تقييم منهج السباب والشتائم حسب الآيات والروايات
(وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه) (1)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2019-02-16 04:58
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1)
البحث في هذه السلسلة سيكون بإذن الله تعالى عن حكم سبّ أهل البدع والضلالة والمخالفين والكفار(2)، حسبما يستنبط من الآيات والروايات والعقل وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام، وذلك في ضمن مطالب تتعلق بالحكم واما ما يتعلق بالموضوع نفسه كتعريف السب وكنسبته مع اللعن وغير ذلك فسنؤخره لوجهٍ سيتضح لاحقاً بإذن الله تعالى.
طوائف الآيات والروايات في المسألة
المطلب الأول: ان المستظهر ان الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) هي على طوائف بل طبقات ومراتب:
الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.
الطائفة الثانية: ما يدل على جواز(3) سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.
الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) تقع ضمن هذه الطائفة، وإنما قدمناها بالبحث لحكمةٍ سوف يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.
الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم.
وقد توجد طوائف أخرى من الروايات، كروايات وجوب مداراة الناس، يمكن إدراجها في الطائفة الأولى لكن الأصح انه ينبغي عقد فصل خاص لها واعتبارها طائفة أخرى.
فتوى جمع من الفقهاء والروايات بالجواز
المطلب الثاني: ان العديد من أعاظم الفقهاء افتوا بجواز أو بوجوب سبّ أو لعن أو البراءة من أهل البدع والمخالفين والكفار واستندوا في ذلك إلى طوائف من الروايات (وهي مندرجة كلها في الطائفة الثانية كما سيظهر) ومن ذلك ما ذكره السيد الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة قال: (الوجه الأول: أنه ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم، وإكثار السبّ عليهم، واتّهامهم، والوقيعة فيهم – أي غيبتهم – لأنهم من أهل البدع والريب)(4) و(وفي جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شرّ من اليهود والنصارى وأهون من الكلب، وأنه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأنّ الناصب لنا اهل البيت لأنجس منه. ومن البديهي أنّ جواز غيبتهم أهون من الأمور المذكورة، بل قد عرفت جواز الوقيعة في أهل البدع والضلال، والوقيعة هي الغيبة)(5).
وقد غفل بعض من لا خبرة له بطوائف الأدلة عن ان أمثال هذه الفتوى ومستنداتها من الروايات الشريفة تقع كلها ضمن الطائفة الثانية وانها مطوّقة بالطائفة الأولى والثالثة والرابعة فاللازم ملاحظتها جميعاً وملاحظة وجه الجمع بينها بما تشهد به الروايات بأنفسها خروجاً عن وجوه الجمع التبرعية.
والحاصل: انه لا بد من استكشاف المنظومة الفقهية والفكرية المتكاملة لأحكام سباب الآخرين في الشريعة الإسلامية، وهذا هو ما عقد هذا البحث لأجله، ومن الله التوفيق والسداد.
تعميم (وَلا تَسُبُّوا... ) إلى ما استلزم سبّ أولياء الله
المطلب الثالث: ان الآية الشريفة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) خاصة بسباب ما يعبده الكفار أي آلهة الكفار؛ إذ المراد بـ(الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) هو (ما يعبدون من دون الله) ووجه التعبير بـ(يَدْعُونَ) لكونهم يدعونها آلهة أو لكونهم يدعونها في حوائجهم باعتبارها آلهة(6)، فهي نهي عن سبّ آلهة قريش (أي لا تسبوا آلهتهم فيسبوا الله تعالى عدواناً بجهل منهم)، ولكن من أين تعميم الحرمة إلى سباب غير الآلهة كرموزهم مثلاً، هذا أولاً.
وثانياً: الآية خاصة من جهة أخرى إذ انها علّلت بـ(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولم تعمِّم إلى سبِّ غير الله تعالى كسبّ أحد المعصومين عليهم السلام أو أحد أولياء الله كسلمان وعمار وأبي ذر أو أمثال زرارة وحمران ويونس ابن عبد الرحمن أو أعاظم الفقهاء كالطوسي والحلي والاردبيلي والانصاري وسائر الفقهاء الأخيار ومراجع التقليد الأبرار.
والجواب عن الوجه الأول واضح وذلك لأن سب رموزهم إن استجلب سبّ الله تعالى فرضاً فهو داخل قطعاً في دليل الحرمة لا للحاظ الأولوية فحسب بل لاندراجه في العلة المصرح بها في الآية الشريفة (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) أفهل ترى ان يحرّم الله تعالى سبّ إلهتهم بسبب انهم سينتقمون بسب الله تعالى، ومع ذلك يجيز سبّ رموزهم حتى لو انتقموا بسبّ الله تعالى!!
والجواب عن الوجه الثاني: ان التعميم مستند إلى الروايات الصريحة في هذا الحقل حيث عمَّمت تحريم سباب ما يعبدونه إلى ما لو استلزم ذلك سبّ أولياء الله تعالى، وليس مستنداً إلى تنقيح المناط لأنه ظني بل المناط هنا أضعف فلا وجه للاستناد إليه.
((مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ))
ومن الروايات ((عَنْ عُمَرَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) قَالَ: فَقَالَ: يَا عُمَرُ رَأَيْتَ أَحَداً يَسُبُّ اللَّهَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ فَكَيْفَ؟ قَالَ: مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ))(7) فهذه الرواية صريحة في التعميم والتنزيل.
وهناك روايات عديدة تفيد هذا المضمون ومنها ما سننقله من رواية الكافي الآتية حيث ورد فيها ((وَقَدْ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا حَدَّ سَبِّهِمْ لِلَّهِ كَيْفَ هُوَ؟ إِنَّهُ مَنْ سَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ سَبَّ اللَّهِ وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اسْتَسَبَّ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ))(8)
من الضوابط: سبّ أعداء الله حيث يسمعونكم
المطلب الرابع: ان الروايات الشريفة تحدد ضوابط لسب أعداء الله، ومنها ما يفيد ان (سبّهم حيث يسمعونكم محرم) دون سبهم في المجالس الخاصة بالشيعة، فهذه أخص من روايات الطائفة الثانية أو حاكمة عليها كما سيأتي فتفيد تقييدها، والحاصل ان السب لأعداء الله على قسمين: سبهم حيث يسمعونكم كما لو سبهم في الإذاعة أو الفضائيات أو في مجالسهم أو في حضورهم فان الرواية تفيد حرمته، وسبّهم في مجاميعنا الخاصة.
ومن الروايات ما ورد في روضة الكافي في حديث طويل عن الإمام الصادق عليه السلام: ((وَجَامِلُوا النَّاسَ وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ وَإِيَّاكُمْ وَسَبَّ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَيْثُ يَسْمَعُونَكُمْ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَقَدْ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا حَدَّ سَبِّهِمْ لِلَّهِ كَيْفَ هُوَ إِنَّهُ مَنْ سَبَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدِ انْتَهَكَ سَبَّ اللَّهِ وَمَنْ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنِ اسْتَسَبَّ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَمَهْلًا مَهْلًا فَاتَّبِعُوا أَمْرَ اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ))(9).
وقوله عليه السلام: ((وَلَا تَحْمِلُوهُمْ عَلَى رِقَابِكُمْ)) أي لا تستفزونهم أو تفعلوا ما يحملهم على الإضرار بكم، وعليه: فأي عمل عنيف من سب أو بطش بهم مما يسبب تهييجهم ضدنا، حرام(10)، و((تَجْمَعُوا مَعَ ذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّكُمْ)) أي إذا لم تحملوهم على رقابكم فإنكم تجمعون بذلك خير الدنيا والآخرة أما خير الدنيا فهو الأمن من ضررهم وأما خير الآخرة فهو انكم بذلك تكونون مطيعين لربكم فتستحقون الثواب.
والرواية صريحة في التعميم وفي توسعة دائرة حدّ السب المحرّم إلى ما استلزم سبّ أولياء الله تعالى.
وقوله ((اسْتَسَبَّ)) من باب الاستفعال أي استجلب بسبابه هذا سبابهم لأولياء الله تعالى.
وفي قوله: ((فَمَهْلًا مَهْلًا)) دلالة بالغة على ضرورة ضبط النفس وكظم الغيظ على ما نراه من الأذى منهم وانه يجب الصبر وتحرم المسارعة إلى سبهم انتقاماً منهم أو ابتداءً منّا، وقد صرح عليه السلام بان ذلك أمر الله وقال: ((فَاتَّبِعُوا أَمْرَ اللَّهِ)) فمن لم يسبهم في مجالسهم وحيث يسمعونه فهو المتّبع أمر الله وإلا فهو عاص لله وهو يحسب انه يحسن صنعاً!
قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(11) و(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً)(12).
ومما يفيد التعميم للجهتين (حرمة سبّ حتى رموزهم، وحرمة ما يستجلب سبّ أولياء الله لاما يوجب سب الله تعالى فقط) من ضمن أدلة الطائفة الثالثة: ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية: ((لَا تَسُبُّوهُمْ فَإِنَّهُمْ يَسُبُّون عَلَيْكُمْ فَقَالَ: مَنْ سَبَّ وَلِيَّ اللَّهِ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله لِعَلِيٍّ عليه السلام مَنْ سَبَّكَ فَقَدْ سَبَّنِي وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ فَقَدْ كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى مَنْخِرَيْهِ فِي النَّارِ))(13) وقوله: ((يَسُبُّون عَلَيْكُمْ)) مبني على التضمين أي يحملون عليكم ويهجمون عليكم، وقد تكون مصحّفة والأصل (يسبونكم).
وقال العلامة المجلسي رضوان الله عليه: (ولنرجع إلى تفسير الآيات على قول المفسرين (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قالوا أي لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً) أي تجاوزا عن الحق إلى الباطل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي على جهالة بالله وما يجب أن يُذكر به، وأقول: على تأويلهم عليهم السلام يحتمل أن يكون المعنى بغير علم أن سب أولياء الله سب لله)(14)
وقوله (يحتمل...) إشارة إلى نكتة هامة جداً وهي ان (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) اما ان يراد به بغير علم مطابقٍ للواقع بل هو بجهل مركب لأن قطعهم ليس بعلم بل هو جهل فمرجع ضمير منهم المقدّر هو للكفار أو يراد (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير علم من المؤمنين بان سبّ أولياء الله هو سب لله تعالى إذ قد لا يعدونه عظيماً ويستسهلون ان يسبوا معبودات المشركين إذا كان رد الفعل فقط هو سبهم أولياء الله فقط.
مداراة الناس فريضة
المطلب الخامس: ان المستفاد من الروايات ان مداراة الناس فريضة واجبة، وسيأتي الكلام عن هذه الطائفة مفصلاً، إنما الكلام الآن عن الجزاء المذكور في الرواية الآتية في المطلب السادس لمن لا يداري الناس ولمن يداريهم، فلاحظها بدقة وتدبر فيها يا من رعاك الله وأشكر الله تعالى على ما منحك وأعطاك.
من يكفّ عن الناس يكفون عنه
المطلب السادس: ان المستفاد من الروايات كما هو المستفاد من العقل والوجدان والتجربة: ان كل فعل فله رد فعل يساويه(15) في القوة ويعاكسه في الاتجاه.
والمستفاد من الرواية الآتية خاصة: ان من يكفّ عن سباب الناس (ومطلق التهجم عليهم) فان الناس يكفوّن عنه (أي بنحو المقتضي) والمفهوم منها عرفاً ان من لا يكف عن الناس فانهم لا يكفون عنه، وذلك من البديهيات الوجدانية فلاحظ قوله عليه السلام: (( عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ذَكَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ" إِنَّ قَوْماً مِنَ النَّاسِ قَلَّتْ مُدَارَاتُهُمْ لِلنَّاسِ فَأُنِفُوا(16) مِنْ قُرَيْشٍ، وَايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ بِأَحْسَابِهِمْ بَأْسٌ، وَإِنَّ قَوْماً مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ حَسُنَتْ مُدَارَاتُهُمْ فَأُلْحِقُوا بِالْبَيْتِ الرَّفِيعِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً))(17)
وفي الرواية مطالب:
الأول: ان قلة مداراة الناس مبغوضة للأئمة عليهم السلام وان مداراة الناس محبوبة لهم عليهم السلام وهل يا ترى من مداراة الناس سبّ الناس؟
من لا يداري الناس، يكرهه الأئمة الأطهار عليهم السلام
الثاني: انه قد ذكر العلامة المجلسي قدس سره في تفسير الرواية وجهين فقال: (والحاصل أن الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما أنه لا بد من حسن المعاشرة والمداراة مع المخالفين في دولاتهم مع المخالفة لهم باطنا في أديانهم وأعمالهم، فإن قوماً قلّت مداراتهم للمخالفين فنفاهم خلفاء الجور والضلالة من قبيلة قريش وضيّعوا أنسابهم وأحسابهم مع أنه لم يكن في أحساب أنفسهم شيء إلا ترك المداراة والتقية أو لم يكن في شرف آبائهم نقص، وإن قوما من قريش لم يكن فيهم حسب أو في آبائهم شرف فألحقهم خلفاء الضلالة وقضاة الجور في الشرف والعطاء والكرم بالبيت الرفيع من قريش وهم بنو هاشم.
وثانيهما: أن المعنى: أن القوم الأُوَل بتركهم متابعة الأئمة عليهم السلام في أوامرهم التي منها المداراة مع المخالفين في دولاتهم ومع سائر الناس، نفاهم الأئمة عليهم السلام عن أنفسهم فذهب فضلهم وكأنهم خرجوا من قريش ولم ينفعهم شرف آبائهم، وإن قوما من غير قريش بسبب متابعة الأئمة عليهم السلام ألحقوا بالبيت الرفيع وهم أهل البيت عليهم السلام كقوله صلى الله عليه وآله سلمان منا أهل البيت وكأصحاب سائر الأئمة عليهم السلام من الموالي فإنهم كانوا أقرب إلى الأئمة من كثير من بني هاشم بل من كثير من أولاد الأئمة عليهم السلام)(18)
أقول: فعلى المعنى الثاني فالأمر خطير جداً إذ الإمام عليه السلام يقول: بان الذين لا يدارون الناس ينفيهم الأئمة عليهم السلام من أنفسهم عليهم السلام (فذهب فضلهم وكأنهم خرجوا من قريش ولم ينفعهم شرف آبائهم) عكس الذين يدارون الناس (وإن قوما من غير قريش بسبب متابعة الأئمة عليهم السلام ألحقوا بالبيت الرفيع وهم أهل البيت عليهم السلام كقوله صلى الله عليه وآله سلمان منا أهل البيت...).
وعلى المعنى الأول: فلا ريب انه ظاهر في كراهة الإمام عليه السلام لترك مدارة الناس ولذا عبّر العلامة المجلسي بـ(لا بد من حسن المعاشرة والمداراة...) ولم يقل يحسن أو يحبّذ فقط.
وقوله في (دولاتهم) إشارة إلى الإطار العام للحكم حسبما يراه العلامة المجلسي، والتاريخ يشهد بان الدولة هي للمخالفين، بشكل عام، على امتداد الزمن، ألا ترى ان حكومة أهل الخاصة كانت، زمناً ومساحةً، أقل بكثير من حكومة أهل العامة؟ فعامة الدول الإسلامية زمن الأمويين والعباسيين والعثمانيين وفي هذا الزمن (وهي الآن تقريباً خمسين دولة إسلامية) هي بأيدي أهل العامة وقد خرج الأقل – اما مساحة أو زمناً – كفترة الادارسة والحمدانيين والبويهيين والصفويين وما أشبه، بل المستظهر من بعض الروايات ان الأمر سيبقى كذلك، عموماً، إلى زمن ظهور قائم آل محمد عجل الله تعالى فرجه الشريف فاللازم حسب هذه الرواية مداراتهم في دولاتهم، بل سيجيء ان الدولة حتى لو كانت لنا فيجب ان نلاحظ حال المستقبل فنداري في دولتنا كي لا ينتقموا في دولتهم القادمة.. فأنتظر.
هل كثرة سباب الآخرين توجب ترويضهم؟
الثالث: إذا عرفت ذلك عرفت ان ما يتوهمه بعض من اننا نقوم بترويض أهل العامة والكفار والحكومات على تحمل سباب رموزهم أو حكوماتهم، وذلك الترويض إنما يكون بكثرة سبهم وتكراره حتى يتحول بالتدريج إلى شيء عادي عندهم فلا ينتقمون حينئذٍ بل ولا يُستفزون!
ولكن هذا الكلام مخالفة صريحة للعديد من الروايات ومنها هذه الرواية المصرحة بـ((مَنْ كَفَّ يَدَهُ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَكُفُّ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً، وَيَكُفُّونَ عَنْهُ أَيْدِيَ كَثِيرَةً)) ومدّعي الترويض يدّعي خلاف ذلك ويقول بانه إذا أكثرنا من سبّهم والهجوم عليهم فانهم يكفون عنّا ايديهم الكثيرة!
وقد وردت بذلك المضمون روايات عديدة أشار العلامة المجلسي إلى واحدة منها ("من كف يده" هذا مثل ما قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: ((وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا يَقْبِضُ عَنْهُمْ يَداً وَاحِدَةً وَ يُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدِي كَثِيرَةٌ))(19) كما سيأتي في باب صلة الرحم)(20).
بل ان ذلك خلاف الوجدان والضرورة وبداهة العقلاء إذ من البديهي أنك إذا سببتَ شيخ عشيرة أو رئيس دولة أو رمزاً مقدساً للطرف الآخر، فلم يستطع ان يردّ وكرّرتَ على مسامعه السباب فانه يختزن في داخله حقداً هائلاً عليك وسوف يغلي الحقد في قلبه كالمرجل وسينتظر أول فرصة لكي ينتقم انتقاماً مروعاً، كما حدث مراراً طوال التاريخ مما سنشير إليه لاحقاً فأنتظر.
نعم إنما يمكن ترويضه إذا كنت الأقوى بقول مطلق وكانت بيدك السلطة والأغلال والسجن وغيرها(21) فانك إذا سببته حينئذٍ أو أكثرت من سبه فانه يضطر للسكوت كي لا تقتله أو تسجنه، فيترّوض قهراً (وإن كان ممتلأ حقداً وغضباً يدّخره لحين انقلاب الأمر وسنوح الفرصة إذ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(22) واللازم مراعاة تلك الحال أيضاً إذ المؤمن بعيد النظر (كان والله بعيد المدى) والجاهل قصير النظر، ولكن من البديهي ان موازين القوة في العالم الإسلامي الآن لصالحهم لا لصالح الخاصة، فمن الجهل المطلق تصور اننا إذا سببناهم وأكثرنا من سبّهم فانهم سيتروّضون ويتعوّدون على شتمهم بل يستعذبونه! وهذا هو ما أشارت إليه الروايات كما هو محور المطلب السابع:
لا يعقل ان يروّض الأضعفُ الأقوى على تحمل الشتائم!
المطلب السابع: ان سبّ الآخرين لو صحّ، فإنما يصح ويوجب ترويضهم، لو كانت لك القوة والطاعة دون ما لو كنت أنت الضعيف وهو الأقوى.. والغريب ان يتوهم الضعيف انه إذا أكثر من سبّ القوي فانه يستسيغ ذلك ويتعود عليه ويتروض به! والغريب ان يتوهم متوهم ان العالم الحر لا يسمح بان ينتقم منك القوي! وقد ترون ظلمهم للشيعة في مصر والسودان وغيرهما بل حرمانهم حتى من تأسيس حسينية بل حتى من إقامة مجلس حتى بدون سبّ وشتم! كما قد ترون ذبحهم لطفل بريء في المدينة المنورة بوحشية مطلقة ولم نرَ من دول العالم الحرّ حتى مجرد إدانة عابرة!! كما قد ترون ما فعلته طالبان وداعش في العراق وأفغانستان وغيرهما من الجنايات مما تقشعر له الأبدان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويكفي ان نحتكم إلى الروايات وهي عديدة:
ومنها: ((كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى وَلَا عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ وَالْأُمَّةُ وَاحِدَةٌ فَصَاعِداً كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) يَقُولُ مُطِيعاً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ إِذَا كَانَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ وَلَا طَاعَةَ))(23).
والرواية صريحة، كما ترى، في الهداية والتبليغ وانه واجب كفائي لا عيني، وليست في خصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (إذ قد يقال بالفرق بينهما وسيأتي بيان ذلك) إذ صريح الرواية: ((كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) وَلَمْ يَقُلْ عَلَى أُمَّةِ مُوسَى وَلَا عَلَى كُلِّ قَوْمِهِ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ)) فالكلام عن هداية الآخرين ودعوتهم للدين المبين ومع ذلك يقول عليه السلام: (( وَلَيْسَ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ مِنْ حَرَجٍ إِذَا كَانَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ وَلَا طَاعَةَ)) والمراد بالقوة ظاهر، واما العُذر فالمراد كونه بحيث يعذره الآخرون (المدعوون للاهتداء) إذا دعاهم المؤمنون للدين المبين، والمراد (بالطاعة) انهم يطيعونهم لغلبتهم، بنحو ما، عليهم.
وهل يتوهم أحد اننا حيث نسبّهم فان لنا القوة عليهم ولنا العذر عندهم (أي يعذروننا في سبّ رموزهم) واننا فوقهم قاهرون فلنا عليهم الطاعة!
وأما قوله عليه السلام ((فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ)) فقد أشرنا إلى ذلك سابقاً وإلى اننا، حسب الكثير من الروايات، في زمن هدنة مع أهل العامة فلا يصح سبّهم واستفزازهم، اللهم إلا في حدّ معين مستثنى مندرج في ضمن علل الطائفة الثانية من الروايات وهو ما لو توقف حفظ أصل الدين والمذهب أو التبري من أعداء الله (لا بعض حدود ذلك) عليه أو شبه ذلك مما سيأتي تفصيله بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين