بولونيا.. درس في التفكك والوحدة
عبد الامير المجر
2025-11-20 04:05
قبل أيام شاهدتُ، وبالمصادفة، برنامجاً وثائقياً على إحدى الفضائيات، تضمن احتفالات شعبية جرت في العام 2018 لمناسبة مرور مئة عام على إعادة توحيد بولونيا. البرنامج أعادني إلى الوراء، لأن مقروءاتي عن هذا البلد كانت على مراحل ومضامينها مختلفة، كون كتّابها من خلفيات أيديولوجية متعارضة! إذ حين فتحتُ عيني على الدنيا وجدتُ بولونيا دولة شيوعية، وفي مرحلة شبابي تابعت فصول الصراع المثير هناك بين (نقابة التضامن المستقلة) بزعامة (ليش فاليسا) الذي أصبح رئيساً للبلاد لاحقاً، وبين النظام الشيوعي بزعامة ياروزلسكي، وكيف انتهى الصراع بسقوط النظام وظهور بولونيا (الليبرالية).
لا شك أن ليَّ الأذرع بين ستالين و(حلفائه)، الأميركيين والبريطانيين، بعد الحرب العالمية الثانية، والذي فتح الباب أمام ما كان يُعرَف بالحرب الباردة، قد بدأت إرهاصاته من بولونيا التي كانت محط تجاذب بين الجانبين في قصة لا مجال لذكرها الآن، وانتهى بانتصار ستالين وإقامته نظاماً شيوعياً في هذا البلد الذي يتميز بتاريخ مثير، دفعني فضولي لمعرفة خلفياته، ووجدتُ أن هذا البلد دفع ثمن نظامه السياسي (الديمقراطي) المتقدم كثيراً على أغلب الدول الأوروبية قبل نحو ألف عام، وكيف ظهرت إلى الوجود دولة باسم بولونيا وكيف اختفت فيما بعد وكيف عادت من جديد!
شهدت أوروبا في العام 1025 ولادة مملكة بولونيا، وفي العام 1569 اتحدت مع دوقية (ليتوانيا) - وهي الآن دولة مستقلة- لتصبح مملكة أكثر قوة، لكن القائمين عليها أقاموا نظاماً سياسياً عُرف بـ (الديمقراطية النبيلة)، إذ كانت هناك سلطات للنبلاء ويحق لأي منهم استخدام حق نقض أي قرار لا يراه مناسباً، وكان الملك مقيّداً بقوانين يوقّع عليها قبل انتخابه من قبل هؤلاء النبلاء، أي كانت (الديمقراطية) سائحة أكثر من اللازم، خلافاً لما كانت عليه الأنظمة الاستبدادية في أوروبا حينذاك، ما جعل النظام في بولونيا ضعيفاً بسبب غياب السلطة المركزية التي تضبط المعادلة السياسية وتوقف السيولة المتمادية في اتخاذ القرار السياسي، لاسيما أن البلاد دخلت في حروب متكررة مع جيرانها الروس والسويديين ومن ثم العثمانيين، الأمر الذي أضعف الاتحاد (البولوني – الليتواني)، وباتت المملكة التي تمثل هذا الاتحاد عرضة للتدخلات الأجنبية، لاسيما من قبل الروس والنمساويين والبروس (الألمان) قبل توحيد ألمانيا، إذ صارت لهم كلمة في تعيين الملك انطلاقاً من خلفيات دينية ترجمت الخلافات المذهبية وقتذاك بين المتدخلين، فأخذت البلاد تضعف تدريجياً مع الإيغال في التدخل وتفقد قدرتها على التماسك بوصفها دولة واحدة، لتجد نفسها بين عامي 1772– 1795 وقد ذابت إلى ثلاث قطع بين روسيا القيصرية وإمارة أو مملكة بروسيا الألمانية ومملكة النمسا– المجر، واختفت من الخارطة دولة اسمها بولونيا.
شهدت البلاد ظهور حركات وطنية تقاوم المحتلين، لكنها لم تفلح في تغيير الواقع الذي استمر على ما هو عليه حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بهزيمة كل من روسيا القيصرية وألمانيا التي باتت موحدة بعد جهود مستشار إمارة بروسيا (بسمارك) في العام 1871، وتفكك مملكة النمسا–المجر، وقد أسهم موقف الدول الكبرى وفي مقدمتها أميركا وفرنسا وبريطانيا في إعادة توحيد بولونيا، التي وجدت نفسها بعد مدة قصيرة في مهب الحرب العالمية الثانية وتداعياتها المعروفة.
الشيء الذي استخلصته من موقف (نقابة التضامن المستقلة)، والتي حظيت بتأييد شعبي واسع أطاح بالنظام الشيوعي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ومن ثم موقفها المتشدد ضد روسيا منذ اندلاع الحرب بين الأخيرة وأوكرانيا، هو أن هناك ماضياً مؤلماً، كان البولونيون يشعرون خلاله أنهم تحت هيمنة الروس، وأن الأخيرين أعادوا هيمنتهم على البلاد في أربعينيات القرن الماضي تحت قناع أيديولوجي (شيوعي)، لأنهم (البولونيون) استحضروا تلك الحقب البعيدة وما يتركه الأجداد في رؤوس الأحفاد من حكايا وقصص مؤلمة، تغذي الوجدان الشعبي وتبلور موقفاً يشتغل عليه الساسة من أهل البلاد وخارجها أيضاً!، لكن الأهم من كل هذا والذي يجب أن نقرأه نحن وغيرنا بدقة، هو أن السماح للأغراب بالتدخل في شؤون أي بلد يعني أن جسد هذا البلد قد تسلل إليه السرطان وأنه يسقط يوماً ما وتُقطَّع أوصاله بين أنياب الأقوياء المتدخلين!