انحطاط المسلمين وأبرز العوامل الداخلية
د. راجي أنور هيفا
2023-04-26 05:01
(الأمم لا ترقى إلا بالعلوم ولا تهلك وتندثر معالمها إلا بالجهل وبتغييب العقل)
الامام السيد محمد الشيرازي
انطلاقة البحث
لماذا تأخر المسلمون؟؟؟
إنه سؤال موجع ومستمر.
إنه سؤال مؤرق ما يزال المشرق العربي عموماً، والإسلامي خصوصاً، يبحث له عن جواب شافٍ ودليلٍ كافٍ حتى ينفض العرب والمسلمون عن ذاتهم غبار سنين الركود التي تراكمت عليهم خلال إغفاءتهم الطويلة لقرون عديدة من عمر الزمان.
قبل كل شيء، نحن لسنا معنيين في هذا البحث المطوّل بدراسة الحلول المتعلقة بأسباب الانحطاط والتردّي الذي نعاني منه، فالحلول التي نراها جديرة بالبحث والدراسة سنرجئها إلى البحث اللاحق بإذن الله تعالى.
إن بحثنا هذا سيقتصر حالياً على وضع اليد على الأسباب الفعلية التي تكمن وراء مظاهر التخلف والانحطاط التي ما نزال نعيش تحت وطأته حتى يومنا هذا، بل وبتقديري الشخصي، سنبقى أسرى بيد ذلك الانحطاط في المستقبل أيضاً. والسبب في ذلك أن معظم الذين عالجوا مسألة تراجع المسلمين عموماً لم يكونوا يمتلكون الجرأة الكافية لقول الحقيقة بشكلها الكامل وتقديمها للناس بوجهها السافر النقيّ، بل قدّموا للقرّاء ولعموم أبناء المجتمع الإسلامي أنصاف الحقائق وبشكلٍ خجول هو أقرب إلى مثال الطبيب الذي يعطي مريضه علاجات مهدّئة بدلاً من إعطائه أدوية علاجية شافية تتناسب بشكلٍ فعليّ مع مرضه الذي يقضّ مضجعه، وذلك بعد تشخيصه ودراسة الأسباب التي أدّت إلى حدوث ذلك المرض وتداعيات مضاعفاته الخطيرة.
نعم، هناك العديد ممن كتبوا عن أسباب تخلّف وتأخّر العرب والمسلمين عن الركب الحضاري، نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر:
1 – السيد جمال الدين الأفغاني الآسترابادي، وهو غني عن التعريف.
2 – الشيخ محمد عبدة المصري، أقطاب البحث في مسألة التخلف والنهضة وفي غيرها من المسائل والقضايا الإسلامية العامة.
3 – الشيخ عبد الله النديم (1845–1896)
4 – الأستاذ شبلي شميّل (1853–1917)
5 – شكيب أرسلان (1871–1946)
وبالطبع هناك غيرهم مفكرون آخرون خاضوا غمار البحث عن أسباب تخلف العالم الإسلامي وعدم نجاحه في تجاوز العقبات الداخلية والخارجية التي تحول دون إمكانية لحاقه بركب الحضارة العالمية ومجاراة الحضارة الغربية التي نهضت من كبوتها واستيقظت كما يستيقظ المارد الجبار من قمقمه الصغير.
ولا ريب – كما ذكرنا للتو– أن هناك في زمننا المعاصر من كتب أيضاً عن أسباب التخلف ودواعي الانحطاط في صفوف المسلمين ومجتمعاتهم في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن الغالبية العظمى أيضاً قد أخفقت –عن عمد أوعن غير عمد– في تقديم البيانات الصادقة وإيصال الصورة الواضحة الشاملة لأوضاع المسلمين وأسباب بقائهم تحت نير الجهل وقيود التجهيل وجرّهم دائماً للوراء بدلاً من دفعهم قُدُماً إلى الأمام.
تضافر الأسباب وتنوّع المصادر
كما أن للقوة التي يكتسبها الفرد أو المجتمع مصادرها، كذلك للضعف أوالوهن مصادره وأسبابه أيضاً. فالقوة يمكن أن تكون ذاتية أو مكتسبة، أي أن هناك قوى داخلية وقوى خارجية داعمة للذات أو للمجتمع، وكذلك الحال بالنسبة للضعف والانحطاط على المستوى الفردي والجمعي.
ولا أعتقد أن هناك من يجهل أن البلدان الإسلامية عانت من الضعف الذاتي الداخلي مثلما عانت من الضعف الذي كان للقوى الخارجية دور بارز في صناعته. هذا مما لا شك فيه، ولكن الذي أشك فيه حقاً هو معرفة القسم الأكبر من العرب والمسلمين للدور الحقيقي الذي لعبه الضعف الذاتي أمام الدور الذي لعبته القوى الخارجية في عملية نقلنا إلى هامش التاريخ الحضاري المعاصر.
فالشيء المؤسف هو أن معظم المفكرين والباحثين وأولئك الذين يدّعون الحيادية والموضوعية في مناقشة هذا الموضوع الجوهري الهام، نراهم يلقون بالتهم وبالمسؤولية الكاملة على العالم الغربي، أي على المؤثرات الخارجية التي هي وحدها –بنظرهم– من قادنا إلى التخلف والفقر والجهل.
بالطبع لدينا أمثلة كثيرة جداً عن أولئك الباحثين والمفكرين الذين رفضوا الاعتراف بهزيمتهم أفكارهم وهزيمة مجتمعاتهم داخلياً، فحوّلوا فوهات بنادقهم ورؤوس أقلامهم إلى الغرب للنيل منه ومن التقدم التقني والتطور المدني الذي وصل إليه بعد أن انتزع منهم دفّة قيادة الأمم علمياً وحضارياً. وهذا النوع من (المثقفين) أشدّ خطراً على المجتمع من الجاهلين أنفسهم لأنهم هم من يلعب الدور الأخطر في تشويه الحقائق وتقديمها على أنها الحقيقة المطلقة الناصعة البياض التي لا تقبل الشك ولا تحتمل الطعن على الإطلاق.
بلا ريب أدنى ريب هناك شيء عبر التاريخ يدعى صراع الحضارات، وبالتالي فإن ذلك يعني أن كل مجتمع معرَّض لأن يكون هدفاً لمصالح المجتمعات والحضارات الأخرى. ولكن بقدر ما يكون المجتمع المستهدَف قوياً ومتماسكاً من الداخل، بقدر ما يكون حصيناً ومنيعاً وعصيّاً على الآخرين من الخارج. ومن هنا علينا أن نكون منطقيين وواقعيين في مسألة طرح أسباب تخلّفنا داخلياً قبل الحديث عنها خارجياً في بحثٍ لاحق.
الأسباب الداخلية:
قبل الخوض في الأسباب الداخلية الموجبة للتدهور والانحطاط في مجتمعاتنا عموماً، علينا أن نستذكر حكمة شعرية تقول:
لا يُلامُ الذئب في عدوانه---إنْ يكُ الراعي عدو الغنمِ
1- الاقتداء بما يسمّى (السلف):
لقد أوردنا البيت الشعري السابق لنقول إنه حكمة شعرية بليغة تلامس نبض الحقيقة. ولذلك، فمن أهمّ أسباب تخلّفنا في الحاضر هي عملية الاقتداء بما يسمّيه البعض بـ(السلف) من الحكام وأرباب القرار والسلطان والنفوذ، أولئك الذين اتخذوا من الدين ستارا ومن الشريعة دثارا لتحقيق مصالحهم الشخصية التي لا ترتبط بالدين إلا بالاسم وبالكتاب العظيم إلا بالرسم، مما خلق فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطان والرعيّة، حتى ليكاد الفرد المسلم الواعي لواقعه يصاب بانفصام في شخصيته نتيجة التباين الواضح بين ما يقرأه عن أخلاقيات الرسالة الإسلامية من جهة وبين ما يراه من الحاكم المسلم وأعوانه على أرض الواقع من جهة أخرى.
ولعلّ المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي (ره) كان من أقوى المفكرين وأرباب البحث المستنير الذين كتبوا عن هذه المسألة بلا مهادنة ولا مواربة، فقدّموا الحقيقة لمن يريدها كما هي بلا أي عملية تجميل وبدون أي (مكياج). فالحقيقة عنده يجب أن تظهر كما هي كائنة، وليس كما يحب البعض أن يُظهرها بعد إضافة بعض التحسينات عليها بهدف إخفاء عيوبها.
ولذلك يرى سماحته أن العامل الأول في تخلف المسلمين المعاصرين هو اقتداء معظم حكّامهم بمن سبقهم من الملوك والسلاطين الطغاة الذين لم يتورّعوا حتى عن سرقة أشرف الألقاب وأنبلها من أصحابها الحقيقيين، فتارة يتسمّى ذلك الحاكم أو الملك بالخليفة، وتارة أخرى يتسمّى غيره بأمير المؤمنين، وإلى غير ما هنالك من ألقابٍ تشعرك بأن هذا الحاكم أو ذاك قد ملك الدنيا وما عليها، بل وقد ملك مفاتيح الجنة أيضاً، بينما الحقيقة المؤكَّدة هي غير ذلك تماماً.
نماذج أمويّة من (السلف)
وحتى نؤكد ما سلف ذكره من كلام، دعونا نعرض صورة موجزة لحقيقة الحكّام الأمويين الذين ملكوا أمور الأمة الإسلامية تحت ستار الدين.
فعلى سبيل المثال، يحدّثنا الكاتب والباحث المصري أحمد عباس صالح في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام) عن حقائق ثابتة بشأن طبيعة الحكم الأموي عموماً. إنها بالفعل حقائق تضاهي الليل سواداً بجرأة الأمويين على الإسلام القويم وعلى تعاليم رسوله الكريم (ص).
يؤكد الأستاذ (صالح) أن معظم رجال السلطة الأموية الذين استلموا مواقع القيادات في صدر الدولة الأموية هم ممن تنطبق عليهم صفة (الطلقاء) أو ممن وقفوا من الإسلام موقف الخصومة والعداء حتى كُسِرت شوكتهم وأعلنوا إسلامهم طلباً للمصالح خوفاً ونفاقاً (1).
وكان من جملة ما ذكره ذلك الكاتب، وهو جدير بالتأمل والدراسة، هو قوله المبنيّ على ما جاء من أخبار لا خلاف عليها من قِبَل كل الأطراف والأطياف الإسلامية على أن الحكم الأموي كان فاسداً ومشوِّهاً لصورة الإسلام الحقيقي، وبشكل خاص في خلق الحكّام الأمويين لنظام الطبقات الاجتماعية على حساب المبادئ والقِيَم الرسالية ((فثروات بعض كبار المسلمين كانت تُعدّ بالملايين، وكان هناك الفقر الذي جعل صحابيّاً كأبي ذرّ (الغفاري) يفقد أبناءه بسبب سوء التغذية حين قُطِع عنه عطاؤه)) (2).
وهذا كاتب وباحث مصريّ آخر هو عبد الحميد جودة السحّار يحدّثنا عن أفعال معاوية بأهل البيت (ع) في كتابه (أهل بيت النبيّ)، وكيف كان ينقض عرى الإسلام واحدة تلو الأخرى استخفافاً بالدين وإذلالاً لأهله (3).
إن معاوية لم يحفظ للإسلام ذمّة ولم يرع له عهداً، بل كان رجل دنيا ولم تكن تربطه بالإسلام أيُّ صلة إلا تلك الصلة التي توصله إلى أعلى المناصب ليتأمّر على الناس وليستأثر بأموالهم وممتلكاتهم، وحتى بأجمل نسائهم لأبنائه حتى لو كنَّ محصنات.
وما من فكرة وردت في كتاب الأستاذ (السحّار) إلا وقد جاءت متطابقة تماماً في محتواها العام مع ما قاله العالِم والأديب الأزهريّ خالد محمد خالد في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء) حيث بيّن الأستاذ خالد في العديد من صفحات كتابه المذكور حقيقة الحكومة الأموية، وعلى رأسها معاوية وأصحابه. وذكر الأستاذ خالد قول معاوية الذي يفضح حقيقة ابتعاده الكلّيّ المطلق عن الدين وتعلّقه بالدنيا، ألا وهو قوله ((إني لا أحُول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا)) (4).
وذكر الأستاذ خالد تشجيع معاوية للنزعة القبلية وتمزيق وحدة المسلمين ليستقر الأمر له ولولده من بعده، واتصاف عصره وحكمه بالقسوة والإسراف في القتل والتنكيل (5)، كقتل حجر بن عدي وأصحابه بغير جريرة ولا ذنب. وذكر الأستاذ خالد أيضاً وصية معاوية لابنه يزيد بتقطيع من يقف في وجه خلافته إرباً إرباً (6)، وإلى غير ما هنالك من مساوئ أفعالٍ وسوء خصال.
ويكفي أن نذكر هنا أن عمر بن عبد العزيز ذاته حين نظر إلى ولاة أمر المسلمين وقتذاك، قال مقولته الشهيرة التي تُغني عن الكثير من الكلام: ((الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وابن شريك بمصر، وعثمان بن يوسف باليمن!!! امتلأت الأرض والله جوراً)) (7).
وبناءً على كل ما تقدّم، نرى أن السيد محمد الحسيني الشيرازي لم تغب عنه هذه الفكرة أبداً، بل لقد جعلها على رأس أسباب تخلّف العرب والمسلمين، وقد ذكر سماحته في كتابه (الصياغة الجديدة) عدداً من الحوادث التي تقشعرّ منها الأبدان عن فعائل السلطات الأموية والعباسية المتعاقبة، وعن سياسات الحكومات المعاصرة التي انحرفت عن الإسلام ومبادئه وعن القرآن وأخلاقياته.
ويكفي أن نذكر من الأفعال المشينة التي ذكرها سماحته عن السلطات الأموية، وفق ما جاء في كتب التاريخ المعتبرة عند كل الأطراف، أن الوليد – الخليفة الأموي المعروف بفسقه وفجوره – كان يملأ الحوض من الخمر، فيقع في الحوض هو وجواريه ويشربون منه طاقتهم (8).
وللحجاج بن يوسف الثقفي نصيب مما ذكره السيد الشيرازي في كتابه. فقد ذكر سماحته كيف أن الحجاج قد وضع جماعة من الشباب الأبرياء في السجن، وكيف أنه أمر أن تُسدّ في وجوههم منافذ النور والهواء حتى لا يميّزوا الليل من النهار، كما أمر أن لا يطعموهم الطعام إلا بعد مزجه بالرمال، وأن لا يسقوهم الماء إلا بعد خلطه بالملح، فمات أحدهم، فرفض الحجاج أن يواروا جثته حتى تفسّخت ومات الثاني والثالث والرابع والخامس إلى الرجل السادس عشر وأُخبِر الحجاج بذلك فلم يأذن بإخراج الجثث، وإنما أمر أن يهدموا السقف عليهم ليتحوّل السجن إلى مقبرة لهم وليموت الباقون مع رفاقهم، وهذا ما كان (9).
وهنا يأتي السؤال التالي:
أليس هذا (السلف) البعيد كليّاً عن روح الإسلام وعن مُثُله العليا كفيلاً بأن يتسبب لاحقاً بانحطاط المسلمين فيما لو أن الحكومات والسلطات اللاحقة قد اقتدت فكرياً وعملياً بما قامت به تلك الحكومات والسلطات السابقة من أمويين وعباسيين وما شابههم؟؟!!!!
فعندما تقتدي أي حكومة عربية أو إسلامية معاصرة بما قام به بنو أمية أو بنو العباس، وبكيفية تعاملهم مع رعاياهم كقطعان من الماشية، فإن ذلك سيكون كافياً لأن يتحول المجتمع إلى مجموعة كبيرة جداً من أحجار الشطرنج يديرها الحاكم ونظامه كيفما يشاء.
هذه هي الفكرة الأولى التي أراد الإمام الشيرازي قولها بشكل مباشر بكل شجاعة ودون خوف من طاغية أو جبّار في عصر حكوماتٍ معظمها تتصّف بالجور وترتدي الإسلام جلباباً لتغطي قبائح أفعالها نتيجة اقتدائها بمن قد سلف ومضى من سلفٍ لم يكن صالحاً على الإطلاق، فهي حكومات تضع التبرير الجاهز مسبقاً، والمأخوذ من عمق السياق التاريخي، قبل القيام بأفعالها التي لا تقود إلّا إلى المزيد من التردّي والانحطاط.
2 - العنف وفقدان اللين والمرونة
أمّا السبب الثاني الذي يراه سماحة السيد الشيرازي سبباً هاماً في التخلف ودفع المجتمع عكسياً للوراء هو مسألة العنف وفقدان الرفق واللين في التعامل الفردي والجمعي على حدِّ سواء.
يرى سماحته أن أحد أهم الأسباب في عدم تمكّن المسلمين من النفوذ والتقدم والانتشار يرجع إلى غياب اللين والرفق وإلى استخدام العنف في الفكر وفي العمل، وحتى في الكلام والكتابة أيضاً. فنهج الرفق واللين هو النهج المطلوب في بناء الإنسان وإعلاء مستواه الأخلاقي والفكري، وبالتالي إعلاء مستواه الحضاري. وعندما يؤكد سماحة السيد على ذلك، فإنما يؤكد على أن الرفق لا يعني التهاون والهوادة في تطبيق النصّ أو المساس بالسنّة النبويّة المطهّرة، بل المقصود هنا هو اتّباع سياسة الرفق واللين المناقضة لسياسة العنف والإرهاب التي تسلب المرء توازنه واستقراره النفسي والفكري، ذلك الاستقرار الضروري للتفاعل في نسيج المجتمع ككلٍّ متكامل ومتماسك، ومن الطبيعي أن يكون فقدان ذلك الاستقرار دافعاً للفرد للانطواء والانكفاء والابتعاد عن التفاعل الاجتماعي والحضاري الذي تُبنى عليه الأمم والحضارات.
وقد أثبت سماحته وجهة نظره من خلال إيراد الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة الواردة عن الرسول المصطفى (ص) وعن أهل بيته الكرام الأبرار (ع) التي تؤكد ضرورة الابتعاد عن العنف وترويع النفوس الآمنة. فقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) قوله الكريم: ((الرفق رأس الحكمة، اللهم من وُلّيَ شيئاً من أمور أمتي فرفق بهم، فارفق به، ومن شقّ عليهم فأشقق عليه))(10). وقد ورد أيضاً عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: ((إن الله رفيق، يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) (11).
ونحن نعلم أن علم الاجتماع المعاصر يولي هذه النقطة أهمية كبيرة وخاصة نظراً لِما لها من دور في بناء المجتمع بشكلٍ قويم ونهج سليم. فما من مجتمع يسود الرفق والتفاهم بين أفراده إلا ويكون مجتمعاً حضارياً له دوره المنوط به لدفع عجلة التطور إلى الأمام، في حين أن المجتمعات التي يسودها العنف وغياب الوعي المرتبط بالإرهاب، وانتشار الفساد والرذيلة وسيادة القوة العمياء القاهرة، لهو مجتمع مريض عصابيّاً أقرب ما يكون إلى مجتمع الغابة الذي لن يرى للتطور والتقدم طريقاً، ولا ريب في أن المجتمعات العربية والإسلامية في غالبيتها – للأسف الشديد – تنتهج هذا النهج الغريب مبتعدة عن النهج القرآني والنبوي الذي يدعو على الدوام إلى اتباع سياسة الحوار والتفاهم والرفق وأسلوب الدفع (بالتي هي أحسن)، وهذا ما يؤدي بالضرورة إلى عدم استقرار أركان مجتمعاتنا وإلى عجزها الفعلي عن اللحاق بركب التطور والحضارة.
3 - عزلة القيادات عن الجماهير وانكفاؤها في أبراجها العاجيّة
ومن الأسباب الأكيدة التي تعزّز عملية النكوص للوراء بشكل دائم هي مسألة العزلة عن الجماهير وعدم الرغبة في فهم متطلّبات الأفراد والمجتمعات. فموقع الحاكم أو المسؤول هو في حقيقة الأمر زيادة في المسؤولية وليس امتيازاً في السلطة والنفوذ. فكلما كان الحاكم أكثر تفاعلاً مع أبناء رعيّته وأطياف مجتمعه، كلما كان ذلك زيادة في الوعي والعطاء وفي الفهم والاحترام المتبادل بين طرفَيّ المعادلة (الاجتماعية – السياسية).
فعلى الحاكم أن يدرك في نهاية المطاف أنه فرد من أفراد المجتمع وأنه أحد أبنائه، وليس ملكاً قد هبط من السماء أومن كوكبٍ آخر ليحكم الناس كما يحلو له. فمسألة الانكفاء في الأبراج العاجية – وفق المصطلح السياسي الدارج – وانزواء الحكّام فيها لن يكون إلا بمثابة المعول الذي يهدم الأساسَ الذي قامت عليه تلك الأبراج. فالقاعدة الجماهيرية عموماً تحتاج الكثير من مقوّمات الحياة ومتطلّباتها الضرورية، سواء كانت تلك المتطلبات مادية أو فكرية، أو حتى نفسية وروحية أيضاً.
والعلاقة القائمة على معرفة الحقوق والواجبات بين السلطة والشعب، بين الأحزاب أو المنظمات وبين أعضائها، بين الراعي والرعيّة، يعني أن القاعدة الجماهيرية في طرقها للاتساع وفي الخط الصحيح لمسيرها ونهجها. فعلاقة الأعلى بالأدنى يجب أن تكون شبيهة بعلاقة الأب بأبنائه، حيث يقوم برعايتهم وتربيتهم خير رعاية وخير تربية، ويقوم بتنشئتهم النشأة المثلى التي تتفق مع الخط القرآني الذي يدعو إلى الانفتاح على القاعدة الشعبية وإفهامها أن العلاقة معها هي، قبل كل شيء، علاقة إنسانية إيمانية تربوية، وليست علاقة تسلّطيّة بين حاكم ومحكوم أو بين سيد ومَسود.
وقد ورد عن ابن عباس أنه قال: أتى النبيَّ (ص) رجلٌ يكلّمه، فارتعد الرجل، فقال (ص): ((هوّن عليك، فلستُ بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القدَّ))، أي السمك المجفف بالشمس. وكان مراد النبي (ص) من قوله أنه واحد من سائر الناس، فاللازم ألّا يخاطبه مخاطبة الملوك، وإنما مخاطبة الناس العاديين، فلا داعي للخوف والارتعاد أثناء الوقوف بين يديه الكريمتين والتكلّم معه (12). وقد روت لنا كتب التاريخ والسيرة النبوية المطهّرة – على اختلاف مشارب أصحابها – أن الرسول الأكرم (ص)، الذي هو رسول الله وقائد الأمّة، كان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك، وكان إذا مرَّ على إنسان يبدؤه بالسلام وكان (ص) يسلّم على الرجل والمرأة والطفل، وكان يشارك الناس همومها وآلامها وتطلّعاتها، فما كان له حاجب يحجب الناس عنه أو يحجبه عنهم. فهو (ص) منهم ولهم: ((لقد منَّ الله على المؤمنين إذْ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين)) (13).
ومما لا ريب فيه أن مسألة القاعدة الجماهيرية وفقدانها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة هي أحد أهم الأسباب في إعطاء مؤشرٍ واضح للتراجع على مقياس السلّم الحضاري والتطور العصري المواكب لسنن التطور التاريخي، حسبما تنصّ عليه كل النظريات الهامة في علم الاجتماع.
فالمسؤولون وأصحاب القرارات في الدائرة الإسلامية، ممن يمسكون بزمام الأمور، وربما أرباب الحكم في معظم تلك البلدان، يفتقرون إلى القاعدة الجماهيرية المطلوبة. فالشخصيات الاعتبارية من ذوي السيادة والنفوذ، وأصحاب الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الفعّالة في المجتمع، وربما يصل الأمر أحياناً إلى أدنى من ذلك بكثير، أي إلى مستوى الموظف أو المسؤول العادي في الدولة، أو ما شابه ذلك، تجد من الصعب أن تتم مقابلته أو لقاؤه لشرح مشكلة ما متعلقة بفردٍ أو بجماعةٍ حتى يصل الأمر أحياناً إلى أن ينتظر المواطن شهراً كاملاً حتى يحظى (بشرف) مقابلة ذلك الموظف أو المسؤول العادي ليعرض عليه مشكلته أو ليوافق له على طلبٍ ما هو من حقّه الشرعي والقانوني.
فهذه المظاهر الفوقية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى المزيد من اتساع الفجوة بين السلطة السياسية أو الدينية من جهة وبين المواطنين وأبناء الرعية من جهة أخرى. وفي كل الأحوال، فإن هذا الأمر ليس عاملاً من عوامل التقدم على الإطلاق بل هوعلى النقيض من ذلك تماماً.
4 - التقصير العلميّ وتهميش العقل
ولو أتينا إلى نقطة جديدة تُعتبر عند الغالبية العظمى من رجال الفكر والثقافة السبب الأخطر في عملية تدهور أحوال المسلمين ونكوصهم للوراء، لوجدناها مسألة الابتعاد عن طلب العلم والمعرفة.
فمن أعظم أسباب تأخّر أيّ أمّة من الأمم عبر التاريخ هو الجهل والتقصير في طلب العوم والمعارف، وهذا الحال ينطبق على المجتمع الإسلامي أيضاً. فالمجتمع يتطلّب التحصيل العلمي والمعرفيّ التي تطلبها الحياة في حركتها الدؤوبة نحو الأمام. فالحياة عند الحكماء والعقلاء تسير دائماً وفق نسقٍ واضح وخطٍّ بيانيّ تفرضه صيرورة المتطلّبات الإنسانية الدائمة التغيُّر، فالناس في كل عصر هم أبناء الحياة التي تسير بهم وتحثّهم للسير معها إلى المستقبل الذي يجب أن يكون – وفق المنطق والعقل – أفضل وأكثر تطوراً ونضجاً من الماضي ومن الحاضر.
ونحن نعلم أن القرآن الكريم يولي المعرفة والعلم مكانة عظيمة في الكثير من آياته وسوره الإلهية الكريمة. فالله عز وجلّ يقول في محكم تنزيله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات) (14). ويقول سبحانه أيضاً: (وقل ربّي زدني علماً) (15)، وإلى غير ما هنالك من آيات كريمة تحضّ على طلب العلم ونيل المعارف.
فالإمام الصادق (ع) يقول: ((لا يقبل الله عز وجل عملاً إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له. إن الإيمان بعضه من بعض)) (16). وهذا الكلام من الإمام الصادق (ع) هو مصداق قول رسول الإنسانية (ص): ((أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلّهم قيمة أقلّهم علماً)) (17). وهذا يعني أن العلم المطلوب ليس علم الشريعة فقط، بل كل أنواع العلوم والمعارف، شريطة أن تكون تلك العلوم متلازمة مع التحصيل الأخلاقي أيضاً، إذْ ليس هناك من قيمة للعلم ما لم يرتبط العمل به، ومن الطبيعي أن يكون هناك مكان للدافع الأخلاقي في كسب تلك العلوم وتحويلها إلى أعمال تخدم البشرية جمعاء، وقد صدق الحكيم الشاعر عندما قال:
لوكان في العلم من دون التقى شرفٌ---لكان أشرفَ خلقِ الله إبليسُ.
ومن هنا جاءت قيمة العلم لرفع الإنسان والمجتمع ودفعهما معاً إلى مواكبة عجلة الحياة والسبق الحضاري، وهذا للأسف ما تغافل عنه المسلمون وولاة أمرهم منذ زمن طويل.
يقول المفكر والمصلح شكيب أرسلان (1871 – 1946 م) عن دور الجهل في تأخّر المسلمين: ((ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص الذي هو أشدّ خطراً من الجهل البسيط، لأن الجاهل إذا قيّضَ الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، أمّا صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري)) (18). وكان قد سبق أقوالَ شكيب أرسلان أقوالُ وأفكارُ المصلح الاجتماعي الذائع الصيت جمال الدين الأفغاني (المتوفى 1897 م) والتي أكّد من خلالها على دور العلوم في انتشال العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مستنقع الجهل والتخلّف، وأن لا لا مستقبل للمسلمين على الإطلاق دون العودة إلى تعاليم القرآن ووصايا الرسول (ص) بشأن الاستزادة والنهل من بحار العلوم والمعارف المتنوعة والتي هي في حقيقتها معراج المجتمعات إلى التطور والتقدم على سلّم الحضارات، وما على الذي يريد أن يقف على رأي المصلح الأفغاني بشأن دور العلم في الإسلام وتعاليمه إلا العودة إلى مناظرات هذا المصلح مع الفيلسوف الفرنسي الشهير أرنست رينان (19).
وعلى كل حال، فإن المرجع الديني الكبير المعاصر السيد محمد الحسيني الشيرازي (ره) كان من أكثر المراجع والمفكرين المصلحين اهتماماً وانتباهاً إلى أهمية هذه النقطة ودورها الرياديّ في توجيه خط سير المسلمين.
فالسيد الشيرازي يؤكد على الدوام على أن الأمم لا ترقى إلا بالعلوم ولا تهلك وتندثر معالمها إلا بالجهل وبتغييب العقل الذي هو أساسٌ في الدين الإسلامي، ولذلك فإن المسلمين قد أخذوا يتقهقرون عندما توقفوا عن الأخذ بالأسباب الأساسية للرقيّ، والعلم، كما هو واضح، سبب هام في الرقيّ والتقدم. ومن هنا كان لزاماً على المجتمعات الإسلامية أن تحترم العلم والعلماء، وذلك لأن ((للعلماء مكانة خاصة في القلوب واحترام كبير من قبل الناس، فاللازم على المنظمات والأحزاب والهيئات الإسلامية التي تريد الوصول إلى الأهداف البعيدة - بتطبيق حكم الله وإنقاذ البشرية من ظلمات الجهل والمشاكل – أن لا يحاربوا العلماء)) (20).
وقد استدلّ سماحة السيد على صدق مقاله بالعديد من الأحاديث النبوية الشريفة، مثل حديث: ((علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل)) (21)، هذا بالإضافة إلى العديد من الأحاديث الأخرى عن أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة (ع)، تلك الأحاديث التي تحذّر الإنسان المسلم، بل الإنسان عموماً، من ترك طلب العلم ومن الركون إلى الجهل وإضعاف مكانة العقل في استكشاف الوجود.
وهذا بالتأكيد يعني أن الذي يرفض تعاليم الإله الحكيم وتعاليم رسوله (ص) وأهل بيته (ع) ويرفض الحكم والعيش بما جاءوا به من قِيَمٍ وتعاليم ووصايا سيخسر بالتأكيد موقعه في الدنيا والآخرة، وذلك لأن الله تعالى قد ارتضى حكماً وشريعة لإدارة البلاد وقيادة العباد، وبالتالي فشريعة الله وحكمه ليست خياراً حتى يختاره الإنسان أو يرفضه، بل هي حتمٌ وقضاء لا بديل عنه بالنسبة للمؤمن الحقيقيّ، وقد عبّر الله عن ذلك بقوله: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصَ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا)) (22).
وبالتالي، فإن التطور الحاصل في الحياة في ظل المنهج والقوانين الإلهية التي تحكم الأفراد والمجتمعات، يعني ذلك أن ذاك المنهج وتلك القوانين تحتوي على كل الإمكانيات لاستيعاب ذاك التطور والتقدم في الحياة، وأن كل تطور في حياتنا محسوب الحساب له من قِبل الله سبحانه وتعالى، لأنه عزّ وجلّ ما كان ليخفي شيئاً عن عباده طالما أنه قد أعطاهم مفاتيح العلوم، وما كان ليدعهم حيارى لا يهتدون سبيلاً وقد أرسل إليهم الرسل والأنبياء (ع) يحضّون الناس على طلب الهداية واقترانها بطلب العلم والعمل على حدٍّ سواء.
ولهذه الأسباب كلها، كان سماحة الإمام الشيرازي يرى أن ترك هذه الأمور يعني بداية التراجع ومقدمة الانحطاط، فالعلم دين يُدان به. وبالتالي، لا يمكن لأيّ أمّة أن تخرج من قمقمها الضيق ما لم تحطّم ذلك القمقم الضيق المظلم الخانق إلى الفضاء الواسع الرحيب، إلى عالم النور والضياء واستكشاف الواقع ومعرفة قوانينه والأسباب التي تحكمه على ضوء تعاليم الله ووصايا رسله وأنبيائه وأوصيائه (ع).
كلمة أخيرة
وفي نهاية المطاف، ليس لنا أن نتوسع هنا أكثر ذلك في البحث عن أسباب انحطاط المسلمين وتراجعهم عن الركب الحضاري العام، لأن هذا الأمر يتطلب منا أن نكتب كتاباً مستقلاً عن ذلك شارحين فيه بالتفصيل نظرية السيد الشيرازي حول هذا الموضوع الجوهري الهام.
وبالتأكيد لن نكتفي بوضع اليد على مكامن الألم وعلى الجرح، بل سنحاول جاهدين وصف الدواء الناجع لذلك الداء الوبيل، وذلك على ضوء ما جاء في معظم مؤلفات ومحاضرات السيد محمد الحسيني الشيرازي من جهة، وحسب ما جاء في كتابات كبار مفكّريّ وأرباب الثقافة في العالم من جهة أخرى، عسى أن يكون هناك من يستجيب لدعوة الإصلاح والنهوض من جديد ويعيد الوجه الناصع للمسلمين الذين عاشوا في ما مضى عصراً كاملاً مزدهراً عُرِف باسم الحضارة الإسلامية، وعسى أيضاً أن يكون هناك من يلقي السمع وهو شهيد.