعاظم الناس، والرئاسة والأموال والشهرة تُغيّر حتى أكابر الناس إلا من خرج.. فإذا أدركنا ذلك بوضوح، عرفنا بحقّ أنّ مسؤوليّتنا الرقابيّة تمتدّ على امتداد الساعات والأيّام والأسابيع..
وبذلك نكون قد عملنا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكنّا مصداقاً لقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيم)[29]، أترى أنّ الأمر والنهي واجبان اليوم دون غد؟ أو هذا الأسبوع دون ما يليه؟ أو هذا الشهر وهذه السنة لا بامتداد العمر؟ أو أن الولاية هنا (أولياء بعض) خاصّة بزمن دون زمن، وبشخص دون آخر؟
لماذا لا ينهض المعصوم A بالأمر إلا مع وجود جمع مؤهِّل؟
تنبيه: وممّا يلفت النظر أنّ الرسول والإمام عليّ وسائر الأئمّة (عليهم السلام)، وصولًا إلى الإمام المنتظر (عج)، يمتلكون بإذن الله تعالى قدرات غيبيّة مذهلة، وعلمًا وخبرة مذهلة، لا يبلغ عشر معشارها بشر، فلو أراد الإمام (عليه السلام) أن يحكم العالم بمفرده بكفاءة لا نظير لها، لأمكنه ذلك بما يملك من قوى إلهيّة، لكنّ حكمة الله تعالى جرت على أن لا يتصدّى للأمر إلّا ومعه جمع وافٍ كافٍ من الكفاءات، وقد قال الإمام (عليه السلام): (لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)[30]
ولذلك نجد أنّ الإمام عليًّا (عليه السلام) لم ينهض بالأمر، إلّا مشترطًا أن يعينه عليه أربعون رجلًا، مع أنّه كان، في واقع الأمر، في غنى عنهم، كيف وهو القائل: (وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا)[31]، كيف وقد قال عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا)[32].
وكذلك الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فإنّ ظهوره (عجل الله تعالى فرجه الشريف) منوط، من جملة ما أناطه به الله تعالى، باكتمال العدد ٣١٣، وهم الذين يشكّلون فريق إدارة العالم، وبعدهم عشرة آلاف أدنى منهم ثم سبعون ألفًا، على ما نُقل عن بعض الروايات.
إنّ ذلك كلّه يؤكّد أهميّة وموقع فريق العمل المتكامل وضرورته، إمّا واقعًا في أمثالنا من البشر مهما بلغت كفاءاتنا، وإمّا لجريان سنّة الله تعالى كما في الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين