معجزة الاسعار في ادارة الاسواق وتوازنها
خلق لكم ما في الأرض جميعاً (5)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2019-12-22 05:00
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
والبحث سيدور بإذن الله تعالى حول محورين:
المحور الأول: بعض البصائر القرآنية.
المحور الثاني: مرجعية مؤسسات المجتمع المدني والشركات الأهلية في التخطيط لاستثمار الأراضي الموات وإحيائها وتقنين توزيعها، دون الحكومات حسب معادلة اليد الغيبية أو الخفية ومعجزة العرض والطلب والأسعار في إدارة الأسواق.
من البصائر القرآنية:
(ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) يشمل الثروات على سطح الأرض وباطنها
البصيرة الأولى: ان قوله تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) يدل على ان كافة ما في باطن الأرض من الثروات وجميع ما على الأرض من الخيرات، للناس جميعاً، و(ما في الأرض) يشمل النفط والغاز ومعادن الذهب والفضة والأحجار الكريمة وغيرها، واما (ما على الأرض) فيشمل الغابات بما تضمّه من أشجار وأخشاب وأعشاب وأثمار وطيور وحيوانات وغيرها، وكذلك السهول والوديان والجداول والغدران والأنهار والبحار والمحيطات، والصحاري والجبال وغيرها، فهي كلها جميعاً للناس.
لا يقال: (ما فِي الْأَرْضِ) يراد به ما في باطن الأرض ولا يشمل ما على سطح الأرض؟
إذ يقال: إن (ما فِي الْأَرْضِ) يطلق على ما على سطحها أيضاً والدليل تتمة الآية الثانية (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ * فيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(3) إذ جاء فيها (فيها فاكِهَةٌ... )وقوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(4) مع انها على الأرض وليست في باطنها؛ وألا ترى قولك مثلاً (ما في الصحاري من الحيوانات البرية يشكل ثروة كبيرة) مع ان المراد ما عليها وليس ما هو في باطنها.
والسرّ ان الأرض طبقات، كما ان السماء طبقات، فيصح إطلاق (في) على ما عليها بلحاظٍ و(على) عليه بلحاظٍ آخر، بعبارة أخرى: قد يراد بالأرض سطح الأرض وقد يراد بها الكرة الأرضية فكل ما على سطح الأرض فهو في الكرة الأرضية. فتدبر
(وَضَعَها) ذلّلها للناس، لا للحكومات
البصيرة الثانية: ان هناك نكات دقيقة في انتخاب كلمة (وَضَعَها) في (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وذلك بدل ان يقال مثلاً (جعلها) أو (خصّصها) أو شبه ذلك.
ومن النكات: ان (الوضع) يدل على الخفض والذِلّة والحطّ، فان الوضعَ خفضُ الشيء وحطّه، والوضيع هو الدنيء، ويقال للمتواضع متواضع لأنه تذلل للناس ووضع نفسه وحط من شأنها ولم يتكبر، وفي الحديث ((وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِهِ))(5) وإنما تضع أجنحتها وتتواضع له لإذعانها بشرفه عليها (والمقصود طالب العلم لله وفي الله أي الطالب المتقي، للقرينة الحافّة)، على خلافٍ في ان وضعها أجنحتها له هل هو في الدنيا أم في الآخرة أم في كليهما؟ والأخير أرجح لمكان الإطلاق الذي يؤيده أيضاً الاعتبار.
فقوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) يراد به انه تعالى ذلّلها للأنام أي لمصالحهم ومنافعهم ولسدّ حاجاتهم الجسمية والنفسية وغيرها نظير قوله (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْليلاً)(6) ولم يذلّلها تعالى للحكومات بل للناس، ومن الغريب بعد ذلك انك ترى الحكومات الظالمة (تصعّب) استثمار الأرض وحيازتها والاستفادة منها والتمتع بثرواتها ومعادنها على الناس بدل ان تسهّل ذلك لهم، مع ان الله تعالى ذلّلها، بصريح الآيات والروايات، للناس!.
هل يبعث قانون الأرض للناس، على الفوضى؟
وقد يعترض على قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(7) ان ذلك يستلزم الفوضى والهرج والمرج ولذلك تُحكِم الحكومات قبضتها على الأراضي وتتولى أمرها كي لا يحدث ذلك كله؛ ألا ترى مثلاً ان الحكومة لو رفعت يدها عن الأراضي الاميرية وأراضي وزارة المالية وغيرها، وأعلنت مثلاً: ان الكل حرّ في ان يحوز ما شاء من الأراضي المحيطة بالنجف أو كربلاء أو الحلة والسماوة والبصرة وأربيل وكركوك، وقم ومشهد وطهران، والقاهرة ودمشق وكراجي وطرابلس والخرطوم وغيرها، فان الناس سيهجمون حينئذٍ على الأراضي الموات وستحدث فوضى أو لا مساواة وإجحاف من جهات:
أ- فقد يحاول أحدهم ان يحوز أكثر من حقه الطبيعي بكثير جداً، فيحوز مثلاً عشرة ملايين متر أو حتى مليوناً أو أقل أو أكثر مما يحرم سائر الناس من حيازة حتى ألف أو خمسمائة أو مائة متر مما يولد اضطراباً اجتماعياً.
ب – وقد تُفتقد العدالة ويحصل الإجحاف وتحدث حالات من اللامساواة بين عامة الناس إذ قد يحوز من له ولدان مثلاً ألف متر ويحوز من له عشرة أولاد مأتي متر.
ج- كما تحدث فوضى في هندسة المناطق المحياة بهذه الطريقة؛ إذ حيث انها لم تخضع لمركزية التخطيط الحكومي في هندسة المدن فان كل أحد سيبني داره كيف شاء وفي أي مكان شاء، ولا نفاجأ حينئذٍ إذا وجدنا الشوارع ضيقة أو معوجة ومتعرجة!، كما ستفتقد هذه المناطق الكهرباء وشبكات الصرف الصحي وأنابيب المياه ومحطاتها، والسدود والجسور والأنفاق وغيرها إذ ليس بمقدور آحاد الناس عادة ذلك بل حتى القادر منهم فحيث انها تكلف الكثير جداً فان من يريد بناء بيت سوف لا يبني جسراً في المنطقة لأنه قد يكلفه مثلاً ألف ضعف سعر منزله.
وذلك كله على العكس من الحكومات التي إذا استلمت الملف وزمام الأمر فإنها ستستدعي الخبراء في الهندسة المدنية بشتى فروعاتها كي يخططوا لبناء مدينة مستوفية لكافة المواصفات الضرورية للعيش الكريم حسب احدى الطرق العلمية في كافة الابعاد: فمثلاً: يقوم فريق بأعمال الهندسة جيوتكنيكية ودراسة الخواص الكيماوية والفيزياوية والميكانيكية للصخور ومواد التربة والتي على حسب صلابتها وكثافتها و... تقرر مواقع بناء الأنفاق والسدود والجسور وكيفيتها.
ويقوم فريق آخر بعمليات هندسة المواصلات عبر تصميم وإنشاء الطرق وهندسة النقل والمرور حسب المواصفات العالمية الصحيحة.
ويقوم فريق آخر بعمليات الهندسة الصحية المتخصصة بتصميم أنظمة الصرف الصحي ومحطات المياه.
ويقوم فريق آخر بعمليات هندسة الموائع والتي تقوم بدراسة خصائص السوائل على العمارات والمنشأت والجسور نظير أثر ضغط المياه على السدود وأثر الرياح على المباني وهكذا.
ويقوم فريق آخر بهندسة وتصميم الشبكة الكهربائية.. وهكذا وهلم جرا.
وهكذا نجد ان إشراف الحكومة على توزيع الأراضي بل وتصميمها وإدارتها وتنفيذها للعملية هو الأصلح للناس، بدل ان تكون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) بدون إدارة حكومة مركزية قوية.
اليد الخفية الغيبية في اقتصاد السوق
والجواب عن ذلك:
كلا، وألف كلا!! بل ان الخير كل الخير في ان تتنحى الحكومة جانباً، وان يوكل الأمر في حيازة الأراضي الموات وإحيائها إلى الناس كل الناس وإلى مؤسسات المجتمع المدني والشركات الأهلية، ولا تلزم من ذلك فوضى ولا هرج ومرج ولا إجحاف ولا شبه ذلك.
وتوضيح ذلك وبرهنته يتوقف على استنطاق قانون من أهم القوانين الاقتصادية التي تحكم العالم منذ ألوف السنين وستبقى حاكمة مادام الإنسان إنساناً والبشر بشراً، وذلك القانون هو قانون (اليد الغيبية) الذي أسماه أبو الاقتصاد الحديث في كتابه ثروة الأمم (1776) بـ(اليد الخفية) وأسماه البعض بـ(نظام السوق) وعبر عنه بعضهم بـ(السير السلس للاقتصاد اللامركزي) والذي يعكس حقيقة ان الاقتصاد يتجه للتحرك طوعاً نحو التوازن طويل المدى وان الأسواق تقوم بعملية تصحيح ذاتي إذ تصحح نفسها بنفسها عبر قوانين العرض والطلب ونظام الأسعار.
ونضيف: ان الخلل إذا حدث فإنما يحدث بسبب عامل خارجي طارئ، وإلا فان نظام هذا السوق واليد الخفية تعمل بما هي هي بشكل مثالي مادام لم يتدخل عامل خارجي يقوم بالتشويش على/أو بتدمير العملية الاقتصادية السلسلة المرنة، والمراد بالعامل الخارجي: سلطان أو ملك أو حاكم مستبد يخلّ بتدخلاته بالعملية الاقتصادية، أو حرب مفاجئة أو غير مفاجئة، أو زلزال أو شبه ذلك، على ان الأسواق تميل لأن تسترجع عافيتها وتوازنها بالتدريج وبشكل مذهل فوراً بمجرد زوال ذلك العامل الخارجي.
ولأن المسألة في غاية الأهمية ولأنها أحد أهم قوانين علم الاقتصاد ولأن الشريعة الإسلامية، هندست الأسواق وتبنتها على ذلك، قبل الاقتصاد الكلاسيكي الحديث بمئات السنين، مع بعض التطوير الإسلامي الذي تبناه –بشكل أو آخر– الاقتصاديون الليبراليون، فلا بد من ان نمنحها بعض الشرح والبسط ليتضح لنا كيف تحل اليد الإلهية أو اليد الخفية معضلة توزيع الأراضي بعدل وإنصاف ومشكلة فوضى المدن المبنية وفق هذا النظام، وكيف يغنينا نظام السوق اللامركزي عن التخطيط المركزي الحكومي في (الأراضي) كما أغنانا عنه في (الأسواق):
معجزة الأسعار والأسواق!!
ان من أغرب أسرار صنع الله وعجائبه في عالم الخلقة، ذلك الذي يفصح عنه ما يجري كل يوم في كافة أسواق العالم ذلك ان عجائب الله تعالى في عالم الخلقة فوق ان تعدّ أو ان تحصى ولكن العلماء – عادة – اقتصروا على التفكير في / واستعراض العجائب والأسرار والغرائب التي ملأت أرجاء السماوات أو البحار أو أعماق الأرض وعالم الطبيعة، وغفلوا، ويا لِغرابة ذلك، عن بعض أغرب غرائب صنع الله التي أبدع هندستها في (عالم الأسواق والأسعار)!
ان الكثير من الناس قد يتساءل قائلاً: ان عهد المعجزات قد انتهى! فلقد أجرى الله الإعجاز على يد موسى عليه السلام بالعصى والثعبان والدم والضفادع واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها، وعلى يد نوح عليه السلام بالسفينة والطوفان، ولإبراهيم عليه السلام بالنار التي جعلها بإعجاز مذهل برداً وسلاماً، وعلى عيسى عليه السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله وعلى يد الرسول المصطفى صلى الله عليه واله وسلم بشق القمر وتكلم الحجر ومشي الشجر وغير ذلك! ولكننا لا نرى معجزة لله تعالى في هذه العصور أصلاً!
ولكن المفكّر المتدبر يرى إعجاز الله تعالى متجلياً في كل شيء
وفي كــــــــل شـــيء لـــــــــه آيـــــــــــة-----تــــــــدل علــــــى أنـــه واحـــــــــــــــــد
وقال عليه السلام: ((لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْأَبْصَارِ وَلَكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ))(8).
ومن أعظم الشواهد على إعجاز الله تعالى الإعجاز الذي يندر ان يلتفت إليه الإنسان رغم انه يراه كل يوم في كافة أسواق العالم، وذلك الإعجاز هو: (الحركة السلسلة المرنة المتوازنة للأسواق في مختلف دول العالم، التي توفق بتناسق مذهل بين مئات الألوف من المنتجين وعشرات الملايين من المستهلكين بواسطة مئات الألوف من الوسطاء والموزعين، من دون أي اتفاق أو تنسيق متقصّد بين تلك الأطراف الثلاثة المختلفة أصلاً، وذلك كله عبر نظام العرض والطلب الذي يعمل بخصيصتين عجيبتين: أ- انه يعمل بدون تخطيط مركزي ب- كما انه يعمل بشكل طوعي تلقائي وبدون إكراه.
والأغرب ان تقوم (الأسعار) بتنظيم مذهل لعملية العرض والطلب فتخفض العرض حيناً وتزيده حيناً وتخفض الطلب حيناً وترفعه حيناً، في تناغم مذهل يسير نحو غاية معينة مرسومة وهي ملائمة العرض والطلب وتطابقهما.
ثم الغريب أيضاً ان تقوم الأرباح بوظيفة الثواب والعقاب لتعيد إلى الأسواق توازنها وليتناسق العرض والطلب كلما حدث انخفاض أو ارتفاع في احدهما بحيث يخل بالتوازن بينهما).
وهذا ما سيتضح جيداً عبر عرض المثال المبسط التالي:
العامل الخفي لتنسيق الإنتاج والتوزيع والاستهلاك لملايين الناس!
لنأخذ العراق نموذجاً ولنفترض ان عدد سكانه هو أربعون مليون نسمة، ثم لنفترض ان كل شخص يستهلك سنوياً كمعدل ستمائة رغيف خبز (أي بمعدل خمسين قرصة خبز شهرياً وبمعدل رغيف وثلثي رغيف يومياً، علماً بان البعض قد يستهلك أربعة أو خمسة أقراص يومياً وقد يستهلك البعض قرصاً أو لا يستهلك شيئاً أبداً كالرضيع، فالمعدل المجموعي لنفترضه ما ذكرناه) فذلك يعني استهلاك 24 مليار رغيف خبز سنوياً في العراق فقط!
مثال آخر: لنفترض ان كل شخص يستهلك دجاجة واحدة كل شهر (مع ان البعض قد يستهلك بالشهر ثلاثين أو عشرين أو عشرة وقد لا يستهلك البعض حتى دجاجة واحدة، لذا نفترض المعدل دجاجة كل شهر) فهذا يعني 12 دجاجة بالسنة، ويعني بالنتيجة ان الأربعين مليوناً يستهلكون أربعمائة وثمانين مليون دجاجة سنوياً!
والآن لنتوقف قليلاً لندرس الإعجاز المذهل لـ(اليد الخفية) و(نظام السوق) فان 480 مليون دجاجة رقم كبير جداً، والمهم الغريب في الأمر ان هذه الدجاجات تتربى في عشرات الألوف من الحظائر (حظائر الدجاج) المنتشرة في شتى أرجاء البلاد وهي بدورها تعتمد على الطعام الذي يجب توفيره للدجاجات كلها والذي تنتجه ألوف المزارع أو الحظائر أو التي تستورد من هنا وهناك والتي توفر ذلك كاملاً..
وإدارة الدجاج بمراحله المختلفة (مرحلة البيض، الفقس والتفريخ وصولاً إلى مرحلة الدجاجة المكتملة) عملية تتطلب جهداً ونظاماً للرعاية والحفظ من الأمراض والأوبئة، وقد يموت الكثير الكثير جداً منها في الحظائر طوال السنة. ولكن ومع ذلك تصل الأعداد المطلوبة (وهي 480 مليون في المثال) إلى كافة المستهلكين في أرجاء البلاد وفي الوقت المطلوب، ثم بعد ذلك تأتي ألوف السيارات والشاحنات التي تنقل الدجاج الحي أو المذبوح إلى عشرات الألوف من المحلات المنتشرة في شتى البلاد، ثم توصلها بدورها إلى الملايين من المستهلكين!
والغريب هنا انه لا يوجد تخطيط مركزي عام يوجه هذه العمليات المتنوعة الطويلة المتشابكة أبداً: فلا يوجد حاكم ظالم أو عادل أو حكومة ملكية أو جمهورية، استبدادية أو ديمقراطية قامت بدراسة كم مليون دجاجة يحتاجها الشعب العراقي بالسنة وانها 480 مليون أو 460 مليون أو 430 مليون أو أقل أو أكثر؟ ولا وجد حاكم أو تخطيط مركزي يحدد كم عدد الحظائر التي ينبغي ان تشيّد في أنحاء العراق لتتكفل بإنتاج 480 مليون دجاجة لا 500 مليون زائدةً ولا أربعمائة مليون ناقصةً! كما انه لم يحدد حاكم مواقع هذه الحظائر وكمية إنتاج كل منها ولا قام بجمع بعضها إلى بعض فوجدها ناقصة فصنع حظائر جديدة أو أمر بذلك، أو وجدها زائدة فألغى بعضها! ولا قام حاكم بتحديد عدد محلات بيع الدجاج التي توصل تلك الـ480 مليون دجاجة إلى أيدي المستهلكين بسهولة!
لم يحدث أي شيء من ذلك أبداً.. بل ان (اليد الخفية) هي التي دفعت مئات الألوف من المنتجين، من غير ترابط بينهم أصلاً، إلى إنتاج الكمية المطلوبة المذهلة (480 مليون) التي يحتاجها ملايين المستهلكين (40 مليون) بالضبط!
وإذا حدث ان زاد عرض الدجاج فانه سرعان ما يرجع إلى نقطة التوازن مرة أخرى، بشكل آلي أتوماتيكي ومن دون تخطيط مركزي، بل يبدو ان هناك توافقاً لا مرئياً بين مئات الألوف من المنتجين لخفض الإنتاج إذا ازداد عن طلب ملايين المستهلكين، وتوافقاً آخر لا مرئياً كذلك لزيادة الإنتاج إذا زاد طلب المستهلكين!!
فمن الذي قام بذلك كله؟ من الذي أدار العملية كلها؟ وكيف حدث ذلك التناسق المذهل بين المراحل الثلاث: الإنتاج ثم التوزيع ثم الاستهلاك؟
(الأسعار) هي الحكم العادل!
ثمّ: كيف كان (السعر) رغم انه أعجم أبكم لا يفهم! هو (الحكم العادل) في كافة مراحل العملية؛ فانه إذا ارتفع السعر فانه يرسل بذلك إشارة إلى المستثمرين الحاليين لزيادة الإنتاج وإلى غيرهم بالاستثمار في هذا الحقل نظراً للأرباح الكبيرة المتوقعة، فيزداد بذلك الإنتاج، وعندما يزداد ثم يزداد يصل إلى نقطة التعادل فإذا ازداد أكثر فان (الاسعار) تبدأ مسيرة معاكسة إذ تنخفض حينئذٍ تدريجاً لأن العرض زاد على الطلب فإذا انخفضت الأسعار أرسلت إشارة للمنتجين لتقليل الإنتاج فيقل إلى ان يعود إلى نقطة التوازن من جديد!.
وهكذا تجد (السعر) يتحكم بشكل مذهل في تنظيم حركة العرض والطلب، وكما ان المدّ والجزر في البحر تحكمه معادلات جيولوجية – كونية محددة كجاذبية القمر مثلاً، فيزداد بحدود وينحسر بحدود، إلا إذا حدث طارئ خارجي، فكذلك حركة المدّ والجزر في العرض والطلب فان لها عاملاً يتحكم بها على مدار الأيام والأشهر والسنين وهو (السعر) كما أسلفناه.
الرسول صلى الله عليه واله وسلم ((إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))
ولذلك كله نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم يشير إلى هذه الحقيقة المذهلة بقوله: ((إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ))(9) فان (السعر) كسائر قوانينه التي وضعها في الكون والتي تهندس عالم الطبيعة أو عالم الحيوان أو الإنسان، فكما ان قانون الجاذبية وهو قانون وضعه الله تعالى، يهندس عالم الطبيعة ويضبط حركة الأرض والكرات المختلفة، فكذلك قانون (السعر) يهندس عالم الأسواق كلها فينظم حركة العرض والطلب ويتحكم في درجة المدّ والجزر فيها حتى إرجاعهما في مدى زمني معين إلى حالتهما الطبيعية.
ثم انه صلى الله عليه واله وسلم قال: ((يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ وَيَخْفِضُهُ إِذَا شَاءَ)) وإنما يرفعه ويخفضه بحسب القوانين التي وضعها، كقانون السعر، إذ (ابى الله ان يجري الأمور إلا بأسبابها) وورد ((اعْقِلْ وتَوَكَّلْ))(10) وقال: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)(11) وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(12) وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(13) كما قال: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ)(14) أ- فلأنه مسبِّب الأسباب وبيده مقاليد الأمور بأجمعها فكل شيء تصح نسبته إليه ولذا قال: (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى)(15) و(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)(16) ب- ولأنه فسح لنا مجال التحرك في دائرة الاختيار فتصح نسبة أفعالنا إلينا أيضاً كذلك.
وقد قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم: (( إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ)) جواباً على الذين طلبوا منه ان يسعِّر على المحتكرين فرفض، واكتفى بان أمرهم بان يُخرجوا حُكرتهم(17) إلى الأسواق، ولم يسعّر عليهم، وذلك لإحاطته وعلمه بالقانون الاقتصادي الإلهي الحاكم على الأسواق وهو ان العرض إذا ازداد (بإخراج المحتكرين بضائعهم وعرضها في الدكاكين والأسواق) انخفضت أسعاره طبيعياً ولا حاجة مع ذلك إلى التسعيرة أبداً.
ونص الرواية: ((مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم بِالْمُحْتَكِرِينَ فَأَمَرَ بِحُكْرَتِهِمْ أَنْ تُخْرَجَ إِلَى بُطُونِ الْأَسْوَاقِ وَحَيْثُ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: لَوْ قَوَّمْتَ عَلَيْهِمْ فَغَضِبَ صلى الله عليه واله وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: أَنَا أُقَوِّمُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا السِّعْرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَرْفَعُهُ إِذَا شَاءَ وَيَخْفِضُهُ إِذَا شَاءَ))(18)
كما انه صلى الله عليه واله وسلم صرح برفضه التخطيط المركزي للأسواق بقوله ((دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ))(19).
فشل الشيوعية العالمية في التخطيط المركزي للأسواق
ومن ذلك نعرف سر الفشل المذهل الذي منيت به الشيوعية العالمية، فقد رفعت شعار (التخطيط المركزي) للاقتصاد كما رفعت الشعار نفسه للسياسة أيضاً، ولكنهم في (الصين) بدأوا منذ أواخر الثمانينات بالتراجع عن هذا النظام تدريجياً والاتجاه نحو نظام السوق شيئاً فشيئاً وكان ذلك من أسرار تقدم الصين اقتصادياً بشكل سريع خلال العقود الأخيرة.
واما الاتحاد السوفياتي فبعد ان كانت خروشوف قد صرح عام 1956 بـ(سواءً أعجبكم ذلك أم لم يعجبكم فان التاريخ في صفنا! وسوف ندفنكم!)، لكن التاريخ قام بالعكس من ذلك تماماً إذ كان التاريخ هو الذي تكفل بدفن الاتحاد السوفياتي ومركزيته المطلقة في السياسة والاقتصاد وإلى الأبد!
واللطيف ان قادة الاتحاد السوفياتي قرروا في البدايات إدارة الاقتصاد بمجمله عبر التخطيط المركزي، الأكثر حكمة بنظرهم من فوضوية السوق! فجمعوا خيرة علماء الاقتصاد، ليقرروا هم بدل اليد الغيبية أو الخفية الإجابة على الأسئلة التالية (كم وكيف ومتى وأين ومَن ولمن؟) في مراحل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ففي مثالنا السابق، كم دجاجة يجب ان تنتج في البلاد؟ وكيف وعبر أية نوعية وكمية من الحظائر والأجهزة؟ ومتى تشيّد تلك الحظائر وأين (في أية منطقة تشيّد كم حظيرة أو لا يشيّد شيء منها؟) ومَن يقوم بإدارة الحظائر؟ ولمن ترسل؟ وعبر مَن توزع؟ وكم يُعطى منها للمستهلك حسب نظام الكوبنات.. وهكذا حاول الحزب الشيوعي إخضاع كل شيء في الاقتصاد إلى التخطيط المركزي: من الخبز والجبن والخضروات بأنواعها والفواكه بأشكالها، وإلى البذور والأسمدة، وإلى الأقمشة والملابس، وإلى الأصباغ والأقلام والدفاتر والكتب، وإلى الأجهزة المنزلية والكهربائية وألف شيء وشيء!!
وكان من الطبيعي ان يواجه المخططون بالفشل الذريع وان يكتشفوا عدم تطابق حسابات الحقل والبيدر وان يتراجعوا تدريجياً (حتى السقوط) بعد ان اكتشفوا متأخراً جداً ان نظام السوق الحرّ هو النظام الأفضل الأكثر تطوراً ومطابقة لتلبية حاجات البشر بشكل سلس تماماً وانه هو الذي يعمل دون إكراه وبدون توجيه مركزي معتمداً على نظام العرض والطلب الطبيعي وعلى ميزان (الأسعار) كمقياس مرجعي لتنظيم حركة العرض والطلب بشكل متوازن وعلى (الأرباح) كنظام للمثوبة والعقوبة، ومن ثم تشجيع إنتاج ما يطلب الناس أكثر وتثبيط إنتاج ما لا يريده الناس.
اليد الخفية تنظّم حركة توزيع الأراضي
إذا توضح ذلك، فنعود إلى معضلة الاراضي فنقول: انها ليست بمعضلة أصلاً، فانه إذا كانت (اليد الغيبية) أو (اليد الخفية) هي التي تنظم حركة الأسواق حسب قانون العرض والطلب وحسب مؤشرات الاسعار، فإنها بنفسها تقوم بتنظيم حركة الأراضي على نفس الصورة والـمِنوال تماماً حذو القذة بالقذة!
وبعبارة أخرى: فان (الأراضي) هي صغرى من صغريات تلك الكبرى الكلية!
وبعبارة ثالثة: ان الاراضي هي كالعقارات وكالأجهزة الكبيرة والصغيرة والسيارات والمكيفات والثلاجات و...، هي بضاعة من البضائع التي إن تحكمت فيها الحكومة كان ما تفسدْ أكثر مما تصلح.
التدخل الحكومي يُفسِد أكثر مما يُصلِح، لجهاتٍ خمس
أولاً: لأن الحكومة تميل بطبعها إلى التمركز وإلى المزيد من الاستئثار والاستبداد فيحتكر المسؤولون، شيئاً فشيئاً، الأراضي الكثيرة الجيدة لهم ولأقربائهم وأحزابهم وجماعاتهم.
ثانياً: لأن الحكومة بطبعها تميل إلى قول (لا) لأي طلب يطلب منها، إلا بابتزاز ورشوة و...
ثالثاً: لأن الحكومة بطبعها تميل إلى المزيد من البيروقراطية والروتين والتعقيدات والتقييدات الإدارية.
رابعاً: لأن الحكومة تتركز في أيديها سلطات وقوى مذهلة: كقوة السلاح، عبر الجيش وغيره وكسلطة التحكم في العلاقات مع سائر دول العالم عبر وزارة الخارجية، وكالقوى المذهلة التي تخوّلها إياها وزارات الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها، فكلما أضيفت لها صلاحية جديدة وقدرة جديدة (كقدرة ضبط الأراضي والتحكم فيها) كلما كان خطر انقلابها إلى سبع ضار يغتنم أكلهم كما قال الأمير عليه السلام ((وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُم))(20) أكبر فأكبر، وقد فصّلنا طريقة تقسيم السلطات بشكل أكثر تطوراً في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية) فراجع.
وخامساً: لأن الحكومة هي أقل كفاءة، بدون قياس، من مؤسسات المجتمع المدني والشركات الأهلية والنظام اللامركزية للسوق.
ولكن كيف تدير اليد الخفية استصلاح الأراضي؟
ولكن هنا يبرز السؤال الأول وهو: كيف تدير اليد الخفية ونظام الأسواق اللامركزية، عملية توزيع الأراضي بشكل عادل؟ وكيف تتم هندسة المدن؟
هندسة المدن عبر الشركات الأهلية
والجواب على كلا الشقين في ضمن الآتي: أما هندسة المدن فتتم عبر الشركات الأهلية المتخصصة والمتنافسة فكل شركة تعرض تصميمات أفضل وخدمات أكثر وامتيازات أوفر، فان الناس سيقبلون عليها أكثر.. وكما تتم كافة عمليات (المناقصة) يمكن ان تتم هذه العملية أيضاً.. وكما تتم عملية عرض العقارات والمساكن والمحلات التجارية المبنية بالفعل والاراضي المملوكة بالفعل، تتم هذه العملية..
وذلك يعني، ان على الحكومة ان تفتح المجال (أي لا تغلقه إذ ليس لها حق أصلاً في سلب حريات الناس في الحيازة والزراعة والصناعة وغير ذلك) امام الشركات المسجّلة (ولا نرى وجهاً لاشتراط تسجيلها أبداً فانه خلاف حريات الناس ولعله يأتي بيانه، ولكن نقول تنزلاً: الشركات المسجلة) لكي تتنافس ما بينها في تقديم أفضل الاطروحات لإحياء الأراضي الموات فقد تتكفل شركة بمليون متر وأخرى بمليون آخر وثالثة بعشرة ملايين ورابعة بمائة ألف، ثم تعرض هذه الشركة وتلك والثالثة و.. مخططاتها لبناء الأراضي على شكل بيوت من مائة متر ومأتي متر وثلاثمائة متر و... وألف متر وهكذا.. وعلى شكل مزارع مختلفة الأحجام والمواصفات، وعلى شكل أسواق ومحلات، وعلى شكل اصطبلات وحظائر.. الخ ويكون للناس الخيار والاختيار في الشراء من أراضي هذه الشركة أو تلك و... كما ان لهم الخيار في ان يؤسسوا شركات جديدة يستثمرون بها الأراضي بأنفسهم.
وههنا صيغتان: الأولى: ان تقوم مؤسسات المجتمع المدني المعنية، بالإشراف على ذلك كله فتتم المناقصات تحت إشرافها وهكذا في مجمل سير العملية بأكملها وهي التي تتكفل أيضاً بإحراز عدالة التوزيع، وقد فصّلنا طريقة ذلك في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية) فراجعه حتماً لأن الفكرة ستتضح بشكل جلي لا يقبل اللبس حينذاك بإذن الله تعالى.
الثانية: وهي صيغة تنزّلية: ان تقوم الحكومة بالإشراف على العملية، والفرق بين هذه الأطروحة وبين الاطروحات المتداولة في عالم اليوم من جهات:
الحكومة حارس فقط، لا منتج ولا قاض!
فأولاً: الدولة لا تمارس، حسب أطروحتنا هذه، التخطيط والبناء و.. أي لا تتحول هي بنفسها إلى (شركة) تقبض زمام الأمور ليعود محذور الاستبداد وتمركز القوى وإقصاء الشركات المنافسة الأهلية، بحيل خفية أو بطريقة جلية، أو عدم السماح لها بالمرة بالوجود أصلاً.
ثانياً: ان الحكومة تقتصر على الإشراف الكلي كي لا تنتهك القوانين، لا أكثر، أي انها تقوم بدور الحارس للضوابط فقط، فإذا تجاوزت احدى الشركات القواعد العامة، كما لو قامت باحتكارٍ أو غشٍ أو تلاعبٍ أو سرقات، تدخلت الحكومة، والمقصود جهاز القضاء حصراً ولا غير وهو السلطة الثالثة، شرط ان يكون كل شيء علنياً ويتميز بالشفافية كي لا يسيء الجهاز القضائي أيضاً استخدام سلطاته (برشاوى أو محسوبيات وشبهما) فمهمة الحكومة مجرد رفع تقرير للسلطات القضائية ولا غير.
تقنين الأطر العامة بيد مجلس الشورى
ثالثاً: ان الذي يضع القوانين العامة، مثل انه لا يحق للشخص الواحد ان يحوز مثلاً مليون متر إذا أضّر بحقوق الآخرين، بل لكلٍّ الحقُّ بالمقدار الذي لا يجحف بحقوق الآخرين، ففي المنازل: من مائة متر إلى ألفي متر وأكثر أو أقل (حسب اكتظاظ المدينة بالسكان ومساحة الأراضي المتوفرة وحسب الحاجات والرغبات) وفي الشركات والمزارع والحظائر وغيرها، كل بحسب حاله. أقول: ان الذي يضع القوانين العامة هو مجلس الشورى (البرلمان) المنتخب انتخاباً واقعياً من الناس، على رأي من يرى ان الأمر مفوض إليهم في أمثال ذلك كما هو الرأي المنصور، وعلى رأيٍ آخر: بشرطِ وجودِ عددٍ من المجتهدين في المجلس كي لا يشرّعوا ما حرّم الله، أو ان يعطي بعض المراجع وكالة لبعض ثقات المجلس أو عدولهم، وعلى رأيٍ ثالث: فالذي يضع الضوابط هو شورى المراجع، وعلى رأي رابع: المرجع الذي تقلده الأكثرية، فمثلاً من الضوابط التي يراها العديد من الفقهاء استناداً إلى بعض الروايات ان من حاز أرضاً لأجل بناء أو زراعة أو غير ذلك، فانه يمهل ثلاث سنين، فإن أهملها لا بعذر موجه، سقط حقه وكان للآخرين حيازة تلك الأرض وإعمارها.
وعلى أي، فبذلك يحصل التوازن التام بين الشعب والحكومة والقوى الأخرى: إذ يكون إنشاء الشركات وإدارتها و... بيد الناس كافة، ويكون التقنين بيد البرلمان الذي انتخبه الناس (خاصة بصيغة السلطات العشر المتطورة جداً فلاحظ) ويكون الإشراف العام للحكومة (القوة التنفيذية) ويكون المرجع في فصل الأمور والنزاعات هو القضاء والمحاكم المدنية ثم الدستورية (راجع أيضاً لمزيد التدقيق والتفصيل والضوابط كتاب السلطات العشر). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين