الفقر مطلوب ذاتي والغنى مطلوب طريقي
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
2017-04-17 09:31
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(1) وقال: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...)(2).
يدور البحث في هذه السلسلة حول الغنى والثروة والفقر والفاقة في ضمن منظومة القيم الإسلامية وحول وجوه الجمع بين طوائف الروايات التي تبدو –في بادئ النظر– مختلفة متضاربة في تقييم الثروة والمال والغنى أو الفقر والحاجة والإفلاس والفاقة من جهة أخرى، وذلك لكي نصل إلى استكشاف منظومة الفكر الإسلامي والرؤية القرآنية – الحديثية – العقلية المتكاملة في هذا الحقل الحيوي الهام.
وتمهيداً لذلك نتطرق لبصائر قرآنية مفتاحية تتعلق بفقه المال والثراء والثروات وموقع المادة والماديات في معادلة الدنيا والآخرة بما يلقي الضوء أيضاً على وجوه الجمع وصولاً لنظرية متكاملة متماسكة العرى والأركان بإذن الله تعالى.
من بصائر النور في آية (خَلَقَ لَكُمْ)
ان فقه قوله تعالى: (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) يستدعي بحوثاً معمقة مستوعبة ويحتاج إلى دراسات منوعة وشاملة لكننا سنشير ههنا إلى إحدى مفاتيح البحث الأساسية إشارة عابرة وهي:
ان اللام في قوله تعالى (لَكُمْ) تختزن كنزاً من المعارف، كما انها تختزل العلة الغائية من خلق ما في الأرض جميعاً من معادن وبحار وأنهار وغابات وجبال وثروات طبيعية وغيرها، وهي في ضمن ذلك تعتبر احدى مفاتيح اكتشاف الرؤية القرآنية تجاه الثروات الطبيعية في علاقتها بالإنسان.
الجسر الرابط بين البحوث التفسيرية ومباحث الفقه التحليلية
ويمكننا في البدء ان نضع هذه الآية (خَلَقَ لَكُمْ...) إلى جوار آيات كريمة أخرى استخدمت حرف اللام نفسه مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...)(3) و(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...)(4) ثم انه لا بد أن نتوقف في عملية استنباطية لاستنطاق مجموع الآيات والروايات والعقل لمعرفة المعنى المراد من (لَكُمْ) وهي التي حملها الفقهاء على الشأنية بينما استفاد منها الشيوعيون والاشتراكيون الإسلاميون(!) الاشتراكية!
وحيث ان الفقهاء لم يتصدوا لبحث دلالات (لَكُمْ) في الآية الشريفة، فانه يمكننا ان نسلك طريقاً آخر وهو إقامة جسر رابط بين البحوث التفسيرية والبحوث الفقهية، وبذلك يمكننا ان نستعين بالعمق الفكري والإبداع العلمي الذي تجلى في بحث الفقهاء للزكاة: في كيفية تعلق حق الفقراء والمساكين و... بها وللمستفاد من (اللام) في (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...) باعتبار الزكاة واجباً شرعياً عظيماً وباباً من أهم أبواب الفقه، وذلك بان نستعير مباحثهم هنالك، في كتاب الزكاة من الفقه لنستثمرها في آية (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) بعد تكييفها وتطويرها بما يتناسب وطبيعة هذا البحث المتغاير بالجوهر مع ذلك البحث، لكن روح الكثير من مباحثه هي التي ستثري البحث في آيتنا الكريمة.. فنقول:
ان مما لا شك ان للفقراء حقاً في أموال الأغنياء قال تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(5) ومما لا شك فيه ان الزكاة حق مالي واجب ثابت بصريح القرآن الكريم والروايات وضرورة المسلمين، ولكن ما هي كيفية تعلق حق الفقراء بالزكاة؟
المحتملات والأقوال في كيفية تعلق حق الفقراء بالزكاة
لقد تعددت الأقوال وتنوعت إلى الأقوال التالية:
فبعد الفراغ عن أن الزكاة لا تتعلق بالذمة المحضة فقط، ذهبت كل مجموعة من الفقهاء إلى إحدى الأقوال التالية:
- الزكاة حق يتعلق بمالية النصاب(6)، لا بمشخصاته الوجودية وأوصافه، أي بالروح السارية فيه لا بعينه وشخصه وخصوصياته، كما ذهب إليه الميرزا النائيني.
- انها حق يتعلق بعين النصاب بمشخصاته وان الشرع قد رتب عليه آثاراً مختلفة كما ذهب إليه السيد حسن القمي.
واختلفوا في انه من قبيل الشركة في المالية ومع ذلك يجوز التصرف كما ذهب إليه السيد الجد.
أو انه من قبيل الشركة على نحو الاشاعة كما ذهب إليه السيد عبد الهادي الشيرازي، وانه على نحو الاشاعة لكن لا يترتب عليه جميع آثار الاشاعة كما ذهب إليه السيد أحمد الخوانساري والسيد الگبايگاني.
أو انه على وجه الكلي في المعين كما لو باع صاعاً من صبرة، كما ذهب إليه صاحب العروة وكما يظهر من صاحب المستند – على ما نقل عنه آقا ضياء العراقي –
أو انه من قبيل حق الرهانة.
أو انه من قبيل حق الجناية، كما احتمله السيد حسن القمي.
أو انه من قبيل منذور الصدقة، كما قرّبه السيد الوالد (قدس سره).
أو انه من قبيل استثناء الأرطال مع كون التلف عليهما، كما قواه المحقق العراقي.
أو انه لا شيء منها بل هو نحوٌ آخر في مقابل الحقوق المعروفة كما استظهره السيد محسن الحكيم.
أو التفصيل: ففي الغلات تكون الشركة على نحو الاشاعة، وفي الغنم على نحو الكلي في المعين، وفي الابل على نحو الشركة في المالية، كما ذهب إليه السيد تقي القمي واحتاط لمخالفته للمشهور؟(7)
والفوارق بين هذه الأقوال والمحتملات وتفصيل الاستدلال فيها يوكل للمباحث التخصصية في كتاب الزكاة، إلا ان موطن البحث والشاهد هو ان العديد من تلك المحتملات تجري في (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) بين ما هو باطل قطعاً وما هو صحيح قطعاً وما هو مطروح للبحث والنقاش والتدبر:
فمما هو باطل قطعاً: ان المراد ملكية كافة ما في الأرض لكافة الناس بالفعل على نحو المشاع.
ومن الصحيح قطعاً: ملكية الناس لها على نحو الشأنية.
ولكن يبقى البحث في بعض المحتملات الأخرى فبعد الفراغ عن الشأنية هل للناس في كافة الثروات حق كحق المتصدَّق له في منذور الصدقة؟ أو هو حق كحق الرهانة؟ أو هو حق نظير الكلي في المعين؟ أو هو حق آخر من سنخ آخر؟ أو غير ذلك.
وتبتني على ذلك بحوث كثيرة: مثل هل لشخص واحد أو لشركة كبرى ان تقوم بحيازة كافة الأراضي المحيطة بالنجف مثلاً أو حيازة الغابة أو الغابات أو المعادن وآبار النفط كلها بما يحرم سائر الناس من فرصة حيازتها واستثمارها؟
وتحقيق الكلام في كل ذلك بحاجة إلى مجلد ضخم، فلنكتف ههنا بهذه الاشارة المقتضبة.
من وجوه الجمع: الفقر في حد ذاته خير للمؤمن
ربما يجمع بين طوائف الروايات التي تبدو مختلفة في تقييم الغنى والثروة والفقر والفاقة، بان الفقر بما هو هو وفي حد ذاته هو الأرجح ميزاناً وانه الأفضل للمؤمن لو عقدت المقارنة بينه وبين الغنى، وان الغنى مرجوح في حد ذاته ولا يكون أرجح إلا لو وقع طريقاً لإغاثة الملهوف ونجدة المكروب وعمل الخير وإعمار الدنيا والآخرة.
المحتملات الخمس في الخير والشر في كل أمر
وإذا أردنا تحديد المعادلة بشكل أدق فلا بد أن نستعين بالمعادلة الكلامية التالية وهي:
ان الشيء إما أن يكون خيراً محضاً، وإما أن يكون شراً محضاً، وإما أن يكون خيره هو الغالب، أو يكون شره هو الغالب، أو يكون متساوي الطرفين.
1- فما هو خير محض، فمثل الإيمان والعدل والنبي والإمام (عليه السلام).
2- وما هو شر محض، فمثل الظلم والكفر.
3- وما خيره غالب، فمثل الصدق إذ يمكن أن يكون شراً لو ادى إلى قتل مؤمن أو هتك عِرض أو سرقة مال مثلاً.
4- وما شره غالب، فمثل الكذب إذ يمكن أن يكون خيراً كما لو أدى إلى إنقاذ مؤمن من يد ظالم جبار وعدو قهار.
5- وما هو متساوي الطرفين، فمثل شرب الماء أو المشيء في الشارع في حد ذاته.
الفقر خيره غالب، والغنى شره غالب!
والمستظهر، استناداً إلى عدد من الروايات الآتية، ان الفقر هو من قبيل ما خيره غالب ولكنه قد يكون شراً بل شراً عظيماً إذا وقع مقدمة لشر أعظم كالكفر وقتل النفس المحترمة وشبههما، وان الغنى هو من قبيل ما شره غالب ولكنه يكون خيراً بل خيراً عظيماً إذا وقع مقدمة لحمل الكَلّ والعطاء في النائبة وصلة الرحم والاخوان وقضاء الحوائج وشبه ذلك وانه يكون هو الأرجح حينئذٍ من الفقر.
الروايات الدالة على وجه الجمع الثالث
وتدل على هذا الجمع مجموعة من الروايات الكريمة:
ومنها: قول رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) "الْفَقْرُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْغِنَى إِلَّا مَنْ حَمَلَ كَلًّا وَأَعْطَى فِي نَائِبَةٍ"(8).
وهو صريح في المقصود إذ حدَّدت الرواية الأصل الأولي ثم الاستثناء منه.
والكَلّ هو الثقل ويطلق على العيال لأنهم، من الناحية المادية، ثقل على الإنسان كما يطلق على اليتيم أيضاً.
ومنها: قول الإمام الصادق (عليه السلام): "وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): مَا أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةُ غَنِيٌّ وَلَا فَقِيرٌ إِلَّا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْهَا إِلَّا الْقُوتَ"(9) والقوت ما يُتقوَّت به وما يمنحك القوة على أداء أعمالك فقط(10) فلا كماليات ولا جماليات! أو ان ذلك لما يَرَى من مقام الفقراء ولما سيشهده من أوزار الأغنياء.
الأصل في ضيق ذات اليد انه حسن!
ومما هو صريح في هذا المعنى أيضاً: قول أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ حُسْنُ نَظَرٍ مِنَ اللَّهِ لَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا، وَمَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَظُنَّ أَنَّ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً"(11).
فالأصل في ضيق ذات اليد انه حُسنُ نظرٍ من الله تعالى، وهو المأمول الذي ينبغي أن لا يُضيّع فانه عند ضيق ذات اليد يرجى الخير الكثير من الله تعالى وعند العسر والفاقة يكون مقام القرب منه جل اسمه.
وفي المقابل فان الأصل في التوسعة على الإنسان انه استدراج من الله تعالى لعبده للمعصية والطغيان، فهو المخوف حقاً وعلى أن الإنسان أن يحذر عند التوسعة عليه أشد الحذر من مآلات الأمر.
والسر ان القدرة والثروة مدعاة للطغيان والقسوة!
والسر في ذلك واضح فان المال والثروة والشهرة والرئاسة وغيرها مدعاة للعجب والغرور والطغيان، قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(12) والقدرة والثروة مادة الشهوات والآثام والمعاصي والسيئات، عكس الفقر الذي يدعو الإنسان ليتقرب إلى الله تعالى أكثر فأكثر إذ يستشعر حاجته إلى الله تعالى بشكل أعمق وأوضح وأكبر.
ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة المَيتة!
ومما يفيد هذا الجمع أيضاً ما ور د عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "قَالَ يَا حَفْصُ مَا أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مِنْ نَفْسِي إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِذَا اضْطُرِرْتُ إِلَيْهَا أَكَلْتُ مِنْهَا"(13).
والـمَيتة بفتح الميم هي ما يموت من الحيوان حتف أنفه، أما الـمِيتة بكسر الميم فهو الحالة والهيئة، تقول مات مِيتة سَوء أي بحالة سيئة ووضع مشؤوم كما لو مات وهو على معصية من معاصي الله تعالى – لا سمح الله – أو مات وهو في شدة الكرب وقسوة آلام النزع والاحتضار.
وقد قيل بان الفرق بين ميتة الإنسان وميتة الحيوان هو شدة واحدة فقط فالـمَيتة بفتح الميم بلا تشديد هي ميتة الحيوان، والميّت والميّتة بتشديد الياء هي ميتة الإنسان.
والرواية صريحة في ان الدنيا بالنسبة إلى المؤمن هي بمنزلة الـمَيتة التي لا يؤخذ منها ولا ينال ويؤكل منها إلا لدى الاضطرار وبقدر الضرورة، ومن المهم ان ندرك ان الدنيا تشمل المال والثروة والشهرة والرياسة والموقع الاجتماعي وغير ذلك.
ويمكننا تقريب العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإنسان والدنيا بمن اضطر لتنظيف بالوعة قذرة بل بمن اضطر لنزح بئر المرحاض(14) فانه لا ريب يتقزز من ذلك أشد التقزز وإن كان مضطراً لذلك أشد الاضطرار أو كان عمله ذلك وكان يسترزق منه اضطراراً، فهل تراه يلتذ بذلك؟ أم تراه في حالة نفور وامتعاض وتقزز وحزن وترح مما اضطر إلى لمسه من القاذورات واستشمامه من الروائح؟.
السر في التحذير من الدنيا
ولعل من وجوه الحكمة في ان الروايات الشريفة شددت على وصف الدنيا بقبيح الصفات وعلى تحذير المؤمن منها أشد الحذر حتى ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "الدنيا جيفة وطالبها كلاب"(15) ان الدنيا بطبعها خدّاعة غرارة تفتن بل تسحر من يعيش فيها أو يقترب منها أو يلامسها بوجه، وان طبيعة الدنيا هي انها كالمغناطيس الذي كلما اقتربت قطعة الحديد منه ازدادت قوة وسرعة جاذبيته له: فلاحظ الشهرة أو الرياسة مثلاً فكلما ازداد الشخص قوة ازداد تعطشاً لمزيد من القدرة وهكذا الشهرة والمال حتى ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وَ طَالِبُ عِلْمٍ فَمَنِ اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ سَلِمَ وَ مَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا هَلَكَ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ أَوْ يُرَاجِعَ وَ مَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَ عَمِلَ بِعِلْمِهِ نَجَا وَ مَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا فَهِيَ حَظُّهُ"(16).
الدنيا رمال متحركة ومستنقعات خطرة!
ولعل مما يقرب فتنة الدنيا للناس ووقوعهم أسرى، ومن ثم صرعى، في شباكها كلما اقتربوا منها أكثر فأكثر: الرمال المتحركة إذا علق بها الإنسان فإن الرمال الطبيعية متماسكة لذلك لا يغوص فيها الشخص أما الرمال المتحركة فهي رمال ناعمة هشة غير متماسكة فإذا وقف الإنسان عليها فإنها تسحبه للأسفل لأنها خفيفة غير متماسكة والإنسان ثقيل فيبدأ يغوص فيها تدريجياً.. إلى الساق فالركبة.. ثم الصدر فالرقبة.. ثم الرأس حتى يقبر وهو حي...
والغريب ان من يعلق في الرمال المتحركة فانه كلما ازداد حركة وسعياً لإنقاذ نفسه منها ازداد غوصاً بالرمال(17)!.
ولأن الدنيا هي كذلك.. لذلك وردت فيها الروايات الآنفة الذكر كما ورد في الحديث القدسي أيضاً: "خُذْ مِنَ الدُّنْيَا خِفّاً مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ وَلَا تَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَدٍ وَدُمْ عَلَى ذِكْرِي"(18) والخِف بكسر الخاء أي الخفيف، و"لَا تَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَدٍ "لأن الادّخار هو من مظاهر، بل ومن أسباب التعلق بالدنيا كما انه من علائم ضعف التوكل على الله.. بل عليك أن تزهد في الدنيا حتى بهذا المقدار.
وفي المقابل: الغني المعطاء البذول أفضل من الفقر والموصول!
وفي مقابل ذلك كله: فان الغنى لو وقع طريقاً إلى العمل الصالح وإعمار الآخرة كان ذلك هو الاستثناء الوحيد من ذلك الكلي، بل كان الغني المستعين حقاً بغناه على صلة الرحم وبر الاخوان وكفالة الأيتام وبناء المساجد والمكتبات والمياتم والحسينيات ونظائرها من أعمال الخير، خيراً من الفقير.
وتدل على ذلك الروايات العديدة:
ومنها: ما ورد في تفسير القمّيّ: "ذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْأَغْنِيَاءَ فَوَقَعَ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): اسْكُتْ فَإِنَّ الْغَنِيَّ إِذَا كَانَ وَصُولًا لِرَحِمِهِ وَبَارّاً بِإِخْوَانِهِ أَضْعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ ضِعْفَيْنِ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ)(19) "(20).
كما نقلنا من قبل قوله (عليه السلام): "الْفَقْرُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْغِنَى إِلَّا مَنْ حَمَلَ كَلًّا وَأَعْطَى فِي نَائِبَةٍ".
ثنائي الكُره الذاتي للمال والمطلوبية الطريقية
وبذلك تتكامل لدينا الصورة في موقفنا تجاه الثروة والغنى وكيف يجب ان نوجه الناس؟ فان الموقف هو:
أ- ان ننظر إلى الدنيا والمال والشهرة والرياسة وأشباهها كما ننظر إلى الـمَيتة القذرة المنتنة وكما ننظر إلى عفطة عنز منكرة، وان نخاف منها ومن فتنتها ومزالقها أشد الخوف ونحذرها أشد الحذر.
ب- ولكن وفي الوقت نفسه علينا ان نشجع الناس ليكونوا أغنياء وأثرياء طريقياً أي ان يسعوا للحصول على المال بل والمال الكثير لكي يبذلوه وعلى نطاق واسع أيضاً في سبيل الله تعالى.
فهذا الثنائي المزيج من الكُره الموضوعي والذاتي للأموال ومن الرغبة الشديدة في الوصول إلى الغنى والثروة طريقياً لأجل عون العباد وإعمار البلاد وبناء المؤسسات الدينية وشبه ذلك، هو الذي يصنع الإنسان المتكامل فان من يكره الأموال لا يعقل ان يرتشي أو يسرق أو يغش ويخدع ويرابي لأجل حفنة منها مهما كثرت، ولكنه في الوقت نفسه إذا كان يمتلك تجارة طائلة أو أراضي زراعية واسعة أو مواشي كثيرة تدر عليه الأموال من الحلال فانه سينفق منها بلا حساب في سبيل الله وفي طريق خدمة المجتمع وإعمار البلاد وهداية العباد.
ولقد عرفت بعض الاخيار ممن اجتمعت فيه الخصلتان معاً فقد وجدته شديد الكرم كثير الإنفاق حتى صدق عليه انه ممن ينفق ولا يبالي ولكنه في قرارة نفسه كان ممن يكره الدنيا والأموال والثروة وإنما اتخذها وسيلة لآخرته ولا غير.
من شواهد الجمع: معنى الزهد
ولنختم البحث هذا بقوله (صلى الله عليه وآله): "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(21) يَعْنِي الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى: يَا مُوسَى إِنَّهُ لَنْ يَتَزَيَّنَ الْمُتَزَيِّنُونَ بِزِينَةٍ أَزْيَنَ فِي عَيْنَيَّ مِثْلَ الزُّهْدِ"(22) ولو كانت الدنيا في حد ذاتها هي الأفضل وكان الغنى للمؤمن هو الأحب إلى الله تعالى لكان ينبغي القول بعكس ذلك..
والزهد هو كما ورد (ليس الزهد أن لا تملك شيئا، بل الزهد ألا يملكك شيء) وقول الإمام علي (عليه السلام): "الزُّهْدُ كُلُّهُ فِي كَلِمَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(23) فَمَنْ لَمْ يَأْسَ عَلَى الْمَاضِي وَ لَمْ يَفْرَحْ بِالْآتِي فَهُوَ الزَّاهِدُ"(24) وبذلك، يجمع أيضاً بين عدد من الروايات فان الثري وإن كان ذا أموال طائلة إلا انه إذا كان زاهداً فيها ولم تملكه فانه ينفق منها بسخاء، إذ هو المالك لها والحاكم عليها والمهيمن والأمير وليست هي الحاكمة عليه وهو العبد الذليل الأسير!
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين