أمن المياه في الخليج.. التعاون الإقليمي ومعوقاته السياسية والهيكلية

د. لطيف القصاب

2025-08-05 05:35

بقلم: ناصر السيد- باحث دكتوراه في جامعة "SOAS" في لندن
جون كالابريزي- باحث في معهد الشرق الأوسط (MEI)
ترجمة: د. لطيف القصاب/ مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية

في التاسع عشر من شهر حزيران الماضي أحدثت تقارير مكذوبة بخصوص ضربة إسرائيلية لمحطة بوشهر النووية الإيرانية، حالة من الذعر في منطقة الخليج.

وعلى الرغم من النفي الإسرائيلي لتلك التقارير فقد ورد تصريح منسوب لرئيس وزراء قطر يحذر فيه من كارثة محتملة في حال حدوث تلوث نووي جراء الضربة يُنهي وجود الماء والطعام ومن ثم الحياة، نتيجة اعتماد الخليج على تحلية مياه البحر، وقد سارعَت حكومات الخليج إلى طمأنة السكان بعدم رصد أي إشعاع، لكن الحادث سلط الضوء على تصاعد شعور الهشاشة في المنطقة، مما يستدعي وجود نهج إقليمي لأمن المياه يضمن التخفيف من مثل هذه المخاطر.

لقد جرى تأسيس مجلس التعاون الخليجي على مبدأ التعاون الإقليمي لمواجهة التحديات المشتركة، وعلى الرغم من هذه الروح التعاونية فقد ظل تحدي شُحّ المياه يمثل في الغالب هاجسًا وطنيًا لكل دولة أكثر من كونه أولوية جماعية، وباستثناء عُمان فإن جميع دول المجلس تُصنَّف بوصفها مناطق تعاني من ندرة مائية حادّة، وتعتمد حاجتها المائية بدرجة كبيرة على التحلية التي تستهلك طاقة هائلة، فالمنطقة تواجه تهديدات متزايدة ناجمة عن ارتفاع الطلب، وتغير المناخ، والمخاطر الجيوسياسية، وهذا المقال يستعرض فرص التعاون المائي الإقليمي المضاعة، والحاجة الستراتيجية إلى تبني استجابة موحّدة.

تهديد أمن المياه

حين يجري النظر إلى المسألة عبر عدسة الأمن الوطني التقليدي أو من خلال منظور أمني أكبر فإن التعاون الإقليمي الأوسع نطاقاً في قضايا المياه عبر دول مجلس التعاون الخليجي ليس هو أمرًا مرغوبًا به فحسب بل هو أمر ملح تتزايد أهميته باستمرار، فمع تصاعد المخاطر المناخية، وتزايد هشاشة البنى التحتية، واستمرار التقلبات السياسية، تزداد الحاجة إلى تحرك جماعي مشترك لم يعد بالإمكان تجاهلها.

إن منطقة الخليج تعتمد بشكل كبير على مصادر مياه غير متجددة مثل المياه الجوفية، والمياه المحلاة، وهذان يشكلان معًا أكثر من 90% من إجمالي موارد المياه في المنطقة، وفي حين تظل المياه الجوفية مصدر المياه الرئيسي فإن تحلية مياه البحر أصبحت تمثل المصدر الأول لبعض دول الخليج، لأن تدهور إمدادات تلك المياه الجوفية، وتراجعها عزّز من خيار التحلية بوصفها الحلّ الأول، وهكذا فإن دول الخليج هي صاحبة الرقم القياسي في الاعتماد على أنظمة التحلية بمعدل انتاج يساوي 40% من المياه المحلاة عالميًا، ومن المتوقع أن تتضاعف قدرتها الانتاجية بحلول عام 2030، لكن الاعتماد على التحلية بوصفه مصدرا رئيسيا يطرح مشكلات عديدة، فهذه الدول تستهلك كميات ضخمة من الطاقة، ما يجعلها عرضة لتقلبات أسعار الطاقة وإمداداتها، ورغم الجهود المبذولة لتطوير تقنيات أقل استهلاكًا للطاقة، ما تزال التحلية باهظة التكاليف وتخلف كميات كبيرة من الكاربون، كما أن موقع المحطات على السواحل يجعلها عرضة لتأثيرات ارتفاع منسوب البحر والكوارث الساحلية.

ومن منظور أمني تقليدي، يشكل الاعتماد الكبير على محطات التحلية المركزية في الخليج هشاشة ستراتيجية واضحة، فهذه المنشآت الواقعة غالبًا في مناطق منخفضة، معرضة لهجمات عسكرية أو إلكترونية محتملة، وسوابق استهداف منشآت المياه خلال حرب الخليج عام 1990 تُبيّن مدى ضعف هذه الأنظمة وقت الأزمات، وعدا المخاوف الأمنية فإن التحلية تطرح آثارًا بيئية خطيرة، فالخليج يعاني بالفعل من زيادة ملوحة المياه الناتجة عن تصريف المياه المالحة من محطات التحلية، مما يُلحق ضررًا بالنظم البيئية البحرية، كذلك فإن الاعتماد الكبير على الطاقة يؤدي إلى انبعاثات غازات ضارة مما تفاقم بدورها مشكلات جودة الهواء في المنطقة، لذلك فمن الخطر أن تعتمد دول الخليج على التحلية وحدها، نظرًا لتكاليفها البيئية والمادية، ومخاطرها الستراتيجية، مما يهدد الأمن المائي طويل الأمد.

 وفضلا عن تدهور الموارد المائية، ومشاكل التحلية، ربما تكون القضية الأكثر إلحاحًا لأمن المياه في الخليج هي الارتفاع المذهل في الطلب، وهو ما يرجح زيادة الاعتماد على التحلية الإضافية أو الاستمرار في استخراج المياه الجوفية بشكل زائد، هذه التي يتوقع أن تنفد بين عامي 2018 و 2078، فقد ارتفع استخدام المياه السنوي في منطقة الخليج من 6 مليار متر مكعب في الثمانينات إلى حوالي 28.5 مليار متر مكعب في عام 2020، وتشير التوقعات إلى أن الطلب على المياه سيصل إلى حوالي 33.7 مليار متر مكعب سنويًا بحلول عام 2050، وهذا يشكل تهديدًا كبيرًا لأمن المياه الإقليمي.

 وإذا كانت هذه التحديات تُبرز هشاشة المنطقة فإن الأمن المائي أيضًا مرتبط مباشرة بالصحة العامة، وبالغذاء، وباستقرار المجتمعات، فالتغير المناخي يُشكّل ضغطًا استثنائيًا على وفرة المياه وجودتها، ويؤثر على الزراعة ومكافحة الأمراض، ومن دون تخطيط مشترك واحتياطيات طارئة إقليمية، ستكون هذه الدول أكثر عرضة للانهيار عند وقوع صدمات بيئية أو تقنية.

لقد أظهرت الأحداث الأخيرة بدءا بالنزاع الإيراني-الإسرائيلي مرورا بالأزمة الدبلوماسية القطرية أن الاستجابة الوطنية لكل دولة وحدها لا تكفي في ظل غياب تضامن إقليمي؛ لذا فإن تعزيز التعاون الخليجي في قضايا المياه هو أمر لا مناص منه.

وعلى الرغم من مواطن الضعف المشتركة والمصالح المتقاربة، لم تُحرز دول مجلس التعاون الخليجي سوى تقدم محدود نحو استراتيجية موحدة للمياه. فعلى سبيل المثال، انهارت خطط توحيد محطات التحلية في المنطقة بعد سنوات من النقاش، وبالمثل فإن "الاستراتيجية الخليجية الموحدة للمياه"، التي كانت تُعد في السابق خطوة مهمة نحو صياغة سياسة مائية إقليمية، لم تُحقق تأثيرًا ملموسًا بالرغم من تحديدها أهدافًا مهمة، مثل توحيد تعرفة المياه بحلول عام 2018، وعدم تحقيق هذه الأهداف يسلط الضوء على الصعوبات المستمرة في سبيل تحقيق وحدة مائية فعلية، ولكن بصرف النظر عن نقاط الخلل المشتركة فقد حققت دول مجلس التعاون الخليجي تقدمًا محدودًا في إطار رسم ستراتيجية موحدة للمياه لكن مجموعة من العوائق المستمرة سواء أكانت هيكلية أم سياسية هي التي أعاقت تطوير الأطر المتكاملة لتلك الستراتيجية.

وثمة قضية أخرى بالغة الأهمية تتمثل في غياب الاتفاقات الرسمية بشأن إدارة المياه العابرة للحدود على الرغم من وجود عدد من الطبقات الجوفية المشتركة في المنطقة، ومن أبرز هذه الأمثلة حوض "أم الرضومة-الدمام" الجوفي، الذي تتقاسمه كل من عُمان، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، واليمن، وكذلك حوض "النيوجين" الجوفي المشترك بين الكويت، والسعودية، والعراق، وبحسب التجارب الدولية تبرز أهمية الاتفاقات الخاصة بالمياه العابرة للحدود في الحد من النزاعات وضمان الإدارة المستدامة للموارد، وفي هذا السياق لم تُصادق أي دولة خليجية باستثناء قطر على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة باستخدام الممرات المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997، مما يُبرز الغياب شبه الكامل للتفاعل مع هذا الجانب الحيوي المتصل بحوكمة المياه، ومن ثم فإن تعزيز التعاون في هذا المجال لا يعد ضرورياً فحسب، بل بات مسألة ملحّة على نحو متزايد، فقصور التعاون الإقليمي يشكّل تهديداً كبيراً لأمن المياه في الخليج، سواء تعلّق الأمر بتقاسم الطبقات الجوفية أو غيرها من الموارد.

حواجز التعاون المائي بين دول الخليج

تظل السيادة الوطنية واحدة من الحواجز الأكثر رسوخًا، وتنعكس نتائجها بعيدة المدى على طبيعة التعاون، وبقدر ما يتعلق الأمر بدول مجلس التعاون الخليجي فالتعامل مع المياه يجري لا بصفته قضية تنموية ولكن بوصفه مسألة جوهرية تتعلق بالأمن الوطني، ونتيجة لذلك التعامل تتردد الدول في تنسيق سياساتها المائية التي يفترض أن تسيطر على ما يُعد موارد استراتيجية سيادية.

إن هذا التسييس للمياه يجعل الحوكمة المائية المشتركة غير مقبولة سياسيًا وصعبة تقنيًا، وغالبًا ما تُرفض الجهود الرامية إلى إنشاء أنظمة نقل مياه عبر الحدود أو إقامة مرافق تخزين إقليمية خوفًا من التعرض للتأثير الخارجي أو احتمال الخطر في أوقات الأزمات، وبالنسبة إلى الدول التي تستورد تقريبًا كل غذائها، وتعتمد بصورة كبيرة على التحلية المعتمدة على الطاقة العالية، فإن استقلالية المياه مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باستقرار النظام ومرونته.

المشكلة الأخرى التي تظل قائمة بين دول الخليج هي استمرار الحساسية السياسية، وعدم الثقة المتبادلة بين الدول الأعضاء، فلقد كشفت الأزمة الدبلوماسية من 2017 إلى 2021، هذه الأزمة التي قطعت أثناءها السعودية، والإمارات، والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر، كشفت عن تصدعات عميقة داخل مجلس التعاون الخليجي، وأضعفت الثقة في إدارة الموارد المشتركة بصورة كبيرة، وعلى الرغم من استعادة العلاقات الدبلوماسية منذ ذلك الحين لكن الشعور بعدم الثقة ما يزال قائماً، وما تزال المياه تمثل موارد حرجة وحساسة، ومجالاً تتردد الدول فيه بخصوص السعي نحو اعتماد متبادل، وما يزال التنافس الستراتيجي بين السعودية، والإمارات بخصوص القيادة الإقليمية، والتنويع الاقتصادي، والبنى التحتية يعقد جهود التخطيط المنسق بين تلك الدول بشكل ملحوظ.

 وإلى جانب هذه العقبات السياسية والستراتيجية، هناك تحديات مؤسسية وفنية تجعل من عملية الاندماج الإقليمي أمرا مرهقاً إدارياً، وأقل جدوى من الناحية الاقتصادية. وتتمثل إحدى العقبات الرئيسية في ضعف آليات التنفيذ؛ إذ إن الالتزامات على مستوى مجلس التعاون غالباً ما تكون غير ملزمة، ويكون تنفيذها غير منتظم بسبب غياب سلطة مركزية أو الافتقار إلى أدوات تنفيذ واقعية تُترك مسؤولية التنسيق للمنصات الوزارية التي تفتقر بدورها إلى صلاحيات كافية، مما يجعل السياسات متقطعة، والتنفيذ غير منتظم.

إلى ذلك يفتقر مجلس الأمانة العامة لمجلس التعاون لآليات تنفيذ فعالة، وتعتمد أي اتفاقية يتوصل إليها بشكل كامل على إرادات الدول الأعضاء في التنفيذ من عدمه، إذ تملك كل دولة خليجية حرية التصرف في تنفيذ الاتفاقات الإقليمية، ويمكنها أن تتخلف عن التنفيذ دون أن تتحمل أي مساءلة، ونتيجة لذلك الوضع فإن تنفيذ الاتفاقات يُصبح مرهوناً بحسن نية كل حكومة، وهو نموذج متداعٍ وغير موثوق به في ظل السياقات السياسية والبيئية المعقدة الحالية، ويؤدي انتهاج نهج الامتثال الطوعي إلى إضعاف فرص التعاون الجاد والمستدام.

ومن العوامل الأخرى التي تُضعف الحماسة نحو التكامل الإقليمي في منطقة الخليج هو تراجع الجدوى الاقتصادية لنقل المياه على المستوى الإقليمي، فقد انخفضت تكلفة تحلية المياه بشكل كبير خلال العقد الماضي مما جعل إنشاء محطات التحلية على المستوى الوطني أكثر جاذبية من بناء خطوط أنابيب عابرة للحدود باهظة الكُلَف، ومعقدة سياسياً، وقد أضعف هذا الفارق التكاليف مسوغات الاعتماد المشترك في مسألة المياه.

وفضلاً عما تقدم ذكره فإن الفوائد الناتجة عن تكامل الموارد المائية موزعة بشكل غير متساوٍ بين دول الخليج المتفاوتة في الحجم، ففي حين تُعد خطوط الأنابيب الإقليمية ممكنة من الناحية الفنية، كما هو واضح في مشروع خط الأنابيب بين تركيا وشمال قبرص لكن فوائدها الكبرى ستذهب إلى الدول الخليجية الصغيرة مثل الكويت والبحرين وقطر والإمارات الأكثر عرضة لانقطاعات الإمداد، خصوصاً في حال وقوع حوادث أو انسدادات بحرية في الخليج.

 في المقابل، تتمتع كل من السعودية وعُمان بوصول إلى بحار أخرى وتتلقى معدلات أمطار أعلى نسبياً من الدول آنفة الذكر مما يمنحهما مرونة أكبر، ويقلل اعتمادهما على البنى التحتية المشتركة، وبالنظر إلى هذا التفاوت، فقد اتجهت الدول الأكثر عرضة للمخاطر والأكثر قدرة مالياً إلى الحلول الأحادية؛ فالإمارات تطور مشروع احتياطي المياه الاستراتيجي في صحراء "ليوا"، وقطر تعمل على توسيع مشروع "الخزانات الكبرى لأمن المياه"، وكلا المشروعين يرميان إلى تعزيز الاستقلال الوطني بدلاً من تعزيز الاعتماد المتبادل إقليمياً.

 كما أن مسألة تقاسم التكاليف وتفاوت سياسات التسعير تُعد من العقبات أمام التكامل كما أشير إلى ذلك آنفا، فشبكة مياه موحدة تتطلب توحيد التعريفات، والدعم بين دول تختلف سياساتها الداخلية اختلافاً كبيراً، وغالباً ما يجري النظر إلى المياه في عيون سكان المنطقة بوصفه حقاً عاماً! لذلك فأي محاولة لتوحيد أسعار المياه ستقابل بمقاومة سياسية كبيرة، وتثير إشكاليات تتعلق بالعدالة وتوزيع الكُلَف.

 وأخيرا فقد أدى اعتماد استراتيجيات إمداد بديلة إلى تراجع مشاعر الحماسة نحو انتهاج نهج جماعي؛ إذ تعمل العديد من الدول على تعزيز إعادة استخدام مياه الصرف الصحي، واستخدام المياه ذات الجودة المتدنية في الزراعة، وهي أساليب تسمح بزيادة الاكتفاء الذاتي تدريجياً، وهذه الابتكارات تُعدّ واعدة تقنياً وقابلة للتوسعة بصرف النظر عن التحديات المتعلقة بالكلفة، والتقبل المجتمعي والأطر التنظيمية، وتزداد جاذبية مثل هذه الأساليب في ظل هشاشة الثقة داخل مجلس التعاون الخليجي، فحتى أفضل أشكال التنسيق يمكن أن تُقابل بريبة لاسيما في العلاقات بين قطر من جهة، وكل من السعودية أو الإمارات من جهة أخرى.

وبالمحصلة تتضح الدواعي التي تفضل على أساسها دول الخليج بناء ستراتيجيات وطنية متفرقة على حساب ستراتيجية تكامل إقليمي حقيقي في ما يخص أمن المياه على الرغم من وجود كل تلك التهديدات المشتركة.

ضرورة التعاون الإقليمي في مجال المياه

على الرغم من استمرار التحديات الكبيرة أمام التكامل الخليجي في مجال المياه لكن فوائد التعاون تفوق بكثير هذه التحديات، فالتعاون المائي لا يُعد خياراً أكثر أماناً لمستقبل الخليج فحسب بل أصبح ضرورة ملحّة لحماية أمن المياه على المدى البعيد، وذلك للمعطيات الآتية:

أولاً: في سياق الموارد المائية العابرة للحدود، لا بد من معالجة سريعة لهذا الملف، فمع تفشي النزاعات المائية في مناطق متعددة، ومع عدم الاستقرار السياسي والبيئي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يتحتم على دول الخليج كلها أن تحذو حذو قطر في المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 الخاصة بالممرات المائية الدولية، إذ توفر هذه الاتفاقية إطاراً قانونياً محايداً للتعامل مع النزاعات، وطبيعة الاستخدام المشترك، والحماية البيئية، مما يعزز المرونة المناخية والأمن المائي، ويقلل من احتمالات التوترات الإقليمية ويجعل من نقاط النزاع المحتملة فرصًا للتعاون، على أن ذلك الأمر يوجب صياغة اتفاق إقليمي ملزم على مستوى مجلس التعاون يضمن الوصول العادل، والآمن إلى طبقات المياه الجوفية المشتركة، ويعتمد مبادئ اتفاقية 1997، ومنها ضرورة أن يكون الاستخدام منصفا ومعقولا ومتفاديا لإلحاق أضرار جسيمة وفي جو من العمل المنسجم بين الجميع، ومن هنا سيكون هذا الإطار أساساً لا بد منه لأمن مائي طويل الأجل في منطقة تعاني من شظف مائي، وفي ظل تغير المناخ وزيادة الضغط على الموارد المائية، يمكن أن يكون هذا الإطار من التعاون حجر الزاوية في الاستقرار الإقليمي.

ثانياً: يمكن أن يشكل إنشاء شبكة تحلية مياه إقليمية متكاملة عنصرًا معززًا للمرونة، وقاعدة ملموسة للتخطيط المشترك في حالات الطوارئ، وحماية للبنية التحتية، وتبادلا للدعم بين الدول، وعلى الرغم من ارتفاع تكاليف إنشاء الشبكة مقارنة بالتحلية على المستوى الوطني، فإن قيمتها الستراتيجية تتجلى في فوائدها العامة بعيدة المدى.

ومثلما حدث في مشروع الربط الكهربائي الخليجي الذي توسع ليشمل العراق، فإن شبكة تحلية إقليمية ستكون أكثر أهمية نظراً لمحورية المياه في استقرار الخليج، ومواجهة الكوارث الطبيعية، أو الهجمات السيبرانية، أو موجات الحر الشديدة التي شهدتها المنطقة.

إن نظام إمدادٍ مائي مترابط يمكن أن يكون بمنزلة نظام دعم مشترك لتدارك مشكلة النقص الحاد، وبخصوص المخاطر الجيوسياسية كالنزاع الإسرائيلي- الايراني فإن شبكة تحلية مياه إقليمية قد توفر حماية ضد التلوث النووي المحتمل في الخليج، ويمكن لشبكة تمتد من سواحل عُمان على المحيط الهندي حتى البحر الأحمر في السعودية أن توفر حلاً حاسماً لدول مثل قطر والإمارات والبحرين والكويت، كما يمكن لمثل هذه الشبكة أن تدعم تبادل الخبرات والتقنيات في مجال التحلية بالطاقة المتجددة، وسيكون بمقدور الدول الرائدة مثل السعودية، والإمارات، وعُمان أن تنقل هذه الابتكارات لبقية دول المجلس، ومع ربط هذا المشروع بمبادرة لتبادل الطاقة يمكن تقليل التكاليف الاقتصادية والانبعاثات الكاربونية معاً، مما يدعم الأمن المائي والمناخي.

الخاتمة

إن إنشاء إطار تعاوني لحوكمة المياه لا يعزز من قدرة المنطقة على حماية سكانها فحسب بل يساعد في النأي بالسياسات المائية عن التنافس السياسي الذي يعرقل التعاون، فمجلس التعاون الخليجي بدأ فعلياً في الابتعاد عن النماذج المركزية في إدارة المياه، فمثلاً طُرحت أسهم هيئة كهرباء ومياه دبي للاكتتاب، وظاهرة زيادة دور الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مشاريع التحلية كلها مؤشرات على هذا التحول.

وفي هذا السياق المتغير، فإن إطاراً إقليمياً موحداً لحوكمة المياه سيعزز ثقة المستثمرين عبر توفير تنظيمات موحدة وسياسات مستقرة طويلة الأمد، وهذا الهدف الإقليمي في الخصخصة من شأنه جذب الاستثمارات العابرة للحدود، كما أن تشجيع مشاركة القطاع الخاص، وتحسين الكفاءة، سيقللان العبء المالي على الدول مجتمعة مما يدعم أهداف التنويع الاقتصادي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

ذات صلة

معاهدة صلح الامام الحسن (ع).. النصر الأعظم للشرعيةالبطالة العمالية المزيفةالتلوث البيئي من منظور إسلاميالمثقفون العرب زنادقة العصرالوعي مسؤولية الناخب