القضاء على الفقر والتضخم والبطالة عبر قانون الأرض
خلق لكم ما في الأرض جميعاً (3)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2019-12-03 07:09
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
البحث يدول حول الأرض كعاملٍ من أهم عوامل الإنتاج وحول قاعدة ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) وان الأرض والثروات الطبيعية كلها هي للناس لا للحكومات، وذلك في ضمن المحاور التالية:
بصائر قرآنية: (جَميعاً) حال من (ما فِي الْأَرْضِ)
البصيرة الأولى: ان (جَميعاً) تأتي (حالاً) تارةً من الفاعل وأخرى من المفعول وثالثة منهما معاً ورابعة من الضمير المضاف إليه، بشرط خاص، وذلك كقولك جاء زيد راكباً، ورأيت زيداً ماشياً، وصافحت زيداً ضاحكَين، وقوله تعالى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً)(3) فان (جَميعاً) حال من الضمير (كم) الذي وقع مضافاً إليه والمضاف هو (مرجع).
وفي قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) قد يتوهم ان جميعاً حالٌ من (لَكُمْ) أي خلق لكم جميعاً ما في الأرض، ولكنه غير صحيح، والصحيح انه حال من المفعول وهو (ما فِي الْأَرْضِ) أي (ما في الأرض جميعاً خلقه لكم) ومعنى ذلك: ان كل ما في الأرض من معادن وثروات وأنهار وبحار وغابات ووديان وسهول وجبال وغيرها هو بأجمعه للناس، ولا شيء منه للحكومات أبداً فلا النفط للحكومات ولا المعادن ولا الغابات ولا غيرها أبداً.
(لَكُمْ) انحلالية أي لكل شخص شخص
البصيرة الثانية: ان (لَكُمْ) انحلالية، لا مجموعية، كما هو الأصل في أمثالها، فالمعنى انه تعالى خلق جميع ما في الأرض لكم أي لكل واحد منكم فكل واحد منكم له الحق في جميع ما في الأرض أو انه يستحقه أو انه مآله وعاقبته له وقد مضى تفصيل أكثر ومحتملات أخر.
(جَميعاً) يقابل (مجموعاً)
البصيرة الثالثة: ان قوله تعالى (جَميعاً) يقابل (مجموعاً) والمجموع يراد به الجميع مع لحاظ الهيئة الاجتماعية بنحوِ بشرطِ شيءٍ، فتكون للهيئة الاجتماعية مدخلية في ترتب الحكم والمحمول، وذلك نظير (الغابة) فانها ليست عبارة عن جميع آحاد أشجارها بل الأشجار كلها مع الهيئة المجموعية الخاصة، ولذلك فانه لو توزعت كافة أشجارها على سطح الأرض بفواصل كبيرة كما لو كان بين كل شجرة وشجرة كيلو متر واحد مثلاً فإنها لا تشكل غابة أصلاً، أما الجميع فيراد به كل فرد فرد وكما سبق فانه انحلالي فكل شخص من السبعة مليارات بشر له الحق في كافة ثروات الأرض بدون ان تمنعه من ذلك حدودٌ جغرافية أو لونية أو قومية أو سياسية أو غيرها.
تفسير (لَكُمْ) بـ(لأجلكم ولنفعكم)
البصيرة الرابعة: انه بناء على ان (لَكُمْ) انحلالية و(جَميعاً) انحلالية كذلك، فانه لا يصح ان تكون (لَكُمْ) للملك أو التمليك بالفعل إذ من البديهيات انه ليس ما في الأرض ملكاً أو مملَّكاً بالفعل لكل إنسان، بل اللام لام النفع بمعنى (خلق لأجلكم ما في الأرض جميعاً) وهذا يعني انه تعالى خلقها لنفعكم (أي لنفع كل واحد واحد من آحاد البشر) لا لنفع الحكومات أو الشركات الخاصة العملاقة المستأثرة بالأرض وثرواتها وهي المسماة بـ(الكارتل Cartel) (وهو اتفاقية بين شركات متنافسة لاستبعاد دخول منافس جديد وللسيطرة على الأسعار) أو (التراست trust) وهو مشاركة عدة مشاريع اقتصادية تحت مظلة واحدة تفقدها استقلاليتها.
أو هي لام الاختصاص أي لكم بها حق الاختصاص على معنى (مِلك أن يملك)، لكن التحقيق ان (مِلك أن يملك) مغاير لحق الاختصاص، وان مِلك أن يملك متحقق في كافة ثروات الأرض دون حق الاختصاص الفعلي؛ فانه كالملك لا يوجد إلا بسبب كالسَّبْق ((فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ))(4) ومنوط الحيازة على رأي من لا يراها مملّكة فتدبر جيداً.
أو هي لام العاقبة والصيرورة، أي خلقها لتصير إليكم وليكون مآلها إليكم، أو هي لام الاستحقاق (خلق لاستحقاقكم الأرض)؟ والأظهر من المعاني لام النفع ثم الصيرورة ثم الاختصاص الشأني ثم الملكية الشأنية، والله العالم. هذا.
القضاء على الفقر والبطالة والتضخم عبر قانون الأرض للناس
وقد سبق ان قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(5) لو طبق فان ذلك سيقضي، بدرجة كبيرة، على الفقر والتضخم والبطالة أي انه سيقلص مساحتها بدرجة كبيرة جداً فراجع ما سبق، وقد ذكرنا: ("المضاعف" الاقتصادي لـ(الأرض للناس).
هذا إضافة إلى (المضاعف) المتولِّد من انشغال مئات الألوف من الناس ببناء الدور، إذ أنّ حركة البناء (للدور والمعامل و...) عندما تتنشط فان سلسلة أخرى طويلة من الأعمال الأخرى ستنشط وتزدهر أيضاً كذلك، كاستخراج الحديد وتصنيعه، والآجر والطابوق، والكهرباء والأسلاك والأجهزة الكهربائية، والماء والمواسير والأجهزة المرتبطة بها، والصبغ والمصابغ، ومختلف الأدوات والأجهزة المنزلية التي تحتاجها المطابخ وغرف النوم من أخشاب وصحون وأواني وغير ذلك.
وهكذا تنبعث الروح في البلاد كلها دفعة واحدة، وذلك كله عبر إتباع قانون فطري بسيط واحد لكنه غريب المفعول، ككافة قوانين الله تعالى البسيطة والفاعلة جداً!)(6).
معادلة المضاعف الاقتصادي
ومعادلة المضاعف الاقتصادي (Multiplier Econmic) هذه تحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح، فانها من أهم مسائل علم الاقتصاد الكلي، ويمكن بيانها بالشكل المبسط الآتي في صورتين ومثالين: (النقد) و(العِمالة):
1- ان من الواضح ان البنك (المصرف) لو أقرض مليار دولار مثلاً للناس، سواء أكان ذلك للاستثمار أم للاستهلاك أم للمزيج منهما، وسواء أكان ذلك بربح ربوي محرم أم على شكل القرض الحسن محلل، فانه يكون قد ضخ إلى الأسواق مليار دولار فقط ولا أكثر! ولكن القاعدة الاقتصادية تقول: انه وحسب معادلة (المضاعف الاقتصادي الأساسي) يكون قد ضخّ البنك إلى السوق عشرة مليارات دولار (وأكثر في صور وأقل في صور أخرى!) ولكن لماذا وكيف؟
2- ومن الواضح ان احدى المصانع أو المعامل أو الشركات الكبرى لو استخدمت عشرة آلاف عامل، فانها تكون قد وفّرت فرصة عمل لعشرة آلاف عامل، ولكن الحقيقة الاقتصادية المسلّمة تقول: انها تكون قد وفرت فرصة العمل لأكثر من عشرة آلاف بكثير جداً: ربما لخمسين ألف أو لمائة ألف عامل (أو أكثر أو أقل من ذلك حسب اختلاف الحالات ونسبة كمية ما يدّخره العمال إلى ما يستهلكونه أو يستثمروه) ولكن لماذا وكيف؟
إن قاعدة المضاعف توضح ذلك بما لا يقبل الشك:
المضاعف الاقتصادي لإيداع مليار في البنك هو عشرة مليارات!
اما في المصرف: فانه إذا ضخ في الأسواق (عبر المضاربة أو الإقراض الخيري أو الربوي) مليار دولار مثلاً، فانها تصل إلى أيدي مستثمرين في العقارات والسيارات والمواد الغذائية وشبه ذلك، وإلى أيدي مستهلكين يشترون بها بيوتاً أو سيارات أو يُجرون بها عمليات جراحية وغير ذلك، ولنركز النظر الآن على مستثمر واحد ومستهلك واحد ليتضح حال بقية المستثمرين من ذلك: فان الشركة التي اقترضت مثلاً عشرة ملايين دولار لتشييد مصنع عندما تستلم المبلغ فإنها تودعه في احدى البنوك – عادة(7) – ثم تسحب منه شيكات تدفعها لمالك الأرض التي تشتريها منه ولنفرض انها تدفع له مليون دولار فيستلم بائع الأرض المليون ويودعها بدوره في البنك فوراً! وكذلك تدفع الشركة مليوناً أخرى (عبر شيك) للمصنع المنتج للحديد والفولاذ أو للشركة الوسيطة فيأخذه بائع الحديد ويودع المبلغ فوراً في احدى البنوك! وكذلك تدفع مليوناً ثالثاً لتشتري الإسمنت والطابوق وغير ذلك.. والمعادلة هي هي: إذ يضعها صاحب الطابوق في البنك بدوره! وهكذا نجد ان الأموال التي خرجت من البنك عادت(8) إليه فوراً!
فهذا من جهة البنك (إذ تعود الأموال التي أقرضها أو دفعها كمضاربة، بأجمعها إليه!)
المضاعف الاقتصادي لشراء البضائع أو الاستثمار فيها
وأما من ناحية المقترضين والمستثمرين فإننا نجد ان السلسلة أيضاً لا تتوقف بل تستمر؛ وذلك لأنه إذا:
1- اقترض المستثمر في بناء المصنع عشرة ملايين
2- ودفع مليوناً منها لبائع الأرض ومليوناً لبائع الحديد ومليوناً لبائع الطابوق وهكذا... فأودعها بائعو الأرض والحديد والطابوق في البنك،
3- فان بائع الأرض وكذا بائع الحديد وبائع الطابوق وكذا سائر الباعة حيث ان لهم حاجات أخرى فان كلّاً منهم يشتري بالمليون التي حصل عليها بضائع أو خدمات أخرى فمثلاً الذي باع أرضه وحصل على مليون فانه سيشتري بهذه المليون أرضاً أخرى أو مزرعة أو معملاً أو داراً لسكناه أو... فيدفع شيكاً بمبلغ مليون إلى صاحب المزرعة مثلاً (أو إلى صاحب المنزل وهكذا).
4- فيأخذ صاحب المزرعة الذي باعها، المليون (ويضعها في البنك فوراً، فعادت المليون للمرة الرابعة للبنك كما سبق.. وهكذا وهلم جرّا) ثم انه (صاحب المزرعة) سيشتري بهذه المليون حاجة أو مجموعة حاجات كأن يدفع جزء منه لشراء سيارة (ويدفع شيكاً لمعرض السيارات فيضعه هذا في البنك فوراً!) ويدفع جزء منه للمستشفى لإجراء عملية جراحية لولده مثلاً (فيضع الطبيب الجراح أجرته في البنك فوراً ويضع مالك المستشفى سهمه من المبلغ في البنك فوراً) وهكذا وهلم جرّا! ثم ان الطبيب يشتري بذلك المبلغ خدمة أو بضاعة.. وهكذا.. تستمر سلستان:
السلسلة الأولى: سلسلة النقد الذي يعود إلى البنك كلما خرج منه.
السلسلة الثانية: سلسلة البضائع التي يشتريها المقترضون والمستثمرون والمستهلكون واحداً بعد آخر.
لماذا مضاعف المصارف عشرة أضعاف؟
ولكن لماذا اعتبر علماء الاقتصاد المضاعف مضروباً في عشرة لا أكثر، مع ان السلسلة، كما ذكرنا قد تمتد إلى ما لا نهاية؟ السبب هو ان السلسلة الثانية قد تستمر إلى ما لا نهاية فيما إذا أنفق من يحصل على المال، كامل أمواله على الاستثمار أو الاستهلاك بدون أن يدّخر شيئاً، أما السلسلة الأولى: فلها سقف محدد وذلك لأنهم في هذه المعادلة، كانت دائرة بحثهم عن (مضاعف الأموال التي تضخها البنوك في الأسواق) وان مضاعفها هو عشرة أضعاف وذلك بناء على ان البنك المركزي يشترط على البنوك ان تحتفظ بعشرة بالمائة من الودائع لديها.
فإذا: 1- كان لديها مليار دولار مثلاً أمكنها ان تقرض 900 مليون فقط وتستبقي المائة مليون في البنك نظراً لسحوبات العملاء، فإذا أقرضت الـ900 مليون عادت إليها من جديد حسبما ذكرناه إذ كل من يأخذ المبلغ فانه يضعه من جديد في البنك أو يشتري به بضاعة من شركةٍ تضعه في البنك، فالمبلغ يعود إلى البنك مباشرة تارة وبالواسطة أخرى، وذلك حسب المفترض في بلاد كأوروبا وأمريكا (خلافاً للدول التي يحتفظ فيها الأفراد – أو أكثرهم أو بعضهم – بكامل أموالهم أو بجزء منها في بيوتهم، إلا ان المستثمرين ليسوا كذلك عادة إذ يضعونها في البنك).
ثم ان المقصود هو المضاعف النقدي لمجموع البنوك وليس لأحدها فقط.
2- وعندما تعود الـ900 مليون للبنك فانه يستبقي 10% منها ويقرض مرة أخرى 90% منها وهي 810 مليون.
3- ثم تعود الـ810 مليون إليه من جديد فيستبقي عُشرها ويقرض تسعة أعشارها وهي 729 مليون... وهكذا.. ويكون المحصل في غضون عشر دورات هو عشرة مليارات دولار بدل مليار، والعشرة هي مجموع ما أقرضه البنك في الدورات العشرة مع مجموع ما استبقاه لديه.
وهذا الجدول يوضح المضاعف بشكل كامل واضح:
وضع البنك |
إيداعات جديدة ($) |
قروض واستثمارات جديدة ($) |
احتياطيات جديدة ($) |
البنوك الأصلية |
- ر1000 |
- ر900 |
- ر100 |
بنوك الجيل الثاني |
- ر900 |
- ر 810 |
- ر 90 |
بنوك الجيل الثالث |
- ر 810 |
- ر 729 |
- ر 81 |
بنوك الجيل الرابع |
- ر 729 |
656.10 |
72.90 |
بنوك الجيل الخامس |
656.10 |
590.49 |
65.61 |
بنوك الجيل السادس |
590.49 |
531.44 |
59.05 |
بنوك الجيل السابع |
531.44 |
478.30 |
53.14 |
بنوك الجيل الثامن |
478.30 |
430.47 |
47.83 |
بنوك الجيل التاسع |
430.47 |
387.43 |
43.05 |
بنوك الجيل العاشر |
387.42 |
348.68 |
38.74 |
مجموع العشرة أجيال الأولى من البنوك |
6513.22 |
5861.90 |
651.32 |
مجموع الأجيال الباقية من البنوك |
3486.78 |
3138.10 |
348.68 |
مجموع النظام المصرفي كله |
- ر 1000 |
- ر 9000 |
- ر 1000 |
في النهاية، ومن خلال هذه السلسلة الطويلة تنشئ جميع البنوك إيداعات جديدة مقدارها عشرة أضعاف الاحتياطات الجديدة.
وتنجز جميع البنوك مجتمعة ما لا يستطيع أي بنك صغير فرد أن ينجزه: التوسع المضاعف للاحتياطي، وتحويله إلى نقود مصرفية، ويتم الوصول إلى التوازن النهائي حين يدعم كل دولار من الاحتياطي الأصلي الجديد 10 دولارات من الودائع التي تحت الطلب. لاحظ أن كل بنك من كل جيل من الأجيال قد أنشأ نقوداً جديدة وفق المعنى التالي سينتهي الأمر بوديعة مصرفية نهائية مقدارها 10 أضعاف الاحتياطي الذي تحتفظ به(9).
ومن المهم أخيراً الإشارة إلى: ان نسبة (المضاعف) تختلف بحسب اختلاف نسبة المدخرات إلى المصروفات (سواء أكانت استثماراً أو استهلاكاً) فإذا كان ما يدخره كل موظف من مجموع ما يحصل عليه هو 10% كان المضاعف هو ألف بالمائة وإذا كان اقل فالمضاعف أكبر وإذا كان أكبر فالمضاعف أقل، فمثلاً: إذا كان الميل الجدي للاستهلاك مقداره ثلثان فان مضاعفه سيكون ثلاثة.. وهكذا.
أثر المضاعف الاقتصادي هو من أسرار حرمة الكنز
ومن هنا نكتشف أحد الأسرار لحرمة الكنز كما قال تعالى: (وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها في سَبيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَليمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(10) فان (المال) كلما تحرّك حركةً قضى حاجةً فإذا تحرك عشر حركات قضى عشر حاجات وإذا تحرك مائة حركة قضى مائة حاجة وهكذا مما يعبر عنه بسرعة دَوَران النقد أو بطؤه، فإذا قام الأثرياء أو الشركات أو الحكومات بكنزه تعطلت كل تلك الحاجات، فمثلاً: لو كان لديك عشرة دنانير فكنزتها لم يتحرك الاقتصاد أصلاً ولكنك لو دفعتها للخياط واشتريت بها ثوباً فقد تحركت عجلة الاقتصاد خطوة للأمام وانتفعت أنت والخياط معاً، ثم ان الخياط يشتري بهذه الدنانير لأولاده كتباً مدرسية مثلاً ويدفع الدنانير لبائع الكتب فتتحرك عجلة الاقتصاد مرة أخرى وتُقضى بذلك حاجة جديدة، ثم ان بائع الكتب يدفع الدنانير لبائع المواد الغذائية ويشتري أرزاً ولحماً و... فتتحرك عجلة الاقتصاد خطوة أخرى، ثم ان البقال أو بائع المواد الغذائية يدفع الدنانير أجرة للسيارة التي تقله إلى بلد آخر، ويدفعها سائق السيارة إلى الطبيب لعلاج أطفاله فيدفعها الطبيب لشراء مجلة أو كتاب... وهكذا وهلم جرّا تتسلسل العملية، كما سبق، إلى ما لا نهاية أي إلى ان يدّخر أحدهم تلك الدنانير في بيته أو في البنك فتقطع السلسلة.
وكما هو الحال في (النقد) و(البضاعة) فكذلك الحال في (العمالة) فانك إذا استخدمت عشرة عمال لخياطة الملابس وبيعها فان الظاهر هو انك وفّرت فرصة عمل لعشرة أشخاص ولكن الواقع هو انك شغلّت عمالاً أكثر بكثير فقد يكونون خمسين أو مائة أو أكثر أو أقل، وذلك لأنك عندما وظفت عشرة أشخاص لخياطة الملابس، ودفعت لكل منهم مثلاً مليون دينار أول الشهر (من الأرباح التي تحصل عليها من بيع الملابس) فان هؤلاء يشترون بالعشرة ملايين: فواكه ولحوماً، وكتباً، وتلفونات مثلاً، وهذا يعني تنشيط حركة بيع الفواكه واللحوم والكتب والتلفونات بنفس النسبة إذ لو لم يكن للخياطين (وسائر العمال) مال فكيف يشترون البضائع؟(11)
ثم عندما يبيع البقال واللحام والكتبي والشركة، الفواكه واللحوم والكتب.. يحصلون بها على الأرباح فيمكنهم توظيف موظفين أكثر أو على الأقل يمكنه استبقاء الموظفين السابقين ليستمروا في أعمالهم فانه إذا لم تجد الشركة من يشتري تلفوناتها أو سياراتها أو موادها الغذائية اضطرت إلى تسريح أعداد كبيرة من عمالها وموظفيها.. وهكذا تتسلسل الحلقات: فكل عمل عامل توفر له فرصة عمل فانه يحرك عجلة الاقتصاد في سلسلة تموجات متلاحقة، إذ انه يوفر لسائر العمال فرصة الاستمرار في أعمالهم بما يشتريه من منتوجاتهم.
فإذا اتضح ذلك، يتضح لنا بشلك أجلى أثر (المضاعف الاقتصادي الكبير) لقانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) على الاقتصاد كله:
المضاعف الاقتصادي لقانون الأرض للناس لا للحكومات
فانه إن طبق هذا القانون زاد عرض الاراضي بنسبة كبيرة جداً (لنفرضها ألف بالمائة) وتكون الأراضي الجديدة (من الأراضي الموات التي يراد إحياؤها) مجانية بينما ترخص كافة الأراضي السابقة في المدن والقصبات والأرياف وسوف يؤثر ذلك على رخص أسعار كافة البضائع الأخرى، فيكون بمقدور الفقير ان يشتري عشرة كيلوات من اللحم بدل كيلو واحد مثلاً ويكون بمقدوره شراء عشر كتب بدل كتاب واحد وهكذا..
إضافة إلى ذلك فانه سوف يجد المزيد والمزيد من الناس فرصاً كثيرة جداً للعمل وذلك لأن القاعدة العامة هي: كلما كثر الطلب زادت نسبة التوظيف (لتلبية الطلب المتزايد) وقلّت البطالة بنفس النسبة.
وبوجه آخر: فانه لو فرضنا ان الحكومة طبّقت قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) فان الملايين من الناس الذين لا يملكون بيوتاً سوف يُحجّرون أو يحجزون أرضاً لبناء دار أو مزرعة أو متجر أو غير ذلك، فإذا فرضنا ان العراق يحتاج إلى ثلاثة ملايين وحدة سكنية، فلو فرضنا، كحد أدنى، ان مليون عائلة قررت بناء مليون منزل، وان بناء كل منزل يحتاج – فرضاً – إلى عمل شخصين لمدة سنة (من حفار وبنّاء وكهربائي وصباغ وسمكري و...) وفرضنا ان بعضهم يبني بيته بنفسه وأولاده، وبعضهم (من الطبقة المتوسطة) يستأجر عمالاً، وبعضهم يعمل هو ويستأجر عاملاً إلى جواره، وفرضنا ان عدد من يُستأجرون (من عمّال وبنّائين وصبّاغين و...) هو النصف فهذا يعني توفير فرصة عمل لمليون شخص عاطل إضافة إلى ملأ وقت مليون شخص آخر (من ملّاك الأراضي الجديدة) ببناء دار لهم أو مزرعة أو محل! فتصور هذا الحل السهل المذهل لنسبة كبيرة من البطالة!
إحصاءات عن معدلات البطالة في دول العالم
وليس غريباً ان نعرف بعد ذلك السرّ في عجز أرقى دول العالم عن حل مشكلة البطالة، فلنقرأ أولاً الارقام التالية التي تتحدث عن معدلات البطالة في الدول الإسلامية وفي الدول الشرقية والغربية سواء الغنية منها أو الفقيرة:
الدول |
معدل البطالة (%) |
المصدر\ تاريخ المعلومات |
استراليا |
5.8 |
2017م (شباط/فبراير) |
المملكة المتحدة |
4.2 |
2018م |
الولايات المتحدة |
4.1 (8.6) |
2018م([1]) |
كندا |
5.9 |
2018م (شباط/ فبراير) |
الصين |
4.1 |
2015م |
فرنسا |
9.6 |
2016م (كانون الأول/ديسمبر) |
اليابان |
2.4 |
2018م (آذار) |
المكسيك
|
3.7 |
2016 (كانون الأول/ ديسمبر) |
روسيا |
6.0 |
2016م (آذار/ مارس) |
السويد |
6.1 |
2016م (أيلول/ سبتمبر) |
سويسرا |
5.2 |
2017م (آذار/ مارس) |
ألمانيا |
3.7 |
2017م (آب/ أغسطس) |
إندونيسيا |
5.33 |
2017م (شباط/ فبراير) |
إيران |
10.7 |
2016م |
العراق |
16.0 |
2012م |
الكويت |
3.0 |
2016م |
البحرين |
4.1 |
2014م. |
لبنان |
10.0 |
2009م (تموز/ يوليو) |
ماليزيا |
3.5 |
2017م (آذار/ مارس) |
المغرب |
10.7 |
2017م |
باكستان |
6.7 |
2016م |
السعودية |
12.8 |
2017م |
سوريا |
40.0 |
2014م |
تونس |
15.2 |
2014م |
مصر |
11.3 |
2017م |
تركيا |
10.3 |
2017م (تشرين الثاني/ نوفمبر) |
الإمارات العربية المتحدة |
4.3 |
2010م |
اليمن |
35.0 |
2009م |
أفغانستان |
35.0 |
2008م |
دلالات معدلات البطالة في دول العالم
وذلك كله لأن دول العالم – الإسلامي والغربي والشرقي – بنت على أساس غير وثيق فان مشكلة البطالة لا يمكن حلها إلا بالعودة إلى النظام الاقتصادي الفطري الإلهي في الأرض وغيرها مما سيأتي، وحيث أبت الحكومات ذلك ورفضتها فان أكثرها ثراءً وتطوراً في الاقتصاد عجزت عن حل مشكلة البطالة وأصبح غاية فخر علماء اقتصاد أكثر البلاد ثراءً وتطوراً ان يتكيّفوا مع نسبة بطالة منخفضة! أي انهم استسلموا لوجود البطالة ولم يجدوا لها حلاً أبداً لذلك فانهم يعتبرون المحافظة على نسبة بطالة منخفضة كـ3% أو حتى 4% أو 5% امتيازاً كبيراً!
والغريب ان كندا تعد من أغنى دول العالم وأكثر الاقتصادات العالمية تطوراً كما ان عدد نفوسها قليل جداً بالقياس إلى مساحتها وثرواتها ومع ذلك تعاني من بطالة تقارب على الـ6%؟ وأستراليا كذلك؟ وأمريكا تعاني مع نسبة بطالة أكثر من 4% رغم انه لا توجد في التاريخ دولة أكثر غنى وثراء وفرصاً للعمل منها؟ فما الذي يكشف عنه ذلك؟ انه يكشف عن وجود خلل منهجي في النظام الاقتصادي الغربي والشرقي في إعراضهم عن المنهج الإلهي – الفطري الذي يتكفل بحل أعقد المشاكل المستعصية بأبسط الوصفات وأقلها تكلفةً..
واما الدول الإسلامية فتجد ان نسبة البطالة في البحرين مثلاً 4.1% مع ان البحرين تمتلك ثروات طائلة جداً (وقد ذكرت بعض الإحصاءات ان ما بحوزة ملك البحرين حوالي سبعمائة مليار دولار! والتي طالبه بها ترامب!) ومع ان نفوس البحرين لا يبلغون المليون مع ذلك تجد نسبة البطالة 4.1% واما العراق وأفغانستان والسعودية وسوريا وغيرها فحدث عنها ولا حرج! فانها قد جمعت إضافة إلى الإعراض عن منهج الله تعالى في توزيع الأراضي، الدكتاتورية والاستبداد والفساد المالي والإداري وشبه ذلك.. ألم يقل الله سبحانه (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصيراً * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)(13) والذكر هو القرآن الكريم والإعراض عنه هو الإعراض عن آياته ودساتيره الحيوية في الحياة ومنها قوله تعالى: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) و(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فأعرضت الحكومات، واستسلمت لها الشعوب، عن ذلك وقالت: (الارض للحكومات) وقد خلقها الله للحكام!
وسيأتي في بحث قادم تفصيل الكلام عن ان الأراضي الأميرية والتابعة لوزارة المالية، إنما هي بدعة ابتدعها السلطان العثماني حيث اعتبر ان كافة الأراضي خارج القرى والقصبات والمدن، تابعة للسلطان العثماني! ثم جرت على ذلك حكومات العراق (الوطنية!) حتى يومنا هذا!
والغريب ان يكون منهج السلطان العثماني هو الحاكم وان ندافع عنه ونبرر له ونفلسف له! ونُعرِض عن منهج الله تعالى خالق الكون الذي وردت بمفرداته آيات صريحة في القرآن الكريم.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.