المؤثرات في اتخاذ القرارات: النية، الحالة، الملكة، الطبيعية، والمزاج
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه ِ(6)
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2018-12-19 07:33
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(1)
من البصائر: الشاكلة أنواع ومراتب
من البصائر في الآية الكريمة ان (الشاكلة) تستبطن المعاني التالية: النية، الحالة، الملكة، الطبيعة، المزاج، والطريقة والمذهب. وقد سبقت الإشارة بشكل عابر إلى ذلك، والآن سنعرض بعض التفصيل:
النية
أولاً: النية، فان النية هي قائد العمل، وهي التي تهندس اتجاه الإنسان في الحياة، فان من ينوي ان يصبح طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو فقيهاً أو خطيباً أو غير ذلك، فان نيته تكون هي الدافع الذي يدفعه للمثابرة طوال عشرين عاماً مثلاً كي يصبح كما نوى، والقاعدة تقول (أول الفكر آخر العمل) والتي تعني ان أول ما يفكر فيه الإنسان حين يدخل للجامعة مثلاً هو ان يصبح أستاذاً فيها أو دكتوراً شهيراً فهذا أولُّ فِكرِهِ لكنه يكون آخر عمله أي انه بعد سنين من العناء والجهد والمثابرة يصل إلى ما نواه وفكّر فيه أولاً.
وكذلك العادل والفاسق والمؤمن والكافر والمصلح والمفسد والطاغوت والإمام العادل فإن كلّاً منهم يعمل على حسب شاكلته أي على حسب نيته وما عقد عليه ضميره.
وقد صرحت الرواية الشريفة بهذا التفسير للشاكلة، فقد رود في الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام - وكما سبق – ((... وَالنِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ أَلَا وَ إِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَمَلُ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) يَعْنِي عَلَى نِيَّتِهِ))(2) ومن الواضح – وكما أكدنا مراراً – ان النية والشاكلة عِلّة مُعدّة للعمل وليست عِلّة تامة فلا يلزم من ذلك الجبر.
الحالة والملكة
ثانياً: الحالة.
ثالثاً: الملكة.
والفرق بين الحالة والملكة ان الحالة إذا ترسخت وتجذرت كانت ملكة، والملكة إذا ضعفت صارت حالة، فان الصفات حقائق تشكيكية ذات مراتب فإذا كانت المرتبة مرتبةً دنيا أو مرتبة دنيا جداً كانت حالة، والحالة هي التي تزول بسرعة وإلا كانت ملكة.. ومن أمثلة الملكة العدالة والشجاعة والكرم والسماحة إذا كانت راسخة في النفس.
وأما الحالة فلها نوعان من المصاديق: الأول: الحالات الطارئة التي تعتري الإنسان أحياناً كموجة من الغضب تتملكه لساعات مثلاً وإن كان بالذات حليماً.
الثاني: بداية وصول الإنسان لمرتبة من مراتب الملكات كالعدالة والاجتهاد، أي حيث لم تترسخ في نفسه الحالة بل مجرد ما إذا حظي بالقدر الضعيف الباهت منها والقابل للزوال بسرعة.
ولنمثّل ذلك بمثال فقهي لطيف: فان كثير الشك لا يعتني بشكّه بل يعتبره كالعدم فيتعامل مع صلاته كما لو لم يكن شاكاً، أي انه (لا شك لكثير الشك) فهذا في كثير الشك بنحو الشك المستقر المشابه للملكة.. اما كثير الشك لحالة طارئة كما لو توفي أحد أقربائه فاعترته حالة حزن شديد ليوم أو يومين فكثر شكّه في الصلاة أو اعترته حالة من القلق الشديد أو الغضب الشديد فشك ثلاث مرات في صلاته أو أكثر، أي إذا كان الحزن أو الغضب أو القلق حالة طارئة له لا ملكة متجذرة، وههنا اختلف الفقهاء، فقال بعض انه من كثير الشك فيلحقه حكمه وقال بعض بان أدلة كثير الشك منصرفة عنه(3) فذلك من مظاهر اختلاف الحالة عن الملكة.
المزاج
رابعاً: المزاج، والفرق بين الملكة والمزاج ان الملكة تطلق عادة على الصفات النفسية، اما المزاج فيطلق على الحالات الجسدية أو المادية ككون مزاجه دموياً أو بلغمياً أو صفراوياً.
تأثير المزاج والحالة والملكة، على التفكير والاستنباط
والعبرة من ذلك كله: ان المزاج والحالات والملكات تؤثر على اتجاه عمل الإنسان وعلى استقامته أو انحرافه وعلى سلامة قراراته ومواقفه وصوابيتها أو خطأها وخطلها.. وعليه: فعلى الإنسان، عند التفكير في اتخاذ قرار يتعلق بحياته أو بحياة الآخرين ومستقبلهم وعند ممارسة عملية الاجتهاد، عليه ان يراقب مزاجه وحالاته فإن كان في حالة خوف أو قلق أو غضب أو حزن أو عصبية أو جوع شديد أو نعاس غالب، فان ذلك كله يؤثر على سلامة تفكيره وعلى استقامة اجتهاده فعليه ان يتجنب البتّ حينئذٍ في القرارات كما عليه تجنب الفتوى حينئذٍ، بل يجب عليه ان ينتظر ريثما تهدأ نفسه ويصفو مزاجه ثم يعيد التفكير والاستنباط فإذا استقر رأيه حينئذٍ على أمر أو فتوى كانت أبعد عن الخطأ من جهة مؤثرات الأمزجة المتقلبة أو الحالات المتغلبة.
الطبيعة
خامساً: الطبيعة، والمقصود بها الطبيعة الإنسانية، وهي أسبق رتبة من الملكة والحالة والمزاج فان الملكة والحالة أمور اختيارية اما الطبيعة فيراد بها الطبيعة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها ومن ذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)(4) فهذه شاكلة الإنسان أي طبيعته التي تؤثر على فهمه للأحداث والنصوص وعلى أعماله ومواقفه(5). وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين