سؤال النهضة واصلاح التعليم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ (4)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2019-07-10 07:26

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى‏ في‏ خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظيمٌ)(1)

البحث، في هذا اليوم، يقع في محورين: الأول بعض البصائر القرآنية. الثاني: سؤال النهضة والبحث عن مفتاح المفاتيح والمفتاح الرئيس والمنطلق الأول للنهوض بالأمة وانتشالها من واقعها المأساوي المرّ واستنقاذ المسجد الأقصى والمسجد الحرام والمسجد النبوي والبقيع الفرقد وبلاد المقدسات من أيدي الصهاينة والوهابيين..

دوائر أحكام العقل ونطاقاته:

المحور الأول: بعض البصائر القرآنية: ان قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى‏ في‏ خَرابِها) يستبطن الإشارة إلى احدى المستقلات العقلية من دائرة (الجزئيات الإضافية) ويتضح ذلك في ضمن بيان القاعدة العامة فنقول: ذهب بعض الفلاسفة إلى ان العقل يدرك الكليات فقط ولا يدرك الجزئيات.

الكليات والجزئيات الإضافية، لا التطبيقات

ولكن الصحيح هو التفصيل وان الأقسام ثلاثة وليست قسمين، وفيها أيضاً تفصيل، وهي: الكليات، الجزئيات الإضافية أو الأصناف، التطبيقات والمصاديق، والعقل حاكم في المستقلات العقلية الكلية، وقد يكون حاكماً في بعض جزئياتها الإضافية بالثبوت أو العدم أو قد لا يحكم، اما التطبيقات والمصاديق فليست من شأنه بل هي من دائرة العلم أو الوحي أو شبه ذلك على ما فصّلناه في كتاب (مدخل الى علم العقائد - نقد النظرية الحسية -) ويتضح ذلك أكثر بسرد بعض الأمثلة:

أمثلة تطبيقية: ردّ الوديعة في ثلاث دوائر

فان العقل يحكم، مثلاً بحسن ردّ الوديعة بما هي هي، وهذا مما يقع في ضمن الدائرة الأولى (دائرة الكليات من المستقلات العقلية) ولكن هل يحكم بحسن ردّ الوديعة إلى المجرم؟ او العدو؟ أو إلى الكافر الحربي؟ أو الناصبي؟ أو يفصّل بين نوع الوديعة ونوع العدو والمجرم والمآلات المترتبة على ذلك فيحكم بالحسن في صُوَرٍ وبالقبح في صُوَرٍ ويتحيّر في صُوَرٍ؟ فيحكم – مثلاً – بحسن ردّ الوديعة للعدو إذا كانت طعاماً أو مالاً مع العلم بانه لا يستخدمها في الإفساد في الأرض أو سفك الدماء، ويحكم بقبح ردّ الوديعة له إذا كانت سلاحاً فتاكاً نعلم بانه سيستخدمه لسفك دماء الأبرياء، وقد يتحير في حسن أو قبح رد الوديعة له إذا كانت سلاحاً ولم نعلم بانه هل يستخدمه في الدفاع عن مظلوم أو يستخدمه في الهجوم على بريء؟ واما التطبيقات فليست شأن العقل أصلاً، فهل هذا كافر حربي؟ أو ناصبي؟ أو عدّو محارب؟ أو قاصد للإضرار بالغير أو النفع له؟ أو شبه ذلك، ذلك كله يقع في دائرة (العلم) إذ يحتاج إلى معلومات ولا يقع في دائرة العقل بما هو هو، بل إذا أراد ان يحكم فإنما يحكم متسلحاً بسلاح العلم.

حسن العدل

مثال آخر: العقل يحكم بحسن العدل، وهذه قضية كلية لا شك فيها، ولكن هل يحكم بحسن العدل بالنسبة للوحوش الآدميين أمثال نمرود ويزيد وصدام؟ فقد يقال: بان (العدل) وهو وضع الشيء موضعه وإعطائه كما يستحق، حَسَنٌ على كل حال، فإن زاد أو نقص عن درجة الاستحقاق خرج عن كونه عدلاً ولذلك قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)(2) و(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ)(3) (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(4) وبعبارة أخرى: (العدل) من العناوين التي ذاتيّها الـحُسْن، والظلم من العناوين التي ذاتيّها القبح، ولو انفك الحسن عنه لما كان عدلاً، بالبرهان الإنّي، عكس الصدق الذي هو عنوان اقتضائي للحسن ولذا قد ينفك فيقال صِدقٌ قبيحٌ كما لو أدى صدقه إلى قتل بريء أو الزنا بمحصنة أو مصادرة أموال مظلوم، اما الظلم فلا ينفك عن القبح ولذا لا يقال انه ظلم حسن، ولو كان حَسَنَاً لما كان ظلماً، ولا يقال عدل قبيح ولو كان قبيحاً لما كان عدلاً.

واما التطبيقات، فليست من دائرة العقل بل هي من دائرة العلم أو الشرع، فمثلاً هل من العدل إعطاء الزوجة الثمن من الإرث أو الربع أو النصف أو الأكثر أو الأقل، أو إعطاء الأخت أو البنت كالأخ أو نصفه؟ ان ذلك مما لا يرتبط بالعقل بما هو هو بل يرتبط بالعلم، أي الإحاطة العلمية بمجمل معادلة (الزوجة) في حياة الزوج، والأولاد، والمسؤوليات المالية الملقاة على عاتقها، وسائر معادلات الدنيا والآخرة أيضاً، فإذا وجدنا مثلاً ان النفقة تقع على عاتق الرجل أباً كان (لأبنائه) أم زوجاً (لزوجته) أم ابناً (لأبويه وأجداده في صورة فقرهما) وانها لا تقع على عاتق المرأة زوجة كانت (لزوجها) أو أماً (لأبنائها) أو بنتاً (لأبويها) فان هذا يعطينا بعض الصورة في الحكمة وراء (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(5).. ولو ناقش مناقش من غير الدين الإسلامي فليس من الصحيح ان يناقش بالعقل ويقول: ان العقل يرفض ذلك! إذ القضية علمية وليست بقضية عقلية محضة مستغنية عن أدوات العلم؛ لأن الإرث في منظومة الإسلام مبني في مرتبة سابقة على مجمل المنظومة المالية ومنظومة المسؤوليات والمواقع التي وضع الإسلام فيها كلاً من الرجل والمرأة فهذا الإرث في ضمن هذه المنظومة حَسَنٌ، اما الإرث في ضمن منظومة أخرى فأمر آخر، وذلك كله نظراً إلى الحكمة واما العلل وتمام ملاكات الأحكام فهي مما لم نُؤتَ علمها.

الإضرار البالغ بالنفس

مثال آخر: الإضرار البالغ بالنفس، قبيح، ولكن ماذا عن الجرح العميق للرِجل أو اليد؟ وماذا عن قطع اليد لضرورة طبية خوف سريان المرض؟ ولئن كان الجواب عن الأخير واضحاً فان الجواب على سابقه صعب، واما تشخيص التطبيقات (ككون هذا المرض مسرياً وانه لا علاج إلا ببتر اليد مثلاً) يقع على عهدة علم الطب وليس للعقل بما هو غير متسلح بالعلم ان يحكم على هذه الصغرى أو تلك.

الخطأ الفلسفي في التطبيقات الطبيعية والإلهية

وان عمدة خطأ بعض الفلاسفة هو إقحامهم العقل في دائرة العلم، ولذلك وقعوا في الأخطاء المذهلة في الطبيعيات وفي الإلهيات:

ففي الطبيعات: قالوا باستحالة الخرق والالتيام وان الكواكب أو السماوات السبع كأقشار البصل! وان كل دِيَكَةِ العالم – مثلاً – لها ربّ نوعٍ في عالم المثال فكلما صاح صاحت وكلما سكت سكتت! وكذا الخرفان والذؤبان وكافة أنواع الحيوان والإنسان كلها لها أرباب الأنواع أو الـمُثل المعلقة!

وفي الإلهيات: ارتكبوا الفدائح فقالوا مثلاً باستحالة علم الله تعالى بالجزئيات!؛ مع ان ذلك باطل بالعقل والوجدان، وأقل ما يقال لهم: انه مما لا يمكن الإحاطة به فانه حيث كان علمه تعالى عين ذاته فانه لا يمكن ان يكون مدرَكاً لنا بالمرة كما كانت ذاته غير مدركة لنا بالمرة، وكيف نحكم على علمه تعالى بانه يستحيل إحاطته بالجزئيات مع انه ليس كما نعهده من العلوم أبداً إذ العلوم لدينا عرض مفارق وليست عين الذات بل هي كيفية نفسية أو إضافة أو انفعال أو غير ذلك على الأقوال، اما علمه تعالى فهو عين ذاته فلا هو عرض ولا هو مفارق ولا هو كيفية ولا شبه ذلك فكيف ندرك كنهه لنحكم عليه بانه لا يدرك الجزئيات مثلاً؟ فهذا هو من أظهر مصاديق إقحام العقل في دائرة العلم.

إذا اتضح ذلك كله فلنعد إلى الآية الشريفة فنقول:

(وَمَنْ أَظْلَمُ...) في دائرة المستقلات العقلية

ان قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فيهَا اسْمُهُ وَسَعى‏ في‏ خَرابِها )دليل على وجود القسم الثاني المتوسط الذي عبّرنا عنه بالجزئيات الإضافية، إذ ان ((وَمَنْ أَظْلَمُ...) إحالة للقضية على الوجدان فان إليه مرجع كل برهان، أو فقل انه اكتفاء في الحكم بها على قضاء العقل بها.. وذلك ان هذه (مَساجِدَ اللَّهِ) والمقصود منها (ذكر الله) والله تعالى هو الخالق الرازق للجميع، فمن أظلم ممن منع ذكر الله في مساجد الله؟ انها قضية قياساتها معها أو فقل ان الحكم معلّل بمتعلَّقه، والحكم (الأظلمية) وهو معلَّل بكونه منعاً لذكر الله عن مساجد الله؟ وكما ترى فان ان منع ذكر الله في مساجد الله جزئي إضافي إذ الكلي هو الظلم واما منع ذكر الله في مساجد الله فهو صنف من أصناف الظلم، ومع ذلك نجد العقل صريح الحكم به، فالآية دليل على حكم العقل في بعض الجزئيات الإضافية، ومن الواضح ان الموجبة الجزئية نقيض السالبة الكلية (والسالبة الكلية هي: عدم حكم العقل في الجزئيات الإضافية، وانه حاكم فقط في الكليات المطلقة).

وإنما سميناه جزئياً إضافياً لأنه بالقياس إلى الكلي الذي هو فوقه جزئي، وبالقياس إلى الجزئي الحقيقي الذي تحته كلي، فهو من جهة ما فوقه جزئي ومن جهة ما تحته كلي.

واما التطبيقات فليست – كما سبق – شأن العقل بل هي شأن العلم فمثلاً هل هذا مسجد ضرار وانه لم يُرَدْ به ذكرُ الله تعالى بل أرادوا به كما قاله تعالى: (وَالَّذينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْريقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى‏ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى‏ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيهِ فيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرينَ)(6)؟ فهذا كله من دائرة العلم أي انه يتوقف على معلومات عن القضية وليس العقل بما هو هو مما يمكنه تشخيص حال هذا المسجد أو ذاك.

المحور الثاني: كيف ننقذ المسجد الأقصى والمسجد الحرام والمسجد النبوي والبقيع الغرقد من أيدي الصهاينة والوهابيين؟ بوجهٍ أعم: كيف ننقد الأمة من السقوط الحضاري المدوّي الذي منيت به منذ مئات السنين؟. وقد سبق:

(مسؤوليتنا تجاه القدس ومكة والمدينة

ومحور هذا البحث هو: ما الذي يجب علينا كمسلمين، وخاصة كأتباع لأهل البيت عليهم السلام – ان نقوم به في قضيتي المسجد الأقصى والبقيع الغرقد حتى نعيد إعمارها بذكر الله تعالى ونستنقذها من أيدي اليهود والوهابية، ونعيد بناء البقيع ومشاهد الأئمة الأربعة عليهم السلام وسائر المشاهد المشرفة فيه، بأفضل الصور؟.

والجواب: ان ذلك يستدعي وضع خارطة طريق شاملة مركّبة تتضمن خططاً قصيرة المدى ومتوسطة المدى وبعيدة المدى، ثم بعد ذلك السعي الجاد والحثيث لتنفيذ بنود تلك الخطة بكل عزم وجد وإخلاص، وحينئذٍ ينزل علينا النصر من عند الله الملك العزيز الجبار إذ يقول جل اسمه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ)(7).

وسوف نشير إلى بعضها:

أ- وضْع قضيتي القدس والبقيع في بؤرة الاهتمام المتواصل...)(8)

(ب- تهذيب الأنفس وتزكيتها، وإصلاحها والتحلي بتقوى الله تعالى واجتناب مواطن سخطه ومعصيته..

وقد يستغرب البعض من اعتبار ذلك طريقاً لمكافحة المحتلين والمستعمرين والحكام المستبدين أو طريقاً لإنقاذ المسجد الأقصى أو البقيع الغرقد وتقليم أظافر الإرهابيين!

لكن ذلك حقّ تماماً: أما أولاً: فلأن الإصلاح يبدأ من الداخل و(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(9) و(من أصلح فاسده، أرغم حاسده) ومن انتصر على عدوه الداخلي (النفس والأهواء) فانه حريّ بان ينتصر على عدوه الخارجي.

المعاصي قسمان: شخصية ونوعية

وأما ثانياً: فلأن المعاصي – لدى التدبر – على نوعين:...)(10)

ج- السعي لتدويل الأماكن المقدسة

و(للتدويل) صور وأنواع عديدة، وهو على مراتب ودرجات، بعضها مما ترفضه الحكومات تماماً، وبعضها مما يمكن ان ترضخ له أو تقبل به لو عرفت محاسنه وواصلنا العمل على تحقيقه:)(11) و:

(د- استنهاض المسلمين نحو النهضة الشاملة

ان البقيع الغرقد والمدينة المنوّرة ومكة المشرّفة لا يمكن استنقاذهما من أيدي الوهابيين، كما لا يمكن إنقاذ المسجد الأقصى والقدس الشريف من أيدي الصهاينة، إلا عبر النهضة الشاملة؛ لأن النهضة منظومة متكاملة والإنقاذ لا يمكن – عادة – إلا عبر الإصلاح الشامل)(12). ونضيف:

هـ - إدراج (علم النهضة) في المناهج التعليمية

الابتداء بالمنطلق الأساس واختيار المفتاح الرئيس لعملية النهوض الشامل وصولاً لإنقاذ المسجد الأقصى والبقيع الغرقد والمسجد الحرام والمسجد النبوي، وذلك ان سنة الله تعالى جرت على ان لكل داءٍ دواءً ولكل شيء مفتاحاً، وان كل قلعة أو حصن، مهما بلغت درجة استحكامه ومنِعه، يمكنك ان تلجه بيسر وسهولة إذا عرفت المدخل والبوابة ثم اخترت المفتاح الصحيح إذ ستجد الباب ينفتح حينئذٍ بكل بساطة وسلاسة! عكس ما إذا أردت ان تقتحم جدار الحصن بساعدك أو رأسك فانك لا تحصد إلا جمجمة مهشمة وسواعد مكسورة!!

ثم انه كما ان لكل باب مفتاحاً، فان لمجاميع المفاتيح مفتاح رئيس(13) يمكنه ان يفتح كل الأبواب، وإذا أردنا النهوض بالأمة نهضة شاملة والعودة إلى نادي الحضارات المزدهرة والأمم العزيزة الحكيمة المقتدرة، فلا بد ان نبحث عن مفتاح المفاتيح لحل شتى أمراض الأمة المستعصية والنهوض بها إلى مصافّ الأمم المتألقة.

وهذا المفتاح هو (إصلاح المناهج التعليمية).. و(إصلاح التعليم) وإن كثر الحديث عنه.. ولكن الذي نريد ان نطرحه هنا أمر غير مطروح عادة، وهو – فيما يبدو – الأساس الرئيس والمنطلق الأكبر لاستنقاذ الأمة، وذلك المنطلق هو دراسة (علم النهضة)!.

وعلم النهضة نعني به العلم الذي يبحث عن سر ازدهار الحضارات أو سقوطها وسر نهوض الأمم أو انحدارها ويبحث بكلمة جامعة عن (المرض والعلاج) وهو عنوان لاحدى كتب السيد الوالد قدس سره.

ان مناهجنا الدراسية من المدارس الابتدائية وصولاً إلى المعاهد والجامعات، وكذلك الحوزات العلمية، خالية من دراسة أهم مادة علمية تضع خارطة الطريق لإنقاذ الأمة وهو ما أسميناه (علم النهضة) وكان السيد الوالد يسميه (علم الحياة)!

والغريب: اننا ندرس منذ الروضة حتى الجامعة دروساً كثيراً في علوم كثيرة: في الحساب والهندسة أو النحو والصرف أو الفيزياء والكيمياء أو في الطب والهندسة أو حتى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة والحقوق وما إليها ولكننا لا ندرس (علم النهضة) أبداً!.

مقارنة بين الدول الإسلامية وأوروبا، اليابان، سنغافورة و...

ولقد أضحى من المعروف بل حتى من المبتذل المقارنة التي كانت تعقد عادة بيننا كعرب أو كمسلمين وبين الغرب، والسؤال الذي كان يتردد دائماً وهو: لماذا تقدمت أوروبا وتأخرنا نحن، مع ان ديننا الأقوم وحضارتنا الأقدم وثرواتنا الأعظم؟ ولكن بعض المفكرين أشار إشارة طريفة إلى المقارنات المتسلسلة التالية وهي:

ان الغريب ان المقارنة سابقاً كانت تعقد بين المسلمين أو العرب وبين أوروبا أو أمريكا، ولكن بمرور الزمان اضطررنا إلى ان (نتواضع) فنخفض ميزان المقارنة بين العرب وأوروبا إلى المقارنة بين العرب واليابان! وعدنا نتساءل: لماذا نهضت اليابان وتقدمت رغم استبدادها المطلق السابق وعبوديتها للملك إله الشمس ورغم انها حطمتها قنابل ناكازاكي وهيروشيما، ولكننا لا نزال نحن ندور في حلقة مفرغة بل ننتقل من داهية إلى داهية أمرّ ومن تخلف إلى تخلف أعمق!!

ثم اضطررنا لكي (نتواضع أكثر) فنخفض ميزان المقارنة بين العرب واليابان إلى المقارنة بين العرب وكوريا الجنوبية أو سنغافورة وسائر النمور الآسيوية فقلنا لماذا بقينا متخلفين وتقدمت كوريا أو سنغافورة ذلك التقدم المذهل؟ والعجب ان سنغافورة – مثلاً – كانت قبل خمسين سنة مضرب المثل في التخلف والفقر والأمية وارتفاع نسبة البطالة، ولكنها الآن أصبحت من أكثر دول العالم تطوراً وأغناها بل صارت هي وكوريا وهونغ كونغ من بين الدول الصناعية العشرين الأكثر تطوراً في مجال الصناعة والتعليم و... على مستوى العالم كله؟ فلماذا تحولوا وتطوروا ونهضوا وتقدموا ولا زلنا نراوح مكاننا ونقف حيارى حيث كنّا!

ولكن سلسلة التراجع لم تتوقف عند هذا الحد! إذ اضطررنا مرة أخرى لكي (نتواضع أكثر فأكثر) فنخفض ميزان المقارنة من المقارنة بيننا وبين النمور الأربع أو السبع، إلى المقارنة بيننا وبين الهند التي كنا نعتبرها مضرب المثل في التخلف، لكنها أصبحت الآن احدى أكثر دول العالم تطوراً حتى ارتأى بعض الخبراء الاستراتيجيين بان الهند ستكون في العام 2050م أول أو ثاني دولة في العالم من حيث التقدم الصناعي والعسكري والاقتصادي!

ورغم ان الهند متشتتة بين 500 دين أو أكثر ومئات اللغات أو أكثر ورغم ان اللغات الرسمية فيها 22 لغة! بينما في العراق اللغات الرسمية لغتان فقط!، ولكنهم مع ذلك استطاعوا ان يؤسسوا لأعمق وأوسع ديمقراطية مستقرة في العصر الحديث منذ العام 1948م ولكننا ما ان ننهض لتأسيس ديمقراطية أو استشارية إسلامية إلا وترانا بعد أسابيع أو أشهر أو سنين على الأكثر، نتراجع لنقع في دوامة الاستبداد والفوضى والتخلف بشكل أشد من السابق؟ لماذا؟

ثم بعد ذلك اضطررنا لكي (نتواضع أكثر فأكثر فأكثر) لنخفض ميزان المقارنة من المقارنة بيننا وبين الهند، إلى المقارنة بيننا وبين بعض دول القارة السوداء! فنتساءل مثلاً لماذا تقدمت أفريقيا الجنوبية ولا نزال نحن متأخرين بشكل مذهل!

ان المفتاح الأساس في ذلك كله يكمن في (علم النهضة) ذلك العلم الذي لم نكتب حوله بل لم نفكر به – لعلّه – أصلاً!! مع انه كان من المفروض ان نكتب حوله المئات من الكتب والألوف من الدراسات وعشرات الألوف من المقالات!

مفاتيح علم النهضة في القرآن ونهج البلاغة

والأغرب من ذلك كله ان مفاتيح علم النهضة تجدها في القرآن الكريم ونهج البلاغة وما يليهما من كتب الأحاديث، لكننا جهلناها (أو تجاهلناها) وعمل بها الآخرون فتقدموا وتأخرنا. وتلك المفاتيح تتألق في ظلام بلادنا المتخلفة حتى اننا نراها في سماء مجدنا (الضائع) كل يوم ولكننا – أي بعضنا على الأقل – أصبحنا ويا للأسف كما قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(14).. وتكفي نظرة إلى بعض تلك المفاتيح والدرر وأعلام الهداية المتألقة ليذعن كل منصفٍ بصدق مقالتنا هذه!:

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(15).

وقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ).

وقال: (وَفي‏ ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(16).

وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(17).

وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(18)

وقال: (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ريحُكُمْ)(19)

وقال: (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‏ وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(20)

وقال: (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏)(21)

وقال: (وَأَقيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْميزانَ)(22) و(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفينَ * الَّذينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(23).

وقال الإمام علي عليه السلام: و((مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ))(24) و((جَاهِدُوا تَغْنَمُوا))(25) وغير ذلك.

لكن المأساة الكبرى ان الطفل منذ ان يدخل في الروضة إلى ان يتخرج من الجامعة لا يدرس في أية مادة على الإطلاق مبادئ علم النهضة وعلم الحياة! فكيف يعقل والحال هذه ان ننقذ أمتنا من (التِّيه) ومن مستنقع التخلّف إلى مجد العزة والغلبة والتقدم والازدهار؟ وكيف يمكن، مادمنا غارقين في أوحال الجهل والتخلف والتناحر والتفرق، ان ننقذ المسجد الأقصى والمسجد الحرام والبقيع الغرقد والمسجد النبوي وسائر مقدساتنا من المحتلين والمستبدين؟

الأسئلة الكلاسيكية والأسئلة النهضوية

ان المشكلة الأساس ان نظام تعليمنا في المدارس مبني بل مهندس على الإجابة على الأسئلة الكلاسيكية المعروفة وهي مَن (بالإضافة إلى الفاعل) ومَن (بالإضافة إلى المنفعل والقابل) ومتى؟ وأين؟ وماذا (ماذا حدث) وهذه الأسئلة رغم أهميتها لا تشكل أسئلة النهضة وإنما الذي يشكل أسئلة النهضة هو سؤالان هما: ماذا (ماذا نصنع؟) ولماذا؟ (لماذا حدث ما حدث؟).

وذلك واضح جلي عندما نراجع ما تطرحه مدارسنا أو كتبنا عن قضية البقيع الغرقد أو المسجد الأقصى إذ المعلومات – لو وجدتها قد طرحت في كتاب أو في مادة دراسية – تدور عادة حول: متى احتلوا القدس والمسجد الأقصى؟ ومتى هدموا مشاهد الأئمة عليهم السلام ؟ ومَن هم الجناة (أسماؤهم، دينهم، عقائدهم)؟ ومن هم الذين وقعت عليهم الجناية؟ وماذا حدث عندما احتلوا فلسطين(26) وهذه المعلومات وإن كانت مفيدة بل وضرورية أيضاً لكنها بدون التطرق المستوعب المعمق لسؤالي النهضة (ماذا نصنع)؟ و(لماذا حدث ما حدث)؟ لا تقدم ولا تؤخر شيئاً؛ ذلك ان سؤال (لماذا) يبحث عن العلل والأسباب والجذور، وسؤال (ماذا) ببحث عن الحلول والآليات وسبل الحل؟ وهل يمكن تغيير أي واقع مأساوي مرّ بدون الإجابة على هذين السؤالين؟

وهذان السؤالان والإجابة عنهما هما اللذان تفتقدهما كافة مناهج التعليم على مختلف مستوياتها!! عن ذلك ولئن وجدتم بحثاً في احدى المناهج الدراسية فانكم ستجدونه يقتصر – عادة – على الشعارات الكلية نظير: ان السرّ هو تخلّف الأمة؟ أو يختزل كافة الأمراض بإلقاء الذنب كله على عامل خارجي وهو الاستعمار؟ ومادمنا كذلك فان الذلة ستبقى تحيط بنا من مختلف الجوانب.. حتى نُغيِّر ما بأنفسنا ليغيِّر الله ما بنا، كما اننا مادمنا كذلك ستبقى مقدساتنا في أسر المحتلين والمستبدين بل حتى انها إن خرجت من يد واحد من الطغاة فسوق تسقط في يد آخر اسوأ منه أو مماثل له.

ان رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، لكن هذه الخطوة يجب ان تكون في الاتجاه الصحيح، ولو كانت باتجاه معاكس مثلاً لما ازداد المرء مع سرعة السير إلا بعداً عن الهدف كما جاء في الحديث ((الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ لَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْداً))(27).

والخطوة الصحيحة الأولى في اتجاه إنقاذ المسجد الأقصى والمسجد الحرام والمسجد النبوي والبقيع الغرقد وسائر البلاد المقدسة ونحو إنقاذ الأمة والنهوض بها، هي إصلاح النظام التعليمي بالمعنى الشامل، وبالمعنى الخاص الذي أشرنا إليه في هذا المقال وهو تضمينها (علم النهضة) والإجابة على سؤالي: (لماذا حدث ما حدث)؟ و(ماذا نصنع)؟ في كافة مستويات المراحل التعليمية.

وفي الختام نشير إشارة عابرة عن إصلاح النظام التعليمي بالمعنى الشامل، كي نتوقف عنده أكثر – وعند تتمة الإصلاح بالمعنى الخاص – في مقال قادم بإذن الله تعالى.

فقد أظهر التقرير التالي ان سنغافورة أصبحت المرتبة الأولى في العالم في مجال جودة التعليم.

وقد اقتطفنا من التقرير ما يلي: (كشف مؤشر جودة التعليم العالمي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عن تدني ترتيب أغلب الدول العربية في مجال جودة التعليم. فالمرتبة الأولى في العالم حصدتها سنغافورة، ثم سويسرا)

(وحلت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة 18).

(وجاءت فرنسا في المرتبة 22، واليابان في المرتبة 31، وحلت إسبانيا في المرتبة 47، وجاءت تركيا في المرتبة 95).

والغريب ان (المملكة العربية السعودية في المرتبة 54 من بين 140 دولة شملها مؤشر الجودة. فيما احتلت مصر، المرتبة 139، وهو المركز قبل الأخير!. وقد اعتبر المؤشر كلاً من: ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن والصومال دولاً غير مصنفة لأنها دول لا تتوفر فيها أبسط معايير الجودة في التعليم).

وكان من أسباب النهضة في سنغافورة ان أطلق قادتها مبادرة (مدارس التفكير) وذلك وغيره هو ما سيأتي الحديث عنه لاحقاً بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

................................................
(1) سورة البقرة: آية 114.
(2) سورة النساء: آية 40.
(3) سورة الأنعام: آية 146.
(4) سورة سبأ: آية 17.
(5) سورة النساء: آية 11.
(6) سورة التوبة: آية 107-108.
(7) سورة محمد: آية 7.
(8) الدرس (307) بتصرف.
(9) سورة الرعد: آية 11.
(10) الدرس (307) بتصرف.
(11) الدرس (308).
(12) الدرس (309).
(13) يسمى بالإنجليزية master key وبالفارسية شاه كليد.
(14) سورة الأعراف: آية 179.
(15) سورة الرعد: آية 11.
(16) سورة المطففين: آية 26.
(17) سورة النحل: آية 90.
(18) سورة الحجرات: آية 10.
(19) سورة الأنفال: آية 46.
(20) سورة المائدة: آية 2.
(21) سورة المائدة: آية 8.
(22) سورة الرحمن: آية 9.
(23) سورة المطففين: آية 1-3.
(24) نهج البلاغة: قصار الحكم: 161.
(25) المصدر نفسه.
(26) مثلاً: جرائم عصابة الهاغانا و(ارجون) و(شتيرن) بقيادة بن غوريون وإسحاق رابين وارئيل شارون وبيغن وأشباههم.
(27) الكافي: ج1 ص43.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي