فريق الخاسرين و فريق الرابحين
ان الانسان لفي خسر (9)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-06-25 07:11
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(1).
قال جل اسمه: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(2).
وفي هذه الآيات الكريمات بصائر لأولي الألباب:
الناس فريقان
البصيرة الأولى: الناس كلهم فريقان: فريق الخاسرين والهالكين والفاشلين والضالين، وفريق الرابحين والناجين والناجحين والمفلحين.
الأصل فريق الخاسرين!
البصيرة الثانية: ان الأصل في الإنسان هو ان يكون من فريق الخاسرين، والاستثناء ان يكون من فريق الرابحين ولذا صيغت الآيات الكريمة بهذه الصياغة (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) فقد حُمِل الخسرُ على الكلي الطبيعي وهو الإنسان، دلالةً على ان مقتضى طبعه ونوازع نفسه، أو مقتضى طبع الأمور ومتطلبات الحياة الدنيا، أو مقتضى القاعدة العامة، أو مقتضى مجموع ذلك هو ذلك، ويؤكده قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(3) (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(4) (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(5) وفي المقابل فان من الاستثناء ان يكون الإنسان من فريق الرابحين (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
سورة العصر دليل جديد على أصالة الاحتياط
البصيرة الثالثة: ويستنبط من ذلك دليل جديد يؤسس لأصالة الاحتياط عقلاً وشرعاً، فان أصالة الاحتياط العقلية تستند إلى خمس مباني ومسالك منها مسلك حق الطاعة ومنها حق المملكة ومنها حق المملوكية ومنها الاستحقاق الذاتي، وقد فصّلنا ذلك في مباحث الأصول، والاحتياط الشرعي يستند إلى آيات وروايات ومنها ((أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ))(6).
ويمكن ان نضيف إلى قائمة الأدلة، هذه الآيات الكريمة من سور العصر: فانه إذا كان الأصل في الإنسان الخسران، وجب عليه الاحتياط.. كلا.. بل أشد الاحتياط، وذلك كمن يسير في مسبعة أو مذئبة أو في أرض مليئة بالعقارب والأفاعي، فان ذلك هو حال من يعيش في هذه الحياة الدنيا لما تحدق به من مخاطر وما تحتوشه من معاصي وما تواجهه من مزالق ومهاوي، ولذا فان عليه ان يكون حَذِراً أشد الحَذَر، عكس من يسير في أرض مستوية لا توجد فيها مطبات أو حفر أو أوتاد أو حواجز أو أي نوع من المخاطر، فان له ان يمشي آمناً مطمئناً من غير ان يوجد داعٍ لأن يأخذ حذره..
فإذا كان مقتضى طبع الإنسان ان يندفع نحو الهاوية والخسران.. أو إذا كان طبع الدنيا ان تجرّه باتجاه المستنقعات والوديان أو إذا كانت القاعدة العامة ذلك، فان العقل والنقل يتعاضدان على وجوب الحذر والاحتياط، أما العقل فلوجوب دفع الضرر البالغ المحتمل فكيف بالمظنون؟ وأما النقل فلظاهر الحكم والتحذير في الآيات الشريفة. فتأمل
وهي دليل على إبطال شبهة الجبر
البصيرة الرابعة: ان الآيات الكريمة تعد من الأدلة على إبطال الجبر وعلى ان الإنسان حرّ مختار وانه يجازى على عمله وسوء اختياره بقرارٍ منه يتخذه لا بجبر جابر ولا بقسر قاسر وذلك صريح قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فان الخسران ليس قدراً مفروضاً على الإنسان بل له ان يتخلص منه بالإيمان والعمل الصالح.
لا يقال: الإيمان أمر غير اختياري؟
إذ يقال: بل هو اختياري ولذا قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(7) ويدل عليه أيضاً ان الإيمان عقد القلب، وهو اختياري ولذا قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدينَ)(8).
وبذلك كله نصل إلى ان الإنسان يمتلك تقرير مصيره بنفسه إن خيراً فخير أو شراً فشرّ.
قصة التاجر الذي اعتدى ثم استحى ثم اعترف
وفي ذلك يقول الشاعر الحكيم:
يَا من عدى ثمَّ اعْتدى ثمَّ اقْتَرَف---ثمَّ استحى ثمَّ انْتهى ثمَّ اعْترف
أبشر بقول الله فِي آيَاته---إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف
وقوله (عدى) لأن المأساة الكبرى هي ان الإنسان كثيراً ما يعدو نحو الشر ويركض نحوه كأشد ما يكون الركض، حتى يبدو كأنه لا ينتظر حتى إشارة من الشيطان.. لينظر إلى الأجنبية أو يكذب أو ينمّ أو يتهم أو يختلس أو يسرق أو يحتال أو يرتشي (ثمَّ اعتدى) على الحرمات (ثمَّ اقترف) الخطيئات، لكنه حيث كان حراً مختاراً أمكنه ان يغيّر اتجاهه فاستحى من رب العباد المحيط بكل حركة وسكنة وشاردة وواردة ونظرة وخطْرة وغمزةٍ ولمزةٍ وفكرة وخطوة وغيرها (ثمَّ انتهى) عن المعاصي وأقلع (واعترف) لربه بجرمه وخضع وخشع وبخع.
ولهذين البيتين من الشعر قصة رائعة معبّرة:
فقد نقل ان رجلاً من كبار أهل البصرة كان أهل فسق وفجور وخمرة ولهو ولعب وطرب، وانه كان مسافراً إلى بلدة بعيدة، فرأى في السوق جارية جميلة معروضة للبيع فسأل عنها فقالوا اسمها حُسن وانها تجيد الضرب على العود والغناء، فاشتراها فرحاً جذلاً.. وعندما أراد العودة ركب السفينة واتجه نحو البصرة.. وعندما حلّ الظلام أمر ان تُحضَر بعض دِنان الخمر فوزعها على ركاب السفينة ثم أمر الجارية بان تغني وتضرب بالعود وترقص وتطَرب وتُطرِب.. ولكن هذا الرجل استوقفه وجود شاب منعزل عنهم في آخر السفينة مشغول بفِكرته وعَبرته.. وحيث ان الشيطان غوي قوي لئيم لذا فانه لا يرضى بنجاة حتى الواحد من حبائله ومكائده وشروره.. لذا وسوس إلى الرجل لكي يذهب نحو الشاب ويدعوه بإصرار شديد ليشاركهم الغناء والطرب واللهو واللعب.. فجاء إليه مسرعاً ودعاه إلى ذلك الحفل الجهنمي.. لكن الشاب رفض بقوة وقال له: ان عندي ما هو أفضل وأجمل وأحلى من غنائك وطربك ولهوك ولعبك، فقال البصري متعجباً وما هو؟ قال: فاستمع.. ثم تلى عليه بصوت شجيّ: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَليلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتيلاً * أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ...)(9) ولقد نزلت الآيات الكريمة على البصري كالصاعقة فارتجف بشدة وسالت دموعه على خديه ثم طلب من الشاب ان يزيده.. فتلى عليه الشاب: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)(10) وهنا تغيّر البصري تماماً فأسرع نحو دِنان الخمر وأمر برميها في البحر وأمر الجارية بالحجاب.. ثم رجع إلى الشاب منكسراً نادماً وقال له هل لديك من مزيد؟ ولقد كان الشاب حكيماً إذ رأى حالته فاختار آيات من نوع آخر تتناسب مع حالته الجديدة فتلى قوله تعالى: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ)(11) وعندما سمعها البصري ارتجف بشدة وجعل يكرر بعض الآيات حتى أغمي عليه.
وهكذا تفعل المواعظ البالغة بأهلها.. قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)(12).
والآن.. ونحن في أي موقع كنا: في موقع الحاكم أو المحكوم.. الزوج أو الزوجة.. الأب أو الأبناء.. رئيس الشركة أو الموظفين.. المعلم أو التلاميذ.. علينا ان نضع سورة العصر أمام ناظرينا وأن نتوب إلى بارئنا إن كنا قد اجترحنا ظلماً أو ارتكبنا جرماً أو تجرأنا على أية معصية من معاصي رب العالمين.
هل تختص دائرة عمل الصالحات بالصوم والصلاة؟
البصيرة الخامسة: ان الكثير من الناس عندما يسمع قوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وأمثالها، ينصرف ذهنه إلى الصلاة والحج والصوم وما أشبه ذلك.. ويتأكد هذا الفهم لديه عندما يقرأ مثل الرواية التالية: ((عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ وَتَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ)، قَالَ: «اسْتَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ حَيْثُ قَالَ: (إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بِوَلاَيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عليه السلام) (وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ) أَيْ أَدَّوْا الْفَرَائِضَ (وَتَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ) أَيْ بِالْوَلاَيَةِ (وَتَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ) أَيْ وَصَّوْا ذَرَارِيَّهُمْ وَمَنْ خَلَّفُوا مِنْ بَعْدِهِمْ بِهَا وَبِالصَّبْرِ عَلَيْهَا»(13) ))(14) حيث يجد الإمام (عليه السلام) يفسر: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بـ(أَدَّوْا الْفَرَائِضَ) ويتصور هذا التفسير من باب التحديد والحصر أو يتصور الفرائض خاصة بمثل الصلاة والصوم.
مواساة الإخوان من عمل الصالحات
ولكنّ الصحيح ان عمل الصالحات كما يتجسد في الصلاة والصوم والحج ونظائرها، كذلك يتمثّل في زراعة الأشجار والنخيل وإطعام الجياع وتمريض العليل، وتكفل الأيتام والمساكين ومواساة الإخوان والمؤمنين.. وقد ورد التصريح بالأخير في رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) ((فعَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَأَلْتُ الصَّادِقَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ(عليه السلام)، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ)، فَقَالَ (عليه السلام): « (الْعَصْرُ): عَصْرُ خُرُوجِ الْقَائِمِ (عليه السلام) (إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَفِي خُسْرٍ) يَعْنِي أَعْدَاءَنَا، (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [يَعْنِي] بِآيَاتِنَا (وَعَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ) يَعْنِي بِمُوَاسَاةِ الْإِخْوَانِ (وَتَوٰاصَوْا بِالْحَقِّ) يَعْنِي بِالْإِمَامَةِ (وَتَوٰاصَوْا بِالصَّبْرِ)، يَعْنِي فِي الْعُسْرَةِ(15)» ))(16) فكما ان أداء الفرائض من عمل الصالحات فكذلك مواساة الإخوان في المطعم والملبس والمركب والمسكن وغير ذلك.
وغرس الأشجار والنخيل من عمل الصالحات
بل ان صريح العديد من الروايات ان أمثال تلك الأعمال (الإطعام، الزراعة.. الخ) تستوجب المثوبة الإلهية.. وانها عبادة.. فلاحظ الروايات التالية:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ((سَبْعَةُ أَسْبَابٍ يُكْتَبُ لِلْعَبْدِ ثَوَابُهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ: رَجُلٌ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ حَفَرَ بِئْراً، أَوْ أَجْرَى نَهَراً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ كَتَبَ مُصْحَفاً، أَوْ وَرِثَ عِلْماً، أَوْ خَلَّفَ وَلَداً صَالِحاً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ))(17).
فغرس النخيل وزراعة الأشجار وحفر الآبار وإجراء الأنهار، إلى جوار الأربعة الأخيرة في الرواية، عبادةٌ يستحق الإنسان عليها الأجر والمثوبة.. ولو اننا كعلماء ورواة ومحدثين ورساليين حدثنا الناس عن ذلك كله على المنابر، وفي الجرائد والمجلات، وفي صفوف الدراسة الجامعية وفي المؤتمرات والندوات.. لصنعنا ثقافة إسلامية – اقتصادية تنتشل البلاد من الخراب والأراضي من اليباب والناس من الفقر.. ويكفي ان نعلم، وكما سبق في مجلس آخر، ان نسبة 4% من أراضي العراق الزراعية تتصحّر سنوياً وتتحول إلى أراضي جرداء عارية عن الأشجار والمزروعات.. وتصوروا المأساة العظمى فيما لو استمرت هذه النسبة وتضاعفت على امتداد السنين.. مما يستجلب قلة المعروض من المنتجات والمحاصيل الزراعية وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة الفقر وزيادة العواصف الترابية بشكل مذهل.
وفي الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أَسْمَعُ قَوْماً يَقُولُونَ إِنَّ الزِّرَاعَةَ مَكْرُوهَةٌ، فَقَالَ لَهُ: ازْرَعُوا وَاغْرِسُوا فَلَا وَاللَّهِ مَا عَمِلَ النَّاسُ عَمَلًا أَحَلَّ وَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ، وَاللَّهِ لَيَزْرَعُنَّ الزَّرْعَ وَلَيَغْرِسُنَّ النَّخْلَ بَعْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ))(18).
وعن يزيد بن هارون قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ((الزَّارِعُونَ كُنُوزُ الْأَنَامِ يَزْرَعُونَ طَيِّباً أَخْرَجَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُ النَّاسِ مَقَاماً وَأَقْرَبُهُمْ مَنْزِلَةً يُدْعَوْنَ الْمُبَارَكِينَ))(19).
العملاق الذي زَرَع مليوني شجرة، وألفي هكتار!!
ويكفي ان نعلم ان أحد المؤمنين من ذوي الهمم العالية(20) عكف على زراعة الأشجار بعزم راسخ لا نظير له، حتى زرع طوال سبعين سنة، مساحةً بلغت ألفي هكتار، والهكتار عشرة آلاف متر، مما يعني عشرين مليون متر مربع! وذلك في منطقة كامفيروز – مرو دشت واسم قريته التي يسكن فيها دِه كهنه، كما ان شخصاً آخر زرع بمساعدة أهله مليوني شجرة!!
ولكي نتصور عظمة إنجازه علينا ان نستحضر ان مسافة النجف الأشرف إلى البصرة تقارب الخمسمائة كيلو متراً(21)، (والمسافة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة 439 كيلو متراً حسب بعض الطرق و385 كيلو متراً تقريباً حسب الخط المباشر)، وان زراعة مليوني شجرة تعني انه زرع كامل المسافة من النجف إلى البصرة بفاصل خمسة أمتار بين كل شجرة وأخرى – فرضاً – وبواقع عشرين شجرة عرضاً (والتي تمتد على عرض مائة متر) مما يعني انه حوّل مساحة ضخمة كهذه (مائة متر عرضاً تضرب في خمسمائة كيلو متر طولاً) إلى بستان فريد.
وفي البرازيل قامت عائلة سالگادو بدءً من عام 1997 حتى الآن بزراعة مليوني شجرة كما وأسست مؤسسة تكفلت بمضاعفة الجهد حتى زرعت عشرين مليون شجرة!!.
ولو ان كل شخص مسلم زرع خمسة أشجار لَتَحوَّلت بلاد المسلمين إلى جنة.. فما بالك لو زرع كلٌّ منا، ولو عبر التمويل أو التشجيع، مائة شجرة أو ألف شجرة أو أكثر!
وإطعام الطعام وطيب الكلام وإدخال السرور
وعن عبد الله بن الفضل عن خاله محمد بن سليمان رفعه قال: ((أَخَذَ رَجُلٌ بِلِجَامِ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَإِطْيَابُ الْكَلَامِ))(22).
وعنه (صلى الله عليه وآله): ((سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: إِنْصَافُكَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُسَاوَاةُ الْأَخِ فِي اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ))(23).
وقال رسول (صلى الله عليه وآله): ((أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ تَطْرُدُ عَنْهُ جَوْعَتَهُ أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَتَه))(24).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): ((وَمَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ))(25) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): ((لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))(26)
عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((قُلْتُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))(27).
ومن المحبذ ان نستعرض أيضاً بعض الأعمال الصالحة الأخرى التي حبّذ إليها الدين الإسلامي الحنيف والتي تعتبر من الشروط لكي يخرج المرء من دائرة الخاسرين ويلحق بركب السعداء والمفلحين والناجحين.
والإقراض الخيري من عمل الصالحات
الإقراض الخيري: وقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ))(28).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((مَنْ أَقْرَضَ رَجُلًا قَرْضاً إِلَى مَيْسَرَةٍ كَانَ مَالُهُ فِي زَكَاةٍ وَكَانَ هُوَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَقْضِيَهُ))(29) وعن يونس بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ((قَرْضُ الْمُؤْمِنِ غَنِيمَةٌ وَتَعْجِيلُ أَجْرٍ إِنْ أَيْسَرَ قَضَاكَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ احْتَسَبْتَ بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ))(30).
وعلى المؤمن أن يكون عالي الهمة في كل الحقول وان يتخذ من الذين حطموا الأرقام القياسية في الإنجاز، نموذجاً يجارونه ويتسابقون معه إذ يقول تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(31).. ويكفي هنا ان نعلم ان البروفيسور محمد يونس أسس بنك غرامين للفقراء في بنغلاديش عام 1979م وانه أقرض حتى شهر يوليو من عام 2007م سبعة ملايين واربعمائة ألف شخص! بإجمالي مبالغ تصل إلى ستة مليارات وثلاثمائة وثمانين مليون دولاراً!!.
وتزويج العزاب والعازبات
تزويج العزاب: وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَا بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِنَاءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعَزُّ مِنَ التَّزْوِيجِ))(32).
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: ((وَمَنْ زَوَّجَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ امْرَأَةً يَأْنَسُ بِهَا وَتَشُدُّ عَضُدَهُ وَيَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا، زَوَّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَآنَسَهُ بِمَنْ أَحَبَّ مِنَ الصِّدِّيقِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَإِخْوَانِهِ وَآنَسَهُمْ بِهِ))(33).
وعن الإمام علي (عليه السلام): ((وَأَفْضَلُ الشَّفَاعَاتِ أَنْ يَشْفَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي نِكَاحٍ حَتَّى يَجْمَعَ شَمْلَهُمَا))(34).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((مَنْ زَوَّجَ أَعْزَبَ كَانَ مِمَّنْ يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))(35).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: ((ثَلَاثَةٌ يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّ عَرْشِ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ رَجُلٌ زَوَّجَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ أَخْدَمَهُ أَوْ كَتَمَ لَهُ سِرّاً))(36).
وذلك كله عبر تأسيس لجنة تتكوّن من الثقات المعروفين بالورع والصلاح تقوم بمهمة الوساطة بين العوائل المختلفة.. وقد قام أحد أصدقائنا وهو الحاج باقر بوردارا رحمه الله بهذه المهمة خير قيام، فقد نجح، بجهد فردي، في إيجاد حلقة الوصل بين المآت من العوائل، وزوّج، حتى قبل ثلاثين عاماً(37)، 288 شاباً وشابة!.
وتأسيس المدارس
تأسيس المدارس، ويكفي ان نعلم ان الشيخ عباسعلي الإسلامي أسّس طوال 50 سنة، ثلاثمائة مدرسة بجهود مضنية، رغم انه اعتقل عشرات المرات وحكم عليه بالإعدام تسع مرات.. وكل مرة ينقذه الله تعالى منها!
وتكفل الأيتام
تكفل الأيتام، وقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ بَنَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ مَنْ آوَى الْيَتِيمَ وَ رَحِمَ الضَّعِيفَ وَأَشْفَقَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَرَفَقَ بِمَمْلُوكِه))(38).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((مَا مِنْ مُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ تَرَحُّماً لَهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ يَدُهُ عَلَيْهَا حَسَنَةً))(39).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَمْسَحُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ تَرَحُّماً لَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِكُلِّ شَعْرَةٍ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))(40)
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَنْ كَفَلَ يَتِيماً وَكَفَلَ نَفَقَتَهُ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ (صلى الله عليه وآله) بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى))(41)
وعن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ((مَنْ عَالَ يَتِيماً حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، أَوْجَبَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) لَهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، كَمَا أَوْجَبَ لِآكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّارَ))(42) و((كَافِلُ الْيَتِيمِ وَ الْمِسْكِينِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُكَرَّمِينَ))(43).
وعنه (عليه السلام): ((كَافِلُ الْيَتِيمِ أَثِيرٌ(44) عِنْدَ اللَّهِ))(45)
وعنه (عليه السلام): ((مَنْ رَعَى الْأَيْتَامَ رُعِيَ فِي بَنِيهِ))(46).
وعنه (عليه السلام): ((مِنْ أَفْضَلِ الْبِرِّ بِرُّ الْأَيْتَامِ))(47).
ويكفي ان نعلم ان أحد الخطباء المغمورين نسبياً، وبجهود شخصية تكفل أكثر من خمسة آلاف يتيم! وانه عندما ضربت مأساة كورونا العالم وانقطع عنه مدد أكثر المتبرعين، صمد صمود الأبطال واقترض.. واقترض وطرق مختلف الأبواب وأراق ماء وجهه كثيراً في سبيل الله تعالى، حتى أمكنه الاستمرار طوال سنتي الأزمة، فلم يقطع عن عوائل الأيتام المعدمة، الرواتب الشهرية رغم كل شيء.
والتبرع بالدم
التبرع بالدم، وهناك شاب إيراني تبرع كل ثلاثة أشهر بدمه للمرضى، لمدة تزيد على الثلاث سنوات، كل سنة أربع مرات بواقع 500 سي سي كل مرة (إذ لا يسمح للرجل الصحيح بالتبرع بالدم سنوياً أكثر من أربع مرات، وللمرأة مرتان فقط).. فانقذ بذلك حياة أربعمائة شخص!!.
فهذه كلها دروس وعِبَر.. وعلينا ان نتخذ من قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) زاداً طوال مسيرتنا في الحياة، ومرشداً وهادياً ومُلهماً وحافزاً. والله المستعان الهادي إلى سواء السبيل.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين