مباحث في الاستخبارات.. الحرب النفسية
بشير الوندي
2016-06-30 07:02
قبل عامين خسرنا الصفحة الاولى من المعركة امام تنظيم داعش الارهابي بفعل الحرب النفسية الهائلة التي أطلقت عشية وبعد سقوط الموصل، وكان العدو يسير والرعب يتقدم ويفتح الطريق امامه، وتصور الجميع بان داعش ستبتلع بغداد وستصل حدود الكويت، واخذ الرعب بالمواطنين كل مأخذ، وصار الجندي يقبل بالاستسلام بلا قتال ويُعَرض نفسه لحكم الإعدام حيث يترك سلاحه بفعل الاشاعة، وكان ما حصل هو نموذج فاضح لما يمكن ان تفعله الحرب النفسية في المعركة.
ولم تنتبه الاجهزة الامنية لحجم الدعاية آنذاك، وكانت غير قادره على مواجهة موجة الرعب التي ساهمت في تغذيتها اذاعات عربية واقليمية كان لها دور مؤثر وكبير في انتاج هذا الرعب، وسالت دماء الابرياء بفعل الموقف الرخيص لتلك المؤسسات الاعلامية التي لاتزال تمارس دورها المشبوه الذي يصور طائرة ف 16 الامريكية السعودية تصيب الاهداف العسكرية في اليمن ولا تقتل الابرياء وطائرتنا (من ذات النوع) عمياء تقتل المدنيين فقط، وهذه مفردة بسيطة من مفردات ما تعرضنا له من غزو نفسي كبير.
الان وقد انقلبت المعادلة واصبح العراق منتصر، فلابد من ان نبادر لإنتاج حرب نفسية قوية تجعل العدو وانصاره واعوانه في حالة من اليأس والاستسلام والهزيمة، وهنا يأتي دور الاستخبارات وادائها النفسي الصحيح لتكون مقدمة الزحف.
تعريف الحرب النفسية
الحرب النفسية هي من اقدم فنون الحرب لدى البشر، وتطورت وكبرت في مجال الاذرع والوسائل بفعل التواصل والشبكة العنكبوتية والاتصالات والاعلام، وهي علم متكامل يرتكز على الاستفادة من مجموعة علوم ويأخذ منها ما يخدم تشكيل قناعات مضخمة تؤدي الى زعزعة مجتمع العدو المدني والعسكري، ويعتمد هذا العلم على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم السكان و الاحصاء و المعلومات والاعلام.
وتُعَرّف الحرب النفسية بانها تسعى لاستخدام اية وسيلة بقصد التأثير على المعنويات والسلوك في اية جماعة لأغراض امنية وعسكرية، وايضا تعرف بأنها استعمال مخطط للدعاية للتأثير على مشاعر وسلوكيات العدو.
وتسمى الحرب النفسية بعدة مسميات منها الحرب الناعمة، الحرب الباردة، وتسمى ايضا حرب الاستخبارات وتستخدم في السلم والحرب لتستهدف الجانب السيكولوجي للفرد ومن ثم المجتمع كالميول والدوافع والعواطف والاتجاهات والمعتقدات.
ومن ابرز اهداف الحرب النفسية بث الياس والاستسلام و زعزعة الايمان بالمباديء و تضخيم اخطاء قيادة العدو و اضعاف الجبهة الداخلية وتفتيت الوحدة، وتستفيد الحرب النفسية بشكل كبير من جهل المجتمع والضعف الثقافي والتعليمي والامية، كما تستفيد الحرب النفسية من نقاط الضعف بشكل كبير كما تتم وفق اسلوب يأخذ بنظر الاعتبار عادات وتقاليد العدو، يقول الجنرال نورمان شوارتسكوف قائد جيوش التحالف عام 91 "كنا نستغل معرفه الجندي العراقي باتجاه القبلة ونقذف لهم منشورات بان اذا ارادوا الهروب عليهم الحركة باتجاه القبلة للوصول الى قطعاتنا.
اشكال واساليب الحرب النفسية
تنقسم اشكال دعايات الحرب النفسية من حيث قوتها الى:
1- الدعاية البيضاء: تستخدم على المواطنين والقوات المسلحة لتقوية مناعتهم ولتحصينهم.
2- الدعاية الرمادية: تستهدف العدو ولكن بطريقه هادئة وغير مباشرة.
3- الدعاية السوداء: وهي الحرب المباشرة بجميع الوسائل.
وتعمل الحرب النفسية بأساليب عدة منها الاعلام والاشاعة والتهديد والخداع وبث الرعب والاغراء والتظليل, وتعتمد على اسلحة الدعاية والاشاعة وغسيل الدماغ.
فكلما كانت الاشاعة دقيقة ومهمة وقابلها غموض موقف العدو وعدم شفافيته امام مواطنيه, كلما زادت قوة تأثيرها، اما مجال الدعاية فتشمل الاعلام الموجه والمنظم والمستهدف لجهة او مجموعة لغرض التأثير عليهم.
اما غسيل الدماغ فلا يقف عند الافراد فقط بل يشمل احياناً مجتمعات بأكملها حين تكون مجتمعات مغلقة كما في بعض الدكتاتوريات وفي السجون ومعسكرات الاسر وغيرها.
ويتم غسيل الدماغ عبر خطوات متتالية تحت بند (العصا والجزرة) من خلال العزلة واستخدام الاسلوب القاسي، ثم مرحلة الرفق والتساهل، ثم مرحلة النقاش والحوار، ثم مرحلة النقد الذاتي، ثم مرحلة زرع الافكار الجديدة.
ترتبط الحرب النفسية ارتباطاً وثيقاً بالاستخبارات، ففي الدول المتقدمة يعتبر مركز الحرب النفسية والاعداد النفسي مركزا مهماً يستقطب الكثير من الاختصاصات العلمية ويرتبط بإدارة المجتمع الاستخباري.
ان عملية التفكير والتنظيم والاستعداد والتنفيذ للحرب النفسية تكون شبه مستحيلة مالم نمتلك معلومات دقيقة ومفصلة وواضحة عن العدو ونقاط ضعفه وقوته ومشاكله وانجازاته واخفاقاته، كما تحتاج الحرب النفسية ان تعرف المجتمع والفرد المستهدف و طباعه ومزاجه وتفكيره وطموحه وعاداته وعقائده واسلوب حياته ومعرفة اسلوب اعلام العدو وتواصله مع جمهوره ومستوى الشفافية والمصداقية والانضباط, وغير ذلك من التفاصيل التي لا يمكن ان تستحصل الا من خلال الاستخبارات.
لذا فان الحرب النفسية الناجحة تحتاج الى استخبارات قوية وذكية, فالقاعدة الذهبية في العمل الاستخباري تقول :اذا نظرت بشكل صحيح ستفكر بشكل صحيح وحينها ستقرر وتنفذ بشكل صحيح.
الحرب النفسية تشبه في مهامها اية مؤسسة استخبارية، فيها مهمات الهجوم ومهمات الدفاع، فالحرب النفسية على نوعين اولهما هجومي لتدمير معنويات العدو، والثاني فهو دفاعي لصد اشاعات ودعاية العدو، وفي الحالتين فإن الاستخبارات هي الذراع الذي تنجح به الحرب النفسية.
ففي الهجومي، نحن بحاجة الى الاستخبارات الهجومية لتزويدنا بالمعلومات الدقيقة اللازمة لحرب نفسية مؤثرة، وايضا تكون الاستخبارات الهجومية هي احد اذرع التنفيذ لأنها موجودة في ارض العدو من خلال مصادرها ومعاونيها وعناصرها وواجهاتها، وفي الدفاعي، نحن بحاجة الى الاستخبارات الدفاعية والجنائية لتتلقف الاخبار والاشاعات وما يدور بين الناس.
اذن نحن في الحالتين الهجوم والدفاع بحاجة الى الاستخبارات، فهي الذراع التنفيذي للحرب النفسية، لذا توضع مؤسسة الحرب النفسية قريبة من الاستخبارات، وتكون على الارجح تحت اشراف اداره المجتمع الاستخباري، فدور الاستخبارات جوهري، فهي التي تجمع الاخبار وتقيّم البيئة والناس المستهدفون وتقيّم التأثير عليهم، ولها اذرع وواجهات اعلامية ومجتمعية تستطيع ان تبث الاشاعة وتقيّم النتائج، كما ان لها عيون ترصد الاشاعة المعادية.
من هنا، فإن كل جهاز استخباري يجب ان تكون فيه وحدة خاصة للحرب النفسية تقوم بالمراقبة والانتاج والحرب النفسية الهجومية والدفاعية، مستخدمة كافة انواع الاستخبارات الهجومية والوقائية والدفاعية.
مركز الحرب النفسية
يكون مركز الحرب النفسية عادة ضمن عمليات الاستخبارات, ويقسم مركز الحرب النفسية في الاجهزة المحترفة الى الدوائر التالية:
1- الاستماع: مهمته الانصات لكل ما يصل من الذراع العلني والمخبرين والاعلام حول اشاعات العدو واشاعاتنا.
2- التحليل والتقييم والموقف: لتقييم الاشاعات وتحليلها، ويتم فيها تقييم الاداء والتأثير وبحث الرسم البياني ومؤثرات الحرب النفسية وانعكاسه في الاعلام والشارع.
3- التخطيط والانتاج: ومهمته انتاج وصناعة الاشاعات وتعزيز المعنويات ومقاومة الاشاعات المعادية وحماية الافكار.
4- الدعاية والنشر: مهمتهم استلام واطلاق الاشاعة او مهاجمة حرب العدو النفسية من خلال النوافذ الاعلامية والشعبية والمؤتمرات والنشر.
5- وحده الدعم اللوجستي
هذه الاقسام الخمس هي عصب مركز الحرب النفسية في الاستخبارات وعادة تكون اما في العمليات او مستقله مرتبطة برئاسة الاستخبارات.
حين تعمل استخباراتنا ضدنا
للأسف، فإن استخباراتنا (ولغرض التغطية على ضعفها) اصبحت تنتج معلومات عامة وغير مفيدة وغير محددة وهذا خلاف دورها الراصد الذي يجب ان ينتج تقارير ومعلومات دقيقة، وهنالك عشرات بل مئات الكتب الرسمية الموقعة من اعلى قيادات الاستخبارات لا تحوي على معلومات محددة وانما تحوي على معلومات عائمة مثل (ينوي العدو تفجير سيارات مفخخة وعبوات ناسفة واحزمة متفجرة في الايام المقبلة في بغداد....!!! ) وتعمم للأسف مثل تلك البرقيات من قبل القادة الكبار لتصبح احد عوامل الاشاعة والدعاية والحرب النفسية المرهقة ضد اجهزتنا الامنية.
وتتكرر نماذج تلك البرقيات كل يوم وشهر وسنة، لتصبح اخبار الاستخبارات الفاشلة والعامة احد وسائل الدعاية المجانية ضدنا لصالح العدو،فقط لان اجهزتنا لا تستطيع الحصول على معلومات دقيقة فتعمد الى انتاج اخبار تقلق الاجهزة الامنية دون ان تدلها على مكمن الخطر، فيتشكل شعور حكومي وشعبي ان الخطر من كل اتجاه وفي كل مكان، وهذا في حقيقته نجاح لحرب نفسية نقيمها نحن ضد شعبنا وقواتنا الامنية، ونهديها الى العدو الداعشي،وهذه قسمة ضيزى !!!.
الحرب الفكرية الاهم
يعتمد الفكر الداعشي اساسا على الكراهية والحقد, فهو يكره الانسان والاديان والفكر والثقافة والطبيعة والحياة ويذهب الارهابي بعيدا ليقتل نفسه حتى يفرغ كمّ الكراهية المختزنة في داخله على الاخرين.
وقد اعتمدت التنظيمات الارهابية ومنها تنظيمها الاخطر داعش على الوحشية في تنفيذ جرائمها كجزء من الحرب النفسية، فقد بنت داعش قوتها على اساس البرقع الديني بإسلوب وحشي وهو امر اثبت نجاحه احياناً، واثار الغرائز البشرية التي تم دغدغتها بالدين.
ومن هنا فان جزءاً مهماً من الحرب النفسية المضادة التي علينا ان نتبناها ضد داعش لابد ان تتم عبر فضح تلك الوحشية واظهار عدم انتمائها للدين والاسلام هو الحل الامثل لسلاح حربنا النفسية ضد التنظيم.
ان التخلص من داعش كعصابات بمعارك عسكرية هو امر هين اذا ما قورن بمعركة التخلص من الفكر الداعشي ولا نستطيع التخلص من (داعش الفكر) بسهولة (داعش الحرب)، لذا فإن علينا ان نبدأ بمشروع اصلاح فكري تشترك فيه جميع المؤسسات الدينية والحكومية والتربوية والعائلة والمحلة والمدينة، ونحدث ثوره ضد فكر الكراهية، وننتج وعياً شعبياً بخطر فكر التكفير، وعلى الاستخبارات ان تكون ذكية ويقظة وترصد الانتاج المتكرر لهذا الفكر الضال ولا تستهين به.
خلاصة
ان عالم الاسرار والاستخبارات يسعى دوما للتأثير على العقول وصناعة الرأي العام،ولا يمكن ان يتم ذلك من غير وحدة الحرب النفسية.
ان مليون جندي قد لا يؤثرون بقدر اشاعة دقيقة تدك اوكار العدو وتدخل الى عقله، ومن هنا لابد ان ان نهتم بالحرب النفسية ضد العدو، ونهتم بحماية شعبنا من اثر حرب العدو النفسية ضده، وهذا من صلب عمل الاستخبارات، فلا توجد استخبارات في الدنيا بلا وحدة للحرب النفسية فإهمال الحرب النفسية يعني اهمال عقول الناس.
اما مكافحة الحرب النفسية فتكون بذكر الحقائق و المنطق الرصين والتقنين الاعلامي وتفعيل الامن العسكري والاستخبارات الذكية