بواعث الشك
التسطيح، غموض الحقيقة، وخفاء المصطلح
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-11-05 05:40
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [1]
أسباب الشك وعوامله
يجب علينا في إطار البحوث المعرفية عن ظاهرة الشك والتشكيك، ان ندرس بواعث الشك وعلله لنكتشف أولاً سبل العلاج والحلول الناجعة لهذه الظاهرة بشتى أنواعها خاصة الشك غير المنهجي، ولنكتشف ثانياً: الضار من أنواع الشك أو النافع منها؛ فان معرفة الأسباب كثيراً ما تكون الطريق السليم لضمان سلامة التقييم وتكون هي التي تقود إلى اكتشاف مدى صحة النتائج والثمار والآثار، أو العكس من ذلك.
أولاً: النظرة الساذجة للحقائق المعقدة
السبب الأول: التسطيح أو النظرة السطحية إلى الحقائق ذات الأسطح المتداخلة أو الأعماق المتعددة أو المتنوعة أو حتى ذات العمق الكبير، وكذلك النظرة الساذجة إلى الحقائق التي تتميز بالتشابك العلمي والمعرفي أو الحقيقي والجوهري مع سلسلة من الحقائق الأخرى التي تتفاعل بمجملها لتكون محصلّتها مغايرة تماماً لما يطفو منها على السطح.
سذاجة الكفار في قولهم (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا)
وذلك هو ما أشارت إليه الآية الكريمة عندما رسمت التوهم الساذج للكفار عن حقيقة الرسل، وعندما استبطنت ان وجه الخطأ يكمن في الاقتصار على النظر إلى سطح الأمر دون الغوص في أعماقه أو اكتشاف سائر أبعاده فلقد حكى الله تعالى عن المشركين قولهم: (قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا) [2] فكانت هذه هي المشكلة التي أوقعتهم في اللَّبْسِ والوهْم وهي انهم اقتصروا على إلقاء نظرة عابرة سطحية إلى ظاهر الرسل فلاحظوا انهم بشر مثلهم فكيف يكونون رسلاً لإله الكائنات؟ وقد صورت آيات أخرى هذا التصور الساذج بعبارات أخرى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [3].
الفارق: (الـمِنّة الإلهية) وكونهم عباداً لا مجرد عبيد
وكان الجواب (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) [4] والتي تفيد بانهم وإن كانوا بشرا، وان ذلك لذلك، لكن المقياس في كونهم رسلاً ليس هو هذا الظاهر بل المقياس هو معادلة أخرى أعمق بكثير وهي التي تغيّر مسار معالجة مثل هذه الظواهر إلى درجة يذهل لها الإنسان إذا تدبر فيها قليلاً، والمعادلة هي (الـمِنّة الإلهية) التي يتحول بها البشر العادي إلى مستوى يفوق الخيال البشري (وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) إذ ان الله الكريم الجواد القادر المطلق إذا أراد ان يمتنَّ على بعض عباده بمنحة إلهية وهدية ربانية، فهل للخيال مهما جنّح ان يصل حتى إلى ادنى مدياتها؟.
والملفت ان الآية الشريفة وإن صرحت بان المنّة منوطة بمشيئة الله تعالى، وهو كذلك، لكن مشيئته جل وعلا ليست عبئاً بل ان مشيئته إنما تعلقت بالمحل القابل، والمحل القابل هو (عِبَادِهِ) وليس (عبيده) وهي نكتة قرآنية دقيقة في التفريق بين المتميزين من البشر الناجحين في الامتحانات الإلهية وبين غيرهم إذ يعبّر تعالى عن الفريق الأول في القرآن الكريم غالباً بالعباد عكس الفريق الثاني إذ يعبّر عنهم غالباً بالعبيد فلاحظ الآيات التالية: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) [5] و(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [6] و(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [7] (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [8].
وفي مقابل ذلك نجد قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) [9] و(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [10] و(وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ) [11].
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) [12] و(وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [13] (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) [14] (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) [15] (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [16] (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) [17].
نعم قد يخرج عن ذلك، لحكمة أخرى نظير قوله تعالى: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) [18] (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [19] (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [20] فتأمل.
نماذج تسطيحية:
ولنضرب أمثلة ثلاثة أخرى من (النظرة الساذجة السطحية) التي قد تقود إلى الشك بل والتي قد تقود إلى الزيغ والضلال والانحراف.
1- عصمة الأنبياء وفلسفة التعبير بالعصيان في القرآن
المثال الأول: (عصمة الأنبياء والرسل) ذلك ان الكثير من الناس اختلط عليهم الأمر حيث جمدوا على ظاهر النص ولم ينفذوا إلى تأويله ووجهه وما يستبطن من حقائق أخرى تستوجب قلب الفهم الظاهري للنص إلى فهم آخر مغاير تماماً، وذلك هو ما يقتضيه التفاعل بين ظاهر النص وباطنه وبين تنزيله وتأويله وبين ذاته وسياقه، والذي يكشف عن جانب من جوانبه ما أشار إليه المناطقة من ان جمال ظاهر الألفاظ قد يسري إلى معانيها فيكسبها حسناً مع انها قد تكون قبيحة أو لا تكون على أقل الفروض جميلة حسنة، كالعكس تماماً إذ قد يسري قبح الألفاظ إلى واقع المعاني النبيلة الجميلة فيكسبها في أنظار الكثير قبحاً، كما ان جمال المعاني أو قبحها قد يسري إلى الألفاظ القبيحة أو الجميلة فيمنحها جمالاً وروعة أو قبحاً وسوءة.
ومع التسلح بفهم هذه الحقيقة لننطلق إلى بعض الآيات الكريمة التي قد يستفيد الفهم السطحي الساذج منها نفي عصمة الأنبياء كقوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [21]
ظاهرة تأليه العظماء، والحل بما صنعه القرآن
ولكن الفهم الشمولي العميق الذي يضع الأمور في سياقاتها ويكتشف ابعادها وقرائنها يكتشف أمراً آخر أعمق وان (العصيان) المراد به هو ترك الأولى لا فعل الحرام أو يراد به ترك النهي الإرشادي لا المولوي؛ وذلك بالقرائن العقلية والروائية القطعية المذكورة في الكتب الكلامية والتي ليست هي محل البحث الآن، بل محل البحث وموطن الشاهد ههنا استكشاف أثر الفهم العقلائي المعمق لظواهر الألفاظ خلافاً للأفهام البسيطة الساذجة، فقد نسب العصيان إلى الأنبياء في القرآن الكريم لحكمة بالغة تبتني على إحاطة علمية سيكولوجية بالطبيعة البشرية والتي كانت هي الباعث لاستخدام مصطلحات تُوقِع الفهم الساذج في تَوهُّم إرادة الظاهر كما هو، وتلك الحقيقة السيكولوجية والتي نشهدها على مدار التاريخ، هي ان الناس بطبعهم يميلون إلى تقديس العظماء ثم إلى تأليههم واعتبارهم آلهة يجب ان تعبد من دون الله، وذلك هو ما نلاحظه من تقديس شرائح واسعة جداً من كافة المجتمعات لعلمائهم وكبرائهم رغم انهم لا يتميزون عليهم إلا ببعض العلم أو التقوى أو القوة الظاهرية، وأما الأنبياء فكانت تصدر منهم المعجزات المبهرة لذلك كان الناس يميلون إلى تأليههم واتخاذهم أرباباً يعبدون إلى جوار الله أو من دون الله الذي لم يرونه، وذلك مثل معاجز عيسى المسيح (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [22]
وقد ورد ان (أن أبا رافع القرظي والسيد النجراني قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله ان يعبَدَ غيرُ الله وان نأمر بغير عبادة الله، فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فنزلت (وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ) [23] ولكن يقول كونوا ربانيين والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو الكامل في العلم والعمل.
وقال القمي: اي ان عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم وكونوا عبادا لي من دون الله ولكن قال لهم كونوا ربانيين اي علماء) [24].
وكأنهم عندما رأوا معاجزه (صلى الله عليه واله) وآمنوا به احتملوا ان الإيمان به كرسول لا يكفي بل لا بد من عبادته، فنزلت الآية الشريفة: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ)[25].
والمحصلة من ذلك: ان البشر حيث لا يتحمل الكثيرون منهم الوقوف عند حد الاعتدال والوسطية وحيث ان من دأبهم الإفراط في تعظيم الكبراء والعظماء وحيث ان تاريخ البشرية امتلأ بتأليه العديد من الأنبياء وغيرهم كعزير والمسيح وغيرهما لذلك كان لا بد بالنظر للحكمة الإلهية البالغة من ان يُعبِّر خالق الأنبياء وباعثهم رسلاً إلى الناس، عنهم بعبارات لا يبقى معها مجال للناس لتوهم انهم آلهة أو ارباب تعبد من دون الله.. وهل يتوهم أحد أن آدم الذي (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) يصحّ أن يعبد؟
وذلك هو ما يفسِّر، في جملة وجوه أخرى، السرّ في عتاب الله تعالى (إن صح هذا التعبير) للرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) بأمور شخصية خاصة مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)[26] إذ غاية الأمر لو كان ذلك مرجوحاً ان يعاتبه الله في السر ولكن ما الداعي لأن يُعلن عن ذلك في القرآن الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار؟
ولقد ظهر ان الداعي، في جملة حِكَم أخرى نعلم بعضها ونجهل أكثرها، هو ان لا يتخذ الناس على مرِّ الأزمان رسولَ الله إلهاً يعبد، خاصة مع تواتر صدور المعجزات الكثيرة منه حتى عدّها بعض المؤرخين أربعة آلاف معجزة منها ما خلّده القرآن الكريم كمعجزة شق القمر وغيرها.
2- حركة الجبال كحركة السحاب، وهي تبدو ساكنة!
المثال الثاني: قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)[27] وهي تُلفِت بإشارة بليغة في كلمة (تَحْسَبُهَا) والتي تفيد ان هذا الزعم إنما هو مجرّدُ وهمٍ، وبتصريحٍ واضحٍ في (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) تُلفتُ إلى أن الظاهر السطحي (كجمود السحاب وسكونه) يغرّ الناس بل قد لا يتعقل الناس نظرية ان الجبال متحركة، ولكن الواقع غير الظاهر وهي انها تمر مر السحاب بحركتها بحركة الأرض الوضعية والانتقالية.
وهذه الآية وإن وردت في سياق آيات القيامة مما حدا بالكثير من المفسرين لحملها على ان المقصود من حركة الجبال إنما هو حينذاك، لكن بعض الروايات تصرح بان أول الآية قد يكون في شيء وآخرها في شيء، ومنها قول الإمام الباقر (عليه السلام): ((وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، ان الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه)) [28] لذلك ذهب المشهور إلى عدم حجية قرينة السياق، إضافة إلى انه لو سلمنا ذلك فان القيامة ستكون هي شأن التنزيل والدنيا تكون التأويل كما هو شأن الكثير من الآيات الأخرى.
قرائن على ان المراد حركة الجبال في هذه الدنيا
وقد استدل بعض المفسرين على ان الآية وردت عن الجبال في الدنيا بقوله:
(قولهُ تعالى: (وَتَرى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم القيامة، لأنّها وردت في سياق آياتها، فقد ورد قبلَها: (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ).
ويلاحظ عليه: أنّ الآية المتقدمة على هذه الآية، تبحث عن الحياة الدنيوية، يقول سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ). فَتَوَسُّطُ الآيةِ الراجعةِ إلى يوم القيامة، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية، إذا كان هناك صلة وتناسب بين الآيات، هذا مع أَنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه:
أَمّا أَوّلاً: فإنّه سبحانه يقول: (تَحْسَبُهَا جَامِدَةً)، مع أنّ يوم القيامة، يوم ظهور الحقائق وكشف البواطن، وليس هناك ظَنٌّ وحسبان، بل كلُّ ما هناك إذعان ويقين، يقول سبحانه: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
وثانياً: فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدلّ النظام وتغيّره، يقول سبحانه: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّموَاتُ) ويقول سبحانه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً) [29] ويقول سبحانه: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [30] ويقول سبحانه: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)[31].
فالكل يدل على زوال النظام بما فيه الجبال، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة؟
وثالثاً: إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية (صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء) [32]، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية، وأمّا يوم القيامة، فهو يوم إبادة نظام الحياة فالجبال تتلاشى وتتمزق، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع.
ورابعاً: فإنّ قوله في ذيل الآية: (إنّه خبيرٌ بِما تَفْعَلونَ)، صريح في أنّ الآية راجعةٌ إلى الحياة الدنيوية، ولو كانت ناظرة إلى يوم القيامة، لكان المناسب أن يقول: ((خبير بما فعلتم)).
فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية.
وليس القصد تأييده والإذعان بصحة القرائن التي ذكرها فان العديد منها محل تأمل، إلا ان الشاهد صلاحية بعضها لتكون مؤيدة.
3- النظرة السطحية للحدود الشرعية
المثال الثالث: (الحدود) فان النظرة السطحية الساذجة إلى الحدود قد تدفع البعض خاصة من الحداثويين إلى استنكارها وإنكارها، لكن ذلك لا يعدو كونه إلا غفلةً عمّا يكمن خلف هذا السطح من بُعد آخر يشكل عمق المغزى منها كما انه يشكل غفلة عن ان الحدود هي حلقة في ضمن منظومة متكاملة وذلك على حسب التحليل الذي اختاره السيد الوالد في (الحدود) فانه يرى:
أ- الحدود عامل ردع استراتيجي، وليست للتنفيذ الشامل
أولاً: انه يكمن خلف سطحها الظاهر، عمق استراتيجي يُشكِّل واقع فلسفة الحدود وذلك العمق هو محاصرة السرقات كظاهرة متفشية في المجتمعات بل واقتلاعها من الجذور وإقرار الأمن الاجتماعي بشكل فريد وذلك كله عبر سنّ قانون يبدو عنيفاً جداً لكنه لا يراد به بالأساس إلا التهديد به وإلا الردع بهذا العقاب الصارم، لا التنفيذ على نطاق واسع بل ولا على نطاق ضيق بل لا يتجاوز التنفيذ إلا الأندر من النادر من الحالات.
ويدل على ذلك ان حد السرقة وهو قطع اليد، مثلاً لم ينفّذ حسب استقراء البعض طوال حوالي مأتي سنة منذ بدايات الإسلام إلا على ستة سرّاق رغم سعة الامبراطورية الإسلامية الشاسعة التي كانت تغطي ما يقارب ثلثي الكرة الأرضية، وحسب استقراء البعض الآخر فان الايادي التي قطعت كانت حوالي 12 مورداً، بل لنفرض انها كانت خمسين أو مائة مورد أو أكثر، إلا أن ذلك يعني (رمزية) هذا العقاب واعتماده في واقعه على لغة أخرى غير ظاهره أي انه يعتمد في إقرار الأمن واقتلاع جذور السرقات من المجتمع على عامل الردع بالأساس لا على التنفيذ كلما حدثت سرقة أو أخرى، فالردع هو الجوهر والأساس ولكنه لكي يتحقق لا بد من تنفيذه في موارد ولو نادرة كي يحظى بالمصداقية والرادعية.
فكم هو فرق بين إجراء هذا الحد في موارد نادرة لمجرد الردع عن ألوف أو مآت الألوف من السرقات الأخرى، وبين إجراء هذا الحد عند كل سرقة وفي الألوف من الموارد كل سنة وعام؟
ومن الواضح انه لدى دوران الأمر بين قطع يد سارق واحد أو سارقين كل عشر سنوات مثلاً أو أقل أو أكثر، وبين حصول ملايين السرقات في طول البلاد وعرضها مما يسلب الناس أمنهم وراحتهم وبما يستدعي ان يخيّم الخوف والرعب على قلوب الملايين من الأرامل والمطلقات والأيتام والشيوخ الذين يعيشون بمفردهم بل والعوائل الصغيرة وغيرها، فان الأرجح قطع يد واحدة لتكفي رادعاً يحول دون الملايين من السرقات بما تستتبع من أضرار عامة وخاصة أقلها الكآبة والقلق والخوف الذي قد يعصف بقلوب ملايين العوائل والرجال والنساء والشيوخ والأطفال.
إذاً وحسب هذا التحليل الذي يستبطن عمق هذا الحد وانه هو الردع وليس التنفيذ إلا في النادر، فليس الحدّ مما يطبق في أرجاء البلاد على كل سارق بحيث قد تقطع يد ألوف السراق في السنة الواحدة مثلاً!
نعم لا ريب ان هذا التحليل المبتني على رمزية هذا الحد ومحورية رادعيته الكبرى، يستبطن ضرورة القيام بحملة إعلامية – تحذيرية واسعة النطاق جداً بحيث يكون قطع اليد الواحدة كفيلاً بردع الألوف من السراق عن السرقة.
ظاهرة تفشي الاختلاس في الدولة، والحل
ومما يؤكد ذلك ويوضحه تفشي السرقة والاختلاس حالياً في بعض دولنا على أعلى المستويات: على مستوى الوزراء والوزارات والنواب وغيرهم حتى بلغت درجة الصدمة ورغم حضور هيئات النزاهة وغيرها إلا أنك تجد هذه الظاهرة تستفحل يوماً بعد يوم أكثر فأكثر، والغريب ان العالم يشهدهم يسرقون عشرات المليارات من الدولارات كل سنة من أموال النفط والضرائب والعقود والصفقات وغيرها على حساب عوائل الشهداء والأرامل والأيتام والفقراء والمساكين.
ولو ان القضاء قطع يد شخص واحد من الحيتان الكبيرة على مستوى وزير أو شبهه، لكنتم ترون انتهاء ظاهرة الاختلاسات في الدولة تماماً! والآن فكروا قليلاً: ايهما الأرجح عقلاً؟
ومما يشهد لذلك أيضاً ان إحدى أهم العواصم الغربية [33] تفشت فيها السرقات الصغيرة [34] بشكل مذهل، والغريب انك لو اتصلت بالشرطة فانهم لا ينجدونك أو يتباطؤون ويتثاقلون ويتأخرون حتى يهرب اللصوص! اللهم إلا لو صاحبتها جريمة كالقتل أو الجرح أو كانت السرقة كبيرة، وذلك لأنهم لا يرون أي حل لهذه الظاهرة المستفحلة إذ يرون انهم لا يمكنهم إلقاء عشرات الألوف من السراق في السجون! خاصة وان تكاليف السجناء ليست بالقليلة بل انها تكلف خزانة الدولة المليارات كل سنة! وهكذا يجدون انه يدور أمرهم بين سجن كافة اللصوص وهذا مما لا يريدون ان يتحملوا مضاعفاته وتكاليفه، وبين تركهم وشأنهم وإن عمّ الخوف أرجاء العاصمة، فرجّحوا الثانية على الأولى!!.
ولا حل لهذه المعضلة الكبرى إلا في (التهديد الصارم) بقطع اليد في ضمن إطاره الرمزي النادر التنفيذ ولا غير!
ب- (الحدود) في ضمن منظومة القوانين، القيم، ولا يصح اقتطاعها من سياقها
ثانياً: ان (حد السرقة وغيرها من الحدود) ما هو إلا جزء من منظومة سياسية اقتصادية اجتماعية فكرية معرفية وقانونية متكاملة، وحسب رأي السيد الوالد فانه لا يصح إجراء حد السرقة بدون أن تكون سائر قوانين الإسلام الحيوية مطبقة:
ومنها: إقرار نظام التعددية السياسية حسب المستفاد من قوله تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [35] وحسب ملاك (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ...) [36].
ومنها: العمل بالشورى الإسلامية حسب قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [37].
ومنها: التداول السلمي للسلطة.
ومنها: توفير الحريات الإسلامية في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها كي تتوفر للناس فرص وافية بالحاجات وكافية للرغبات، وترتفع عنهم الضغوط النفسية الكبيرة التي كثيراً ما تدفع الأفراد لتفريغها عبر طريق الإجرام والسرقة والاختلاس وغيرها.
ومنها: تكفل بيت المال بكافة الفقراء والأيتام والأرامل وغيرهم حسب قاعدة (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [38] ومنها غير ذلك.
فإذا توفرت الديمقراطية الإسلامية والحريات والشورية والأخوة الإسلامية والعدل والإحسان وغيرها من قوانين الإسلام ثم سرق أحدهم فانه حينئذٍ يمكن القول بإجراء حد السرقة، عليه عكس المنهج السعودي – مثلاً – الحاكم الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض فيختار من أحكام الشرع الحدودَ فقط، لينفذها على السراق العاديين ولا يجريها على سراق النفط وبيت المال من الأمراء والملوك والقادة الذين (يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ) [39] والذين لا يطبقون قوانين الإسلام الأخرى في الحريات والشورى وغيرها، فلم لا يعكسون؟
وعلى أي فان السيد الوالد (قدس سره) يرى ان هذين الأمرين (طابع التهديد كأصل، وليس التنفيذ، وشرط تطبيق قوانين سائر الإسلام) لو لم يكن مستظهراً من النصوص فانه على الأقل من الشبهة التي يشملها قاعدة ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)) [40]
هذا كله إن لم نذهب إلى ما ذهب إليه السيد ابن زهرة وبعض آخر من المتقدمين والسيد أحمد الخوانساري وغيره من المتأخرين (بل ادعى السيد الخوانساري عليه الشهرة) من ان الحدود لا تجرى في زمن الغيبة مطلقاً بل يشترط فيها حضور الإمام المسلط إليه.
ثانياً: غموض الحقيقة
السبب الثاني: غموض الحقيقة، فان الحقيقة قد تكون غامضة إلى درجة يعجز معها كافة الناس أو معظمهم أو بعضهم من إدراكها ومن الإذعان بصحتها أو صوابها، فمن ههنا قد ينشأ التشكيك.
معنى الدّور
ومن الأمثلة على ذلك (الدّور) فانه كثيراً ما يدرك الباحث وجه الدور وان هذا المورد مما ينطبق عليه انه (توقف الشيء على ما يتوقف عليه) وكثيراً ما يدرك العكس، لكنه كثيراً ما لا يدرك هذا الطرف أو ذاك لذلك يبقى أسير الشك في تحقق الدور في المقام.
تجمّد الزمان في الثقوب السوداء
ومن الأمثلة على ذلك نظرية تجمّد الزمان في (الثقوب السوداء في الفضاء) والثقوب السوداء عبارة عن كتلة مكثفة مضغوطة أو منطقة في الفضاء ذات كثافة بالغة جداً حدث فيها تقليص أو إزالة الفواصل بين الجسيمات داخل النواة والالكترونات التي تحيط بها لأن الفراغ (الذي يبدو [41]) داخل الذرات هائل جداً فلو ضغطت كتلة كبيرة كالكرة الأرضية لتتحول إلى ثقب أسود، لكان حجم نصف قطرها تسعة أعشار السنتيمتر الواحد أي كان حجمها ككرة الطاولة وذلك مع احتفاظها بوزنها الثقيل لأنه ناتج عن الجسيمات لا الفراغات.
والثقب الأسود يعادل غالباً مليون شمس فإذا ضغطت مليون شمس تحولت إلى ثقب أسود، وتبلغ الجاذبية فيها من القوة بحيث تمتص أي جُسيم أو موجة أو إشعاع أو إشارة يمر إلى جوارها حتى انها تمتص النور أيضاً لذا يسمونه ثقباً أسود إذ لا يرى بالمرة، وقد اكتشفوه من آثاره [42].
وموطن الشاهد هو ان البعض ادعى ان الزمان ينعدم في الثقب الأسود وانه إذا مضت علينا ههنا ألوف أو ملايين السنين فان ما في الثقب الأسود حيث انعدم فيه الزمان لا يكون قد مضى عليه حتى ثانية واحدة، وقال من يدعي ذلك انه كما ان الزمان يتمدد أو يتقلص حسب النظرية النسبية العامة التي طرحها اينشتاين فانه يمكن ان يبلغ تقلصه حده الأقصى فيصل إلى نقطة الصفر والعدم المحض.
وهنا: فان من يحيط خُبراً بصحة هذه النظرية أو بطلانها فانه يكون مذعناً أو منكراً أما من لم تقنعه أدلة أحد الطرفين أو لم يفهمها جيداً فانه لا محالة يكون شاكاً، والشك في مثل هذا الموطن إنما هو وليد غموض الحقيقة.
ثالثاً: خفاء المصطَلَح
وقد يكون سبب الشك، أو حتى الانكار، هو غموض المصطلح أو خفاء احدى أمور ثلاثة: 1- الموضوع له 2- أو المستعمل فيه 3- أو المراد منه؛ وذلك لأسباب عديدة: منها كونه مشتركاً لفظياً، ومنها كونه من الحقائق التشكيكية، ومنها الشك في الهجر أو النقل، ومنها غير ذلك [43].
خفاء معنى الشعائر الحسينية لدى البعض
ومن أبرز الأمثلة على ذلك مصطلح (الشعيرة والشعائر) فقد قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [44] وحيث خفي المراد من هذا المصطلح بدقة لذا وقع التشكيك بل وحتى إنكار شعيرية بعض الشعائر الدينية والحسينية، وليس هذا البحث معقوداً، كما هو واضح، لتحقيق حال الشعائر الحسينية وتمييز ما هو شعيرة مما ليس بالشعيرة، بل هو معقود لدراسة عوامل الشك أو الانكار لذلك سنقتصر على دراسة مفهوم (الشعيرة) بالمقدار الذي تُعنى به هذه الدراسة فنقول:
الاعتراض بان بعض الشعائر الحسينية وافدة من حضارات أخرى
ان البعض اعترض على بعض الشعائر الحسينية المعروفة [45] بانها ليست شعائر إسلامية لأنها وافدة من حضارات أخرى.
وكما سبق فان البحث ليس معقوداً إلا لجهة بحث خفاء المصطلح وان جلاء الشك والتشكيك قد يكون عبر إجلاء معناه وليس معقوداً لسوق الأدلة الشرعية على شعيرية هذه الشعيرة أو تلك ولا لدراسة تاريخية هذه الشعيرة أو تلك وان لها منشأً في الإسلام كما استدل به البعض [46] أو انها مأخوذة صِرفاً من حضارات أخرى فنقول:
الجواب: المقياس صدق الشعيرة عرفاً ولا يضر وفودها من حضارات أخرى
لنفرض ان هذه الشعيرة أو تلك وفدت إلينا من حضارات أخرى، ولكن هل يُخلّ ذلك بكونها شعيرة مطلقاً؟ الجواب كلا، ولكن ذلك يعتمد على إجلاء معنى الشعيرة، وبيانه: ان الشعيرة فعيلة بمعنى الفاعل فشعيرة أي مُشعِرة فشعائر الله أي المشعرة بالله تعالى، والشعيرة الحسينية أي المشعرة بالإمام الحسين (عليه السلام) ومبادئه وقِيَمِهِ أو تضحياته وظلاماته، فإذا انطبق على أمرٍ انه مُشعِرٌ بالإمام الحسين (عليه السلام) بنحوٍ من الأنحاء كان شعيرة حسينية [47] ولا يضر بذلك المصدر والمنشأ.
الشعائر ليست حقائق مخترعة بل هي كالعقود مفاهيم عرفية
ويبرهن ذلك ان الشعائر ليست من الحقائق الشرعية المخترعة بل هي كمطلق الموضوعات الأخرى مما أوكل الشارع أمرها إلى العرف ولم يَرِد من الشارع الأقدس أصلاً تعريف للشعيرة أو تحديد لها، فكما ان العقود والبيع والصلح والإجارة وغيرها مفاهيم عرفية فكلما انطبق عليه عرفاً عنوان البيع أو العقد شمله (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) و(وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) إلا فيما ثبت من الشرع تحريمه كـ(وَحَرَّمَ الرِّبَا) [48] كذلك كلما صدق عليه عرفاً انه شعيرة حسينية أي مشعرة به صلوات الله عليه انطبق عليها انها من شعائر الله إذ ان كل مُشعِرٍ بالقرآن الكريم أو الرسول العظيم أو آل بيته الكرام فانه مشعر بالله تعالى دون شك وريب فانهم الادلاء على الله والسبيل إليه والصراط المستقيم والحبل الممدود بين الله والخلائق، والروايات الدالة على ذلك كثيرة ومنها:
قال النبي (صلى الله عليه واله): ((فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها امناء ربي وحبل ممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم بهم نجا، ومن تخلف عنهم هوى)) [49].
ولا يضر بذلك وفود أصلها من الغرب أو الشرق مادامت إذ وفدت إلينا تلونت بلون الدين أو أهل البيت (عليهم السلام) قال تعالى: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) [50] وذلك بعد فرض كون أصلها من دائرة المباحات إذ لا يصح تحويل الحرام إلى شعيرة فانه لا يطاع من حيث يعصى.
والذي يبرهن ان منشأها مهما كان غير ضار أن (العقود المستأنفة) كعقد التأمين أو السرقفلية أو غيرهما منشؤها الغرب أو غيرها ولكن هل لأحد ان يشكك في صحتها وفي شمول (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [51] لها استناداً إلى ان منشأها الغرب فكيف يشملها (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)؟ فكذلك حال الشعائر تماماً.
نعم ينبغي ان يصدق عليها عرفاً انها شعيرة حسينية وانها مشعرة به صلوات الله عليه، ولا يخفى ان العديد من الشعائر الحسينية لا يشك أحد انها مُشعِرة بالحسين (عليه السلام) وان كان معترضاً عليها بأشكال أو آخر لكن اشعارها به صلوات الله عليه مما لا ريب فيه.
الديمقراطية أيضاً وافدة من الغرب فهل نرفضها لمجرد ذلك؟
ويمكننا إذا كنا نخاطب المثقفين من المتدينين ان ننقض على من يعترض على بعض الشعائر بزعم انها وافدة من حضارة أخرى، بالديمقراطية؛ إذ لا ريب انها وافدة من حضارة الغرب حديثاً ومن اليونان قديماً، فهل يصح رفضها بالمرة [52] واعتبارها ضد الإسلام والدين أو وصمها بانها لا إسلامية ولا دينية لمجرد ان منشأها غربي أو شرقي؟ كلا.
مقاييس ثلاث لسلامة الشعائر وصدق عنوانها
بل المقاييس هي، وبكلمة جامعة:
أولاً: ان لا يكون الداخل إلينا من حضارة أخرى من دائرة المحرمات، وعليه: فانه إذا كان من دائرة المباحات كان جائزاً في حد ذاته أو بقيود يتكيف بها مع الشروط الإسلامية، كبعض القيود على الديمقراطية التي تتطابق بها مع الاستشارية الإسلامية.
ثانياً: ان يصدق عليه عرفاً في العُرف العام أو في العُرف الخاص ولدى ذلك العرف الخاص، عنوان الموضوع (أي موضوع الحكم) كأن يصدق عليه انه (عقد) أو (بيع) أو (شعيرة حسينية أو إلهية).
ثالثاً: ان يصادق على ذلك أحد مراجع التقليد جامعي الشرائط، وذلك بناء على انه من الشأن العام وتوقّفه على الإذن، وإلا فلا حاجة لذلك أيضاً إن اطمأن المكلف بصدق الموضوع، على المبنى.
تكامل الحضارات أمر إيجابي
بل قد يقال: بان وفود أمر من حضارة أخرى مادام ضمن الأطر السابقة، فانه في حد ذاته من الإيجابيات فان الحضارات تتفاعل بينها وتتكامل ولا مانع من ذلك أبداً مادام ضمن الأطر الشرعية العامة، بل اننا نجد ان الإسلام تَقبّل من الأديان السابقة ومن الأمم الأخرى الكثير من الأحكام أو الموضوعات ولم يرفضها لمجرد انها من حضارة أخرى أو من أمة ثانية حتى وإن كانت معادية فرضاً؛ والدليل على ذلك إجماع الفقهاء على ان العقود امضائيات فقد امضى الشارع كافة العقود العرفية إلا القليل منها الذي رفضه تماماً كالربا أو قيّده بقيود دل عليها الدليل الخاص.
بل هناك ما هو أعظم من ذلك: فاننا نجد ان الطرق إلى معرفة أحكام الشارع والحجج عليها، بأجمعها، إلا النادر منها، هي طرق عقلائية عرفية اعتمدها الشارع أيضاً، وذلك كحجية خبر الثقة والبينة والإقرار واليمين والظواهر وغيرها وان قيّد بعضها بقيودٍ هي بدورها عقلائية.
بل حتى القياس الذي ردع عنه فانه ردع عنه في أحكامه؛ نظراً لجهل العقلاء بملاكاتها، ولذلك نجد ان العقلاء إذا ألفتوا لذلك فانهم يكونون أول من يقرّ بعدم صحة القياس في الدين والشريعة.
احتضان الإسلام للكثير من القضايا الوافدة من أديان أو أمم أخرى
بل نقول: ان (هضم) الدين – إن صح هذا التعبير – واحتضانه للكثير جداً من الموضوعات الوافدة من الحضارات الأخرى أو التي تستند إليه (ضمن الأطر العامة كما سبق) هو من أسرار خلود الإسلام وعصريته وتجدده الدائم وتطوره وصلاحيته لكل عصر ومصر، ومن تلك المواضع (الشعائر) و(العقود) وغيرها وهذا ما نشاهده بوضوح في تنوّع الشعائر حسب تنوع الأمم فانها أضحت روابط دينية أممية ضاربة في عمق الأمم تربطهم بالحسين الشهيد ومسيرته الإصلاحية النهضوية الخالدة وتضحياته الجِسام التي يشيب لهولها الولدان.
وليس ذكر بعض مصاديق الشعائر تحديداً لها
لا يقال: ان الشارع قد حدّد مصاديق الشعيرة كقوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) [53].
إذ يقال: ليس ذكر المصاديق تحديداً أبداً، والمطلق والمقيد أو العام والخاص المثبتان لا يقيد أحدهما الآخر، خاصة وان الآية صريحة في عدم الحصر لمكان (من) التبعيضية فهي (من شعائر الله) وليست الشعائر منحصرة بها، أصلاً.
هذا حلّاً، واما نقضاً فانه لو كان ذكر المصداق يفيد الحصر به للزم عدم صحة التمسك بأي عام من العمومات إذا ورد نص آخر يذكر المصاديق فمثلاً لا يصح حينئذٍ التمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) لِحِلّية العقود المستأنفة؛ بدعوى ان الشارع قد حدّد مصاديق العقود كقوله مثلاً (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و(إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [54] وشبه ذلك وانه بناء على ذلك لا تشمل (العقودُ) مثلَ عقد التأمين والسرقفلية لأن الشارع ذكر البيع والإجارة ونظائرها من المصاديق ولم يذكر التأمين والخلو ونظائرهما!! وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين