حل الامام علي (ع) لظاهرة التشكيك

من مخاطر الشك واضراره واسبابه وبواعثه (5)

آية الله السيد مرتضى الشيرازي

2017-11-26 06:00

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(1)

وقال جل اسمه: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ)(2).

بصائر الوحي في آيات الشك والريب

يمكن ان نستلهم الحقائق التالية انطلاقاً من مفردتي الشك واللعب الواردتين في الآية الكريمة:

الشاكّ اللاعب العابث، والشاك الباحث عن الحقيقة

أولاً: الشاك قد يكون لاعباً وقد لا يكون لاعباً بل يكون مجرد شاكٍ.

ثانياً: ان الشك قد يكون شك الباحث عن الحقيقة وقد يكون شك اللاعب العابث الذي اتخذ الشك لُعبةً يتسلّى بها، والقسم الأول من الشاك لا يكون معانداً عادةً بل يفتح صدره للحقيقة مهما كانت مُرّة المذاق صعبة الهضم شديدة الوطأ، أما القسم الثاني فانه يكابر الحقيقة عادةً وإن تجلّت له ناصعة بيضاء مشرقة كالشمس الصاحية أو القمر المزهر.

التشكيك كطريق للاسترزاق والشهرة

ثالثاً: ان الشاك اللاعب في تشكيكه قد يكون ممن أتخذ الشك والتشكيك هواية أو حِرفة له، فيكون ممن يعيش على الشبهات وينسج خيوط علاقاته بالتشكيكات، وهذا الشخص هو ذلك الذي استعبدته أهواؤه وشهواته حتى أصبحت التشكيكات بما هي تشكيكات هي التي تلبي طموحاته وتتناغم مع إنانيته، بل قد يكون ممن يعيش على ذلك ويكتسب الأموال السحت بذلك، تماماً كمن يعيش على استغفال الآخرين بالدراسات المزيفة والمعلومات المغلوطة سواءً أكان ذلك في وصفةٍ طبية أم في بدعةً دينية، بل كمن يعيش على السحر والشعوذة والدجل والخداع.

رابعاً: ان طريق التعاطي والتعامل مع النوعين من مثيري الشبهات والتشكيكات مختلفة، والآليات المستخدمة للتصدي للذين يسترزقون بإثارة الشبهات، تختلف عن الآليات التي تستعمل في الحوار مع الشاك المنصف، وربما لا يحتاج الأخير إلا إلى حوار علمي هادى موضوعي، أما الأول فلا بد، لدى الابتلاء به، من سلسلة من التدابير والأساليب التي تتكفل بمجموعها محاصرة سمومه وتطويق النتائج المدمرة لتشكيكاته.

ولننطلق الآن وبعد هذا التمهيد، في رحلة نستجلي بها أولاً بعض أضرار التشكيك ومخاطره. وثانياً: إحدى أسباب التشكيك وبواعثه. وثالثاً: بعض الحلول الناجعة والسبل النافعة لمعاجلة هذه الظاهرة التي أخذت تستفحل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر في كافة المجتمعات، خاصة الإسلامية منها.

مخاطر الشك وأضراره

ان للشك نتائج مدمرة فيما إذا تحول إلى ظاهرة عامة تتحكم في حياة الأفراد أو الأمم؛ ذلك أن الشك كالنار التي إذا لم تخضع لضوابط منهجية صارمة، فإنها سوف تحرق الأخضر واليابس، فان الشك والتشكيك في حد ذاته تجاه أي قضية يحار فيها العقل أو يتوقف فيها الفكر، ليس مردوعاً عنه عقلاً مادام نوعاً من شك الباحث عن الحقيقة أولاً ومادام شكاً عقلائياً في حدوده المعهودة ثانياً، لكنه إذا تحول إلى (شك مرضي) أو إلى ما يشبه (الوسواس القهري) تجاه أي شيء أو شخص أو فكرة يواجهها الإنسان فعندئذ لا بد أن ندق نواقيس الخطر.

الشك المرضي والوسواس القهري

وصفوة القول: ان الشك المرضي أو التشكيكات الكثيرة المتتالية المتتابعة التي تكون كحلقات سلسلة لا متناهية، يحوّل حياة الأفراد إلى جحيم وينقلهم من بحبوحة الحياة السعيدة إلى درك الشقاء اللامحدود ولذلك يقول الإمام عليه السلام: (فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن‌)(3).

ولسنا بحاجة إلى الاستدلال على ذلك بعد شهادة حياة (الشكاكين) بالجحيم الذي يعيشون فيه ويكفي ان تتصور زوجاً يشك في كافة تصرفات زوجته فيشتم من أدنى حركاتها وسكناتها رائحة الخيانة الكبرى، فهل يمكن ان يستشعر في حياته معها بالسعادة؟

ويكفي ان نتصور شاباً جامعياً أو تاجراً في السوق أو طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك، يشكك في كافة أصدقائه وجيرانه فيُخيَّل إليه ان هذا يريد ان يسرقه وذاك يريد ان يطعنه والثالث يريد ان يغشه ويخدعه والرابع يخطط لكي يقتله وهكذا وهلم جراً، فهل تراه يمكن ان يستشعر طعم السعادة حتى وإن كان يعيش في أفخم القصور؟

ومن ذلك نعلم ان الشك وإن كان في بعض درجاته نافعاً إذا شكل الحافز والباعث للبحث عن الحقيقة، لكنه إذا تجاوز الحدود فانه يتحول إلى العدو الأول لسعادة الإنسان وأمنه النفسي والاجتماعي، بل انه يكون حينئذٍ الحاجز الأكبر الذي يحول دون إكتشافه للحقائق لأن داء التشكيك المرضي يصبغ الصديق بصبغة العدو ويلوّن الإيجابيات بلون السلبيات ويحوّل رحيق الحب إلى سمّ العداوة والبغضاء.

الشك، الذبابة المشاكسة!

ولكي يتضح لنا أكثر موقع التشكيك في النفس الإنسانية وأضراره الخفية أو الجلية، يمكننا ان نُشبِّه الشبهة (وما يتبعها من التشكيك) بذبابة مشاكسة؛ فان الذبابة التي تطنّ وتوزّ إلى جواز أذن الإنسان لا تقتله ولا تجرحه لكنها تفقده التركيز وتوتّر أعصابه.. فكيف إذا كانت ذبابتان تحومان حوله؟ أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين؟ ثم تصور ماذا لو امتلأت الغرفة بمئات الذبابات المزعجة المشاكسة؟ ان الإنسان إن لم يجن بعد ساعات أو أيام فلا بد ان يصاب بانهيار عصبي وإن لم يصب به فانه على الأقل يفقد قدرته على إنجاز أي شيء..

وكذلك تعمل الشبهات في مخ الإنسان، فان الشبهة مادام لم يحلّها الإنسان، تؤرِّقه وتقضُّ مضجعه وتزعجه، لكنها لا تحطم حياته مادامت شبهة واحدة فإذا تكاثرت الشبهات وازدادت ثم ازدادت ثم ازدادت فإنها قد تنتهي به إلى الانهيار العصبي بل وإلى الانتحار العلمي والفكري أو الإيماني.. ذلك ان تحمّل الروح للشبهات، محدود كتحمّل البدن للأثقال: تصوروا مثلاً انكم حملتم 20 كيلوا، فان البدن يتحمل ذلك، ثم إذا بلغ الوزن 70 كيلواً مثلاً فان البدن يأنّ حينئذٍ ثم إذا ازداد وبلغ 200 أو 300 أو 500 كيلو فان العمود الفقري حينئذٍ يتحطم تماماً، وكذلك النفس الإنسانية فان النفس تتحمل الشبهة الواحدة وتتعايش معها وتمضي معها الحياة العلمية والعملية والإيمانية كما هي، ولكن إذا تكاثرت الشبهات من دون ان يجد الإنسان لها حلاً فانها ستقضي بالمآل على سعادته أو على إيمانه أو على ثقته بكل شيء..

من أسرار تحريم حفظ كتب الضلال

وذلك من أسرار تحريم الشريعة لحفظ كتب الضلال أو مطالعتها لغير المختص ممن هو بمستوى الجواب عن الشبهات، و(لنمثل لكتب الضلال بكتب ومقالات المنظمات الإرهابية كداعش مثلاً التي تدعو إلى تحطيم الحضارة وسفك دماء الأبرياء وسحق القيم أو الكتب والمقالات التي تروّج للانحلال الخلقي وتدعو للرشوة والاختلاس أو تفلسف للفساد الأخلاقي والعري وما أشبه) إذ ان مطالعة كتب الضلال تُوجِد لدى غالب الناس الشبهة، وحيث انهم ليسوا مختصين ليجيبوا عليها وحيث لا يوجد عادة حول كل إنسان عالم مختص بالإجابة على الشبهات، لذلك قد تبقى الشبهة عالقةً في ذهنه كذبابة مشاكسة (إن لم تكن كعقرب خطرة) ثم تزداد وتزداد هذه المشاكسات فيما فتح الباب للاستماع إلى مزيد من الشبهات، حتى تقضي على إيمانه حتى بالبديهيات.

والحلّ هو: ان يستمع المرء – إن اقتضى الأمر - لشبهات محدودة فقط، ثم يغلق الأبواب على أي رسالة عبر الواتساب أو التلغرام أو الإيميل إذا كانت تضخ له بالمزيد من الشبهات، وان لا يستمع إلى أي مشكِّك مشاكس، وذلك ريثما يعالج الشبهة الأولى إما باجتهاد إن كان مجتهداً أو بالرجوع إلى مختص بالشبهات إن لم يكن مجتهداً، وإلا فانه يغامر بنفسه ومستقبله ويجعل دنياه وآخرته كلها على كف عفريت وكما قال الإمام السجاد عليه السلام - وكما سبق – (فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن‌)(4).

اللصّ الذي ظل يمسح آثار أصابعه حتى اعتقلته الشرطة!

ومن الطريف التمثيل للتشكيك المرضي والذي يجسد نمطاً من أنماط الوسوسة المفرطة، بما نقلته بعض المجلات من قضية ذلك اللصّ الذي تسلّل إلى دار غاب في ذلك اليوم عنها أهلها، في منتصف الليل وسرق ما أراد ثم إذ خرج وأغلق الباب خطر بباله ان بصمات أصابعه قد تكون قد انطبعت على مقبض الباب وقد تقود الشرطة إليه، فرجع وبدأ بمسح الآثار المحتملة بالمنديل، ثم احتمل انه أمسك بجوانب أخرى من الباب فانشغل بمسحها أيضاً، ثم تذكر انه لمس أجزاء كثيرة من الجدران والنوافذ والخزائن أثناء فحصه عن المخبوء من الثروات، فدخل الدار وانشغل بمسح آثار أصابعه في شتى الأماكن التي دفعته وسوسته الشديدة وخوفه الكبير إلى مسحها بحرص وأناة.. وهكذا ظلّ منشغلاً إلى الصباح بمسح هذا الجزء وذاك وذياك... حتى جاءت الشرطة صباحاً بعد أن أحس الجيران بحركات مريبة في المنزل المجاور، واعتقلته!

وسواء أكانت القصة حقيقية كما لا يبعد لكثرة ما نشاهده من حالات الوسواس القهري، أم رمزية، فان لها الدلالة البالغة على خطورة الوسوسة ومرض التشكيك إينما حل أو استوطن.

أنواع التشكيك ونتائجه المدمرة

وصفوة القول هي: ان الوسوسة مرض فتاك لا يخضع لمنطق أو عقل، وان لها تجليات وأنواع:

فقد تنصبّ على التشكيك في شريك الحياة فتبدو عندئذٍ أية كلمة تصدر منها مريبةً، بل يبدو أي اتصال أو خروج من البيت أو غير ذلك باعثاً للريبة والشك، وبذلك تتحول حياة الشريكين إلى جحيم.

وقد تنصبّ على الريب في هذا الشخص ما وذاك فلعل هذا يريد ان يسرقني ولعل ذاك ينوي ان يهاجمني والآخر قد يريد خداعي وهكذا... وبذلك تتحطم حياته الاجتماعية تماماً.

وقد تنصبّ الوسوسة على (العقائد) و(الأفكار) و(القِيَم) فلا يستقر حجر على حجر عندئذٍ: فمن قال ان الدَّوْر محال؟ ومن أين أن شريك الباري ممتنع؟ وأين الدليل الناهض على استحالة التسلسل؟ ومن أين ان حقوق المرأة في الإسلام كذا وكذا؟ وما الدليل القطعي على التقليد أو الخمس؟ ومن قال بان الأخلاق فضيلة؟ بل هي، كما قال الشيوعيون، أوهام برجوازية فما معنى العفاف والتواضع والكرم والعدل؟ وأليس رأي مكيافيللي(5) هو الأسلم والمقياس هو الأنا ثم الأنا ثم الأنا فقط؟ كما نجد الغرب، في جوهر سياسته، لا يدور إلا حول الانانية المغرضة والاستعلاء المخجل وحول كافة أفكار مكيافيللي؟

مفتاح تدمير الحضارات: انتشار وباء التشكيك

والأمر في حياة الأمم والشعوب والحضارات والدول، كذلك بل وأخطر بكثير؛ فان مفتاح زوال الحضارات ودمار الأمم وانهيار الأديان، هو انتشار وباء التشكيك على مستوى الأمة: فإذا شكك عامة الناس في قادتهم ورؤسائهم ووزرائهم ونوابهم وحكوماتهم من جهة وإذا شك الحكام والقادة والمسؤولون في الناس والموظفين والمستشارين والأعوان والحراس والجنود والضباط من جهة أخرى، فهل يمكن لهكذا دولة ان تستمر؟ كلا ثم كلا بل ستجد حينئذٍ السجون ممتلئة بالألوف ممن أخذوا على التهمة والظنة كما تجد حينئذٍ حبال المشانق على كل درب وزاوية وشارع، وتجد في المقابل التذمر في الناس يتصاعد والحقد يغلي ويغلي ويغلي حتى يصل إلى مراحل العصيان المدني فالانفجار الشعبي الكبير الذي يتحول به الربيع العربي إلى خريف ليبي أو سوري يشترك فيه عامة الناس والأطراف والفرقاء، بتحطيم المدن والبنى التحتية والمعامل والمصانع والجسور، وقتل الرجال والنساء والأطفال، وإن كان كل منهم ينبعث من منطلق معين: أيديولوجي أو سياسي أو مادي بحت أو حتى عدواني همجي صِرف!

والمحصلة: انه إذا أراد عدو مغرض داهية تحطيم أمة فما عليه إلا ان ينشر فايروس الشك في الجامعات والأسواق والمدارس والإدارات والوزارات والأحزاب والنقابات والعشائر وغيرها، وعندئذٍ ستتهاوى أمام هذا الفايروس أكبر الحضارات حتى بدون رصاصة واحدة يطلقها العدو القابع في مكان بعيد أو المتربص على الحدود!

منهج الغرب في زرع بذور الشك

والمؤسف ان الغرب، بمراكز دراساته وبعقول دهاته وبأساليب ميكيافيلية أتقنها بل قد تفوق فيها حتى على ميكافيلي نفسه وعلى المئات من أمثال معاوية، اكتشف هذه الحقيقة مبكراً وعرف ان تحطيم المسلمين يمرّ، قبل أنواع المواجهة العسكرية، بهذه الطريقة المبسطة: أُنشر بين المسلمين الشك في القيم والمبادئ والفضائل والأخلاق، وازرع فيهم الشك في قادتهم وزعمائهم واغرس فيهم الشك في قرآنهم وأحاديثهم وتاريخهم ثم أكثِر من طرح الشبهات وضاعف تموجاتها وضخّمها ألف مرة ثم ما عليك إلا أن تنتظر لتجد بأم عينك كيف ان المسلم يقتل المسلم وان المسلم يحارب المسلم وان المسلم يستهزأ بالمسلم وهكذا وهلم جراً.

والمؤسف أكثر اننا اعناهم على أنفسنا: بجهل عامة الناس إلا من خرج بالدليل وباستبداد عامة الحكام في البلاد الإسلامية!

تدمير البلاد والأمم بتشكيكها بكل شيء!

وبعبارة أخرى: المؤلم في الأمر ان الغرب لم يكتف بتحطيم بلادنا صناعياً وزراعياً وعلمياً بمختلف الطرق قديماً وحديثاً، حتى تفتقت عبقريته عن فكرة الفوضى الخلاقة فأدخل دولنا في دوامة الخريف العربي المسمى سابقاً بالربيع العربي وما عليك إلا أن ترصد علائم حركتهم وتموجاتها في سائر بلادنا في مستقبل الأيام أيضاً (السعودية وإيران كنموذج)، أقول: المؤلم انه لم يكتفِ بذلك فحسب بل انه وعبر سلسلة لا متناهية من الخطط الذكية القصيرة المدى والمتوسطة والبعيدة، استنهض كل قدراته الفكرية والعلمية والفلسفية لتحطيم المسلمين(6) (عقائدياً وفكرياً وقِيَمياً) أيضاً.. فكان التركيز الكبير بل الكبير جداً على منهجية تشكيك المسلم في مبادئه وأحكام شريعته واحدةً واحدةً: بدءً من وجود الإله وعصمة الرسل وإعجاز القرآن ومروراً بدعوى هضم حقوق المرأة في الإسلام ووصولاً إلى تحريم الخمر والخنزير والبغاء والمثلية.

وذلك ان مراكز دراساتهم وجدت إن مجرد تفوقهم السياسي والاقتصادي والعلمي والصناعي علينا، لا يكفي، وان مجرد تحطيم بلادنا (وسائر من لا يخضع لهم بالكامل) لا يكفي إذ وجدوا انه مع ذلك كله فانه لا يزال الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا، رغم كل فضائع حكام المسلمين واستبدادهم وطغيانهم ورغم كل جهل المسلمين ونزاعاتهم وحروبهم وتحلّلهم وجهلهم وتخلفهم، رغم ذلك رصدت مراكز دراساتهم واستطلاعاتهم الميدانية واستبياناتهم ان الإسلام لا يزال يغزو الغرب بشكل متسارع، فوجدوا أن الحل يكمن في تدمير حضارة الإسلام من الداخل.. وأية طريقة تدميرية أقوى مفعولاً من نشر وباء التشكيك في الشباب الجامعي بل وفي عامة الناس: التشكيك بكافة مبادئ الإسلام وقِيَمِه وأحكامه وتاريخه وقادته! ولذلك تجدون ان سيلاً لا ينقطع من الشبهات ثم الشبهات ثم الشبهات يضرب جامعاتنا ومفكرينا ورجالنا ونساءنا ضَربَ النيازك المسرعة، وعبر مختلف الوسائل: إذ تجد الشبهات تحاصر الشباب من كل حدب وصوب فتهبط عليه مع الواتساب والتلغرام والبريد الإلكتروني، وتعيش معه في أروقة الجامعة وعبر العديد من الأساتذة والحركات المنظمة الممولة بشكل غريب والمتخصصة في إثارة الشبهات، بل تجد الشبهات تلاحقه حيثما حلّ وارتحل حتى وإن كان في المسجد أو الحسينية وعلى لسان بعض رجال الدين أيضاً!

أصالة الصحة، العامل الأكبر لحفظ الأمن الوطني

ومن ذلك كله نستكشف ان (أصالة الصحة في عمل المسلم) بل، على رأي السيد الوالد، أصالة الصحة في عمل الغير مطلقاً، هي من أعظم مفاخر الإسلام بل البشرية فإنها السر الكبير وراء تماسك عُرى المجتمع وتلاحم أبناء الوطن بل هي السبب الرئيس للأمن القومي والوطني، وان أصالة التشكيك في أعمال الغير وأصالة الفساد هي أكبر ما يحطم الحضارات والأمم.

ولذلك نجد الإسلام أسّس سلسلة من الأصول والقواعد التي تبتني على أصالة الصحة بالمعنى الأعم، وهذه بعض النماذج:

(قاعدة امارية اليد) والتي تقع على الضد تماماً من القاعدة الشيوعية المعروفة (من أين لك هذا)؟ والتي تفيد التشكيك في الآخرين وفيما بأيديهم كافة فمن أين لك هذا الدار؟ ومن أين لك هذه الأرض؟ ومن أين لك هذه الأموال؟ ومن أين لك هذه السيارة؟ وحتى من أين لك هذا الثوب والقلم والورق؟

وهل يعقل ان يعيش مجتمع يحاكمُ الجميع فيه الجميعُ على أساس (من أين لك هذا)؟ وهل تبقى ثقة بين الناس في أي شيء؟ وهل يستقر حجر على حجر؟

على العكس من قاعدة أن اليد امارة الملك والتي تبتني، في حكمتها، على حسن الظن بالآخرين وعدم التشكيك في ملكياتهم مع انه من الممكن أن يكون زيد قد سرق هذا المال أو كان رشوة أو أكلاً للمال بالباطل أو كان من مال غير مخمس أو غير ذلك.

(قاعدة غَيبة المسلم) فانها تعد امارة على الطهارة، بشروط خمسة، مع انه من المحتمل قوياً أن لا يكون قد طهرّ بدنه أو ثيابه فترة غيابه، إلا أن الإسلام أراد للمسلم أن يحمل أخاه(7) على أحسن المحامل فهو طاهر وإن كان نجساً، إن غاب ورجع، وكل ما بيده فهو ملكه مادام بيده يتعامل معه تعامل المُلّاك، وهو الذي لا تصح إساءة الظن به وهي القاعدة الآتية:

(قاعدة حسن الظن بالناس) وهي قاعدة أخلاقية استراتيجية مفتاحية بل ذكرتُ في كتاب (سوء الظن في المجتمعات القرآنية) ان عدداً من الأعلام كالشهيد الثاني ارتأوا حرمة سوء الظن بالمؤمنين وارتأى السيد الوالد حرمة ذلك في الجملة،

(قاعدة العدالة على حسب حسن الظاهر) وهي تنبع أيضاً من أصالة الثقة بالناس وأصالة حسن الظن وتوجب التيسير على الناس في شأنٍ من أهم شؤونهم وهو الصلاة جماعةً، فان بعض الناس يتشدد في إمام الجماعة وفي استخبار أنبائه حتى يصل إلى مرحلة الاطمئنان بأنه عادل، وقد يسبِّب ذلك حرمانه من الصلاة جماعةً في كثير من الأحيان، والأهم انه يوجب تمزق المجتمع بنفس هذا القدر، مع ان الإسلام اعتبر العدالة سهلة في إمام الجماعة إذ يكفي فيها حسن الظاهر، ويكفي لإحراز ذلك، حسب رأي الوالد، أن يجد جمعاً من المؤمنين ممن ظهر صلاحهم يصلون خلفه أو أن يرى ذكره بخير في محلته وأشباه ذلك(8).

وهناك قواعد أخرى سنشير إلى إحداها بعد قليل وإلى عدد منها في بحوث قادمة بإذن الله تعالى.

من بواعث الشك وأسبابه:

ولننتقل الآن إلى الفصل الآخر من البحث وهو الكلام عن بعض بواعث الشك وأسبابه فنقول:

التعسف في المطالبة ببراهين أقوى مما تحتمله مادة البحث

إن من أهم بواعث الشك وأسبابه: استجداء البراهين القطعية فيما لا يبني العقلاء فيه حياتهم إلا على البراهين الظنية أو التعسف في المطالبة ببراهين لا تتجانس مع مادة البحث، كما مضى في العنوان.

وتوضيح ذلك ان مواد العلوم على أقسام:

فالعلوم الرياضية لا شك في انها تتوقف على البراهين القطعية وكذلك علم الفلسفة (حسبما يزعمون) أو علم أصول العقائد إذ لا بدّ، حسب المشهور، من تحصيل العلم بأصول الدين بالأدلة القطعية العقلية وإن كنا نستظهر الاكتفاء بالأدلة العقلائية دون توقف على الأدلة العقلية فقط.

ولكن وفي مقابل ذلك فان التاريخ مثلاً لا يبتني على الأدلة القطعية ولا على الأخبار المتواترة وإلا لانقطعت صلة عامة الشعوب بتاريخها وتراثها إذ ما أندر التواتر والأدلة القطعية في أحداث التاريخ؛ ولذلك نجد أن عامة الأمم من مختلف الملل والنحل لا تشترط في الاعتماد على التواريخ، البراهينَ الرياضية ولا الأدلة القطعية، بل يكتفون بنقل الثقات وحسب، ومن صغريات هذه القاعدة الاعتماد على نقل الثقات في الفضائل والمناقب والكرامات لأهل البيت صلوات الله عليهم وهي التي يمكن أن نسميها بـ(قاعدة التسامح في الفضائل) وقاعدة (التسامح في التواريخ بشكل عام) وهي قاعدة قد يغفل الكثيرون عن أهميتها وابتنائها على أصالة الصحة (بالمعنى العام) في نقل الناقلين، بشروط ذكرتُها في كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) وهي: أن تكون القضية التاريخية المنقولة أو الفضيلة المروية مما لا تتعارض مع القواعد العامة المسلّمة ولا ان تصطدم بالحقائق العقلية أو العلمية المحرزة، وان لا تتعارض الروايات والأخبار الأخرى، مع اعتماد ثقةٍ عليها.

وعليه: فلو نقل المؤرخ حديثاً عن شجاعة مثل أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الحرب أو تلك الواقعة، فانه حجة من غير توقف على التشدد السندي المشهور في علم الرجال الذي أسس لإحراز وثاقة إسناد الروايات في (الفقه) لا في (التاريخ) وتسريةُ ذلك من الفقه إلى التاريخ غلط؛ وذلك للحقيقة الهامة السابقة وهي: ان بناء العقلاء في حجية الروايات والأخبار يختلف في التشدد والتسامح على حسب نوعية مادة البحث ففي الهندسة والحساب وفي علوم الفيزياء والكيمياء لا يعتمدون عادة إلا على البراهين المسلّمة، أما في العلوم الإنسانية كالسياسة والاجتماع والتاريخ وعلم المستقبل وحتى في مثل علم الطب وغيرها فانهم يكتفون بالظنون العقلائية، وقد يكون من الحِكَمِ الارتكازية في بناء العقلاء على ذلك هو انها مما لا يمكن فيها تحصيل اليقين والبراهين القطعية فكان التعذر أو التعذر النوعي النسبي هو الباعث لاعتبارها حجة يبنون عليها نظام حياتهم، ولك ان تقول: ان ذلك هو الأمر المتوسط بين الانسداد والانفتاح(!) فالانسداد العام في هذه الأبواب هو الذي بعث العقلاء للبناء على حجية هذه الظنون فلم تكن حيث بنوا على حجيتها ظنوناً انسدادية بل أضحت من مصاديق الظن الخاص لقيام الدليل الخاص على حجيتها وهو بناء العقلاء فلم تكن حجة من باب الظن المطلق وإن كان الداعي لبناء العقلاء على حجيتها هو الانسداد العام فتدبر تعرف انه دقيق وبالتأمل حقيق.

والآن لننتقل إلى الفصل الأخير من الكلام وهو البحث عن الحلول وسبل العلاج فنقول:

من الحلول المفتاحية لظاهرة التشكيك

وربما يتساءل عن كيفية مواجهة ظاهرة التشكيك سواء على المستوى الفردي أم على الصعيد الاجتماعي، أي أن السؤال هو بالضبط عن كيف يقاوم الأشخاص أمواج التشكيكات التي تحيط بهم من كل حدب وصوب؟، وكيف يواجه المجتمع بُؤَرَ التشكيك ومحطات قذف الشبهات؟

والجواب هو: ان الحلول والسبل وطرق العلاج كثيرة ومتنوعة، نشير في هذا اليوم إلى بعضها حسبما يستفاد من كلام أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه صلوات المصلين فقد قال عليه السلام: (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَأَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا اَلضَّلاَلُ وَدَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى)(9).

استعن بضياء اليقين لدحر ظلمة الشبهات

ان المفتاح الأول للإجابة على الشبهات والتغلّب عليها هو ما ذكره عليه السلام بقوله: (فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ) ولكن ماذا يعني ذلك؟ إذ ان الفرض هو ان الشاك جاهل لا يقين له وان الشبهة اشتبهت عليه وجهل حقها من باطلها فكيف يكون اليقين (وهو الفاقد له) ضياءً له يكشف عنه ظلامَ الشبهات؟

والجواب: ان كلامه عليه السلام يمكن ان يفسر بوجوه وكلها مما تتجلى به روعة هذه الحلول: ذلك انه يفيدنا ان علينا ان ننطلق من (اليقين) لنقصف قلاع الشك والشبهات وبُؤَرَ الفتنةِ والحيرةِ والضلالة والتشكيك، وليس العكس أي ليس من شيم أولياء الله وهم قمة الحكمة والعقل، القضاء على اليقين بالشبهة أو دكّ حصون العلم بصواريخ الجهل والشك، وذلك بوجوه عديدة:

انطلق من اليقينيات الوجدانية لدكّ معاقل الشبهات!

الوجه الأول: ان يتخذ العاقل من اليقينات الوجدانية منطلقاً لدك معاقل الشبهات والمثال الآتي يوضح لنا ذلك بصورة معبرة جلية: فان كل واحد منا يدرك بفطرته ووجدانه وضميره انه مختار في أفعاله وليس مجبراً عليها فانه بملأ اختياره يرفع هذا الكتاب أو يفتح ذلك الباب أو يذهب للمدرسة أو المسجد أو المتجر أو، لا سمح الله، يذهب إلى حيث مكامن الفساد، فهذا (أي كونه مختاراً، مما يدركه بفطرته) هو اليقين الذي يجب أن ينطلق منه المرء لنسف أية شبهة توحي بالجبر، فعليه بضياء هذا اليقين ان يسترشد لنفيها ورفضها وإن بدت الشبهةٌ شبهةً قوية، فان استطاع أن يجيب عليها فنياً وصناعياً فهو المطلوب وان لم يستطع فيكفيه، عقلاً، ان يعتمد على اليقين العقلي الوجداني بكونه مختاراً لردُ الشبهة، بالقول بانها شبهة في مقابل البديهة وكفى! لا ان يعكس لينجرف إلى دوامات الظلام والضلالة فيقول بالجبر خلافاً للعقل والوجدان بعد ان عاش في بحبوحة الضياء والهداية والكمال.

شبهة الجبر: المخ هو الذي يتخذ القرار قبل الإنسان!

فمثلاً: طرح بعض علماء الفيزياء والأعصاب شبهة تنفي حرية الإنسان في إرادته أي تنفي كونه فاعلاً مختاراً، فزعموا ان نتائج فحص المخ بالرنين المغناطيسي وغيره من وسائل رصد أمواج المخ وتسجيلها والتي تطورت حتى كاد ان يكون بمقدورها قراءة أفكار الإنسان عبر تسجيل الذبذبات أو الأمواج الصادرة من مخه، قال بعضهم: ان نتائج التجارب المختبرية والفحوص الشاملة لحالات المخ وخلاياه المسؤولة عن إصدار القرارات أوصلتنا إلى أن المخ يتخذ كافة القرارات قبل أن يتخذها الإنسان بجزء من ألف جزء من الثانية! وهكذا زعموا بانك عندما تتخذ القرار تتوهم انك الذي اتخذته لكن الواقع هو ان المخ هو الذي اتخذ القرار قبلك بآليات وأسباب تجهلها أنت!

وهنا ما الذي يجب على العاقل الحكيم ان يصنعه؟ عليه أن ينسف الشبهة هذه، مهما تلبست بلباس العلم، بنور اليقين إذ انه يشعر بوجدانه انه هو الذي اتخذ القرار لا ان هناك جهازاً مزروعاً بداخله (ليكن اسمه بعض خلايا المخ أو العَصَبونات أو غيرها) هو الذي اتخذ القرار!.

الجواب: القرار للروح، والمخ آلة

ولكن ومع ذلك ومن الناحية العلمية نقول: لو فرضنا ان الأمر كما ذكروا وانه لم تقع في معادلاتهم المختبرية مغالطات متعمدة أو أخطاء عفوية، فان ذلك حتى لو ثبت فانه لا ينفي اختيارية الإرادة الإنسانية بل يؤكدها؛ وذلك لوضوح ان الإنسان ليس آلة ميكانيكية كالروبوت، ولو كان كذلك لأمكن أن يصح ذلك الكلام، لكن الإنسان روح وجسد والحاكم على الجسد هو الروح، والمخ هو من الجسد، وهو محكوم بالروح والعقل، والذي يتخذ القرار هو الروح قبل المخ أو أي عضو آخر بالجسد، وذلك أمر بديهي إذ لا ريب ان المخّ وكافة أعضاء البدن تتحول إلى صفر على الشمال وتفقد كافة قدراتها وفوائدها بمجرد الموت ومغادرة الروح للبدن، فالإنسان إنسان بروحه وبعقله والبدن آلة مسخرة له؛ ولذا كان الإيمان والكفر والعلم والجهل والإرادة والكراهة مصدرها الأول هو الروح ثم تنعكس قرارات الروح على أعضاء الجسد المعدّة خصيصاً لاستقبال إشارات الروح، سواء في الإبصار أو السماع أو الإيمان أو اتخاذ القرار، ويوضحه: ان العين تبصر بعد ان ترسل فوتونات النور الواصلة إليها عبر شبكة معقدة من الأعصاب إلى مركز الإبصار في المخ، فالذي يرى هو العين ظاهراً لكن الواقع هو أن الذي يرى هو المخ والعين مجرد آلة، وعند التعمق الأكثر نرى بان الذي يرى واقعاً هو الروح أو النفس الإنسانية وان العين ثم المخ مجرد آلة ووسيلة للايصال؛ ولذا إذا غادرت الروح البدن فلا العين ترى ولا المخ يبصر!

إتّخِذ من الكلّيات منطلقاً لإزاحة الشبهة في المصاديق والجزئيات

الوجه الثاني: ان يتخذ العاقل من (الكلّيات) منطلقاً لإزاحة الشكوك والشبهات عن المصاديق والجزئيات؛ فان الجزئيات والمصاديق كثيراً ما يشتبه حالها على المرء وحينئذٍ عليه ان يستضيء بنور الكليات اليقينية ويرجع الجزئيات إلى كلياتها فتنحل بذلك العقدة وتنزاح الشبهة.

فمثلاً: إذا شككت بان هذا حلال أو حرام فارجع في ذلك إلى القاعدة الكلية: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك)(10) وإذا شككت بنحو الشبهة الحكمية في الجواز والتحريم فأرجع إلى القاعدة الكلية: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي)(11).

كُن اما مجتهداً أو مقلداً ولا تكن جاهلاً مجتهداً!

ولنشر هنا إلى إحدى الكلّيات المفتاحية الهامة: وهي ان الشبهة إذا عرضت على الإنسان فعليه أن يرجع إلى إحدى الكليات الهامة جداً وهي: (ان المكلّف، بل كل عاقل من أي دين كان، عليه أن يكون اما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً) فإذا عرضت عليك الشبهة فاما أن تكون مجتهداً (ذا ملكة) بالمستوى فعليك حينئذٍ أن تُعمِل الملكة وتدرس أطراف المطلب وتقلب كافة الأدلة لتنجلي لك الحقيقة، فإذا لم يحصل ذلك فرضاً فتتوقف (أو تقلد الغير، حسب المنصور) واما إذا لم تكن مجتهداً فقلّد من تثق بعلمه وخبرته ودينه وانفُض غبار التشكيك عن ذاتك بعد ذلك.

والخطأ الشائع هو: ان الناس، وأكثرهم غير متخصص وغير مجتهد، عندما تعترضه شبهة ما فانه يفكر فيها ملياً بعقله (أو حتى بدون ذلك!) ثم يتخذ الموقف فوراً ويحكم بصحة الشبهة أو بطلانها، مع ان ذلك خطأ فاحش لا يقبل به العقل ولا يرتضيه العقلاء: إذ الذي يستطيع أن يحلل أية قضية معقدة في أي علم من العلوم (الطب أو الفيزياء، الكلام والعقائد، وغيرها) إنما هم المتخصصون، ومن الخطأ للعامي في الطب مثلاً ان يجتهد (مادام عامياً غير طبيب) في المسائل الطبية فيرفض هذا الرأي الطبي أو ذاك إلا إذا تحول إلى مجتهد خبير بالطب(12) واستفرغ وسعه في ذلك وإلا ارتكب خطأ منهجياً وعلمياً خطيراً جداً ووقع في أخطاء مذهلة باجتهاده في غير حقل اختصاصه مع انه الجاهل بقواعده وأسسه ومعطياته.

والحاصل: اننا نقول لكل من إذا اعترضته شبهة تلقّفها وأذعن بها: كُنْ إما مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً: فان كنت بالفعل مجتهداً والتزمت بآليات التحقيق العلمي والاجتهادي واستفرغت وسعك في البحث والفحص فحينئذٍ يصح لك ان تبدي رأيك في المسألة وان تبني على أحد الطرفين، وإلا فكن مقلداً، وإن رفضت الطريقين فكن محتاطاً أو متوقفاً.

وبذلك يستقر وضع المجتمع ويسود الأمن العلمي والعقلائي، وإلا فسوف سينهار المجتمع بأكمله؛ إذ يكفي أن تتصور فقط ان كافة الناس بدأوا بالتدخل في شؤون علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والاقتصاد والأصول والفقه والفلسفة وغيرها، وبدأوا، رغم كونهم غير متخصصين، برفض قواعد تلك العلوم لأنهم وجدوا شبهات عليها عجزوا عن الإجابة عنها، ورفضوا في الوقت نفسه تقليد المختصين فيها.

وبكلمة أخرى: من أيقن بهذه القاعدة الكلية: ان ملاذ الناس يجب أن يكون إما الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، وانه ان كان مجتهداً (خبيراً حقاً) فله ان يستفرغ وسعه حتى يصل، وإلا فعليه أن يكون مقلداً، فانه عندئذٍ سيتخلى عن التطفل مادام غير خبير في المسائل العلمية التخصصية، وإن فعل كان ظالماً لنفسه وللحقيقة أيضاً، نعم لا أحد يمنعه من ان يسعى ليكون مجتهداً لكنه مادام غير مجتهد فآراؤه ليست حجة أبداً عقلاً ولا عقلائياً حتى لنفسه إذ انه بنى على أساس غير وثيق أبداً.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

.......................................
(1) سورة إبراهيم: آية 9.
(2) سورة الدخان: آية 9.
(3) العلامة المجلسي، بحار الأنوار – ط دار الاحياء التراث، ج91، ص147.
(4) العلامة المجلسي، بحار الأنوار – ط دار الاحياء التراث، ج91، ص147.
(5) نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (بالإيطالية: Niccolò di Bernardo dei Machiavelli)‏ (3 مايو 1469 - 21 يونيو 1527) ولد وتوفي في فلورنسا، كان مفكرا وفيلسوفا سياسيا إيطاليا إبان عصر النهضة. أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي(!)، والذي أصبحت فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي. أشهر كتبه على الإطلاق، كتاب الأمير، والذي كان عملاً هدف مكيافيلي منه أن يكتب تعليمات للحكام، نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة أن ما هو مفيد (أقول: يقصد ما هو مفيد للحاكم المستبد!) فهو ضروري، والتي كان عبارة عن صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية. ولقد فُصلت نظريات مكيافيلي في القرن العشرين. (المصدر: ويكيبيديا).
(6) وغيرهم أيضاً من سائر الأمم، والذي ارتدت عليه في داخله أيضاً سلسلة من ارتداداته.
(7) فعلَه وحالَه.
(8) مما ذُكر في صحيحة بن يعفور قال: Sقلت لأبی عبد اللّه عليه السلام: بم یعرف عدالة الرجل بین المسلمین حتّی تقبل شهادته لهم وعلیهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وکفّ البطن والفرج والید واللسان، ویعرف باجتناب الکبائر التي أوعد اللّه علیها النار من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدین، والفرار من الزحف، وغیر ذلك. والدلالة علی ذلك کلّه أن یکون ساترا لجمیع عیوبه، حتّی یحرم علی المسلمین ما وراء ذلك من عثراته وعیوبه وتفتیش ما وراء ذلك، ویجب علیهم تزکیته وإظهار عدالته في الناس، ویکون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب علیهنّ وحفظ مواقیتهنّ بحضور جماعة المسلمین وأن لا یتخلّف عن جماعتهم في مصلاهم إلّا من علّة.
فإذا کان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه فی قبیلته ومحلّته قالوا: ما رأینا منه إلّا خیرا مواظبا علی الصّلوات متعاهدا لأوقاتها فی مصلاه، فإنّ ذلك یجیز شهادته وعدالته بین المسلمین، وذلک أنّ الصّلاة ستر وکفارة للذنوب، ولیس یمکن الشهادة علی الرجل بأنّه یصلّی إذا کان لا یحضر مصلّاه ویتعاهد المسلمین... (الشيخ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ط الإسلامية، ج18 ص288).
(9) السيد الرضيّ، نهج البلاغة، الناشر: دار الكتاب اللبناني، ص81.
(10) محمد بن الحسن الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث – قم، ج17 ص89. وذلك بناء على انها في الشبهة البدوية أو الأعم منها، دون القول باختصاصها بالشبهة في أطراف العلم الإجمالي.
(11) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، الناشر: جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، ج1 ص317.
(12) أو استند إلى رأي طبيب آخر أعلم من الأول أو مساوٍ له، وقلّده.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي