الضوابط الخمسة لتأويل الآيات القرآنية
(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (8)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-12-06 08:14
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
الحديث يدور بإذن الله تعالى حول ضوابط التأويل السليم الصحيح الجائز شرعاً، وقد مضت مجموعة ضوابط وسنسلط الأضواء في هذا البحث على ضوابط خمسة أخرى:
أولاً: ان لا يخالف التأويل ظواهرَ الكتاب العزيز، بأن لا يتضاد الباطن المدعى استكشافُه مع الظاهر ولا يتناقض ولا يتخالف بوجه من الوجوه، بل وفوق ذلك يجب أن يتناسب الباطن، بوجهٍ ما، مع الظاهر.
ثانياً: أن يتناسب الباطن مع الظاهر بمناسبة قريبة، ولا تكفي المناسبة بوجه ما التي ذكرت في الضابط الأول.
ثالثاً: أن تكون هنالك قرينة عقلية أو نقلية أو عرفية على دلالة الظاهر على ذلك الباطن، واستعمال اللفظ في معناه الظاهر وفي معناه الباطن بقرينة عليه أو على الانتقال منه إليه(1) أو على التكنية به عنه أو التجوز به.
رابعاً: أن يتناغم التأويل مع المنظومة القرآنية العقدية، القِيمية، الحقوقية، الثقافية، الأخلاقية والأحكامية...
خامساً: أن لا يكتفى بالتطابق الاتفاقي بين الباطن المدعى وبين بعض القواعد الكلية الدارجة في علوم أخرى، كحساب الأبجد مثلاً.. فذلك هو الإجمال وأما تفصيل هذه الضوابط مع ذكر بعض الشواهد.
أ- ان لا يخالف التأويل ظواهر الكتاب
الضابط الأول: ان لا يخالف التأويلُ ظواهرَ الكتاب الحكيم، وذلك لأن الظواهر هي الحجة إذ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ) (سورة إبراهيم: الآية 4) فلو خالفها التأويل والباطن المدعى لما كان حجة بل لما كان جائزاً إذ يستلزم طرح الظاهر الحجة شرعاً، بظنٍّ لا حجية له (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (سورة يونس: الآية 36، وسورة النجم: الآية 28).
ولنمثل له بمثالين: أحدهما من بعض علماء الخاصة والثاني من بعض أهل التصوف.
(الصيد) هو: النِّعم المعنوية وهداية المخالفين
المثال الأول: ما جاء في المقدمة المطبوعة أول تفسير البرهان، والمقدمة هي لأبي الحسن بن محمد طاهر العاملي النباطي الفتوني، حيث أوّل (الصيد) بمعنى يتخالف جداً مع ظاهر الآية الكريمة، قال: (الصيد – هو الحيوان الممتنع، ولم يك له مالك قبلُ، ولم يك حراماً أيضاً ولعله مأخوذ في عرف أهل الشرع هذا، ولعله يمكن تأويله والله يعلم بحسب تناسب المعنى العرفي وورد تأويل أشباهه من المنافع والمكاسب، بالمنافع والنعم المعنوية كالعلوم وأمثالها أو المنافع التي اعتبرها الله وأحلّها لأوليائه، وربما أمكن تأويله أيضاً المتناسب كونه بالنسبة إلى الوحوش هداية أصناف المخالفين بل بقتلهم أيضاً فافهم والله يعلم)(2).
المناقشة:
أقول: كلا التأويلين (الصيد بمعنى المنافع والنعم المعنوية والمنافع المحلّلة، وبمعنى هداية أصناف المخالفين) لا مساغ لهما بالمرة إلى الآيات الكريمة الواردة في الصيد فلاحظ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) (سورة المائدة: الآية 94-95) والآية الكريمة ظاهرة الدلالة على أن الكلام عن الـمُحرِم وان الصيد عليه محرّم، ولا يمكن بوجه أن يؤول (لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) بـ(لا تقتلوا المخالف وأنتم حرم، فإذا حللتم فلكم قتله!) كما لا يمكن تأويل (لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) بـ(أهدوا المخالفين) وإذا كان معناها الأخير فكيف حُكِم عليه بانه معتدٍ وانّ له العذاب الأليم (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)؟ وكيف قرّرت عليه الكفارة وقال تعالى: (لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) وان (من عاد فينتقم الله منه)؟ وكيف عُبِّر في الآية الأولى بـ(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إذا كان المراد به هداية المخالف أو إفاضة النعم المعنوية كالعلوم أو المنافع الأخرى، وكيف يعبّر حينئذٍ بالرماح إلا أن يتجوّز فيها بتجوز بارد هو أن يراد رماح الفكر والبرهان! أليس ذلك من اسوأ أنواع التفسير بالرأي؟
(هِيَ عَصَايَ) يراد بها ثعبان النفس!
المثال الثاني: ما جاء في تفسير غرائب القرآن لمؤلفه نظام الدين النيسابوري، قال: (التأويل: (فَظَلَمُوا بِها) بأن جعلوها سحراً فوضعوها في غير موضعها (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لأني قائم بحقائق الجمع فانٍ على الخلق وآثار التفرقة (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله (هِيَ عَصايَ) (طه: ١٨) ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل: (أَلْقِها يا مُوسى) (طه: ١٩) (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية)(3).
مخالفة هذا التأويل لنص القرآن الكريم
وهو تأويل باطل مخالف لنص القرآن الكريم فلاحظ الآيات التالية في سورة الأعراف: (قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (سورة الأعراف: الآيات 106-120).
وفي سورة الشعراء (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (سورة الشعراء: الآيات 27-51).
والآيات الكريمات في كلتا السورتين صريحة في ان الكلام عن السَّحَرة وإلقائهم عصيهم وانهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.. ثم إلقاء موسى (عليه السلام) عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون.. وان السحرة عندما رأوا هذه المعجزة البيّنة أسلموا، كما هو صريح بان عصاه صارت ثعباناً مبيناً عندما ألقاها... وكيف تكون النفس عندما يلقيها ثعباناً مبيناً يراه فرعون والسحرة، فيرهبهم ويخوّفهم ويخلع افئدتهم؟!.. ثم انهم قالوا (إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فهل المعنى اما أن نلقي أنفسنا أو تلقي نفسك!! و(قَالَ أَلْقُواْ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) وهل سحروا عين الناس بإلقاء أنفسهم خارج أبدانهم مثلاً (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) وهل أكلَتْ نفسُ موسى أنفسَ السحرة أو عِصيَّهم؟!
خمسة أجوبة عن أن المراد بـ(هيَ عَصَايَ) أي نفسي
والغريب استدلاله بما هو أوهن من بيت العنكبوت إذ يقول ما حاصله: (فالمقصود من الثعبان في هذه القصة هو ثعبان النفس؛ لأنّه أضاف العصا إلى نفسه في قوله (هِيَ عَصَايَ)، ويُعلم منه أنّ كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنّه ثعبان يبتلعك، لذلك قال له: (أَلْقِهَا يَا مُوسَى)، أي ألقِ عصا النفس)(4) إذ يرد عليه:
أولاً: ان المشبّه به خطأً إذ (هِيَ عَصَايَ) في قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) (سورة طه: الآيات 17-21) من البديهي لأي عارف باللغة من أي دين كان بل حتى لو جاء من المريخ فرضاً، انّ المراد بها العصا المعهودة وهي التي يتوكأ عليها الإنسان حين المشي ويهشّ بها الراعي على غنمه.
ثانياً: قوله تعالى: (قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى) وهل ألقى نفسه فكانت حية؟
ثالثاً: انه استدلال بالأعم على الأخص لأن إضافة العصا إلى نفسه (هِيَ عَصَايَ) كما تصح في عصا النفس (كما قال) كذلك تصح في العصا المادية إذ تقول (عصاي) فأية دلالة للإضافة، على إرادة خصوص الأول لا الثاني؟.
رابعاً: ان قوله: (ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك)(5) غاية في السخافة، إذ اختلق هذا المفسر قاعدة كلية وبحسبها فانك لو قلت (هذا القرآن قرآني) كان معناه ان هذا القرآن ثعبان يبتلعك! أو قلت النبي (صلى الله عليه وآله) نبيي وإمامي أو الكعبة قبلتي أو هذا الولد ابني... كان معنى ذلك ان الكعبة وابنك و... ثعبان يبتلعك!!
خامساً: لو فرض ان (هِيَ عَصَايَ) أريد بها عصا النفس، لقرينةٍ خاصةٍ فرضاً على ذلك في هذه الآية من سورة طه لكن ذلك لا يصلح قرينة على إخراج لفظة أخرى هي (الثعبان) في آية أخرى في سورة أخرى، عن معناه الموضوع له إلى المعنى المجازي؛ لوضوح ان الألفاظ تبقى مطلقاً على معناها الحقيقي فإذا خرج أحدها في جملة ما إلى المجاز لقرينة ما، فانه لا يصح ان يقال ان هذه اللفظة كلما وردت يراد بها المجاز وإن لم ترد قرينة على أي منها إلا في هذا المورد!
ب- ان يتناسب الباطن مع الظاهر مناسبةً قريبة
الضابط الثاني: ان يتناسب الباطن المؤول إليه مع الظاهر بمناسبة قريبة، إذ كيف يُؤوّل إلى معنى لا يتناسب معه بمناسبة قريبة ولا يدل عليه الظاهر مع أن الألفاظ جسور المعاني؟.
تأويل تحصين الفرج بقبول الولاية!
ومنه يظهر ان ما ذكره في مقدمة تفسير البرهان في تأويل (الفرج) باطل تماماً، قال: (الفرج – بسكون الراء مفرداً وجمعاً هو معروف وقد مر في الأُذن ما يدل على أن الله تعالى فرض الايمان على جميع جوارح الإنسان، ولا يخفى أن منها الفرج فعلى هذا ربما أمكن تأويل تحصينه وحفظه ونحو ذلك بقبول الولاية وترك إبرازه واستعماله فيما لم يرض له الله به وما نهى الله عنه مع التمسك بالولاية ولهذا بينا في الجلود ان شهادتها على صاحبها لأجل ترك الولاية لأن الجلود فسرت في بعض المواضع بالفروج ثم في تفسير القمي معنى قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) (سورة الأنبياء: الآية 91) أن أحداً لم ينظر إليها فتأمل(6))(7)
المناقشة
أقول: الآيات الواردة فيها لفظة الفرج متعددة ومنها: (وَالْحافِظينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) (سورة الأحزاب: الآية 35) و(وَالَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) (سورة الأنبياء: الآية 91) و(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (سورة المؤمنون: الآيات 5-7) و(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ) (سورة النور: الآية 31).
وهي مما لا يمكن تفسيرها بقبول الولاية وهل يعقل تفسير (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ) بأن المراد (والذين هم حافظين لفروجهم بقبول ولاية الإمام (عليه السلام) إلا على أزواجهم...)؟.
وذلك إضافة إلى كونه بعيداً عن الذوق السليم جداً بل ومستقبحاً لدى أي متشرِّع بل أي إنسان سوي، من التفسير بالرأي، وأما شواهده فلا اشعار فيها فكيف بالتأييد وكيف بالدلالة؟ فإن وجودَ فرضٍ على الجوارح ومنها الفرج كيف يكون دليلاً على ان المراد بالفرج في الآية هو قبول الولاية؟ انه لأقبح من التمسك بالأعم لإثبات الأخص، وتفسير الجلود بالفروج في بعض المواضع لو صح فأي ربط له بتفسير الفروج في آيات أخرى بقبول الولاية(8)!!
ج- أن تكون هنالك قرينة على الباطن
الضابط الثالث: أن تكون هنالك قرينة عقلية أو نقلية أو عرفية على البطن المدعى تأويل الظاهر به؛ إذ كيف يكون لغير مَن نزل القرآن في بيوتهم أن يُؤوّلوا الآية بما لا يدل عليه الظاهر من دون قرينة عليه؟.
تأويل (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)، بِحِكَمِ الأئمة (عليهم السلام)
ومنه يظهر بطلان ما جاء في مقدمة البرهان (وقد ورد في سورة الواقعة: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (سورة الواقعة: الآية 34) وسيأتي هناك التفسير بالجور وبغيرها وقد بيّنا في الوجه الرابع من الفصل الثالث من المقالة الأولى من المقدمة الأولى، احتمال تأويلها بما يتلذذ به المؤمن في الدنيا من حِكَم الأئمة وآدابهم ونحو ذلك، ويؤيده ما سيأتي في اللباس، وعلى هذا ربما أمكن إجراء هذا النوع من التأويل فيما ورد في غير تلك السورة أيضاً وإن كان بمعنى ما يفرش والله يعلم)(9).
المناقشة
أقول: حتى مجرد الاحتمال لغوٌ لا وجه له، بل هو باطل، فكيف بان يدوّن في كتاب؟، فلاحظ الآيات كلها (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ * وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) (سورة الواقعة: الآيات: 27-42).
فالآيات كلها، مورداً وسياقاً وظهوراً عرفياً بل نصاً، عن الجنّة ونعيمها فكيف تؤول الفُرُش المرفوعة بـ(حِكَم الأئمة (عليهم السلام) وآدابهم)! هذا ولم نجد فيما ذكره في الوجه الرابع من الفصل الثالث من المقالة الأولى، مؤيداً لمدعاه.
بل نقول: ان استشهاده باللباس غريب إذ لو فرض ان اللباس ورد بمعنى لباس العلم أو انه جاء مع قرينة صريحة في (وَلِباسُ التَّقْوى) (سورة الأعراف: الآية 26) فأي ربط له بالفرش المرفوعة، ليقال بالتجوز فيها أيضاً أو التكنية بغير ظاهرها من دون قرينة لمجرد ان لفظة أخرى (اللباس) أريد بها معنى آخر بقرينةً؟.
بل الآيات الأخرى في اللباس تدلنا على إبقائه على معناه الظاهري فلاحظ (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (سورة الأعراف: الآية 26) و(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (سورة الأعراف: الآية 27) و(هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ) (سورة البقرة: الآية 187) و(وَلِباسُهُمْ فيها حَريرٌ) (سورة الحج: الآية 23).
د- أن يتناغم التأويل مع المنظومة القرآنية
الضابط الرابع: أن يتناغم التأويل مع المنظومة المعرفية، القيمية، الأخلاقية، الثقافية، الأحكامية، التي جاء بها الدين الحنيف والقرآن الكريم، ولا يتعارض معها.
تفسير الاشتراكيين للدنيا والآخرة بالرأسمالية والاشتراكية!
فعلى سبيل المثال: فسّر بعض الحداثويين من الاشتراكيين بعض الآيات التي تتحدث عن الدنيا كـ(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى في خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ) (سورة البقرة: الآية 114) و(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ) (سورة البقرة: الآية 130) و(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (سورة البقرة: الآية 200) فسّرها (أو أوّلها) بالرأسمالية لكونها رأسمالية جشعة، أنانية، بشعة، حقيرة، تعتبر الطمع والجشع محور الكون والحياة! فالرأسمالية إذن هي المراد من (الْحَياةَ الدُّنْيا) في الآيات القرآنية!
وأوّل بعضهم (أو فسّر) الآيات التي تتحدث عن الآخرة كـ(وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (سورة البقرة: الآية 4) (أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (سورة البقرة: الآية 86) و(إِنَّ الَّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ) (سورة آل عمران: الآية 77) بالاشتراكية(10) باعتبار كون الاشتراكية هي الحياة العليا وهي الآخرة التي ينتهى إليها مسار البشرية حركتها التكاملية الصاعدة!
وهو تفسير بالرأي دون ريب، كما انه ليس بأولى من التفسير بالعكس من ذلك تماماً لمن يدين بالرأسمالية ويعتبرها أسمى مراحل التطور الإنساني!!.
وتفسيرهم للغيب بمراحل الثورة الكمية – الكيفية!
كما فسّر بعضهم عموم الآيات التي تتحدث عن الغيب كـ(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (سورة البقرة: الآيات 1-3) بأن المراد من الغيب هو المراحل الأولية لنضج الثورة التوحيدية، والزمن الذي تحصل فيه التحولات الكمية التي تنتهي في نقطة ما إلى التحولات الكيفية(11)!!.
ومن الواضح لكل من قرأ القرآن الكريم ان الدنيا والآخرة والغيب وما أشبهها من المفردات، كلها تدور ضمن المنظومة القرآنية والإسلامية العامة التي تتحدث عن الدين والآخرة والغيب بالمعنى المعهود في كل الأديان، وليس بهذه التفسيرات التي لم تخطر على بال بشر!
هـ - ان لا يستند التأويل إلى استقراء ناقص
الضابط الخامس: أن لا يكون التأويل مستنداً إلى الاستقراء الناقص وصِرف التطابق أحياناً بين جملة قرآنية وبين معادلة كمعادلة أعداد الحروف الأبجدية، فانه لا يصح تأويل سائر الآيات عبر اعتماد نفس المعادلة، بل حتى الآية نفسها فانه لا يصح تأويلها بذلك العدد، إذ (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (سورة يونس: الآية 59) وهل وردت رواية تصحِّح الاعتماد على تفسير القرآن كله بحسب حسابات حروف الأبجد الصغير أو الكبير!(12)
فمن ذلك مثلاً ما ذكره في البرهان في علوم القرآن من ان قوماً تنبأوا بحدوث الزلزال في عام 702 استناداً إلى الآية (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (سورة الزلزلة: الآية 1) وإليك نص ما جاء في البرهان في علوم القرآن (وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى: (قَالَ إني عبد الله آتاني الكتاب) إلى قوله: (أبعث حيا) ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةً وَعُمُرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ النَّاسُ زَلْزَلَةَ عَامِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ من قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض) فَإِنَّ الْأَلْفَ بِاثْنَيْنِ وَالذَّالَ بِسَبْعِمِائَةٍ، وَكَذَلِكَ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَخْلِيصَهُ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ بحساب الجمل وغير ذلك)(13).
الاستدلال بآيات التفكر في القرآن
ولكنْ قد يعترض على ذلك كله بان القرآن الكريم هو الذي دعانا إلى التفكير والتدبر، ونحن إنما ننطلق من هذه الدعوة القرآنية الصريحة، لنستبطن القرآن ونكتشف بطونه وتأويلاته عبر عملية التفكير والتدبر؟
الجواب: مساحات التفكير أربعة، وليس الباطن منها
ولكنَّ هذا الاستدلال ضعيف باطل، إذ التفكير له مساحات أربع ولا غير (وأما التدبر فسيأتي)، وقد ذكر العلماء المساحتين الأوليين منها فيما أضفنا المساحتين الثالثة والرابعة.
والمساحات هي:
الأولى: التفكير في الدلائل (أي الأدلة على الشيء أو ما يدل عليه الشيء).
الثانية: التفكير في الآيات الكونية الواقعية والمشاهدة.
وهذان هما اللذان ذكرهما عدد من العلماء، ومنهم أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية وغيره قال: (أَن التدبر تصرف الْقلب بِالنّظرِ فِي العواقب والتفكر تصرف الْقلب بِالنّظرِ فِي الدَّلَائِل)(14). وقال بعضهم:
- التفكر أظهر في النظر في الآيات الكونية الواقعة والمشاهدة / أما التدبر فأظهر في النظر في الآيات القرآنية.
وعليه: فالتفكير في الدلائل والآيات الكونية المشاهدة هو المطلوب لا التفكير في البطون.
الثالثة: التفكير في المستقلات العقلية، باعتبار أن الآيات الكريمة منبّهة عليها، فهذا ولاحقه وما سبقهما هو الذي دعا إليه القرآن الكريم عند الأمر بالتدبر في آياته، وأين ذلك من التفكير في البطون؟.
الرابعة: التفكير في العِبَر والمواعظ المستفادة من الآيات القرآنية.
استقراء كامل لآيات التفكر في القرآن الكريم
ويكفي شاهداً على ذلك التفكير والتدبر في الآيات القرآنية التي وردت فيها مفردة التفكير بتصريفاتها:
- (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ) (سورة سبأ: الآية 46) فيتفكروا ليفهموا ويدركوا أمراً مشاهداً واضحاً من دائرة الحدس القريب من الحس وهو انه (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ويتعظوا بذلك ويدركوا حقانية رسالته.
- (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فيهِما إِثْمٌ كَبيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة: الآية 219) فهو تفكر في المستقلات العقلية (أن ينفق الإنسان العفو والفضل فانه إحسان مستحسن عقلاً دون ريب) وهو تفكر في بديهة عقلائية (ان الخمر والميسر فيهما إثم كبير.. إلخ).
- (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة: الآية 266) فهذا المثل يراد به الموعظة التي تُنال بالتفكر.
- (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (سورة الأنعام: الآية 50) فهو تفكر في مستقل عقلي (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصيرُ) وفي حقيقة تكوينية (أن النبي والرسول لا يملك من لدنه شيئاً بالذات، بل إنما هو رسول يتبع ما يوحى إليه).
- (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (سورة الأعراف: الآيات 182-184) وهو تفكر في أمر تكويني من دائرة المشاهدات أو الحدس القريب من الحس انه (صلى الله عليه وآله) ليس بمجنون كما إتهموه.
- (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (سورة الروم: الآية 8) وهو تفكر في الدلائل والمستقلات العقلية إذ الأثر يدل على المؤثر ونوع الأثر وخصوصياته تدل على مديات علم المؤثر وقدرته وحكمه.
- (الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ * رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمينَ مِنْ أَنْصارٍ) (سورة آل عمران: الآيتان: 191-192) وهي صريحة في التفكر في التكوينيات والدلائل.
- (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الأعراف: الآية 176) وهي ظاهرة في الأمر بالتفكر ليكون موعظة لهم ومزدجراً.
- (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة يونس: الآية 24) وهي كسابقتها تماماً.
- (وَهُوَ الَّذي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الرعد: الآية 3) وهي تكوينيات ومشاهدات ودلالات من دائرة المستقلات العقلية.
- (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة النحل: الآيات 10-12) وهي في الدلائل والآيات الكونية.
- (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة النحل: الآيتان 43-44) وهو تفكر في (الذِّكْر) المذكر بموعظة أو بمستقل عقلي أو سمع قطعي، كما انه مع بيان الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو الضابط الذي فصّلناه في درس سابق. فتأمل
- (ثُمَّ كُلي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة النحل: الآية 69).
- (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (سورة الروم: الآيات: 20 – 23).
- (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حينَ مَوْتِها وَالَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الزمر: الآية 42).
- (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الجاثية: الآيتان: 12-13).
وكلها من دائرة التفكير في الآيات الكونية الواقعة والمشاهَدة والدلائل، ومن ثمَّ كونها منبهات على مستقلات عقلية ومواعظ وزواجر إلهية.
- (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (سورة الحشر: الآية 21) فيصلوا بالتفكير إلى دلائل التوحيد ويتعظوا فيؤمنوا بالله الواحد الأحد فيأمنوا بذلك غضبه وأليم عقابه.
وفي تفسير تبيين القرآن: (فإن ذرات الكون كلها شاعرة ، لكن بقسم آخر من الشعور لا مثل شعور الإنسان والحيوان (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهذا توبيخ للإنسان كيف لا يخشع للقرآن (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون، والمراد بتلك الأمثال، هذا المثل وغيره مما ذكر في القرآن)(15).. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين