الأمن الأسري في القرآن الكريم

د. علاء إبراهيم محمود الحسيني

2025-09-14 06:53

لما كانت الأسرة عماد المجتمع ونواته الأولى لذا حظيت باهتمام منقطع النظير من لدن المشرع السماوي، حيث نجد ان الكتاب السماوي الخاتم قد تطرق إلى الأسرة في مواطن عدة، ومنها أراد التأسيس لكيان الأسرة المسلمة القائمة على للتكامل في البناء المعرفي والأخلاقي والمادي على حد سواء، ومنها يتم البناء لمجتمع آمن يقوم على الحياة المشتركة السعيدة لجميع الأفراد بغض النظر عن أي فارق أو ميزة.

 ولعلنا نؤمن أن البناء الصحيح للأسرة يكون نتاجه (فرد) صالح يمكن الاطمئنان إليه في أي موطن أو موقف، فحين يعيش الفرد في كنف أسرة فاضلة ومجتمع متماسك لاشك أنه ينشأ وهو إنسان مستقيم بعيد كل البعد عن العقد النفسية والتربوية التي تسهم في الانحرافات السلوكية مستقبلاً، والفضل كل الفضل في ذلك للتأسيس القرآني والإسلامي للأمن عامة والأسري خاصة، فالأخير يعني تعزيز العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة لتحقيق الاستقرار الفردي والجماعي بفضل نعمة وجود الأسرة الإسلامية، ويعني أيضاً اطمئنان الفرد والأسرة وبلوغ حالة الأمن العقائدي والأخلاقي والاقتصادي والثقافي.

 إذ تكون الأسرة بجميع أفرادها خلية صالحة لا يمتد إليها الفساد ولا يصدر عنها مثل ذلك تجاه المجتمع، أو هو الحالة التي يصل إليها الفرد والمجتمع حين تتوافر أساسيات الحياة وتوضع مقومات العيش المشترك، فيشعر الجميع بالرضا، ومن شأن ما تقدم إنتاج نموذج إنسان وأسرة إسلامية صالحة لا تتسرب إليها آفة كالطلاق وانحلال الرابطة الزوجية ما يتسبب بتفكك أسرة وتهديد مستقبل الأولاد واستبدال حالة الطمأنينة الأسرية بحالة انعدام الاستقرار والأمن الإنساني، الأمر الذي يشكل فرصة لتنشئة أفراد مهزومين أو على الأقل لا يتمتعون بالجوانب المعنوية الداعمة للأمن المجتمعي.

ويقوم الأمن الأسري على عناصر لابد من توافرها للقول بتحققه هي:

1- الأمن العقائدي: ويتصل بالجوانب المعنوية والروحية وما يعتقده الفرد من صواب في عباداته أو معتقداته الدينية والقيمية، حيث يؤكد الدين الحنيف على أهمية حفظ الدين فهو من الضروريات الأساسية التي قام عليها الإسلام، ومن أصول الدين التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة بوصفها من الثوابت التي ينبغي الإيمان المطلق بها.

2- الأمن الأخلاقي: وهي حالة يمكن ان يبلغها الفرد والأسرة والمجتمع بالمحصلة تجعل الجميع يعيش حالة من البعد الروحي والقيمي البعيد كل البعد عن الفواحش وكل ما لا يأتلف مع الفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها بل ان الأخلاق تتفق مع العقل السليم وهو من الثوابت أيضاً في الإسلام وحفظ العقل من الجهل أو التعصب أو ما سواها يفضي إلى معايشة الناس بالأخلاق الفاضلة.

3- الأمن النفسي: وهي حالة من الأمن والسلام الداخلي يمكن ان يبلغها الفرد المسلم حين ينمو ويكبر ويترعرع في كنف أسرة كريمة مسلمة، فينهل من القيم الإنسانية التي أمرت بها السماء ويكون البيت والمدرسة ومحل العمل الذي يتواجد فيه في حالة من السكينة والهدوء فتكون النفس البشرية بحالة من الرضا والقناعة.

4- الأمن الاقتصادي: حيث يتصل بالجوانب المعاشية للفرد والأسرة ومن الثابت ان الإسلام أوجد نظام اقتصادي محكم يمكنه كاقتصاد دولة ان يحقق الأمن لجميع الأفراد فقد أوجدت نظم من شأنها ان تحقق التكافل الاجتماعي والاقتصادي بين جميع المسلمين فلا يبقى جائع أو محتاج، حيث تتكفل الدولة بجزء كبير من المتطلبات الحياتية اليومية من بيت مال المسلمين ويتاح الحق في العمل بل يكون الحث عليه في أعلى المستويات لضمان الحياة الحرة الكريمة للجميع.

5- الأمن الاجتماعي: فمن شأن الإسلام ان يؤسس للفضيلة الاجتماعية التي تنتج مجتمع فاضل بعيد كل البعد عن الرذائل ويأمن الفرد فيه على ماله ونفسه وأسرته وينطلق للعمل والعبادة والحياة وهو مطمئن على حياته وحياة أسرته ومتعلقيه.

ولما تقدم نستطيع القول ان الإسلام حريص كل الحرص على خلق الأمن الأسري وتعزيزه بين أفراد الأسرة الواحدة، كونه من أهم مقومات المجتمع المسلم ويبدأ ذلك من العلاقة بين الزوجين إذ حرص الدين الإسلامي وبمضامين متعددة وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على التأسيس لعقد زواج آمن ومستقر بدون النظر إلى زخارف الحياة الدنيا.

 ويحثنا القرآن الكريم على حسن اختيار الأزواج لبلوغ الغاية المتمثلة بالأسرة المطمئنة حيث يقول سبحانه وتعالى "وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُم"، والعلة الظاهرة من الآية المتقدمة ان الزواج من شأنه ان يحقق الأمن الذي يعبر عنه جل جلاله أحياناً بالسكن حيث تشير الآية القرآنية إلى هذا المعنى بقوله تعالى "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، فالمودة والرحمة التي تشير إليها الآية القرآنية كفيلة بتحقيق حالة الوئام والتفاهم ولما تثمر الأسرة أطفالاً يتعزز ما تقدم دليل ذلك قوله تعالى "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ"، بمعنى ان نعمة الأولاد هي من الثمرة التي من شأنها ان تحقق جزءً من الأمن الأسري، وليتمكن الفرد المسلم من المضي قدماً نحو التأسيس للأسرة قد يقف الفقر عائقاً أمامه لكن القرآن يشير إلى حقيقة ان الله تعالى يتكفل بالرزق ان صدقت النيات وحسنت السريرة حيث تشير الآية المباركة إلى هذه الحقيقية بالقول "وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ".

 وتؤكد الآية ما تقدم بقوله تبارك وتعالى "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ" فهذه الآيات المباركات تحث على التأسيس السليم للأسرة وان لا يعزب المسلم عن الزواج خشية الفقر، بعبارة أشد وضوحاً النصوص المتقدمة تمثل ضمانة للأمن النفسي، ودعوة إلى العمل والتوكل على الله تعالى فلا يمسي ويصبح الفرد المسلم وهو يحمل الهموم والغموم على ظهرة بل يمضي مطمأن النفس هادئ البال إلى تأسيس الأسرة الخاصة به وفق توجيه النبي الأكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم حين يقول "تنكح المرآة لأربع (لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)".

ومن المعروف ان القرآن الكريم أمر بطيب المعاشرة بين الزوجين وكذا الأمر مع الأولاد بغية ان تبقى الوشائج الإنسانية هي الحاكمة في الأسرة المسلمة لذا يقول الله تعالى في كتابه العزيز"الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ"، وحين يتعلق الأمر بالضرر بسبب التكوين الأسري نجد ان نهج القرآن ثابت في ان ذلك غير ممكن بالنسبة للزوجين كلاهما حيث يقول الله تعالى "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ"، بل يصل الأمر إلى وقوع الطلاق فيتدخل القرآن ليربي الفرد المسلم ان يكون ذلك بالمعروف حيث يقول تعالى "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".

 ليس هذا فحسب بل يوجه القرآن العظيم الأولاد في تعاملهم مع الأباء ويهديهم إلى الصراط القويم فيقول تعالى "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" وقال أيضاً "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ".

 وفي كل ما تقدم توجيهات وأوامر إسلامية من شأنها ان تخلق الأمن الأسري فيكون مقدمة صالحة للأمن الإنساني وهي دعوة إلى المسلمين والباحثين والمهتمين بملف حقوق الإنسان إلى التركيز على النصوص العظيمة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة أهل البيت عليهم السلام لتربية الجيل الناشئ تربية أخلاقية إسلامية حقة تملئ الفراغ القيمي الذي تخلقه الوسائل المعاصرة في أذهانهم، لاسيما ونحن نعيش في عصر بات التواصل الالكتروني بوسائله ومغرياته هو السائد والمهيمن على تفكير الشباب حيث يمكن إعداد برامج توعوية مرئية أو مسموعة كالأفلام القصيرة وغيرها لتكون مادة تربوية للجيل الجديد تذكرهم وتربطهم بأصولهم الإنسانية وتعرفهم عظمة دينهم الإسلام الحنيف.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

التقوى السياسيةخرائط الحيرة الفلسطينية: أربع مفترقات وطنية..العدوان الصهيوني على قطر والخداع الأمريكي للعرب!من نيبال إلى منطقتنا: عندما يتكلم الشباب وتسقط المحسوبيةنظرية الفعل الاجتماعي بين فيبر وبارسونز