العدالة الاقتصادية كطريق إلى الديمقراطية
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (16)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2022-02-19 07:01
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
كانت الديمقراطية، لمآت السنين، ولا تزال، حلم معظم البشرية، بل ان الديمقراطية إن كانت تعني حق الإنسان في تقرير مصيره وتحرره من الإستبداد والاوليغارشية والعبودية لشخصٍ أو حزبٍ أو طبقةٍ، تشكِّل تعبيراً عميقاً عن احدى النوازع الإنسانية والمستقلات العقلية.
تشوّهات الديمقراطية
ولكنّ الديمقراطية المعاصرة، بل كافة الديمقراطيات التي وجدت تجسيداً لها على أرض الواقع، تعاني من تشوهات خطيرة، نذكر منها:
الأول: انها ليست عالمية بل هي ديمقراطيات محلية متحيزة.
الثاني: انها لا تبتني على أسس حقوقية متكافئة متكاملة.
والديمقراطية في صيغتها الإسلامية تعني (الاستشارية) على ان هناك فوارق جوهرية بينهما تطرّق إليها عدد من الفقهاء والمفكرين(2) والحديث في هذا المقال ينطلق من منطلقات عقلية – فطرية كونه يستهدف مخاطبة الإنسان بما هو إنسان وإن لم يتدين بدين الإسلام ولم يؤمن بالقرآن وشرائعه وقوانينه كحقائق خالدة تكفل للإنسانية السعادة والفلاح، ولكنه، أي المقال، مع ذلك يستهدي بالآيات والروايات لتكون حجة للمسلم وعلى المسلم في الوقت نفسه.
إنّها ديمقراطيات محلّية متحيِّزة
وإذا استنطقنا العقل والضمير والفطرة والوجدان نجدها جميعاً تنطق بان للإنسان بما هو إنسان حقوقاً متكافئة وانه إذا كان له الحق في تقرير مصيره وفي انتخاب من يمثله في مجلس الأمة ومن يتوكل عنه كرئيس أو وزير، وفي تحرره من العبودية للطغاة والمستبدين والجبابرة، فان هذا الحق لا يختص بشخص أو عرق أو لون أو شخص بل هو حق عام يشمل البشرية كلها أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين، وكما لا يصح للمرء ان يحتكر هذا الحق لنفسه ويحرم منه جيرانه، وكما لا يصح للمرء ان ينادي بالديمقراطية وحق تقرير المصير والتحرر من الإستبداد، لأهل منطقته أو محافظته ويحرم سائر المناطق والمحافظات من هذا الحق، كذلك لا يحق عقلاً ووجداناً، ان يحتكر شعب من الشعوب هذا الحق لنفسه فيما يجرد، عملياً أو على المستوى النظري، سائر الشعوب من امتلاك هذا الحق وذلك يعني، بعبارة أخرى: ان لأكثرية الشعب، أي شعب كان، ان تنتخب من يمثلها ويحكمها وان تختار من تراه الأفضل والأكفأ لتوفير مستلزمات العيش الكريم لها وتحقيق مصالحها ومطامحها، ولكنها، أي أكثرية هذا الشعب، لا يحق لها ان تسلب هذا الحق من سائر الشعوب، فتفرض عليه سياسات معينة عبر ضغوط مختلفة وتحرمه من حقه في تقرير مصيره بنفسه وفي اختيار المسار الذي يتناغم مع مصالحه وطموحاته وآلامه وآماله.
وذلك يعني، بعبارة أخرى، ان حرية كل شعب وحقوقه تنتهي حيث تبدأ حريات سائر الشعوب وحقوقها، فذلك كله على مستوى حكم العقل وشهادة الفطرة والضمائر الحرة والوجدان، وأما على مستوى النصوص الدينية فإننا نواجه بفيض من الآيات الكريمة والروايات الشريفة:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(3) و(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها)(4) و(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)(5) و(النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمَشْطِ)(6) و(كُلُّكُمْ مِنْ آدَمَ وَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ)(7) و(فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)(8) وغير ذلك..
وتحيّز الديمقراطيات لصالح شعوبها ولو على حساب الشعوب الأخرى هو التشوه الخطير الأول الذي تعاني منه ديمقراطيات عالم اليوم، حيث يفصح تاريخها عن سجل حافل بالتدخل في حياة سائر شعوب الأرض ومصادرة حقوقهم الطبيعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، تارة بالشكل الأكثر تطرفاً، هولندا وبريطانيا وفرنسا في القرون السابقة، وأميركا في القرن العشرين والواحد والعشرين مثالاً، عبر الاستعمار المباشر أو التخطيط للإنقلابات العسكرية ودعمها، وأخرى بالأشكال الناعمة التي تتدرج من التلاعب بمصائر الأمم عبر حملات غسيل المخ على المستوى العالمي، وصولاً إلى توجيه الضغوط الاقتصادية ثم التهديد بالحرمان من الوصول إلى التكنولوجيا المتطورة التي تحتاج إليها تلك البلاد، وبعدها فرض أنواع من الحصار الدبلوماسي، ولا تتوقف عند حد الدعم الخفي للحكومات العسكرية والفاشية.
وليس المقال معقوداً للحديث عن ذلك رغم أهميته إذ ان له مجالاً آخر، بل المقال معقود لبحث التشوه الثاني الذي قلّ ان نجد من يتطرق إليه بينما نجد وفرة كبيرة من الكتابات والتنظير على مستوى التشوه الأول.
وإنّها تخضع لنظام الدُّولة والكوربوقراطيات
وهذا الخلل الخطير الثاني في أسس ديمقراطيات عالم اليوم هو: الخلل في توزيع الثروات العالمية ونظام (الدُّولة) الذي يحكم العالم من وراء الكواليس كما يحكم الدول المتقدمة في الوقت نفسه من الداخل، ذلك ان سوء توزيع الثروات وتمركز القوة الاقتصادية بأيدي قلة من كبار الأثرياء والشركات العابرة للقارات والكوربوقراطيات، يعني الإخلال المنهجي – الأسسي الكبير بقاعدة الصوت الواحد للمواطن الواحد وحرية الانتخاب والاختيار، وذلك لأن الأموال الضخمة بمقدورها ان تقلب المعادلات وأن تأتي إلى الحكم بأشخاص يجسدون مصالحها، مصالح تلك الشركات العملاقة أو اللوبيات الضاغطة، دون مصالح عامة الناس، وذلك لامتلاكها أدوات التأثير التي تتنوع بين التدخل المباشر في عملية الانتخاب عبر شراء الأصوات بأثمان بخسة أحياناً وبين تدخل غير مباشرة عبر استمالة مفاتيح المجتمع، بمغريات مادية وامتيازات منوعة أخرى، والذي سيوجهون عامة أتباعهم نحو ما تتطلبه مصالح وأهداف وطموحات تلك القوى الاقتصادية المهيمنة، إضافة إلى ما يقارن ذلك من عمليات غسيل مخ واسعة لأكبر شريعة ممكنة من الناس عبر الماكنة الإعلامية الضخمة التي تمتلكها أو تغذيها تلك القوى الخفية – الاقتصادية بالأساس.
ومن هنا فان العدل في توزيع الثروات يكون مفتاحاً أساسياً في توفير العدل على المستوى السياسي والحقوقي بشكل عام، وبذلك نكتشف تجلياً من أعظم تجليات الأمر الإلهي الصريح المباشر في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ).
المساواة في التعليم كطريق إلى الديمقراطية
ومما يوضح المعادلة أكثر ان مفكري الديمقراطية ومنظريها توصلوا إلى ان الديمقراطية والمساواة والحرية في تقرير المصير عبر الآليات الديمقراطية المعروفة، لا يمكن ان تتحقق مع انتشار الجهل في الناس، إذ ما أسهل خداع الامي الجاهل الغِرّ وسوقه باتجاه أشخاص أو سياسات تخدم مصالح الطبقة الراقية، إضافة إلى ان الامي حتى وإن أحسن في مرحلة الانتخاب فانه لا يمكنه ان يمارس الرقابة على الحكام والمسؤولين، حتى وإن توفرت الصحافة الحرة، إذ أنّى للأمّي ان يقرأ وإذا قرأ فأنى له ان يقرأ ما وراء الأسطر وما وراء الكواليس؟ وكيف يمكنه ان يراقب أداء الحكومة وهو الذي يجهل حتى ابجدياتها؟
لذلك توصل المفكرون والمنظرون للديمقراطية إلى ان أول شروط تحققها تعميم التعليم، ولذلك، ولغيره، جرى فرض نظام التعليم الإجباري في المدارس، كطريق لتمكين عامة الناس من اختيار مستقبلهم وتقرير مصيرهم بأنفسهم، إضافة إلى ان التعلم هو الطريق الشارعة لانتشال الناس من الفقر والمرض أيضاً.
العدالة في توزيع الثروات كطريق إلى الديمقراطية
ولكن الذي خفي على معظم هؤلاء المنظرين، أو لم يولوه الأهمية الكافية، أو فعلوا ولكن تجاهلته وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الضخمة التي تمولها الطبقة الراقية، أو لم تتجاهله بالمرة إذا كان لا يمكنها ذلك أحياناً لكنها قامت بتهميش أفكارهم في هذا الحقل وعرضها بشكل باهت جداً وسريع وناقص، مع التركيز أحياناً على سائر أفكارهم التي لا تتقاطع مع مصالح تلك الطبقات الحاكمة، أقول: الذي خفي عليهم أو أُخفي من أفكارهم: ان نظام الدُّولة والكوربوقراطيات الذي يحكم الدول الديمقراطية، قبل ان يحكم العالم، يشكّل الخطر الأكبر على الديمقراطيات كونه يصادر حق الناس في تقرير مصيرهم بطرق لا تخطر عادة على بال عامة الناس بل وقد تغيب عن أذهان معظم الطبقة المثقفة أيضاً.
لمحة من تاريخ الديمقراطيات المعاصرة وتحكّم النخبة الاقتصادية
وقد أشرنا في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) إلى هذه الحقيقة بتفصيل أكبر فـ(على مر التاريخ كانت المعادلة هي هي كذلك، أي حكومة (الدُّولة) وكبار التجار أو الكوربوقراطيات، على السلطة السياسية وعلى مصائر البلاد، وتكمن أهمية استعراض، ولو موجز، لهذا النوع من التاريخ الاقتصادي، في (أن التاريخ يعيد نفسه) وأن ذلك يكشف عن عمق تجذر نظام الدُّولة في تاريخ العالم، مما يستدعي تفكيراً جاداً أوسع وأعمق، من علماء الاقتصاد ومؤسسات المجتمع المدني والحكومات، للقضاء على هذه الظاهرة أو تحجمها إلى أقصى درجة ممكنة، ويكفي ههنا أن نقتطف بعض ما جاء في كتاب (تاريخ الفكر الاقتصادي الماضي صورة الحاضر)، فإنه: (في المدن التجارية لم يكن كبار التجار مجرد ذوي نفوذ في الحكومة، وإنما كانوا هم الحكومة. وعلى نطاق أوروبا كلها، منذ القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، كان نفوذهم يتزايد في الدول القومية الجديدة. وكانت السياسة العامة والعمل العام بدوره انعكاساً لآرائهم. ويمكن أن يضاف أيضاً أن جانباً كبيراً من نفوذهم كان مصدره حقيقة أن التجار لكي يواصلوا البقاء كان يتعين أن يتمتعوا بذكاء أكثر من ذلك الذي كان يتمتع به الأعضاء بالوراثة في طبقات ملاك الأرض القدامى، وقد اتسع هذا الذكاء لرؤية شديدة الوضوح للكيفية التي بها تستطيع الدولة خدمة مصالحهم...)(9).
وقد (سبقت الإشارة إلى قوله تعالى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)(10)، وأنها تفيد فيما تفيد، إلغاء الفواصل الطبقية المجحفة الضارة بين الناس.
وتفصيل ذلك: أن (الدُّولة) تعني أن يتداول الأغنياء الفيء والأموال والثروات(11) فيما بينهم ضمن حلقة مغلقة من كبار الأثرياء والملّاك أو الإقطاعيين، فتكون الأموال والثروات كالكرة التي يتقاذفها الأغنياء ويترامونها بينهم في ناديهم الخاص وملعبهم المتميز لتكون لهذا مرة ولذاك مرة أخرى، وقد قيل: إن الدُّولة في المال والدَّولة في الحرب والجاه، وكما أن الدَّولة تعني تمركز القدرة كذلك الدُّولة تعني تمركز المال، وقيل: الدُّولة اسم الشيء الذي يتداول بعينه والدَّولة المصدر(12)، أي أن الدَّولة هي التداول والدُّولة هي نفس الشيء المتداول، فإذا صار المال كالكرة التي يتقاذفها عدد محدود من اللاعبين، كان المال كالكرة دُولةً بينهم.
والدُّولة تتحقق بأشكال وألوان مختلفة)(13) فـ(قد تتحقق الدُّولة عبر الكوربوقراطيات والشركات العابرة للحدود (ويتحقق معظم الاستثمارات الأجنبية المباشرة من خلال أنشطة الشركات المتعددة الجنسية، والتي تزاول وتسيطر على الأنشطة الإنتاجية في أكثر من دولة، ولا تتحكم هذه الشركات في الموارد المالية الموجهة للاستثمار الأجنبي فقط، ولكنها تتحكم أيضاً في باقي مكونات الحزمة التي يتضمنها الاستثمار الأجنبي، والتي تضم، بالإضافة إلى التمويل، الخبرات الإدارية والفنية والتسويقية، والتي تحتاج إليها الدول النامية ربما بدرجة أكبر من حاجتها للتمويل الأجنبي بمفرده...
ويعطي الحجم الهائل لهذه الشركات قوة اقتصادية ـ وسياسية في بعض الأحيان ـ في مواجهة الدول النامية المضيفة، فعلى سبيل المثال: نجد أن إجمالي مبيعات شركة جنرال موتورز وهي أكبر هذه الشركات في عام 1994 بلغ نحو 170 بليون دولار في حين أن ن م ج(14) في مصر لم يتجاوز 58 بليون دولار في تلك السنة، بل إن هذه القوة يتم أيضاً تدعيمها بشكل كبير من خلال الموقف السوقي لهذه الشركات والذي يتسم غالباً باحتكار القلة، وهذا الموقف الذي يوجد فيه عدد قليل من البائعين على مستوى العالم، يعطي هذه الشركات القدرة على التحكم في الأسعار والأرباح، والتواطؤ مع الشركات الأخرى لتحديد مناطق النفوذ ولتقييد دخول المنافسين المحتملين من خلال الهيمنة على التكنولوجيا الجديدة، والمهارات الخاصة، والتأثير على أذواق المستهلكين من خلال الدعاية والإعلان وتمييز المنتجات.
وفي هذا الصدد يشير المعارضون إلى أن الشركات المتعددة الجنسية قد تخفض المدخرات والاستثمارات المحلية من خلال الحد من المنافسة استناداً إلى اتفاقات حظر المنافسة مع الحكومات المضيفة، وعدم إعادة استثمار معظم الأرباح المحققة، ومن توليد الدخول المحلية للفئات التي ينخفض لديها الميل للادخار، ومن إعاقة توسع الشركات المحلية التي قد يكون بوسعها توفير مستلزمات الإنتاج من خلال القيام باستيراد هذه المستلزمات من فروع الشركة بالخارج، وفرض أسعار فائدة مرتفعة على رأس المال الذي قد تقترضه الحكومات المضيفة)(15)(16).
(وفي إحدى المناسبات هزّ ديفيد روكفلر (David Rockefeller) رجال المصارف حين قال: إن أحد استطلاعات الرأي يظهر أن ثلاثة من كل خمسة طلاب يعتقدون أن الشركات الكبيرة قد انتزعت مقاليد الحكم من الكونجرس والإدارة الأمريكية. وقد تأيدت النتائج التي توصل إليها استطلاع الرأي آنف الذكر من خلال دراسة استقصائية لجامعة ميشيغان أظهرت أن 59 بالمائة من الأمريكيين قاطبة يعتقدون أن "مقاليد الحكومة تسيّرها قلة من أصحاب المصالح الكبيرة التي تسعى لخدمة مآربها الخاصة"(17). وهكذا ثمة شعور عام بالحاجة إلى تغيير جذري في بنية الاقتصاد ومؤسساته لتقليص حالات عدم المساواة في الدخل والثروة)(18))(19)
(وكقاعدة عامة: فإن من طبيعة (القدرة) مالية كانت أم سياسية، الميل للتمركز أكثر فأكثر و(يلاحظ سميث أن "الناس من المهنة نفسها نادراً ما يلتقون معاً، حتى من أجل اللهو والمتعة، ولكن الحديث بينهم ينتهي بمؤامرة ضد الجمهور أو بتدبير ما لرفع الأسعار"، ويمضي قائلاً: إنه "من المستحيل منع اجتماعات من هذا القبيل بأي قانون، لأنه ليس من المستطاع إنفاذه، كما أن المنع لا يتسق مع الحرية والعدالة. ولكن على الرغم من أن القانون لا يستطيع أن يحول دون عقد اجتماع بين أناس من المهنة نفسها في بعض الأحيان، فإنه لا ينبغي أن يسهل تلك الاجتماعات، فضلاً عن أن يجعلها ضرورية".
بعد ذلك بمائة عام تم بصورة ما في الولايات المتحدة ما كان سميث يراه مستحيلاً، وربما تستمر الجهود في هذا الاتجاه مائة عام أخرى، فقانون شيرمان(20)، وما تلاه من تشريعات، يمنع من يمارسون المهنة نفسها، حتى إذا كانوا يلتقون من أجل البهجة والسرور، من مناقشة الأسعار، دعك من الاتفاق عليها. وكان من شأن هذا الحظر مواجهة قدر ليس بالقليل من الصعاب التي تنبأ بها سميث)(21))(22).
والحل هو إقرار حق كل البشرية في الثروات الكونية
وانطلاقاً من ذلك كله كان تأكيد هذا المقال وما سبقه من المقالات على العدالة في توزيع الثروات والدخول، وان أول وأهم شكل من أشكال العدالة في توزيع الثروات هو ان نَخضع لحكم العقل والوجدان الذي يقضي بان البشر كلهم متساوون في حق الوصول إلى كافة الثروات الطبيعية في كافة أرجاء المعمورة، وان الحدود الجغرافية المصطنعة لا تمتلك الشرعية لتبني أسواراً عازلة أمام الشعوب الأخرى من الانتفاع بالثروات التي خلقها الله تعالى في الأرض، وان الناس كلهم سواسية في حق الاستخراج والتمتع بالثروات، وذلك لأن البشر كلهم خلق الله والأرض أرض الله والثروات خلقها الله فلماذا تختص ثروة النفط الموجودة في السعودية أو أمريكا أو في غيرهما بأهالي تلك البلاد؟ ولماذا يختص الغاز القطري أو الروسي بقطر أو روسيا؟ وهكذا وهلم جرّا.
وقد سبقت الأدلة الشرعية والعقلية على ذلك كله، فراجع ما سبق، كما سبق الجواب عن عدد من الاعتراضات على هذه الأطروحة أيضاً، ونضيف: ان السيد الوالد (قدس سره) اعتبر ذلك من المستقلات العقلية فقال:
وذلك من المستقلات العقلية
(إذ الحدود الجغرافية لا اعتبار لها في العقل ولا في الشرع، بل هي (أسماء سميتموها أنتم وآبائكم)(23) وقد قال رسول الله (صل الله عليه واله وسلم): (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع)(24) وقال: (الناس سواسية كأسنان المشط)(25).
إلى غير ذلك، فنفط العراق مثلاً ليس خاصاً بالعراق بحدودها الجغرافية التي هي من صنع الرجل الاستعمارى المعروف (لورانس)، وكذلك نفط سائر البلاد، وهكذا كل معدن في أي بلد، إلى آخر ما هنالك من ثروات زراعية أو بحرية أو غيرها، بل كلها للكل بالعدل الأفقي في هذا الجيل، والعمودي في سائر الأجيال الآتية)(26).
(وهذا بالإضافة إلى أنه شرعي، عقلي أيضاً، إذ العقل يرى تساوي البشر بالنسبة إلى خيرات الأرض، إلاّ الذي يفوق الآخر بالكفاءات وبالعمل وبما أشبه)(27)
وبذلك قرر (قدس سره) أولاً: أن تساوي البشر بالنسبة للثروات الطبيعية حق أولي إنساني يحكم به العقل دون ريب.
کما قرر ثانياً: ان العدالة هي المقياس ولا المساواة، لذلك فان التفاضل إنما يكون بالكفاءات والعمل وما أشبه، ولكنه إضاف إلى ذلك ثالثاً: ان كل ذلك يقع في إطار قانون (لكم) فقال: (لا يقال: دليل "من سبق" دال على أن من سبق فهو له، فرداً كان أو جماعة.
لأنه يقال: دليل "من سبق" إنما يكون إذا كان في إطار دليل (لكم)(28) كما تقدم بيان ذلك في بعض المباحث السابقة، وعلى هذا فاللازم أن يستخرج النفط بذلك القدر المعقول)(29).
وذلك كله كي يقطع الطريق على أي عملاق اقتصادي أو شركة عابرة للقارات أو ثري متموّل من ان يحوز أكثر من حقه الطبيعي من الأراضي أو ان يستخرج أكثر من حقه الطبيعي، من النفط أو الغاز أو سائر المعادن متذرّعاً بانه أكثر كفاءة وأقدر وانه الذي سبق إلى استخراج تلك المعادن، كلا.. إذ كل ذلك يجب ان يخضع لقاعدة (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(30) وقد مضى جانب من الكلام في ذلك فليراجع أيضاً.
المتفوقون على مستوى التنظير يرجى تفوقهم على مستوى الأداء العملية
وأخيراً نقول: إن المتفوقين على المستوى النظري والتنظيري، يرجى لهم ان يتفوقوا يوماً ما على المستوى العملي والميداني، عكس المتخلفين على المستوى الأول فانهم لا يرجى لهم عادة ان ينهضوا من كبوتهم ويتفوقوا، بل حتى ان ينافسوا، على المستوى الثاني.
والمأساة، أننا تركنا حتى التنظير، مستسلمين لواقعنا المرير، ولذلك تجد ان كتاباً مثل (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) للمفكر والمحقق والأستاذ العظيم الميرزا النائيني رغم ما احتواه من جواهر الأفكار وعمق التنظير، يُهمل على مستوى الحوزات العلمية والجامعات على حد سواء وان الأفكار التي طرحها السيد الوالد (قدس سره) في الفقه الاقتصاد وغيره، لم تَنَلْ حتى أدنى ما يجب ان تناله الأفكار الجوهرية – النهضوية – الأسسية، من البحث والإنضاج بل وحتى النقد والجرح والتعديل..
وإن الطريق لكي نستعيد مجدنا الغابر هو أن نعود لنكون الطليعة في طرح الأفكار والحلول الجوهرية لمشاكل البشرية، ذلك ان (الفكر قائد) و(العلة الغائية علّة فاعلية الفاعل) وان الذين يقودون الحياة، أو الذين سُيقدّر لهم ان يقودوها، هم الذين يحملون مشاعل النور بأيديهم وهم الذين يتابعون مسيرتهم، على الصعيد النظري أولاً والعملي ثانياً، دون كلل أو ملل.
قال تعالى: (وَيَزيدُ اللَّهُ الَّذينَ اهْتَدَوْا هُدىً)(31) و(وَالَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(32)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين