مركز الامام الباقر يناقش المنطلقات المعرفية في فكر السيد شرف الدين
شبكة النبأ
2017-05-18 04:36
أقام مركز الامام محمد الباقر (عليه السلام) المتخصص بإحياء تراث علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وبالتعاون مع مكتبة الامام الحسن (عليه السلام)، ندوة فكرية متخصصة عن السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي، في ذكرى رحيله في شهر جمادى الآخرة، وقد كان عنوان الندوة (المنطلقات المعرفية في فكر العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي).
وكان نص البحث المقدم في الندوة من قبل الباحث السيد فاضل الموسوي الجابري ما يأتي:
منهج البحث القرآني الكلامي في فكر السيد عبد الحسين شرف الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المصطفى الأمين وعلى آله الغر الهداة الميامين.
التمهيد
شكّلت كتب الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين مرجعاً مهماً للحوار المذهبي، ولا سيّما كتابه "المراجعات"، وإن كان غالب كتبه، إن لم نقل جميع ما وصل إلينا منها، يتناول مسائل الخلاف المذهبي بنقد موضوعي، وأسلوب رصين، ولغة أدبية امتاز بها السيد شرف الدين.
وحيث إن المسائل المذهبية الخلافية كانت تشتمل على الأُصول والفروع، فإن كتب السيد شرف الدين تناولت كلا الأمرين من دون فصل بينهما. والقيام بقراءة لكتب السيد شرف الدين، كما يمكن أن يكون لملاحظة أسلوبه الحواري ومنهجه في الحوار المذهبي، يمكن أن يكون لملاحظة المنهج المعرفي الذي انطلق منه والذي يبني عليه وعلى أساسه كان ما خطه يراعه، وهذا المنهج قد نجده في المسائل الفقهية، وقد نجده في المسائل التاريخية، وقد نجده في المسائل الكلامية، وقد يحصل التداخل بين هذه الثلاث.
وما يهمنا هنا هو ملاحظة منهج البحث القرآني في فكر السيد عبد الحسين شرف الدين الكلامي.
وبكلمة دقيقة كيف استطاع السيد شرف الدين الاستفادة من النص القرآني في ابحاثه الكلامية وما هو منهجه القرآني في ذلك؟
لقد بحث السيد عبد الحسين شرف الدين في مرجعية القرآن الكريم بوصفه نصَّاً إلهيّاً ضمن أمور منها:
الأول:
إن الخصوصية التي يملكها القرآن، في الحوار المذهبي، هي كونه نصّاً قطعياً متفقاً عليه بين الفريقين، ولكن هذا الاتفاق لم يسلم من محاولة بعضهم "الخدشة" به عبر رمي الشيعة بالقول بالتحريف، وأن القرآن قد سقطت منه آيات.
ومن هنا يتصدى السيد شرف الدين للردّ على مقولة هؤلاء، مثبتاً قطعية هذا النص الإلهي، مفنِّداً القول بتحريفه.
ولإثبات هذه القضية تمسّك السيد شرف الدين بطرق متعددة هي:
1- التواتر
أ- يتحدث السيد شرف الدين عن وجود تواتر على صحة النص القرآني الموجود بتمامه، بحروفه وكلماته وحركاته وسكناته.
ب- وهذا التواتر الذي يصفه بأنه قطعي يرى أنه ورد بطرق الإمامية، وعن أئمة الهدى، وذلك يدحض دعوى المدَّعي، فإن الشيعة تتبع الأئمة من آل رسول الله(صلى الله عليه و آله وسلم) الذين رفعوا هذا النص الإلهي عن جدهم الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) عن المولى عزّ وجلّ.
ج - ولعل شدَّة هذه التهمة على الشيعة ووضوح بطلانها، يدفعان السيد شرف الدين إلى أن يكون شديد اللهجة في النكير على الاتهام بالتحريف.
د- وظواهر القرآن، فضلاً عن نصوصه، من أبلغ حجج الله تعالى، وأقوى أدلة أهل الحق بحكم البداهة الأولية من مذهب الإمامية، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الأحاديث المخالفة للقرآن عرض الجدار، ولا يأبهون بها وإن كانت صحيحة، وتلك كتبهم في الحديث والفقه والأُصول صريحة بما نقول.
هـ - والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنما هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة، ولا لحرف بحرف، وكل حرف من حروفه متواتر في كل جيل تواتراً قطعياً إلى عهد الوحي والنبوَّة، وكان مجموعاً على ذلك العهد الأقدس، مؤلفاً على ما هو عليه الآن.
و - وكان جبرائيل (عليه السلام) يعارض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن في كل عام مرة، وقد عارضه به عام وفاته مرتين.
ز - والصحابة كانوا يعرضونه ويتلونه على النبي(صلى الله عليه وآله و سلم) حتى ختموه عليه مراراً عديدة، وهذا كله من الأُمور المعلومة الضرورية لدى المحققين من علماء الإمامية، ولا عبرة بالحشوية فإنهم لا يفقهون" (1).
2- الظواهر القرآنية
يسلك السيد شرف الدين طريقاً آخر لإثبات إيمان الشيعة بعدم تحريف القرآن، ألا وهو التزامهم بحجية ظواهره فضلاً عن نصوصه، وتمسّكهم بهذه الظواهر واعتبارهم لها من الأدلَّة والحجج، بل من أقواها. بل، إن ذلك يعدّ من ضروريات مذهب الإمامية، والشاهد عليه عرضهم الروايات على القرآن، وضربهم بعرض الحائط كل ما يخالف قول الله عزّ وجلّ، ولا يخفى مدى ارتباط الالتزام بهذا مع الالتزام بعدم تحريف القرآن؛ لأن الإسقاط في القرآن الكريم لو كان موجوداً، وكانت الشيعة ممن يؤمن به، لما عملت بظواهره، ولا التزمت بنصوصه، ولا قامت باعتباره مرجعاً لعرض روايات أئمتها عليه (2).
إن هذا الجواب هو ما أجاب به الأُصوليون رداً على طائفة الأخباريين الذين منعوا من العمل بالظاهر القرآني.
هذا، والنصوص التي أمرت بالرجوع إلى ظاهر الكتاب هي على طوائف كثيرة:
أ- فطائفة دلّت على وجوب التمسك بالقرآن؛ لأنه عدل للعترة الطاهرة.
ب - وطائفة دلّت على عرض الشرط في المعاملات ونحوه على كتاب الله.
ج- وطائفة ثالثة دلّت على عرض الروايات الصادرة عنهم على الكتاب الكريم، وطائفة دلّت على ممارسة الأئمة لهذا الأمر واستشهاد الإمام بآيات من كتاب الله (3).
3- إيجاب السورة في الصلاة
مما انفردت به الإمامية إيجابهم سورة كاملة في الصلاة بعد الفاتحة في الركعتين الأُولى والثانية، ولا يجوز التبعيض في السور. وهذا القول هو من أدلَّة ثبوت القرآن عند الشيعة، وعدم التزامهم بالتحريف، وإلاّ لما كان لهذا الحكم معنى ولا أمكن قيام الدليل عليه (4).
4- دليل العقل
إن ملاحظة خصوصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حكمته البالغة ونبوته الخاتمة، وملاحظة مبلغ نظره في العواقب، واحتياطه على أمته في مستقبلها، يدل على أنَّه من المحال عليه أن يترك القرآن منثوراً مبثوثاً.
5- نص القرآن
إن من آيات القرآن ما يدلنا على عدم إمكان تحريفه، ولإثبات ذلك يذكر السيد شرف الدين آيتين من القرآن، قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر/9]، وهذه الآية هي التي نتمسَّك بها لرّد ما ورد من الروايات التي تتحدث عن التحريف.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة/2]، حيث أطلق القرآن كلمة الكتاب، وهي إنما تطلق على الشيء المدوَّن المكتوب، وإلاّ فإن ألفاظ القرآن لو كانت محفوظة غير مكتوبة لم يصح إطلاق الكتاب عليها.
وقد يثار هنا الإشكال على ذلك بما ورد على لسان يحيي بن زكريا في قوله: {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم/12]، وعلى لسان عيسى بن مريم في قوله: {آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم/30]. ولعل هذا الإشكال هو الذي دفع السيد شرف الدين إلى اعتبار أن هذه الآية إنما هي إشعار بما ذكره، وهو أقل مراتب الظهور.
الثاني: من الأمور التي يواجه بها الاستدلال بالقرآن والاحتجاج به، مسائل الظهور والنص. وهاهنا أبحاث ترتبط بهذا الظهور لا بد من حسم الأمر فيها، وهي: السياق، التأويل، الروايات التفسيرية، النسخ وفهم النص.
أ- السياق القرآني
هل يشكل السياق القرآني حجَّةً يعتمد عليها في تحديد الظهور؟ وهل يكون السياق مانعاً أحياناً من التمسك بظهور ما للآيات؟
لقد استخدم القرآن حجَّةً من قبل الفريق الآخر لنفي الاستدلال ببعض الآيات على ما يتمسك به الإمامية؛ وهذه الآيات تتمثل في:
1ـ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}،حيث استدل الخصم بأن هذه الآية إنما وردت في سياق قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [المائدة/3]. ومن هنا فإن الآية تتحدث عن تمام النعمة وإكمال الدين من جهة التشريع، ولا ربط لها بحادثة الغدير وإعلان ولاية أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام).
2- قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}،حيث إن الآية وردت في سياق الحديث عن نساء النبي؛ لقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب/32 و 33].
فقد استدل عكرمة ومقاتل على أن هذه الآية إنما وردت في نساء النبي؛ لأن السياق كذلك؛ حيث كان الخطاب مع نساء النبي في ما سبقها من آيات.
3- قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة/55]، فإن المراد من الولي في هذه الآية، وإن وردت في تصدُّق عليّ(عليه السلام) بخاتمه أثناء الصلاة، الناصر والمحب؛ وذلك لأن السياق في الآية هو النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى الناصر والمحب.
أما موقف السيد شرف الدين من مسألة التمسك بالسياق، فقد كان ضمن اتجاهات:
الاتجاه الأول: نفي وحدة السياق القرآني من أساسه، وذلك لأننا نعلم أن القرآن الحكيم لم يرتَّب في الجمع على حسب ترتيبه في النزول، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن تكون الآية الأُولى التي تتحدث عن كمال الدين وتمام النعمة قد زُجّت ضمن آيات التحريم لغرض ما أو لغير ذلك (5). ويتمسك السيد شرف الدين لإثبات ذلك من جهة بالإجماع لدى كل المسلمين، بل له قول واحد لا ثاني له.
ومن جهة أخرى بملاحظة آيات القرآن وسوره نفسها، فإن الأغلب من أواخره مكي، والأكثر من أوائله مدني (6).
هنا تشكل نقطة الإشكال على السياق، وهي نفيه موضوعياً بسبب أمر خارجي، وهي أن القرآن لم يكن مرتباً بحسب النزول حتى يكون ذا سياق واحد.
الاتجاه الثاني: إن السياق إنما يصح التمسك به مع فرض إحرازنا عدم خروج المتكلم عنه إلى سياق آخر، وهذا ما تمّ في الآية التالية، وإن السياق وإن كان في مقام ذم اتخاذ المشركين أولياء بمعنى اتخاذهم أنصاراً ومحبين، فإن الآية خرجت عن سياق الذم إلى الثناء على أمير المؤمنين وترسيخه للزعامة بتهديد المرتدين؛ لأن الآية التي قبلها بلا فصل هي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة/54]،وهذا نفي الوحدة في السياق (7)من جهة ملاحظة لغة القرآن وطريقته في تناول الموضوع، وانحلاله إلى البحث عن قضيتين لا عن قضية واحدة.
الاتجاه الثالث: إن وحدة السياق إنما تكون متبعة مع عدم ورود الدليل النافي لها، ولذا يقول السيد شرف الدين: "إن المسلمين متفقون على أن الأدلة إذا عارضت السياق فهي المرجحة على السياق"، والبعد التحليلي لهذا الترجيح عند السيد شرف الدين يرتبط بعدم الوثوق، مع ورود الدليل المعارض لوحدة السياق بنزول الآية فيه (8).
وإضافةً إلى ذلك فإن الإخلال بالسياق لا يخل بالإعجاز ولا يضر بالبلاغة، فلا بد من المصير إليه مع دلالة الأدلة عليه[9)).
ب- التأويل
تشكِّل مسألة التأويل أساساً في البحث عن مرجعية القرآن المعرفية، كيف وقد كان التأويل عاملاً أساسياً في كل الصراعات التي حفل بها التاريخ الإسلامي. ومنذ البداية حيث حصل ما حصل بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمام ما قام به الصحابة من إرساء قواعد الخلافة لغير أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام)، كان لا بد من اللجوء إلى التأويل لما ورد من النص على عليّ(عليه السلام)، ولعل الداعي إلى ذلك دحض حجة من يتمسك بتلك الآيات، أو تبرئة ساحة الصحابة من اتهامهم بمخالفة النص الصريح.
لقد تمّ اعتبار قاعدة لزوم حمل عمل الصحابة على الصحة دليلاً على لزوم تأويل الكتاب، ولكن السيد شرف الدين يرفض فكرة التأويل هذه ضمن أمرين:
الأول: إن التأويل، لكي يتم ويكون صحيحاً ومقبولاً، لا بد من أن يكون النص المراد تأويله قابلاً لذلك، والنصوص الواردة من آية كمال الدين أو الوصية لا تقبل ذلك.
والثاني: هل يصح أن يكون عمل الصحابة عاملاً صحيحاً لتأويل النص؟ يناقش السيد شرف الدين في ذلك من جهة أن عمل الصحابة هذا لا يصح أن يكون مستنداً للتأويل؛ لعدم عصمتهم عن الذنب أو عن الخطأ من جهة؛ ولأننا نستطيع أن نجد وجوهاً أخرى نحمل عليها عمل الصحابة مما ورد على ألسنتهم هم، من قبيل أنهم إنما كانوا يلتزمون ويتعبدون بالنص في ما يرد بأمر عبادي من دون الأُمور التدبيرية من جهة أخرى، قال السيد شرف الدين: «أما الخلفاء الثلاثة وأولياؤهم، فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها، ولا عجب منهم في ذلك بعد الذي نبهناك إليه من تأولهم واجتهادهم في كل ما كان من نصوصه(صلى الله عليه وآله وسلم)، متعلقاً بالسياسات والتأميرات، وتدبير قواعد الدولة، وتقرير شؤون المملكة، ولعلهم لم يعتبروها كأمور دينية، فهان عليهم مخالفته فيها»(10).
ج - في التفسير الروائي
اعتمد السيد شرف الدين، في العديد من المواطن، على التفسير الروائي، أي على ما ورد في تفسير آيات الكتاب من أمور مذهبية لا سيما ما ورد منها في إمامة عليّ، والروايات التفسيرية هذه منها ما ورد بطرق الفريقين، ومنها ما ورد بطرق الإمامية. كما في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران/103]، وقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة/119]، وغيرها من الآيات[11).)
د- في النسخ
مسألة النسخ في القرآن من أهم ما يمكن أن يكون إثارة للجدل في الأبحاث الكلامية، وخصوصية المعرفة الحقيقية بالقرآن تتمثل بمعرفة الناسخ من المنسوخ. يشير السيد، في طيّات أبحاثه في كتبه، إلى أن مسألة النسخ لا يصح اللجوء إليها إذا كان التنافي الدلالي بين الآيتين مرفوعاً لوجه من وجوه الجمع، أو لوضوح عدم التنافي.
ففي معرض ردّ السيد شرف الدين على من ادعى أن قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ/47]، ناسخ لقوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى/23]..
يقول السيد: إن النسخ حتى يتم لا بدّ من أن يكون هناك تناف بين الآيتين، وهو هنا غير موجود، فإن معنى آية الشورى: ما سألتكم على أداء رسالتي شيء من الأجر إلاّ مودة قرابتي. ومعنى آية سبأ: إني ما سألتكم على رسالتي شيئاً من عرض الدنيا، والذي طلبته منكم في سورة الشورى إنما هو لكم لا لي؛ لأن قرابتي حجج الله البالغة لديكم(12).
كما يشير السيد شرف الدين إلى أمر آخر، وهو أن النسخ يتوقف أيضاً على ملاحظة المتقدم والمتأخر، فإن الناسخ لا بد من أن يتأخر عن المنسوخ، ولذا فإن المكي لا ينسخ المدني، وهذا أمر ذكره السيد شرف الدين (13) في مسألة دعوى أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون/5 و6]، ناسخ لآية المتعة، وهي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء/24]. وهذه المسألة وإن لم تكن كلامية، بل هي فرعية، ولكنها ترتبط بوضوح ببحث النسخ في القرآن.
هـ - في فهم النص القرآني
إن القرآن ورد بلغة العرب، وفي أساليب تلك اللغة، وما تحدّى العرب إلاّ على طرائقهم في مجازاتهم وحقائقهم، ولذا كان لا بد من ملاحظة خصوصيات النص القرآني، وهذه الخصوصيات تتمثل في أمرين:
أحدهما: ملاحظة الخصوصية البيانية للغة العربية، فإن اللغة العربية تحمل أسلوب التصوير والتمثيل، وقد ورد العديد من الآيات القرآنية بهذه اللغة، وقد ذكر السيد شرف الدين العديد من هذه الآيات، وأهمها آية الميثاق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف/172]، حيث يقول: "ظاهر الآية أنها جاءت على سبيل التمثيل والتصوير، فمعناها: واذكر يا محمد ما قد واثقوا الله عليه بلسان حالهم التكويني من الإيمان والشهادة له بالربوبية".
وكذلك من تلك الآيات التي وردت على ذلك الأُسلوب قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب/72]، قال: «لأن عرضها على السماوات والأرض والجبال لم يكن إلاّ على سبيل التمثيل والتصوير تقريباً للأذهان، وتعظيماً لأمر الأمانة، وإكباراً لشأنها»(14).
ثانيهما: ملاحظة خصوصية الظروف المحيطة التي نزل في إطارها النص القرآني، فإن خلود النص القرآني لا يمنع من وروده ملاحظاً الخصوصيات التي رافقت نزوله.
ومن هنا، فإن اللغة المستخدمة فيه ترد بنحو معين مراعاة لهذه الظروف، وهذا ما قدّمه السيد شرف الدين في معرض ردّه على اعتراض المعترض على ورود قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة...} [المائدة/55]، بأن هذه الآية كيف تكون نزلت في عليّ (عليه السلام) وهو مفرد، والآية إنما وردت بصيغة الجمع.
وجواب السيد شرف الدين هو أنه "إنما جاء بعبارة الجمع من دون عبارة المفرد بقياً منه تعالى على كثير من الناس، فإن شانئي عليّ، وأعداء بني هاشم، وسائر المنافقين، وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد، إذ لا يبقى لهم حينئذٍ مطمع في تمويه"، إلى أن يقول: "ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد، لجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، وهذه الحكمة مطّردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى، وقد أوضحنا هذه الجمل، وأقمنا عليها الشواهد القاطعة، والبراهين الساطعة في كتابينا: سبيل المؤمنين، وتنزيل الآيات»(15).
إن منهج القرآن سار على هذا النحو من ملاحظة تلك الظروف المحيطة، ولكن عدم توافر كتابي السيد المذكورين هو مدعاة للأسف؛ لأن ملاحظة منهج السيد شرف الدين في هذا الأمر يثري البحث القرآني - الكلامي.
* السيد فاضل الموسوي الجابري-النجف الاشرف 20 جمادي الثاني 1438هـ
.......................................