معضلة مكافحة التجسس في العراق

بشير الوندي

2016-10-09 07:36

كنا قد نبهنا في مقالنا السابق الى اهمية مكافحة التجسس في اية دولة، واشرنا الى ان مخاطر اهمال مكافحة التجسس تعني فتح الباب امام العملاء والجواسيس وافشاء الاسرار ما يعني ضرب مصالح البلاد في الصميم على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية.

وتزداد الحاجة الى مكافحة التجسس ومطاردة العملاء والخونة كلما كانت البلاد قطب رحى للصراعات الاقليمية والدولية.

وبما أن العراق من البلدان التي تتصدر عقدة الصراعات الاقليمية والدولية بحكم الموقع والموارد، لذا كان لابد من ان يكون ساحة للصراعات المخابراتية الاقليمية والدولية، وكان لابد ان تكون الحكومة بمستوى المسؤولية والمخاطر لتتوجه لبناء جهاز محترف مهمته مكافحة التجسس (استخبارات دفاعية ) وملاحقة الجواسيس وحماية مؤسسات واسرار الدولة العليا من عيون المتطفلين.

الا ان الامر كان على العكس تماماً، حيث لاتعاني اية مخابرات اجنبية من اية مشكلة او مخاطر في العمل بالساحة العراقية، وهو امر مؤكد لايحتاج الى اثبات.

فمنذ ثلاثة عشر عام وعلى الرغم من انهار الدم التي تسببت بها تنظيمات ارهابية مدعومة من قبل مخابرات اقليمية، الا اننا لم نتمكن من الامساك بأية شبكة تجسسية ولم يتم اتهام او الحكم على اي عراقي بجريمة الخيانة العظمى، ولا على اي اجنبي بجريمة التجسس، وهو امر ساهمت به عدة عوامل سنتناولها في مقالنا الذي خصصناه للوضع العراقي.

نظرة في اسباب التدهور

ان اهم مايميز الوضع العراقي هو الانفلات النابع عن ضعف الحس الامني لدى قطاعات واسعة من المجتمع، بل وحتى على مستوى الجهات الحكومية، وهو انفلات يعكس قلة الوعي المجتمعي والحكومي بأهمية الحفاظ على مصالح البلاد، فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة لعبة لايدرك لاعبوها مدى مخاطرها.

لدرجة اصبح معها العراق من الدول المتفردة بنشر ادق الوثائق والاسرار الحكومية، حتى ان ضابطاً في مطار بغداد الدولي لم يتورع من ابراز عضلاته بنشر صورة جواز الرئيس الفرنسي لدى زيارته للعراق ويبثه متفاخراً في الفيس بوك.

كما كان للضعف الشديد للاجهزة الاستخبارية العراقية بكافة مهامها، الدور الكبير في الانفلات وتشتت الاسرار لاسيما العسكرية منها، وساعد على هذا الانفلات عدم وجود جهة متخصصة امنية استخبارية (والتي اسميناها في مقالنا السابق بالامن العسكري) تتخذ وتشرف على الاجراءآت الكفيلة بحفظ الاسرار العسكرية واية اجراءات معيقة للجواسيس، وعدم وجود مراقبة ومتابعة للافراد في المؤسسات الحساسة سواء في مراحل التعيين او التدريب او المراقبة الميدانية. كما ساهمت الفوضى الاعلامية، لاسيما المرئية منها، في تسهيل مهمة المخابرات الاجنبية والعملاء والجواسيس والارهابيين في الحصول على ادق المعلومات في شؤون الحرب على الارهاب بالذات.

فالجميع يزور الجبهة ويتكلم عن القطعات والتشكيلات وتًصور اللقاءات بشكل منفلت، وحتى بعض القادة السياسيين يذهب إلى الجبهة ويمسك السلاح ويكلم الضباط ويشرحون له على الخريطة وأمام الكاميرات دون اي تنظيم للتصاريح لهذه الزيارات ودون تقنين لما ينشر في الإعلام الحربي.

وزد عليها فوضى الحوارات والاستضافات بعنوان (خبير أمني او عسكري او استراتيجي) وفي جميع الفضائيات دون تقنين.

وقد ساهم القضاء العراقي وضعف التشريعات في تبعثر اي جهد في مكافحة التجسس وحتى في تعريف الجاسوس والخائن والعميل، فكانت المحاكم تحكم على من تدرب وخطط لتخريب بلده وانتمى الى منظمة ارهابية اجنبية بانه ارهابي دون الالتفات الى اتهامه بانه خائن وجاسوس حتى ضاعت المفردة ولم يعرف لها المجتمع العراقي مصداقاً.

ان محاولة واحدة يتيمة قامت بها مجموعة ضباط من استخبارات وزارة الداخلية عام 2005، إذ استطاعوا اعتقال شبكة تجسس تعمل لصالح الموساد الإسرائيلي وتعمل في العراق منذ 1992.

وسرعان ما تعرضت هذه المجموعة من الضباط إلى التنكيل والاستهداف والتهم، وهاجم جيش الاحتلال موقع السجن في ملجأ الجادرية وأطلق سراح المعتقلين، وانتهى الضباط بين مطرود وهارب، وقد اشترك الجميع في التسقيط او السكوت، وتركت الحادثة خوفا عميقا في نفوس الضباط الوطنيين كي لايتجاسر أحد على تكرار هذا الامر.

عملاء رسميون!

برغم كل ما عددناه من اسباب ومعرقلات لمكافحة الجاسوسية في العراق، الا ان هنالك معظلة رئيسية تعد العثرة الرئيسية التي لايمكن معها ان يتخلص العراق من بلاء الجاسوسية، وتتمثل تلك العقبة كألداء في بنية النظام السياسي العراقي بعد 2003.

فالبنية السياسية للاحزاب المتصدرة للمشهد السياسي والتي تأسست ونمت وتطورت خارج العراق قد شوشت عن عمد الخط الفاصل بين العمالة والولاء العقائدي.

فظهرت لنا طبقة سياسية هي اقرب الى كونها دكاكين لدول الجوار وحتى لدول اجنبية من غير الجوار، حيث انقسمت الطبقة السياسية الى قسمين لايُضمَن ولاء اي منهما، قسم يشمل الاحزاب والاخر يشمل الافراد.

فكانت هنالك احزاب ترى في عقيدتها تطابقاً مع الدول التي ترعرعت في كنفها، فصارت تروج لسياسات وممارسات تلك الدول على حساب المصالح الوطنية العراقية، بل انها كانت قي بعض توجهاتها مما ينطبق عليه المثل (ملكي اكثر من الملك).

وكان هنالك على صعيد الافراد شخصيات سياسية وعسكرية رفيعة في اعلى المناصب من مزدوجي الجنسية والولاء، وجميعهم ادّوا في مرحلة ما في غربتهم قسم الولاء للبلد الذي منحهم الجنسية، حتى وصلنا في مرحلة ما الى صورة سوريالية كانت ولازالت فيها الحكومة بسلطاتها التنفيذية والتشريعية تحوي مسؤولين ووزراء تبلغ نسبة الاوربيين منهم قرابة ال90% منهم وهو رقم يثير سخرية مضحكة مبكية، وفي ظل هكذا وضع صار الاجنبي يحكم فعلياً بالنيابة على رقاب العراقيين.

فكيف لنا ان نتصور ان يدعم امثال هؤلاء قيام اجراءآت وتشريعات تتيح للمؤسسات الامنية والاستخبارية ان تتهم شخص ما بالعمالة ؟؟, وكأنما تم الغاء هذا الموضوع وأصبح واقعا اجتماعيا فتحول الطابور الخامس في العراق إلى طابور سادس, ولم يعد معه الجاسوس بحاجة الى غطاء للتخفي بشركة تجارية او منظمة مجتمع مدني.

فاصبح الجاسوس في العراق عبارة عن مسؤول لايتورع باظهار الولاء لصالح البلد الذي يعمل لصالحه ويسافر له دوما ويتفاخر بحبه ويمجد نظامه السياسي ويدعم شركات ذاك البلد بالمشاريع والعقود، اي انه لا يكلف البلد الذي يعمل لصالحه غير الدعم السياسي فقط، وهو يدعم شركات وشخصيات ذاك البلد بالمشاريع والسرقات من العراق وبتفاخر, كجاسوس مجاني بغطاء رسمي ودستوري.

ومن هنا لا يمكن أن تسمى من يعمل في العراق جاسوساً وانما عميلاً, لأن الجاسوس قد لا يعتقد بالنظام السياسي الذي يعمل له، لكن العملاء يعملون وكأنهم يحملون رسالة مقدسة !!!ولايشعرون بوخز الضمير.

ووصل الامر في التجسس السياسي في العراق الى حد منفلت وفريد لاسيما في غياب قانون للاحزاب وعدم وجود اية رقابة على التمويل حتى صار للاحزاب العراقية مكاتب تمثيل خارجية وهو امر لامثيل له في العالم.

وصارت الدول الاجنبية تتدخل في لمِّ وتفريق الشكل السياسي العراقي وفي تشكيل الحكومة والتحالفات فصار الوصف الاقرب هو ان العملية السياسية هي عمالة سياسية تتم تحت السيطرة الاستخبارية والنفوذ الاجنبي حد النخاع، وصار العنصر المنتمي للحزب يتحول تدريجياً الى مواطن تابع للدولة الداعمة بكل شي، فهو يرى العراق كله شر والدولة الداعمة كلها خير.

فصار البعض، للاسف، امريكي أكثر من الأمريكان. وايراني أكثر من الإيرانيين، وسعودي أكثر من السعودية وتركي أكثر من الأتراك وبريطاني أكثر من البريطانيين.

وفي هذا الباب يقال ان سفير بريطانيا في إيران في عهد ملوك القاجار وقع في حب إحدى بنات الملك وكان اسمها سانسانيا، فطلب بعد فترة من لندن ان يُنقل من ايران، فقيل له لماذا، فأجاب : انا واقع بين حب بريطانيا وسانسانيا وأريد ان اختار بريطانيا!!!!.

عثرات على الطريق

ان مكافحة التجسس هي الوجه الواضح والمشرق من العمل الاستخباري والذي يمكن الإفصاح عنه واخبار الشعب عن نتائجه وتقديم المتورطين بالعمالة إلى القضاء وعرض اعترافاتهم أمام الناس.

فمن ينتمي لتنظيم إرهابي عالمي فهو جاسوس اولاً على وطنه وشعبه واهله، وهو ثانيا إرهابي، وكذلك الامر بمن يعمل في مؤسسة حساسة ويسرب المعلومات للارهابيين.

الا ان هنالك كما يبدو ايادٍ خفية سعت وتسعى الى ان تجرجر مصطلح الارهاب لتغطي على ابراز جريمة التجسس والخيانة، لأن الامر يطالها بالنتيجة، لذا تسعى الى لفلفة وعرقلة اي جهد يُبرز تعريفاً محدداً للخيانة والعمالة والتجسس، كما تعرقل بالضرورة اي بناء استخباري او امني لمؤسسة مهمتها اصطياد الجواسيس والعملاء والايقاع بهم وعرقلة جهودهم للتحصل على اسرار البلاد او العمل بالضد من مصالح الوطن، بل انها بالنتيجة تعرقل اي تعريف محدد لمفهوم الوطن والوطنية والحدود.

على طريق الحل

بالرغم من كل ماكشفناه من مخاطر للجاسوسية في الوضع العراقي فان علينا ان نعي حقيقة صادمة، هي اننا لانمتلك اي جهاز معني بمكافحة التجسس في العراق !!!! وهو امر باتت اسبابه مفهومة، ولكنها يجب ان لا تُعجزنا عن شرف المحاولة.

فلك ان تتصور عن الكيفية التي تبنى فيها مؤسسة امنية كالجيش والشرطة والأمن والمخابرات والاستخبارات والحشد الشعبي بلا مؤسسة أمن عسكري، فاذا كانت القوات المسلحة سور الوطن، فإن مؤسسة الأمن العسكري هي سور القوات المسلحة وحصنها.

فلابد من وجود كيان امني يتدخل في كل مناحي الحياة، لاسيما في المؤسسات الحكومية الحساسة،وهو مااطلقنا عليه بالامن العسكري، حيث يتولى حماية مؤسساتنا من الاختراق ويضع الخطط للايقاع بشبكات التجسس واختراقها وتفكيكها وتقديمها للعدالة.

وعلى الجهات التشريعية ان تكون بمستوى المسؤولية في ابراز الوطنية الصادقة مقابل الخيانة العظمى دون اي اعتبار الا لمصلحة العراق العليا.

ان علينا ان نوجد مؤسسة متينة لها استقلالية عن التجاذبات السياسية مهمتها العمل بصرامة من اجل الحفاظ على الاسرار، وتقوم بوضع معايير وقوانين وتطبقها وتراقب وتدقق ونشخص الخلل.

ومن ذلك منع سفر اي منتسب او ضابط فما بالك بالسكن خارج البلد كما هو حاصل لدينا ؟ حيث ان اغلب قادة الجيش والمؤسسة الامنية يسكنون خارج العراق وهو امر خطير للغاية (كنت في بيروت يوما في فندق وشاهدت أحد القادة العسكريين المعروفين وكانت مع مجموعة ضباط من جهاز استخباري رفيع، وكان جلوسهم وحديثهم مفتضحاً دون اي تقيّد، حتى ان جميع موظفي خدمة الفندق كانوا يعرفون أن هؤلاء هم ضباط امنيون من العراق من الجهاز الفلاني وانهم يدرسون بالدورة الفلانية، وكان يكفي وصول ضباط مخابرات الدول المختصة ليرشدهم عامل الخدمة على اسم الضابط وصنفه ومنصبه وهواياته ويُسهل عملية تجنيده!!!.)

كما انه في كل دول العالم، يمنع مزدوج الجنسية من الانتساب إلى القوات المسلحة، بينما في العراق بدا الامر وكأنه أصبح شرطاً لإستلام المنصب.

كما ان وجود جهاز لمكافحة التجسس سيؤدي الى الارتقاء بالعمل الاستخباري، ذلك ان احد اسباب تراجع الجهد الاستخباري هو عدم إمكانية حفظ سرية الارتباط بين الاستخبارات والمصدر بسبب كثرة الاختراقات وخوف المصدر من انكشاف أمره بشكل سريع من خلال الجواسيس والعملاء, ولكن تنشيط مكافحة التجسس سيقضي على هذه الاشكالية ويوسع من العمل الاستخباري.

خلاصة

لايوجد بلد في العالم لايحتوي على مؤسسة مختصة بمكافحة التجسس، ولكن لاتوجد في دول العالم العراقيل السياسية التي لدينا، فالطبقة السياسية ضحت بالمصالح الوطنية لصالح مصالح البلدان التي مولتها ورعتها، لذا باتت تلك الاحزاب تخشى من التطبيقات التي قد تطالها قانونيا اذاما صار هنالك وعي مجتمعي بالتجسس كاصطلاح وكجريمة، لذا لابد من فك مشيمة كل حزب عن الدولة الراعية له، وان لاتتصرف الاحزاب وكأنها لاتزال في المعارضة حيث كانت تحتاج الى الدعم والى الازدواجية في المعايير احياناً، وعليها ان تعرف انه لايصح الا الصحيح وهو تغليب مصلحة العراق على اي ولاء وتحت اي غطاء.

ذات صلة

كيف سترسم الانتخابات الأمريكية ملامح الحرب الإسرائيلية متعددة الجبهات في الشرق الأوسط؟الخطوط الساخنة والجهل المطبقجون لوك ورسالة التسامح.. فحص وتحليلحرب استنزاف مفتوحةالمخالفات الجلية في تعديل قانون الأحوال الشخصية