مقام التسليم والرضا والعبودية لله تعالى، علماء وعالمات جبل عامل نموذجاً
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ.. (2)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2024-11-09 07:05
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: {الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (سورة الحج: الآية 40)
وقال جل اسمه: {قالَ رَبُّنَا الَّذي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}[1]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين}[2]
والكلام يقع في فصلين:
الفصل الأول: بصائر قرآنية
مفردة (الربَّ) تختزن شحنة معرفية – معنوية عميقة
انّ اختيار مفردة الربّ في الآيات الكريمة السابقة، كسائر مواضع انتخابها في القرآن الكريم، تمّت على وفق أقصى درجات الحكمة، فيما نفهمه فكيف بما لا تصل أفهامنا إليه، وذلك لأن مفردة (الرب) تختزن شحنة معرفية ومعنوية وروحية قوية جداً، إذ تتكشف عما يقتضيه الحزم من الاعطاء حين تكون فيه المصلحة والمنع حين تكون فيه المفسدة، والإغناء أو الإفقار، ومنح السلطة أو الحرمان منها، والابتلاء بالعسر حيناً والتفضل باليسر أحياناً وذلك كله بحسب الحكمة والمصلحة والعلم النافذ في حقائق الأشياء ومآلات الأمور؛ وذلك لأن ذلك هو شأن المربّي إذا كان مربياً حقاً وهو مقتضى التربية، فإن المربي، لا يعطي دائماً بل قد يحرم أحياناً، والمربي قد يثيب كما قد يعاقب وقد يمدح وقد يقدح، كل ذلك على حسب ما يراه أنفع لتربية أبنائه أو تلامذته أو أتباعه، فإذا كان المربي هو العالم المطلق القادر المطلق الحكيم المطلق، كان كل ما يفعله بعبده في تربيته له على أقصى درجات الحكمة مختزناً أعلى درجات المصلحة دافعاً لأقصى درجات المفسدة، سواءً أعلم العبد بذلك أم لم يعلم، بل سواءً ءاعترف بذلك أم أنكر.
فعن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ((أَنَّ فِيمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام) يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ فَإِنِّي إِنَّمَا أَبْتَلِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأُعَافِيهِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَزْوِي عَنْهُ مَا هُوَ شَرٌّ لَهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ عَبْدِي فَلْيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي وَلْيَشْكُرْ نَعْمَائِي وَلْيَرْضَ بِقَضَائِي أَكْتُبْهُ فِي الصِّدِّيقِينَ عِنْدِي إِذَا عَمِلَ بِرِضَائِي وَأَطَاعَ أَمْرِي))[3]
وكل ذلك مما لا تتكفل به مفردة الرازق مثلاً، ولعل ذلك من وجوه قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمين} والحمد هو الثناء الجميل على جميل الخصال ومحامد الفِعال، والحمد المطلق إنما يكون له لأنه المتفرد بصحة وصفه به بقول مطلق؛ وقد اتصف بكونه ربَّ العالمين لأنه يفعل بهم ما تقتضيه المصلحة والحكمة في التربية والتنمية فإن المربي قد يؤدب الطفل إذا عصى وطغى وقد يعفو عنه مرة دون أخرى، ولو كان في كل الأحوال رحيماً أو شديداً لما كان مربياً ولخرج عن مقتضى الحكمة ولذا ورد ((وَأَيْقَنْتُ أَنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ وَأَشَدُّ الْمُعَاقِبِينَ فِي مَوْضِعِ النَّكَالِ وَالنَّقِمَةِ وَأَعْظَمُ الْمُتَجَبِّرِينَ فِي مَوْضِعِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ...))[4] ولذا كانت دلالة {رَبِّ الْعالَمين} أشمل وأدق مما لو قيل مثلاً الحمد لله خالق العالمين إذ كونه خالقاً لا يدل بنفسه (لولا إعمال المقدمات العقلية) على قيامه بفعل ما يصلح أمرنا وينفع دينانا واخرانا ولو قال (راحم العالمين) لما دلّ إلا على حالة واحدة هي التي تكون فيها الرحمة حسنة، ولما أفادت حكم المقام الذي يقتضي العقوبة والشدة.
وحيث دلّت مفردة الرب على الإصلاح والتربية قال تعالى عن لسان موسى (عليه السلام): {قالَ رَبُّنَا الَّذي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}[5]، فإن ذلك شأن الرب أن يعطي كل شيء خلقه (أي خلقه الذي يناسب ما يتطلبه لسان حاله بحسب اقتضاءاته في صقع نفس الأمر) ثم يهديه إلى ما يصلح شأنه ويرشّد مسيرته ويسدّد طريقه فيجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره.
لماذا اختيرت كلمة {رَبُّنَا} في آية المهاجرين؟
وفي اختيار مفردة {رَبُّنَا} في قوله تعالى: {الَّذينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} إشارة معرفية ودلالة تربوية قوية، حيث ان اختيار هذه المفردة إضافة إلى كونه إدانة للكفار حيث أخرجوا هؤلاء لمجرد قولهم كلمة الحق وهي ربنا الله، فإنه يستبطن مضموناً تربوياً شاملاً معمقاً لهم حيث انكم إذ قلتم ربنا الله (وهو المربي حسب اقتضاءات المصلحة في واقع الأمر) فلا تسخطوا قضاءه وقدره ولا تجزعوا إذا أخرجتم من دياركم بغير حق فإنك إذا أخرجت من ديارك وهُجّرت وطورِدت ونزل عليك من صنوف البلاء ما نزل، فإن كان ذلك لمعاصي ارتكبتها أو آثام اجترحتها فذلك يكون تطهيراً لك، وإن لم يكن ذلك لمعصية صدرت منك أبداً فهو زيادة درجات، وعليه: فإنك أنت الرابح في كلتا الصورتين، مادام البلاء النازل كان غير اختياري لك، فلِمَ السخط والمربي جعل البلاء اللاختياري النازل عليك كله لصالحك إما غفراناً لطالح العمل والذنب وإما زيادة في الدرجات والقرب.
فهذا إن كان البلاء النازل عليك غير اختياري لك، وإن كان البلاء النازل عليك اختيارياً وكنت أنت السبب فيه، كما لو القيت بنفسك من شاهق أو قصّرت في حفظ ثغور بلادك فهاجمك العدو وأخرب دارك وقتل أبناءك وهجّرك وشرّدك، فإن مقتضى القاعدة أن لا يتدخل الرب غيبياً، مادامت الدنيا دار ابتلاء وامتحان، ومادام رباً يريد تربية الأمة والأجيال اللاحقة على إتباع سننه في الحياة إذ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلاً}[6].
فإذا عرفنا انه تعالى ربّ ونِعم الرب إذ نقولها جميعاً ((أَشْهَدُ أَنَّكَ نِعْمَ الرَّبُ))[7] وجب علينا أن نرضى بقضائه ولا نسخط مقدّراته الحتمية، بينما نسعى بحسب سننه لتغيير غير الحتمية منها، لما ينفع دنيانا وأخرانا، فذلك هو يذعن به اللبيب العاقل وينكره الجاهل والباقل.
معسكرات التدريب موطن المشاق والصعوبات
ألا ترى انك لو دخلت معسكراً للتدريب ووجدت المدرب ماهراً حقاً فإن عليك حينئذٍ أن تخضع لتدريباته مهما كانت شاقة لا أن ترفع عقيرتك بالاعتراض حيناً: لماذا لا تمنحوني فراشاً وثيراً وطعاماً لذيذاً وماء حاراً، وبالعتاب أخرى: أين الرحمة؟ ولماذا تكلفوننا بالزحف على الأشواك المسنّنة والمشي حفاة على الصخور المدببة وبالرياضات الشاقة الطويلة المرهقة؟
إنّ المدرب مهمته هي كل ذلك! فهو يتعبك كي تتطور وتتكامل وتصل إلى مصاف المغاوير وحملة الحزام الأسود، ولو فعل العكس كان مفرِّطاً، ولو طالبته بالعكس كنت جاهلاً.
والدنيا كلها هي معسكر تدريب لجميع البشرية فلماذا نتضايق من المحن والابتلاءات؟
مثال آخر: إذا ضعت في غابة خطرة أو جبال وعرة فأدركك خبير فسار بك في طرق متعرجة، وسلك بك سبلاً غير مذللة، كي لا تمر على مرابض الأسود ومواطن الفهود وعساكر الذئاب، فهل يصح أن تعترض عليه: أين الرحمة؟ وأين الرفق؟ ولماذا لا تسلك بنا جوادّ الطرق؟
إنّ الله تعالى هو ربنا وهو الرب بقول مطلق والذي لا يصلح إطلاق الرب من دون قيد وإضافة (كـ: رب الدار، رب الإبل) إلا عليه تعالى، ومادمت تؤمن بذلك فتوكل عليه وأرض بقضائه واطمئن بعد ذلك تماماً إذ ((مَنْ وَثِقَ بِاللَّهِ آوَاهُ السُّرُورَ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ الْأُمُور))[8]، ولا يعني ذلك أبداً أن تتكاسل، إذ ان من قواعد ربوبيته: {فَاسْعَوْا} {جاهَدُوا} {فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً}[9] وقد أمرنا أن نسلك سبل النجاح، فإذا وصلنا إلى ما ابتغينا شكرنا وإذا لم نصل حمدنا، ففي كلتا الصورتين هو نِعم الرب وعلينا في الحالتين أن نكون نِعم المربوبين.
وقد روي أن موسى (عليه السلام) قال: ((يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ نِلْتُ بِهِ رِضَاكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا ابْنَ عِمْرَانَ إِنَّ رِضَايَ فِي كُرْهِكَ، وَلَنْ تُطِيقَ ذَلِكَ، قَالَ: فَخَرَّ مُوسَى (عليه السلام) سَاجِداً بَاكِياً، فَقَالَ: يَا رَبِّ خَصَصْتَنِي بِالْكَلَامِ وَلَمْ تُكَلِّمْ بَشَراً قَبْلِي وَلَمْ تَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَنَالُ بِهِ رِضَاكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ رِضَايَ فِي رِضَاكَ بِقَضَائِي))[10].
لماذا بلغ الرسول (صلى الله وآله وسلم) أعلى مراتب القرب؟
وبوجه آخر: فإن أقصى مقام يجب علينا أن نسعى لكي نصل إليه هو مقام التسليم المطلق، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً}[11]،
وفي مناجاة موسى عليه السلام: ((أَيْ رَبِّ، أَيُ خَلْقِكَ أَحَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ مَنْ إِذَا أَخَذْتُ حَبِيبَهُ سَالَمَنِي، قَالَ: فَأَيُّ خَلْقٍ أَنْتَ عَلَيْهِ سَاخِطٌ؟ قَالَ: مَنْ يَسْتَخِيرُنِي فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا قَضَيْتُ لَهُ سَخِطَ قَضَائِي))[12].
وروي ما هو أشد منه، وذاك أن الله تعالى قال: ((أَنَا اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي، وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي، فَلْيَتَّخِذِ رَبّاً سِوَائِي))[13]
ولقد بلغ الرسول الأعظم أقصى مراتب القرب إلى الرب ونال شرف مقام أعظم رسل الله تعالى وخاتمهم لأنه كان أشد الناس عبودية لله تعالى حيث علم بأن الله تعالى هو الرب بقول مطلق فكان هو العبد الطائعة جوارحه والراضية بالقضاء جوانحه، بقول مطلق، ولذا ورد ((وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ))، فإنه يستفاد منه ان مقام العبودية سابق على مقام الرسالة إذ طابق الإثبات الثبوت، بل حيث انه (صلى الله وآله وسلم) كان أشدّ عباد الله عبودية وأكثرهم خضوعاً وكان (العبد) من كل الجهات وبكل الجهات، حظى بشرف أن يكون {رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ} وان يصل إلى مقام {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[14].
والمشكلة الأساس ان كل واحد منا يعتبر نفسه ذا نظر وخطر، مع انه ليس إلا {عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ}[15].
لا تكن مجتهدا في مقابل الله تعالى
والمتحصل من ذلك كله هو كلمة واحدة مفتاحية (لا تكن مجتهداً في مقابل الله تعالى)! بل اعمل على حسب ما سنّه من السنن إذ ((أَبَى اللَّهُ أَنْ يُجْرِيَ الْأَشْيَاءَ إِلَّا عَلَى الْأَسْبَاب))[16]، و{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ}[17] وحينئذٍ سيمنحك على حسب سعيك {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى}[18]، فإذا أدت المقدمات التي مهدتها إلى النتائج التي توخّيتها فهو المطلوب وإلا عوّضك الله تعالى بما لا عين رأت... فلِمَ الفزع؟ ولِمَ الجزع؟ وهل يجني المرء من الفزع والجزع إلا خسارة مزدوجة؟ وقد ورد ((أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ (عليه السلام): يَا دَاوُدُ تُرِيدُ وَأُرِيدُ، وَأَنَّمَا يَكُونُ مَا أُرِيدُ، فَإِنْ سَلَّمْتَ لِمَا أُرِيدُ كَفَيْتُكَ مَا تُرِيدُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْ لِمَا أُرِيدُ أَتْعَبْتُكَ فِيمَا تُرِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أُرِيد))[19].
معنى ((الْغِنَى وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى))
وقد ورد في الحديث ((الْغِنَى وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ [تَعَالَى]))[20] ولهذه الكلمة أكثر من تفسير وإحدى تفسيراتها: انك إذا كنت، مثلاً، كفوءاً اتقنت الصنعة ومهدت المقدمات بالحكمة وتاجرت واستثمرت وناضلت وكافحت فلا يعني ذلك أنك ستكون ثرياً حقاً إذ الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى أي بعد أن تعرض الملائكة على الله ذلك فإن أُذِن أثريت وإلا فلا، وذلك لأن هناك مقدمات غير اختيارية متنوعة تقع في طريق الإثراء، فقد تمهِّد كل الأسباب ولكن تفاجأ بوباء عالمي أو بزلزال محلي أو قد يسرقك سارق وقد تشتعل حرب في دولة أخرى فتخسر ثروتك كلها إذ حرمت أهم مورد لديك للاستيراد أو للتصدير وهكذا، وقد يحدث العكس إذ قد تكون جميع المؤشرات سلبية تشير إلى أنك ستبقى في دائرة الفقر، لكن الأمر منوط بإذن الله تعالى فقد تثري فجأة من مورِّث لا تحتسبه أو قد ترتفع قيمة أرض لك بائرة، فجأة إلى أسعار خيالية إثر صدور قرار حكومي ببناء مجمع سكني هنالك فوقعت أرضك على الشارع العام أو في قلب المجمع فبذلوا لك ألوفاً مؤلفة لم تكن تخطر على بال أحد[21].
وعوداً على بدء: فإن البلاء إذا حل بك، سواء أكان عاماً أم خاصاً، فإن صبرت صبرت وأنت محمود ومأجور وأنت جزعت جزعت وأنت لا محمود ولا مأجور، ألا ترى ان الذين يصبرون في المصائب كالجبل الأشم، يحمدهم الناس ويمدحونهم وهم إلى ذلك عند الله مأجورون إذ {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}[22].
بقي: ان التربية أقوى دلالة من الناحية الكيفية من التنمية إذ قد تكون التنمية بزيادة الأموال لكنها تبعد الإنسان عن إنسانيته بأميال.
ومما يدلنا على عمق دلالة كلمة (ربّ) وما يشتق منها هو ما ذكره فقهاء اللغة من معانيها الثلاثة.. ولنكتف بالآتي:
الأول للرب هو إصلاح الشيء والقيامُ عليه. فالرّبُّ: المالكُ، والخالقُ. والصَّاحب. والرّبُّ: المـُصْلِح للشيء. يقال رَبَّ فلانٌ ضَيعتَه، إذا قام على إصلاحها... واللّٰه جلّ ثناؤُه الرَّبُّ؛ لأنه مصلحُ أحوالِ خَلْقه.
والرِّبِّىُّ: العارف بالرَّبّ. وربَبْتُ الصَّبىَّ أرُبُّه، وربَّبْتُه أربِّبُه.
والرَّبيبة الحاضِنة. ورَبيبُ الرَّجُل: ابنُ امرأَتِه... وفى الحديث: «يكرهُ أنْ يتزوَّج الرّجلُ امرأةَ رابَّهِ».
والأصل الآخرُ لُزوم الشىءِ والإقامةُ عليه، وهو مناسبٌ للأصل الأوّل.
يقال أربَّت السّحابةُ بهذه البلدةِ، إذا دامَتْ. وأرْضٌ مَرَبٌّ: لا يزال بها مَطَرٌ؛ ولذلك سُمِّى السَّحاب رَباباً.
والأصل الثالث: ضمُّ الشيء للشيء، وهو أيضاً مناسبٌ لما قبله، ومتى أُنْعِمَ النَّظرُ كان الباب كلّه قياساً واحداً. يقال للخِرْقة التي يُجعل فيها القِدَاحُ رِبابَةٌ - انتهى[23].
والظاهر هو عود الأخيرين للأول.
وعلى أي فإن الرب يستبطن المعاني الثلاثة، سواء أعاد بعضها إلى بعض أم لا، فإنه جل اسمه القائم على إصلاح شؤون عباده وهو أرحم من المرضعة برضيعها وقد نقل انه قُدِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله وآله وسلم) بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَسْعَى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَ أَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص أَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا.[24]
وكما انه تعالى لا يهمل أمرنا طرفة عين أبداً بل هو (الحي القيوم) فإنه قائم على إصلاح شأن عباده، كذلك هو لازم لذلك دوماً وأبداً بل ان هذا مقتضى ذاك كما انه يضم إلى كل عبد ما يصلحه من إثراء وإغناء أو إفقار وإعواز ومن صحة أو مرض، ومن رياسة أو ضدها وغير ذلك.. نعم كل لذلك لعباده وأما غيرهم فالأمر بالعكس إذ {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهين))[25] فليحذر كل منا أن يكون ثراءه أو سلطنته وبالاً عليه، بأن يستثمرها على امتداد الساعات والأيام والأشهر في طاعة الله وفي خدمة خلق الله.
الفصل الثاني: مشاعل نور يضيؤها علماء لبنان وعالماتها
وهذا الفصل معقود لكل نستلهم من العلماء الربانيين ونتعلم منهم ونتأسى بهم خاصة في بُعد العبودية لله تعالى والتسليم لأمره والرضا بقضائه والائتمار بأمره والسير على ضوء هديه وتعاليمه، وذلك نظراً لكونهم نِعم مَن يَحسُن أن نتربى على أيديهم بعد الرسول والأوصياء إذ أن الرسل والأوصياء هم قمة القمم وهم الاسوة والقدوة دون شك، ولكن كثيراً من الناس لا يتخذونهم اسوة لهم متذرعين بحجة انه أين نحن وأين هم؟ وأنّ مقامهم فوق مستوى التصور فكيف يتوقع مني أن أقتدي بهم؟، وهذا الكلام وإن أجيب عنه بكلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) الخالدة: ((أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ))[26] ولكن ومع ذلك فقد قيّض الله تعالى لنا قدوات متوسطة، هم العلماء الربانيون حيث لا يمكن لأحد أن يقول بأن هم فوق مستوى البشر فكيف اتأسى بهم؟ إذ يقال له: كلا! بل كانوا بشراً مثلنا ولكنهم جدوا واجتهدوا فوصلوا فعليك بالتأسي فربما تصل وربما تقترب فاصعد الجبل الشامخ فإن لم يمكنك أن تقطع ألوف الأمتار فحسبك أن ترتقي عشرات مئات الأمتار!
الشهيد الأول سيد فضلاء بني آدم
لقد كان الشهيد الأول من أعاظم علمائنا الأبرار حتى ان فخر المحققين ابن العلامة الحلي المشتهر كوالده بالنبوغ والعلم الغزير، وصف تلميذه الشهيد الثاني بـ (أفضل علماء العالم سيد فضلاء بني آدم مولانا شمس الحق والدين محمد بن مكي)[27].
وقال عنه الحر العاملي: (كان عالماً ماهراً فقيهاً محدثاً مدققاً ثقة متبحراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنقليات زاهداً عابداً ورعاً شاعراً أديباً منشئاً فريدة دهره وعديم النظير في زمانه)[28].
وكان الشهيد الأول هو أول من مد الجسور بين مدرسة الحلة وجبل عامل وكان أول مؤسس للحوزة العلمية بجزين كما انه كان أول من أسس شبكة الوكلاء في تلك البلاد، وهي التي ابتدأ تأسيسها الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم.
وقد تصدى للفِرَق الضالة وكان منهم اليالوشي الذي قيل انه ادعى النبوة وقيل انه كان صوفياً وقائلاً بوحدة الوجود أو الموجود.
أسباب قتل الشهيد الأول
كما قال المؤرخون في سبب قتل الشهيد الأول أموراً:
منها: خوف حكام المماليك من قوته المتنامية.
ومنها: ان قتله كان بسبب وشاية من بعض رجال اليالوشي بعد أن قتله المماليك فاتهموا الشهيد الأول بانه كان المحرض عليهم مع انه لم يقابلهم إلا بالكلمة والبحث الحر والمنطق قال بعضهم: وكان سبب حبسه وقتله وشاية من رجال (اليالوشي) الذين كتبوا محضرا يشتمل على مقالات شنيعة بحق الشهيد، اتهموه بميله للنصيرية، وإباحته الخمر، وغيرها من الافتراءات بهدف التخلص منه. شهد بذلك جماعة من سبعين نفراً من رجال اليالوشي، ثم أتوا به إلى قاضي الشام.
وقيل ان سبب قتله هو حسد القاضي برهان الدين المكي وعباد بن جماعة ووشايته به حيث أفحم الشهيد الأول القاضيَ برهانَ الدين في إحدى الحوارات على مسمع جمع من العلماء.
وقيل ان ذلك القاضي هو من قام بكتابة عريضة ضد الشهيد الأول بعد المناظرة، وأشهد عليها جمعاً من العلماء ورفعها إلى حاكم دمشق.
وقد اعتقل الشهيد الأول وسجن سنة كاملة في قلعة دمشق ثم أخرج عام 786 وقتل بالسيف "ثم صلب" ثم رجم بالحجارة "ثم أحرق" ثم ذرّوا رماده في الهواء ظناً منهم أنهم يُفنونه بذلك، لكنهم هم الذين فنوا وبقي الشهيد الأول طوداً شامخاً في سماء الفقه والعلم والمعرفة على امتداد التاريخ فكان له اسوة بسيد الشهداء (عليه السلام) إذ:
ظنّوا بأن قتلَ الحسينَ يزيدُهُم --- لكنّما قتـلَ الحسينُ يزيدا
كَتَبَ الشهيد: رب اني مظلوم فانتصر
والشاهد انه عندما ساقوه من السجن إلى ساحة الإعدام كانت معه ورقة وقلم فكتب رسالة موجزة جداً إلى الله تعالى: (رب اني مظلوم فانتصر) ووضعها على الأرض فأطارت الريح الورقة وقلبتها وإذا به يجد في ظهرها مكتوباً (إن كنت عبدي فاصطبر).
فهذا هو مقام العبودية لله تعالى: التسليم للقضاء الحتمي (سلم لما لا بد منه) فإنه أن تصبر تحمد وتؤجر وإلا تذم ولا تؤجر.
وعلى أية حال فعند نزول البلاء الحتمي فإنه لا مردّ له، فما فائدة الجزع؟ بل انه يزيد الطين بلة والأمر اعضالا، على العكس مما لو صبر الإنسان على البلاء ورضي بالقضاء فإنه سينال الطمأنينة والسكينة أولاً {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي))[29]، فيخفّ عليه وَقْع المصاب إلى أبعد الحدود، كما انه سيحظى برضا الله وعظيم الأجر وجميل الذكر.
وقد روى الكليني بإسناده إلى ابي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: ((رَأْسُ طَاعَةِ اللَّهِ الصَّبْرُ وَ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ فِيمَا أَحَبَّ الْعَبْدُ أَوْ كَرِهَ، وَلَا يَرْضَى عَبْدٌ عَنِ اللَّهِ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ، إِلَّا كَانَ خَيْراً لَهُ فِيمَا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ))[30]
(إن كنت عبدي) فإن مقام العبودية لله تعالى يقتضي الصبر على ما قدّره الله تعالى، نعم الأَجَل أَجَلان والتقدير تقديران: معلق ومحتوم، فالمعلق تدفعه الصدقات وصلة الرحم والدعوات الصالحات والكلمة الطيبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن المحتوم لا يدفعه شيء، فعليك بالصدقة وصلة الرحم والسعي الشديد وغير ذلك ولكن عليك أن تكون في جميع ذلك مسلماً أمرك إلى الله تعالى راضياً بما سيقدره لك في نهاية المطاف فعند ذلك تحظى بشرف كونك مربوباً حقاً لرب العالمين.
صاحب المعالم اسوة وقدوة
ولنا في صاحب المعالم المولود 959هـ والمقتول والده الشهيد الثاني وعمره ست سنوات على قول، والمتوفى 1011، وابن اخته صاحب المدارك، الاسوة الحسنة إذ ان تاريخهما مليء بالدروس التربوية والمواعظ والعِبَر التي تصلح كأفضل زاد لطالب العلم بل لكل مسلم.
لمحة عن تواضع المقدس الأردبيلي
فلنبدأ بأستاذهما المقدس الأردبيلي حيث انه كان المبرّز من علماء عصره علماً وقدساً وتقوى وقد تتلمذ عنده الكثير من العلماء لكنه حيث وجد في هذين الشابين المهاجرين، ذكاءً وتوقداً وصفاءً ونوراً، خصص لهما درساً خاصاً.. والعجيب انه عندما كان يكتب شرح الإرشاد، وهو كتاب فقهي قيّم، بلغ من تواضعه وفهمه ان اعطاهما أجزاء من كتابه لينقدوه ويقوّموا عبارته مع ان ذلك غير مألوف عادة، والأغرب انهما عندما أراد الرجوع إلى جبل عامل طلب الشيخ حسن صاحب المعالم من الملا أحمد الأردبيلي أن يكتب له شيئاً بخطه ليحتفظ به ذكرى له فكتب المحقق الأردبيلي بعض الأحاديث وكتب في آخرها: كتب العبد لمولاه امتثالاً لأمر المولى ليبقى تذكراً ولا ينساني في خلواته وبعد صلاته، وفقه الله تعالى لما يحبه وأن يرضى عنه بمنّه وكرمه بمحمد وآله صلوات الله عليهم)[31] وهل ترى أستاذاً شهيراً يكتب عن نفسه انه مولى لتلميذه!
وهذه بعض النماذج التربوية:
لم يكن يجمع قوت سنته مواساةً للفقراء
1- فإنه من شدة ورعه لم يكن يجمع أكثر من قوت أسبوعه أو شهره مواساة للفقراء والمحرومين وكي لا يتشبه بالأغنياء ولقد كان من المتداول أن يشتري الناس قوت سنتهم في مواسم الحصاد نظراً لوفرة الطعام ورخصه في هذا الحين، فإذا انتهى الموسم قلّت البضاعة وارتفعت الأسعار وحيث لم يكن للفقراء المقدرة على شراء قوت السنة، كانوا يظلون في بقية السنة في عسر وحرج نظراً لكون الأسعار مرتفعة فكانوا يقتصدون في المأكل أو قد لا يأكلون ألواناً من الطعام أصلاً إلا في الموسم، فأبى صاحب المعالم إلا أن يواسيهم فيشتري قوت أسبوع أو شهر مثلاً، فإذا غلى بعد ذلك حرم نفسه من لذيذ تلك الأطعمة مواساة للفقراء.
وكان يتجنب اللقاء بالسلاطين
2- نقل السيد نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية أن صاحبي المعالم والمدارك كانا في النجف وكانا يريدان الذهاب إلى خراسان لكنهما لم يذهبا حذراً من أن يضطرا للقاء بالشاه عباس وذلك احتياطاً لقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[32].
3- ومن تواضعهما انهما كانا يدرسان عند مَن يدرّسانه فقد ذكر حفيد الشهيد الثاني الشيخ علي بن الشيخ محمد بن الشيخ حسن في كتاب الدر المنظوم والمنثور: "درس جدّي صاحب المعالم عند الملا عبد الله اليزدي التهذيب والمطوّل وحاشية الخطائي وحاشية الملا عبد الله على الخطائي وكان هذا في زمان كتابة الملا عبد الله حاشيته المشهورة على التهذيب وتلك الحاشية موجودة بخط جدي، وكان الملا عبد الله أيضاً يدرس عند جدي وعند صاحب المدارك الفقه والحديث).
وكان قد ألغى (الأنا) من ذاته
4- والأجمل من ذلك انهما كانا إذا سبق أحدهما إلى المسجد يقتدي به الآخر وبقيا كذلك طوال عمرهما.
وكان إذا سئل أحدهما عن مسألة أجاب إن كان استنبط الحكم وإلا يحيله على الآخر.
وكانا يرغبان الناس كل بالآخر ويحضران درس بعضهما.
وذلك كله مما يكشف عن منتهى الصدق والصفاء والإيمان والخلق السامي وسحق الأنا فإنه إن كان من الطبيعي أن يصلي ابن الأخت خلف خاله ويحضر درس خاله، لكنه ليس من الطبيعي أبداً العكس أي أن يصلي الخال (صاحب المعالم) خلف ابن اخته (صاحب المدارك) ويحضر درسه.
لقاؤه بولي الله الأعظم، كما تخيّله
5- وقال الشيخ علي: سمعت من بعض مشايخنا وغيرهم أن الشيخ حسن عندما ذهب إلى الحج، قال لأصحابه: عندي أمل من الله تعالى أن أرى صاحب الأمر لأنه يأتي إلى الحج كل سنة.
وعندما وقفوا في عرفة طلب من أصحابه الخروج من الخيمة لقراءة دعاء عرفة وجلس وإذا برجل غير معروف أتى وسلّم وجلس. قال الشيخ حسن: بُهِتّ ولم أقدر على الكلام ثم تكلم معي ونهض وذهب، فتخيلت أنه صاحب الأمر فسعيت خلفه فلم أجده وسألت أصحابي فقالوا: لم نر أحداً أتى أو ذهب. قال الشيخ علي: ومن ذلك الحين برز فرق في دقة النظر بين صاحب المدارك وصاحب المعالم فكان الشيخ أدق نظراً وأكثر إحاطة في العلوم.
والملاحظ شدة ورعه وتقواه، حيث ان كثيراً من الناس يسارع إلى ادعاء التشرف بلقاء سيد الكائنات (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وهو من أواسط الناس أو ادناهم منزلة أو أعلى قليلاً، بأدنى شيء، ولكن صاحب المعالم على جلالة قدره وعظم شأنه وانه المعروف لدى الخاص والعام بعلمه وورعه وتقواه (فلاحظ الهامش)[33] ورغم انه كان قد اعد واستعد وزاد من تهذيب نفسه ومن التهجد والتضرع طوال فترة الحج.. ثم بعد ذلك كله شاهد ذلك الوافد العظيم ولمس أثره الغيبي عليه حيث بهت وعجز عن الكلام في محضره، رغم ذلك كله لا يقول انني تشرفت بلقائه (عليه السلام) بل يقول: (فتخيلت انه صاحب الأمر) لا (علمت) والقوة المتخيلة قد تخطئ والخيال ليس حجة، فهو كقوله (احتملت) إن لم يكن أدنى منزلة، إذ لعله كان أحد الأوتاد أو كان الـخَضِر مثلاً فبذلك فليعتبر الذي يسارعون إلى تصديق كل مدع للرؤية وليرتدع الذين يدعون ذلك عند كل شاردة وواردة.
ومن طرائف صاحب المعالم ان نقش خاتمه كان:
بمحمدٍ والآل معتصمُ --- حسن بن زيد الدين عبدهُمُ
وكان مغرماً بكربلاء والنجف ومن أشعاره التي تكشف عن شدة حبه وشغفه وجواه وعطشه إلى العراق قوله:
فؤادي ظاعن اثر النياق --- وقلبي قاطن أرض العراق
ومن عجب الزمان حياةُ شخص --- ترحّل بعضه والبعض باقي!
فاطمة سيدة جبل عامل
ومن المفيد أيضاً والضروري جداً أن نشير إلى بعض عالمات جبل عامل، وتأتي في طليعتهن ابنة الشهيد الأول فاطمة أم الحسن العاملي الجزيني الملقّبة بست المشايخ، بنت محمد بن مكي العاملي الجزيني، المعروف بالشهيد الأول.
قال عنها الحر العاملي في أماليه: «كانت عالمة، فاضلة، فقيهة، صالحة، عابدة، سمعت من المشائخ مدحها والثناء عليها، تروي عن أبيها، وعن ابن معية شيخه إجازة، كما تقدّم في أخيها محمد، وكان أبوها يثني عليها، ويأمر النساء بالإقتداء بها، والرجوع إليها في أحكام الحيض والصلاة، ونحوها»[34])[35].
وهبت كل ثروتها مقابل عدة كتب
ومن لطائف صنعها وطرائف فعالها انها وَهَبَت ميراثها من أبيها الى أخويها محمد وعلي، مقابل أربعة كتب مع القرآن الكريم، وكتبت بذلك وثيقة يكشف نصها عن بلاغتها وأدبها، وحبها للعلم والكتب العلمية، وهذا نص الوثيقة:
«بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الذي وهب لعباده ما شاء، وأنعم على أهل العلم والعمل بما شاء، وجعل لهم شرفاً وقدراً وكرامةً، وفضَّلهم على الخلق بأعمالهم العالية، واعلا مراتبهم في دَارَيْ الدنيا والآخرة، وشهد بفضلهم الانس والجان.
والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، المخصوص بجوامع الكلم الحسان، وعلى آله وأصحابه أهل اللَسن واللِسان، والساحبين ذيول الفصاحة على سحبان، وعلى تابعيهم ومن تابعهم ما اختلف المديدان وأضاء القمران.
أما بعد، فقد وَهَبَتْ السِّت فاطمة أم الحسن أخويها: أبا طالب محمداً، وأبا القاسم علياً، سُلالة السعيد الأكرم والفقيه الأعظم، عمدة الفخر وفريد عين الزمان ووحيده، محيي مراسم الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين مولانا شمس المِلَّة والحقّ والدين محمد بن احمد بن حامد بن مكي (قدس سره)، المنتسب لسعد بن معاذ سيد الأوس (قدس الله ارواحهم) جميع ما يخصها من تركة أبيها في جزين وغيرها هبة شرعية ابتغاءًا لوجه الله تعالى ورجاءً لثوابه الجزيل، وقد عوّضا عليها كتاب التهذيب للشيخ رحمه الله، وكتاب المصباح له، وكتاب من لا يحضره الفقيه، وكتاب الذكرى لأبيهم رحمه الله، والقرآن المعروف بهدية علي بن مؤيد، وقد تصرف كل منهم والله الشاهد عليهم، وذلك في اليوم الثالث من شهر رمضان العظيم قدره، الذي هو من شهور ثلاثة وعشرين وثمان مائة والله على ما نقول وكيل »[36].
وعلى رأس الورقة وقَّع الشيخ حسن بن علي التوليني، وختم عليها، ثم قال: «قد اتصل بي بثبوت هذه الوثيقة بين الأماجد الطاهرين، وعلمت ما جرى ورقم فيها بعلم اليقين، أجريت عليها بقلم الاثبات بالمشروع والمعقول، وأنا أحقر الورى حسن بن علي التوليني».
الشهود، هم:
خالهم المقدم علوان، ابن احمد بن ياسر، وختم فيها بخاتمه.
الشيخ علي، ابن حسين الصائغ، وختم فيها بخاتمه.
الشيخ فاضل، ابن مصطفى البعلبكي، وختم فيها بخاتمه)[37].
شواهد من حكمة الست فاطمة
والشاهد هو: حكمتها في زهدها في الدنيا ومتاعها الفاني فإنها لو ادخرت تلك الممتلكات والموروثات ثم ماتت عنها فما الذي كان ينفعها؟ أو لا تكون حينئذٍ كالملايين ممن يجنون ثروات وأرصدة أو قصوراً أو بساتين، وهم لا يحتاجون إليها لمعيشتهم اليومية ثم يموتون عنها موزورين بكنزها أو عدم أداء حقوقها الواجبة، أو يموتون غير محمودين بجمعها وادخارها إذ لم يصطحبوا معهم إلى قبورهم إلا أكفانهم؟، لكنها أبقت لنفسها ذكراً خالداً بهذا التصرف الذكي الحكيم بل سنّت سنة حسنة لكل من يمتلك فائضاً عما يحتاجه لمعاشه:
1- حيث انها من جهة وهبت جميع تركتها، ولم تبعها إذ البيع شأن التجار والهبة شأن ذوي الشهامة والمجد والكرامة والإيثار.
2- وجعلتها معوضة مقابل عدة كتب، نظراً لعظيم استفادتها منها، وكي تكون عبرة ودرساً للأجيال: ان العلم يبقى دون المال.. وقد تأسّت في ذلك بالإمام المجتبى (عليه السلام) إذ خرج من ماله كله مرتين وقاسم الله ماله ثلاث مرات
عن علي بن جذعان قال: ((خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ مَالِهِ مَرَّتَيْنِ، وَقَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُعْطِي نَعْلًا وَيُمْسِكُ نَعْلًا وَيُعْطِي خُفّاً وَيُمْسِكُ خُفّاً))[38]
كما تعلمت من الإمام الحسين (عليه السلام) حيث حشا فمَ معلّم ابنه سورة الحمد، درّاً وزاده ألف دينار وألف حلة إذ روي: ((إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ عَلَّمَ وَلَدَ الْحُسَيْنِ الْحَمْدُ فَلَمَّا قَرَأَهَا عَلَى أَبِيهِ أَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَ حُلَّةٍ وَحَشَا فَاهُ دُرّاً))[39].
3- وجعلتها هبة معوضة، كي لا تكون قابلة للفسخ، فربما ادعى بعض ذلك، وذلك رغم علمها بأن الهبة لذي الرحم لازمة وأن الهبة المعوضة لازمة إلا انها زادت تأكيداً على اللزم بإشارتها إلى (وقد تصرف كل منهم) كي يحرز القبض وربما أشارت إلى تحقق السبب الآخر للزوم الهبة وهو التصرف المغيّر، وربما كان ذلك كله مع لحاظ فتاوى العامة، كي تكون الهبة لازمة على كل الأقوال.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين