خصائص ومقومات المنهج الاسلامي في النقد الأدبي الحديث
د. عبد الكريم أحمد عاصي المحمود
2022-05-19 06:36
توطئة: فوضى الساحة النقدية
لقد عاث نقاد الحداثة فساداً في الساحة النقدية العربية والإسلامية، اذ لم يضعوا في مقاييس منهجهم النقدي حساباً للمقدسات والشرائع والمثل بل على العكس ذهب بعضهم الى وضع مقاييس مضادة تنصّ على الفصل بين الفكر والفن، وذهب بعضهم الى ابعد من ذلك فدعوا الى رفض الفكر تماماً أياً كان، وإن كانوا هم أنفسهم لم يأخذوا بالمبدأ الذي دعوا اليه لأنهم في حقيقتهم لم يرفضوا الفكر كله بل رفضوا منه الفكر الديني والأخلاقي والتنظيمي فحسب، على حين توجهوا بكل قواهم الى إقامة فكر الحادي متحلّل فوضوي يحل محل الفكر الأول كما وجدنا ذلك عند ادونيس وغيره، وهذا كله أدّى بالادباء والشعراء خاصة إلى عدم الالتفات إلى الفكر فاذا فعلوا فإنهم لا يصرّون على محاسبة أنفسهم قبل أن يخرج عملهم الادبي إلى الناس، فتأتي أعمالهم مشوشة فكرياً أو منحرفة أو ساقطة.
فأمر ذلك هيّن عليهم ما دام هيناً على النقاد بل مقبولاً لدى بعضهم بل مطلوباً ومؤكداً عليه عند بعضهم الآخر. وهكذا أصبح الناقد يشجع الأديب على الانحراف والسقوط الفكري، وتمادى كل منهما في الخروج على كل قاعدة في الادب أو النقد.
ضرورة المنهج الاسلامي
لقد أصبح وجود المنهج النقدي الإسلامي ضرورة ملحة فلا يتوقف هذا الانحدار والتدهور الاّ بوجود تيار نقدي إسلامي جريء يرسي قواعد الأدب والنقد على أسس متينة قابلة للتطوير لا التغيير، والاضافة لا الإلغاء، والبناء لا الهدم " ويجب أن نعترف أن من قدر له أن يحمل مشاعل هذا التيار لابد أن تكون فيه صفات الفدائي، لأن عليه أن يفجر برصاصة واحدة هي صوته وإيمانه بما يقول، مجمعاً سلطوياً مدرعاً لاولئك الذين أسهمت سنون وسنون من التربية الاستعمارية والفكر الإلحادي والثقافة المنحرفة المستوردة في بناء قلعتهم التي شيّدوها داخل أرضنا المسلمة "(1). وتتأكد الحاجة الى منهج النقد الاسلامي بعد ماعرفنا ماتزخر به ساحة النقد العربية المعاصرة من تخبط منهجي مابين تبن ٍ للبنيوية والتفكيكية ومدارس التحليل النفسي وغيرها.
"فهذه الساحة بالذات بحاجة ماسة الى منهج نقدي متزن يستند على خلفية فلسفية رصينة تنظم المقولات وتحاور النصوص وتقدم معطياتها الفكرية والمعرفية والثقافية، وهذا المنهج يجب أن يتصف بالأصالة والحداثة ووضع الأنا بشكل متناسق ومتوازن في حوارها مع الآخر بشكل غير متعال، من قبيل عدم تعظيم الجانب الفردي على حساب استصغار الجانب الجماعي"(2).
ومن المؤكد أن المنهج النقدي الاسلامي هو الأقدر على تسلم مقاليد هذه الساحة النقدية لأسباب كثيرة أهمها شهرة هذا المصطلح وقربه من ميادين الدراسات المنهجية العربية، وتنوع الكتابات العربية وكثرتها في معالجة قضايا هذا المنهج، وتجنب مقولة النقد العربي للابتعاد عن الخوض في مزالقه الايديولوجية والإقليمية والخلافات المفتعلة القائمة في طروحاته، والابتعاد عن تركات النقد العربي على صعيد التداول والممارسة بسبب محاولته لاختزال اللغة والأدب والنقد في خصوصية عربية غائبة (3). و"كما نحن بحاجة الى أدب إسلامي معاصر يواكب حياتنا ويعبّر عنها، فنحن بحاجة إلى نقد إسلامي معاصر يواكب هذا الأدب ويؤصّل له أصوله ويضع له معالمه وصواه "(4). والحق أن وجود وانتشار حركة نقدية إسلامية سيحقق ولاشك اكثر من هدف، فهو سيأخذ بيد الأدباء وبخاصة الناشئين منهم، يشجعهم ويسدد خطاهم ويعينهم على مواصلة الطريق.
كما أنه سيقول لهم إن عليهم أن يمروا من هنا وأن يتجاوزوا المرور من هناك، ويكشف لهم من خلال دراسة أعمالهم نفسها مالم يكونوا قد اكتشفوه فيزيدهم ادراكاً لأنفسهم والماماً بهذه الاعمال، وهو من خلال عروضه المقارنة ورؤيته الشمولية سيغني إبداعهم ويضيف اليه ويمكّنهم من التحقق بهذا الاغناء وتلك الاضافة كما انه بمعاييره الخاصة وضوابطه المتفق عليها سيمنع نتاجهم من التبذل والمجانية والخروج على قواعد الفن الاصيل، ويعلمهم كيف يكون احترام الشروط الفنية لأي نمط من انماط العمل الابداعي، وقد ينبه الناقد الى المساحات والتكوينات التي كان يتوجب على الاديب ألاّ يتجاهلها، وربما أشار الناقد على الأديب بأن يرجع إلى هذا العمل أو ذاك الكتاب مما فاته أن يطلع عليه، فيكون بهذا قد منحه فرصة أوسع لتحسين إبداعه وتجاوز اكبر قدر من النقائص والعثرات.
وللحركة النقدية –فضلاً عن هذا كله– وظيفة اخرى ذات أهمية بالغة تمثل ضرورة قصوى في حلقات الادباء الاسلاميين على وجه الخصوص، إنها تحقيق التواصل بين هؤلاء الادباء وتعميقه وإغناؤه حيث تقيم الحواجز الجغرافية وغير الجغرافية بينهم سدوداً وحواجز يصعب عليهم اختراقها منفردين، لكي يُسمع كل منهم صوته الآخر ويُري عمله للآخر، ويسمع كل منهم من الآخر صوته ويرى اعماله. إن حضور حركة نقدية اسلامية تنتشر على مدى العالم الاسلامي وتتابع بوعي وحرص ومنهجية جلّ ما يصدر عن ادبائه الاسلاميين، لهي بحق ضرورة من أهم ضرورات دعم الأدب الإسلامي (5).
مرجعية المنهج الاسلامي
ولا يعد حضور هذه الحركة المنهجية عسير التحقق اذا علمنا أن مصادرها الاساسية ما تزال عتيدة نابضة بالحياة متمثلة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة وعلوم الامة، كمرجعية فكرية للنقد الاسلامي بالاضافة الى ما تراكم من خبرات العقل المسلم عبر تجاربه في قضايا الفكر والادب والنقد، وهذه المرجعية الفكرية المهتدية بعلم الوحي هي التي تُخضِع المتغير للثابت وتعمق العلاقة مع الحق، وفي المنظور الجمالي والفني يخضع الفن لخدمة الحقيقة وتجلياتها في الابداع.
ثم هناك المرجعية الادبية "التي يمكن ان تشكل الرؤية الجمالية والأدبية للتفاعل مع الحياة من خلال الرؤية الفكرية للعقل المسلم، ومن خلال ماحققه من النصوص الابداعية عبر تاريخه العريق الممتد من العصر الجاهلي الى عصرنا الحديث، وما يمكن أن يستخرج من قوانين الابداع ومقاييسه من خلال هذه النصوص وتطورها الفني والجمالي، وما يتكرر من قوانين هذا الابداع لنتعرف على الخاص والمشترك والاضافي في هذه النصوص التي هي المادة الاولى لاستخراج نظريات النقد الاسلامي، من خلال انجازات النص الادبي الخاضع للرؤية الفكرية التي تمثل خصوصيات العقل المسلم ومعاييره في النقد "(6) اذ يتمكن الناقد الاسلامي بهذه المعايير المحكمة من اتخاذ الموقف الملائم من جميع الاتجاهات والمناهج النقدية الاخرى، سواء منها ما يتعلق بالنقد العربي القديم أو ما يتعلق بمناهج النقد الغربي الحديث.
فيتمكن من غربلة التراث النقدي وتصفيته من آثار النقد الاعجمي وبخاصة نقد اليونان كأثر كتاب (الشعر) لارسطو وغيره. ويستطيع كذلك تجاوز ما وقع فيه النقد القديم من تقصير في ترك مهام الامور الادبية والقضايا الفنية الخطيرة والتعلق بالجزئيات والتفاصيل كمشكلة السرقات واشكالية المقدمة الطللية وغير ذلك، مما جعل نظرياتهم واستنتاجاتهم قاصرة جزئية لا تشفي الغليل ولاتفسّر الظواهر الحقيقية للأدب، فضلاً عن كونها غير مجموعة ضمن هيكل عام مما يضيف صعوبة اخرى في الإفادة منها. لذا يصبح من الضروري جداً وجود منهج نقدي اسلامي يفيد من التراث النقدي بعض القواعد والمبادئ الصحيحة والصالحة، ثم يعمل بذكاء وخبرة على صبّها في قواعد أخرى أعم وأشمل (7).
موقف المنهج الاسلامي من مناهج النقد الغربية
يمكن أن يفيد المنهج الاسلامي من مناهج النقد الغربية بعد معرفة الذات المسلمة وتحصينها لأن "معرفة الذات وتحصين الذات شرط اساسي للانفتاح، وإلاّ أدى الأمر بنا الى الانسلاخ، وفرق بين الانفتاح وبين الانسلاخ...فلابد إذن من معرفة الذات وتحصينها وبعد ذلك لك أن تنفتح لأنك– آنذاك– تعرف كيف تعيد تشكيل ماتقرأ وكيف تنتجه انتاجاً جديداً مناسباً لذاتك ومناسباً لشخصيتك"(8). وإن العمل النقدي الذي يستسلم بالكلية لإغواء المعطيات الوضعية الخاطئة ينتهي الى حشد من الاخطاء فضلاً عن ارتطامه مع بداهات المنظور الاسلامي نفسه، وهكذا يمكن للناقد الاسلامي أن يفيد من معطيات النقد الوضعية في مجالات المنهج والموضوع بشرط أن يحتفظ هذا الناقد برؤية ايمانية وتصور اسلامي يحكم به على تلك المعطيات ويوظف عناصرها الصالحة لتحقيق نفاذ أعمق في صميم العمل الأدبي. "ومن خلال هذا المنظور نفسه يمكن للناقد المسلم أن يفيد –الى حدّ ما– من النظريات والوجهات العديدة التي طرحت عبر الزمن لتفسير النص الادبي: بالمؤثرات البيئية حيناً وبالدوافع النفسية حيناً آخر وبالتركيب الاجتماعي حيناً ثالثاً وبالعوامل الجمالية الصرفة حيناً رابعاً... الى آخره، ولكنه يتوجب أن يظل على طول الخط ممسكاً بالعصا من أوسطها محاذراً تجاوز نظرته الشمولية وموقعه الوسطي، ساعياً الى الابتعاد عن مظنة الرؤية احادية الجانب محاولاً ان يلمّ شتات التفاسير جميعاً ويكامل بينها من أجل التحقق برؤية اكثر عمقاً وشمولاً للنص الذي بين يديه "(9).
ويرى بعض النقاد الاسلاميين أن المقبول أخذه من مناهج النقد المعاصر هو مايتعلق بالتقنيات الفنية ووسائل الاداء الجمالية مع ضرورة غربلة هذه التقنيات والوسائل لتمييز ما له ايحاءات جاهلية عما هو حيادي لا يضر بقواعد المنهج النقدي الاسلامي أو يتناقض مع الحقائق الثابتة فيه، ومن الواضح أن هذه الاستفادة المشروطة من مناهج النقد الغربية لا تناقض الدعوة الى اقامة المنهج الاسلامي في النقد الأدبي لأن الاسلام لا يعارض الحقائق ولا ينكر النتائج الصحيحة مهما كان مصدرها" وقد نستثني من هذا حالة واحدة ألا وهي مشكلة ترجمة العلوم الانسانية وماله ارتباط بها من قريب او بعيد. إن هذه المشكلة تفرض نفسها على بساط البحث لأن ترجمة علوم المادة لأخطر لها مادامت تبين للناس ماخلق الله. أما نقل النظريات والآراء حول الانسان ذاته من حيث طبيعته وأصله ورسالته وهدفه في الحياة ومصيره فهذا خطير لأنه يفتح الباب على مصراعيه امام ولوج الضلالات والخرافات والتصورات الباطلة.
من هذا يتجلى لنا أن دراسة مناهج النقد المعاصر –على ضوء الاسلام– تهدف الى نقدها نقداً دقيقاً يرينا الحقائق والمباديء الصحيحة فنضمنها منهجنا النقدي الاسلامي، كما يرينا النتائج الخاطئة والنظريات الباطلة فنرفضها على مستويي التنظير والتطبيق"(10) كمعطيات التحليل النفسي لفرويد والمادية التاريخية لماركس وانجلز ومذهب النشوء والارتقاء لدارون والعقل الجمعي لدوركايم. فالواجب على الناقد الاسلامي أن يتعامل مع هذه المعطيات بحذر شديد في ضوء ما يتوافق مع تصوره الاسلامي "ولا يصح أن تكون هذه المعطيات قيداً على حركته أو تتحكم في رؤيته الخاصة لانه ما لم يتحرر من الحتمية التي تتوهمها هذه العلوم، أضرّ بإبداعه وانحرف عن الحقيقة، فالمعرفة بهذه العلوم والافادة منها لاتعني الترويج لها أو التقيد بما انجزته"(11). ومع ذلك فلا يقوم الناقد الإسلامي بتخطئة هذه العلوم جملة أو يعتبرها شراً في ذاتها، بل تكمن قيمتها في مضمونها الذي تحمله والغاية التي تؤديها.
ويمكن للناقد الاسلامي أن يفيد من معطيات الادب الغربي في نقد الحضارة الغربية وقيمها ومذاهبها كما فعل الاستاذ محمد قطب في استدلاله على المعتقدات اليونانية بأسطورة سيزيف وبروميثيوس (12)، وكما استدل الدكتور نجيب الكيلاني بتيار المجون في الأدب الغربي شاهداً حضارياً على تردي الوضع الانساني في المجتمعات الغربية(13)، وكذلك ما اتخذه الدكتور عماد الدين خليل من شواهد الفوضى في المسرح الغربي دليلاً على مايعانيه الانسان الغربي من ازمات فكرية وحضارية ولايجد لها حلا ً إلاّ في الاسلام(14)، واحتسابه القيم الايمانية في مسرحية (مركب بلا صياد) للكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا، دليلاً على ادانة الوجود الحضاري الغربي (15)، وتحليله لكتاب (الصرخة المختنقة) للكاتب الانكليزي جون سترايتشي، يعد كشفاً للزيف والتناقض في الماركسية من خلال عرض ودراسة خمس من المعطيات الادبية في أوربا وانجلترا وأمريكا وروسيا، وهي تمثل أدب الرفض للماركسية(16)، وبالاضافة الى هذه الفائدة المبدئية فإن دراسة مذاهب الادب الغربي –على ضوء معاييرنا واصالتنا– تفيد الادب الاسلامي أيما افادة من جهة اكسابه وسائل عصرية وامكانات فنية تساعد على معالجة موضوعات الساعة وقضايا العصر معالجة مفهومة الاساليب واضحة الاشكال.
أما بالنسبة لمصطلحات النقد الغربي فينبغي على الناقد المسلم أن يحترز من استخدامها "لأن معظمها ذو طابع ايديولوجي غربي فاسد فلا يجوز أذن أن يتأثر بها نقادنا خشية تغلغل اساليب الغزو في تفكيرنا وادبنا وتصوراتنا وموقفنا. وقد ثبت علمياً أن أفراد المجتمع الذين يفرض عليهم التفتح اللامشروط يتغير تكيفهم تدريجياً – شعروا أم لم يشعروا– فيستحيلوا نُسخاً مكررة لأصولها الاجنبية... من هنا نلفي كثيراً من نقادنا ينخدعون ببريق المصطلحات المعاصرة ظانين أنها (علمية خالصة). والحق يقال إن جلّها يستمد ماهيته من مصادره الايديولوجية ولكي يلقى رواجاً لدى النقاد السذج فإنه يسلك مسلكاً (علمياً) مموهاً "(17) لهذا فلابد للناقد المسلم من نبذ المصطلح الغربي المتحكم بمناهجنا، بل لابد من مجاهدة هذا المصطلح وآثاره وما يتركه في النفوس من الانحراف.
وتجب العودة الى منهج اسلامي صاف يمتاز عن غيره من المناهج بما يمتلكه من مصطلحات ومضامين نابعة من واقعه، واقع القاعدة الاسلامية في الفن والفكر عموماً (18). ورغم ذلك فقد رأى بعض النقاد الاسلاميين أن الانفتاح على العالم بمناهجه النقدية المختلفة يعدّ ضرورة لابد منها للولوج داخل بنية المناهج المغايرة لتقليب اوراقها والكشف الدائم عن ايجابياتها وسلبياتها (19)، وأن الانفتاح على العالم واحتضان تجاربه العديدة يعمق من المقاييس النقدية لدى الناقد ويكشف له عن مواضعات عديدة يمكن ان تسهم في بلورة العملية النقدية(20). وأن الاستفادة من الخبرة الغربية تزيد المنهج الاسلامي نمواً وخصباً واكتمالاً وتقربه اكثر من لغة العصر ومن الوصول الى الآخرين خارج دائرته لكي يقنعهم بمعطياته في هذا الجانب أو ذاك ويكتسب في الوقت نفسه أدوات اكثر قدرة على التعبير عن الذات وادراك الابعاد الحقيقية للإبداع (21). ولكن ثمة من يتوجس خيفة مما قد يؤول إليه التعامل مع المعطيات الادبية عامة والغربية منها على وجه الخصوص، من تدمير لمثلنا وأخلاقنا وتخريب لبداهاتنا وأفكارنا وتشويش لتصوراتنا ورؤانا بسبب ما تحمله مضامينها وأشكالها أحياناً من قيم تخريبية مضادة على كل المستويات.
هذا صحيح الى حد كبير وبخاصة في دائرة مثقفينا الناشئين ولاسيما أنه ما من مرآة كمرآة الأدب والفن تنعكس عليها تصورات امة من الأمم وقيمها وممارستها وإذا كان القوم هناك قد بلغوا حد الشذوذ والجنون والإغراق والتفكك والانحلال والدمار، فإن العدوى قد ينقلها العمل الأدبي فيصيب بها قوماً أصحاء. وبتركيز بالغ، فإن مجابهة هذه الاحتمالات قد تتحقق بمزيد من التحصن بعوامل الصحة والعافية والسلامة الفكرية والوضوح العقائدي، وحين ذاك لن يكون التوغل في معطيات الآخرين (المضادة) مما يُخشى منه، على العكس إنه سيفيد مثقفينا في اثنتين، فأما أولاهما فهي ما نحن بصدده من تعميق وعيهم الأدبي وشحذ طاقاتهم ومنحهم قدرات اكثر مضاء في أعمالهم الإبداعية، وأما ثانيتهما فهي الاطلاع من خلال اكثر المرايا وضوحاً على مايعانيه القوم الذين شردوا عن هدي الله من فوضى وتخبط وتناقض وتعاسة وشقاء وتحلل ودمار، الأمر الذي يزيدنا تشبثاً بموقفنا واعتزازاً بهذا الدين الذي كرمنا الله به وأخرجنا بتعاليمه من الفوضى والتخبط والتناقض الى الاستقرار والاستقامة والوئام، ومن والتعاسة والشقاء الى الفرح والسعادة ومن التحلل والدمار الى التماسك والاستمرار(22).
خطورة الركون الى المناهج الغربية
في مجال النقد الأدبي على وجه الخصوص، رأى بعض النقاد الاسلاميين امكانية الافادة من مناهج النقد الغربية بانتقاء العناصر الملائمة منها وتوظيفها في حقل المنهج الإسلامي، كما نجد ذلك لدى الدكتور محمد اقبال عروي الذي حاول الافادة من بعض مناهج الغرب الشكلية وتوظيفها في استراتيجيته النقدية وبالاخص في ميدان السرد عند تحليله لرواية (حكاية جاد الله) لنجيب الكيلاني حيث قال: "لقد حرصت على تمثل البرنامج السردي كما نجده عند جماعة (انتروفيرن) كما حاولت الاستفادة من منظومة(الحوارية الباختينية) بالاضافة الى بعض المفاهيم المرتبطة بالمنهج البنيوي كالبنية والنسق والثنائيات، مطعّماً ذلك بمفهوم الرؤية للعالم عند (لوسيان كولدمان) الذي سبق طرحه مع الادب الاسلامي من قبل، دون التمادي داخل تلك المناهج ونسيان المفاهيم الادبية الاسلامية التي أرشح أن تكون مظلتي في هذا التعدد الاستفادي... ولابد من أن تتخذ المفاهيم الاسلامية وظيفة المظلة لإيماني العميق بأن معظم تلك المناهج قد آلت الى فصل النقد الادبي عن المعطيات والاحالات المرجعية المتمثلة في العوالم الخارجية عن اطار النص الادبي"(23) ثم يشير الناقد الى عيب التجريد أي الايغال في التعقيد في هذه المناهج الشكلية، وهو امر مرفوض في المنهج الاسلامي الذي ينبغي أن يتخذ حالة التوسط بين التجريد والتبسيط.
وهنا يتساءل الناقد ثم يضع لتساؤله جواباً مفترضاً حيث يقول: "هل يمكن اعتبار تغييب المستوى المضموني والمرجعي من حقل المناهج النقدية الجديدة عاملاً يكمن وراء ذلك التجريد والتعقيد اللفظي والمعنوي اللذين نلمسهما في الكتابات النقدية الجديدة؟ واذا كان الجواب بالايجاب، ألا نستطيع الجزم بأنه في حالة ما اذا عاد للممارسة النقدية وللخطاب الابداعي مستواهما الدلالي الشامل للعناصر الاجتماعية والأخلاقية والسياسية فسيعود لهما توجههما ووضوحهما المتسم بالبساطة وعمقها المخالف للغموض والتجريد؟"(24). ثم ينطلق الناقد عروي بتحليل رواية (حكاية جاد الله) استناداً الى مفهوم النص القائم على الاختلاف بين مستوياته المتعددة عند جماعة انتروفيرن مشيراً الى بعض ما اختص به الكيلاني في تعبيره الروائي منكراً عليه امتناعه من توظيف بعض التقنيات الاسلوبية الحديثة في اعماله الروائية، وعدم استيعابه التام لبعضها الآخر كتقنية التعدد اللساني باصطلاح باختين حيث تم هذا التعدد في الرواية بنسب متفاوتة بالقياس لما فيها من تسطيح ومبالغة في لغة بعض الشخصيات.
وحاول الناقد بيان هذه الإشكالية وشرح أسبابها في الأدب الإسلامي عموماً. ثم انتقل الى تقنية التهجين – كما هو عند باختين – وما يتعلق به من اهداف التكثيف والتوتر والايحاء، وبعد تطبيقه على نماذج من الرواية رأى أن تعامل الكيلاني مع هذه التقنية كان محدوداً كتعامله مع تقنية الأسلبة، وعلل ذلك بأن " الكيلاني لم يروض قلمه بعد على مثل هذه التقنيات الجديدة التي قد يكون له موقف منها او قد تكون راجعة الى عدم تمكنه من الاطلاع الواسع والمختص على الدراسات النقدية الحديثة وما طرحته من امكانات وأساليب جديدة ومتنوعة "(25). ثم تناول الناقد الأبعاد الدلالية والرؤيوية في لغة الرواية ابتداءً من عنوانها الذى رأى فيه نوعاً من التضليل أو المفارقة باعتباره عنواناً لرواية حديثة لها بنيتها الخاصة وتقنيتها الاسلوبية المختلفة عن الحكاية. ووقعت المفارقة ايضاً في اسم (جاد الله) الموحي بكل خير بعكس واقعه الروائي تماماً. وأخيراً حاول الناقد تحليل الدلالة النصية للرواية ورأى فيها تعرية شاملة لواقع الفساد في الحياة المصرية وكشفاً لأسباب هذا الواقع النفسية والسلوكية.
وقد تساءل الدكتور سيد عبد الرازق – في معرض تقييمه لهذه التجربة النقدية – عن مدى نجاح الناقد عروي في منح تجربته روحها الاسلامية وهل استطاع منهجه تحقيق غايات الناقد الاسلامي في الاضاءة والكشف والتحليل والتوجيه وتفسير الدلائل والظواهر النصية تفسيراً إسلامياً؟ ونبه الدكتور عبد الرازق على أن الاجابة عن هذا التساؤل هي بؤرة القيمة في جدوى التجربة وامكانات الافادة منها في ميدان النقد الاسلامي. وفي اطار البحث عن ذلك الجواب أشار الدكتور عبد الرازق الى "أن الناقد حرص في مجال عرض منهجه النظري على حضور ما اسماه بالمظلة الاسلامية التي سيحتمي بها من الاحتراق في أتون المناهج الوافدة إلاّ أنه على المستوى التطبيقي قد اختفى تماماً عن تلك المظلة ولم نجد لها اثراً إلا عارضاً او باهتاً، فالواضح أن الادوات المنهجية التي استرفدها الناقد، منها ما ينتمي الى دائرة البنية ومنها ما ينتمي الى دائرة الاسلوب، وفي كلتا الدائرتين يتم التحليل على اساس جمالي ينعدم معه التوجيه الاسلامي للممارسة النقدية، كما أنه حينما تساءل عن الأبعاد الدلالية للرواية جاء ذلك بمثابة التذييل على المتن التحليلي، وهذا يعني عدم قدرة الادوات المنهجية الشكلية على الاستجابة لمتطلبات منهج آخر"(26).
ورأى الدكتور عبد الرازق أن هذا القصور يكشف عن خلل جسيم في الأساس المنهجي الذي بنى عليه الناقد عروي محاولته حين جعل الاسلامية تتخذ وظيفة المظلة في ممارسته النقدية، في حين كان ينبغي عليه أن يتخذها قاعدة تنبثق عنها سائر الفروع وتتشكل وفقاً لمتطلباتها لأن الاسلامية قادرة بذاتها على توليد منهجها الخاص الذي يتكون انطلاقاً من مبادئها وأهدافها دون أن يتنكر للاستفادة من المناهج المغايرة. ثم اخذ الدكتور عبد الرازق على الناقد تشكيله لمنهجه من مجموعة روافد منهجية مختلفة دون اداة منهجية واحدة تدل على خصوصية ما هو بصدده من محاولة تأسيس منهج اسلامي في النقد، إلاّ محاولته احضار المستوى الدلالي الذي غيّبته المناهج الاخرى.
ومن ثم كانت حدّته في إجراء الادوات المنهجية على النص الروائي دون مراعاة لخصوصيات منهجه الابداعي ولذلك كان متوتراً في رفع شارات اللوم والإدانة للكيلاني لأنه لم يتوغل صوب العوالم الغامضة التي تتطلبها تلك المناهج وتقنياتها الجديدة كالتعدد اللساني والتهجين والأسلبة، ويتعدى الناقد بإدانته حدود الكيلاني الى المنطلقات الاسلامية التي اصبحت في ظل ذلك معوقاً عن التقنيات الحديثة والمتلقي المسلم الذي يمتلك عقلية شرعية، حتى إن هذا وذاك ليضع الروائي المسلم بين المطرقة والسندان على حدّ قوله! وقد حاول الدكتور عبد الرازق أن يدافع عن الناقد بخصوص هذه الإدانة الاخيرة، ويجد لها مسوّغاً منهجياً فقال:" ولانعتقد هنا أن الإدانة مقصودة بمعناها الواضح في حسّ الناقد، وإنما الذي حدا به اليها هو النزول الحرفي على الادوات المنهجية الشكلية ومحاولة قسرها على النص وتناسي أوجه الاختلاف بينه وبين الاسلامية في الاصول والغايات والمناخ الحضاري، لأن ذلك كله – مهما حاولنا التجريد – ممتد في المنهج، فهو ليس إلاّ الاجراء التطبيقي لتمخضات ذلك كله، والاداة – شئنا أم أبينا – هي جزء من ذلك المنهج المتلبس بأصوله وملابساته، ولهذا فإن تجريده عنها وهمٌ اكثر منه حقيقة "(27).
وأبدى الدكتور عبد الرازق عجبه في شجب الناقد مقولة عدم الفصل بين المنهج ومحيطه الذي ترعرع فيه زاعماً أن هذه المقولة تخنق الظواهر الادبية في شرك المحاكاة للمناهج العلمية الصرفة ناسياً ما أكده سالفاً من أن الظواهر الادبية اكثر ارتباطاً بمحيطها الذي نبتت فيه. ومن ثم سقطت ممارسته النقدية في تجاوزات جسيمة يمكن ان نلمح مظاهرها في تشدد الناقد في اللوم للكيلاني بخصوص تقصيره في التعدد اللساني الذي يقود مباشرة – عند الأخذ به – الى التصادم الواضح مع الغاية الاسلامية في المحافظة على اللغة. إضافة الى قصور المنهج في إضاءة الامتدادات الاسلامية في بنية النص، وكذلك قصوره في مساءلة المبدع من وجهة إسلامية عن أوجه القصور التي تراءت في بنية النص إي عدم تجسيده للبديل الاسلامي الشامل وإنما تم تبريره بمنطق التعدد اللساني ! كما أن تحليله لبنية النص كان من مدخل مخالف تماماً للمنطلق الاسلامي القائم على التوافق لا الصراع، ولهذا فإن الدخول الى النص من زاوية الاختلافات والتباين بين اجزائه يمثل خروجاً واضحاً على المنطق الاسلامي في الشكل الجمالي القائم على التوافق والانسجام.
ويؤخذ على الناقد ايضاً تحول الاستفادة من المناهج في حسه من وسيلة الى غاية تفوق في طلبها غاية الاستقلال عن تلك المناهج، كما يؤخذ عليه تقصيره في الغايات التي اشار اليها نظرياً من أن استراتيجيته تهدف ضمن ماتهدف الى التموضع داخل منهج الغير وتقليب أوراقه والكشف عن ايجابياته وسلبياته. فلم نجد أية إشارة الى سلبية أو شبه سلبية بل وجدنا نزولاً حرفياً على مقتضيات تلك المناهج ومحاولة قسرها على النص بالاكراه (28). إن تجربة الناقد عروي لهي دليل واضح على خطورة الركون الى المناهج الغربية بوصفها أدوات عملية في تحليل النص الادبي وذلك لارتباط تلك المناهج بأصولها النظرية.
وتزداد هذه الخطورة على المنهج الاسلامي ذاته عند غفلة الناقد عن الارتباط الوثيق بين المناهج الغربية وأصولها الفلسفية والعقائدية، لذلك ينبغي عليه التأني والفحص الدقيق وعرض المناهج على المعايير الاسلامية الأصيلة.
وبناء على ما تقدم يتعين أن تتم الاستفادة من المناهج الغربية في ميدان الممارسة النقدية الاسلامية طبقاً لما يأتي:
"أولاً: ان هذه الاستفادة لايمكن ان تتم بصورتها المرجوة بتركيب مجموعة أدوات من مناهج مختلفة وتعليق لافتة اسلامية على واجهتها الخارجية، وإنما ينبغي أن تنبثق الادوات المنهجية من محيط النمهج الاسلامي بأصوله وغاياته ومقتضياته المعرفية والجمالية وخصوصيات البناء الجمالي في النص موضع المقاربة. وحينئذ تجيء الاجراءات المنهجية انبثاقاً عفوياً لذلك كله ولامانع في اطار ذلك من الاستفادة من ادوات تنتمي الى مناهج مغايرة على ألاّ تكون تلك الأدوات في مجموعها هي المنهج أو حتى تطغى على الادوات وليدة الخصوصية الذاتية للمنهج الاسلامي.
ثانياً: ومع توفر عنصر الاصالة الذاتية في المنهج وعدم طغيان الادوات المسترفدة على مفرداته
الذاتية فإنه يجب ألاّ تؤخذ المسترفدات على علاتها أو تطبق بحرفيتها على النصوص، وإنما لابد فيها من مراعاة الخصوصيات الاسلامية ولن يتم ذلك إلاّ بهضم الوافد وصياغته صياغة جديدة توافقاً مع المنهج الاسلامي "(29). وهذا مايقتضي من الناقد الاسلامي التزامه التام بثوابت العقيدة وشعوره المرهف بالمسؤولية، في كونه "مسؤولاً عن حشود الادباء التي تنتظر التقييم والتوجيه لكي تواصل إبداعها على هدى وبصيرة.
شروط الناقد الاسلامي
ومن ثم فإن التزام الناقد المسلم يحتم عليه أن يكون ضابطاً وموجهاً في الوقت نفسه من أجل حماية الحركة الادبية الاسلامية من الضياع وفقدان الشخصية – من جهة– و إغنائها بالقيم والمؤشرات والمعطيات المقارنة من جهة أخرى "(30)، ولن يتحقق له ذلك إلاّ بتمكّنه من أدواته ومعاييره على مستوى الشكل والمضمون معاً وإلاّ بثقافته الأدبية الواسعة التي تمكنه من المقارنة الدقيقة بين الاعمال الادبية التي تتخلّق في محيط واحد أو تنتمي الى نوع واحد للوصول الى تقييم اكثر عدلاً بالنسبة للعمل الذي يقلبه بين يديه.
وإن اهم ما يجب أن يتحلى به الناقد الاسلامي هو العلم والعدالة بالقدر الذي ينفي عنه الجهل والهوى فيكون زاده غنياً وعلمه قوياً على مستوى عالٍ من الأخلاق والتمسك بالعدل فلا يدفعه هواه الى معاداة حق أو مناصرة باطل، ولايتخذ من المحاباة والعصبيات ما يشلّ الطاقة ويقتل الموهبة ويفسد بين الناس ويقطّع الروابط الايمانية (31)، ويقذف بالناقد في دوّامة النقد الحداثي الذي تخلّى اصحابه عن كل قاعدة فكرية أو أخلاقية أو فنية، وانصرفوا الى تهاويل ومظاهر سطحية في العمل الادبي لاعلاقة لها بالجوهر، وانقلب النقد عندهم الى بهلوانية لغوية همّ الناقد فيها أن يلعب امامنا على حبال اللغة ويقفز في الهواء على مقافز لفظية يشد أعيننا لملاحقة بريق حركته فوقها، ثم تعود اعيننا باحثة عن الشيء الذي أراد ان يقوله فلا تجده فترتدّ خائبة حائرة في أمر هؤلاء الذين جرّدوا الادب والنقد من الموضوع أو الفكر وفقد نقدهم كل اثر سوى أثر التحطيم (32) الذي أشاع الاضطراب في حياتنا الادبية الراهنة وأصبح "الناقد الذي يقرأ بإمعان وتكون لديه القدرة على النقد وتمييز الجيد من الرديء، وتكون لديه الوسائل والادوات التي لابد منها للناقد الامين، يكاد يكون من النادر وجوده. فالنقاد الذين يسهمون في حياتنا الادبية – أو أغلبهم – إما مادحون لشيء لم يقرؤوه، تدفعهم الى ذلك صلات وأهواء، وإما يذمّون هذا الشيء الذي لم يقرؤوه بدافع الصلات والاهواء أيضاً "(33).
لقد آن لمنهج النقد الاسلامي أن يغيّر هذا الواقع المتردّي، بطرح مقولاته الرصينة على الساحة النقدية، واداء وظيفته الكبرى في دراسة النص الادبي والكشف عن خصائصه الجمالية والرؤيوية بما يجسّد توصيل مبادئ السماء الى الآخرين من خلال التعامل مع النصوص الاسلامية المبدعة.
ويجسّد كذلك ضحالة النصوص الأرضية وتفاهتها حين يتناولها قلم الناقد الاسلامي ويكشف ماتنطوي عليه من الزيف وخداع الآخرين، بعيداً عن التجنّي والظلم واهتماماً بأمر المتلقي ومساعدته على تذوق النصوص من خلال المعايير الاسلامية جمالياً ودلالياً، وهو امر يتقاطع مع الاتجاهات التي تفصل عملية التلقي عن قصدية النص(34)، وهذه الاتجاهات في الواقع تبتعد بالنقد الادبي عن معناه الحقيقي في أنه محاولة لتحديد الأهداف التي يرمي اليها الاديب والطرق والاساليب التي يستخدمها وهو يقوم على دراسة الادباء القدامى والمعاصرين وتفحص مؤلفاتهم بغية توضيحها وشرحها وتقديرها حق قدرها (35). وهذا ما يتساوق مع التصور الاسلامي لعملية النقد.
توازن الذات والموضوع
إن "النقد الفني والادبي – في حقيقته – فكر وذوق وإحساس ورؤية ومعرفة ومشاركة وتأمل واندماج، وعبث أن ننفي عن النقد صفة واحدة من صفاته هذه أو أن نهدم لبنة من لبناته تلك، عبث أن نتشبث في نقدنا بموضوعية ما انزل الله بها من سلطان اذ إن ذلك ليس بمستطاع مخلوق يمتلك ذرة من دهشة واعجاب وقدرة على المشاركة والاندماج، وعبث كذلك ان نفقد مقوماتنا الذاتية ومعاييرنا المستقلة ونذوب في العمل الذي ننقده، نضيع في ثناياه تقديراً وإعجاباً"(36) فليس النقد تجريداً ميتاً كرقم في معادلة رياضية، وليس هو ذوباناً صوفياً كما تذوب ذرة السكر في الماء الحار، بل هو مزيج عجيب من صرامة الأرقام وهيام الروح العاشقة وموازنة فذة بين الذات والموضوع. ووقوف في نقطة وسط بين الرفض المتعصب وغير المبرر للعمل الأدبي وبين الارتماء في أحضانه بخفة لا تحسب للذات حساباً "ليس النقد موتاً ولا ضياعاً، لكنه باختصار بعث وتماسك، ذات وموضوع، دهشة وامعان، تأمل واعجاب، تحيز وحياد ! والذي يقول غير هذا يكذب على نفسه وعلى الآخرين وحتى لو الزم نفسه بدعوته الزائفة هذه فكأنما اختار بنفسه أن يحكم على نفسه بالنفي من حضرة العمل الفني والأدبي وأجوائه المشحونة المكهربة و محاريبه التي تضجّ بالتراتيل، ووقف هناك بعيداً بعيداً تدور أعينه في محاجرها كالموتى وتصدّ عن سمعه الاصوات الحلوة أبوابٌ هو اختارها لكي تبعده عن المشاركة والاندماج والاعجاب"(37). وهذا هو النقد الاسلامي الذي يعطي مساحة للذات رغم كونه نقداً معيارياً "فهو إذن نقد شمولي متوازن، شأنه في ذلك شأن سائر الفعاليات التي تتحرك في إطار الاسلام لأنها تستمد من رؤيته الشاملة المتوازنة، مقوماتها وملامحها.
الرؤية الشاملة للعمل الأدبي
إن هذه الرؤية ترفض أشد الرفض تلك الخطيئة المنهجية التي مارسها الغربيون كثيراً واستمرؤوها طويلاً: النظرة أحادية الجانب، التشبث بوجهة النظر المحدودة رغم أنها تصدر عن زاوية ضيّقة بينما هنالك اذا أردنا الاقتراب من الحقيقة عشرات الزوايا الاخرى لالتقاط صورة أقرب الى الواقع "(38). وهذه النظرة الغربية المتطرفة في تجزئة العمل الادبي يوضحها لنا رينيه ويليك حيث يقول:"من الغرابة بمكان أن تاريخ الأدب كان شديد الانهماك بإطار العمل الأدبي بحيث كانت محاولات تحليل الاعمال ذاتها ضئيلة اذا ما قورنت بالمجهودات الهائلة التي بذلت لدراسة المحيط الاجتماعي... وقد حدثت في السنوات الاخيرة ردة سليمة تقرّ بأن دراسة الأدب يجب أن تركز اولاً وقبل كل شيء على الاعمال الفنية الفعلية ذاتها "(39).
وهكذا تتأرجح الاتجاهات والمناهج النقدية في الغرب من اقصى اليمين الى أقصى اليسار دون توقف في نقطة الوسط واتخاذ حالة التوازن التي يتمتع بها منهج النقد الاسلامي إذ "يجد الناقد المسلم نفسه مسوقاً – وهو يمارس عمله – الى تجاوز جزئيات العمل الادبي والبحث في نسيجه الشامل بالضرورة، لأن المعنى النهائي يكمن هناك. لاريب أنه يتوجب عليه تسليط رؤيته النقدية على جماليات الشكل كالأسلوب والتكوين والتناسب الهندسي والتناسق الشكلي وتوزيع الالوان والمساحات والصيغ اللغوية المعتمدة وطرائق تفجير القدرات المعقدة المتشابكة للكلمة.
الوحدة المضمونية للعمل الأدبي
ورغم الارتباط المعروف والمتفق عليه بين الشكل والمعنى، فإن على الناقد المسلم ألاّ يقف عند حدود الشكل ويطيل الوقوف، بل إن عليه أن يمضي الى المضامين، الى ما يستثيره العمل الادبي في وجدان الانسان وفكره من معانٍ وتفاسير للقضايا التي تجابه الانسان ازاء الكون والعالم. إن ذلك يعني أن الناقد المسلم قد تجاوز حدود الجماليات الشكلية الى مرحلة البحث عن الحق "(40) الذي يمثل هدف الأديب الأصيل وغاية أدبه ووظيفته الكبرى. وهكذا يمتزج في منهج النقد الاسلامي، البحث في طبيعة الأدب بالبحث في وظيفته، ويستند المنهج في ذلك على قاعدة وحدة العمل الادبي في شكله ومضمونه أو بالأحرى وحدته المضمونية المؤلفة من الموضوع الخارجي بعد صياغته من خلال ذات الاديب صياغة فنية في شكل ادبي معين.
ولاتكتسب هذه الصياغة قيمتها في انتاج ادب إسلامي إلاّ من خلال توخّيها تحقيق الوظائف الرسالية لهذا الأدب، ولذلك فلا يمكن للناقد الاسلامي أن ينظر في العمل الأدبي بمعزل عن هذه الوظائف، ولابد من اقتناعه بأن "الوظائف الأدبية تؤدى عن طريق جمال الأدب ومن ثم أقر مبدأ (الادب ممتع ومفيد) وأن طرفيه متكاملان ليتآزر فيه الشكل والمضمون، وهذا يقضي بأن يُعنى النقد بطبيعة الأدب وجمالياته الشكلية بقدر اهتمامه بوظيفة الأدب وجماليات مضمونه"(41).
مبدأ الأدب الرسالي
ومن هنا يعتمد منهج النقد الاسلامي على مبدأ الأدب الرسالي الهادف الى ترسيخ الايمان وقواعده وتأصيل القيم وتفجير الطاقات الخيرية والاصلاحية " مما يستوجب امرين: تفسير الاحداث تفسيراً دينياً سليماً بعيداً عن مفهوم الصدفة والاعتباط والعشوائية، ثم التركيز على مبدأ الوضوح "(42) دون اهدار للقيم الفنية والجمالية. ولايخفى أن الادب الرسالي اعلى مرتبة من الادب الملتزم لأنه يحمل هم التغيير والاصلاح بالاضافة الى تحسينه للفضيلة وتقبيحه للرذيلة، ولذلك يهتم الناقد الاسلامي بالبحث عن الاثر الذي يتركه هذا الادب في المتلقي والانطباع الذي يترسب لديه ويتفاعل معه ويساهم في تشكيل اهوائه ومواقفه وحركته الصاعدة أو المتدفقة الى الامام.
معيار العقيدة
وهنا يأتي دور العقيدة معياراً اساسياً في حكم الناقد الاسلامي بما تمنحه من رؤية شمولية، بخلاف الناقد الشكلي الذي "يؤكد على الاجزاء ويضخمها حتى تستحيل على يديه الى شيء ثقيل ممتد يحتل جلّ مساحات العمل الادبي وكأنه لاشيء هناك سوى ما نقله لنا واقتطعه من بنية الطبيعة والواقع اقتطاعاً تعسفياً. إنه يقف عند النبتة الخضراء المطعمة بالظلال الخريفية الحمراء لأنها جميلة لوحدها فحسب، أما الناقد (الشمولي) فانه يتوخى دائماً البحث عن المغزى، عن العلاقة بين هذه النبتة وبين شفق المغيب، إنه يسعى ليستجلي في عمله كل الارتباطات الظاهرة والخفية بين كل ما تعرضه علينا الطبيعة والحياة والتاريخ من خلائق وظواهر وحوادث واشياء"(43) وهذا هو سبيل الناقد الاسلامي الذي يستنير بما تهبه عقيدته من رؤية نافذة تكشف له عن طبيعة العلائق والارتباطات في صميم الكون والحياة وتعرفه الحق المتمثل بهذه العلاقات وتساوقها مع السنن الالهية وما يرتبط بها من القيم التي يبحث عنها الناقد الاسلامي في بنية العمل الأدبي ونسيجه الداخلي دون تكلف أو افتعال أو تحزب، بل هو الصدور الطبيعي عن حالة التوازن والانسجام التي يعيشها الناقد المؤمن ويتوخى أن يجد صداها في صميم العمل الأدبي من خلال ما يستخدمه من ضوابط ومعايير تجعل أحكامه ميزاناً عادلاً يضع العمل الأدبي في مكانه الحق بين الأعمال الأدبية.
الارتباط بين طبيعة الأدب ووظيفته
يستند الناقد الاسلامي الى موهبة يتضافر فيها الحسّ الجمالي مع الحسّ الاخلاقي والبحث في طبيعة الادب بالبحث في وظيفته لصياغة نموذج كامل للحياة من خلال التحليل الواعي لما يبدعه الاديب الاسلامي الفذ مع الاهتمام بالصياغة الفنية للنص الادبي بالكشف عن قدرة الاديب في اختيار الالفاظ والعبارات والصور والاوزان والنغمات، وربطها بحركة نابضة تبرزها لوحة فنية متناسقة قادرة على الايحاء والتأثير من خلال ما تمتلكه الكلمة من خصائص في المعنى والظلال والجرس وقدرة على الارتباط بما قبلها وما بعدها. ولايغفل الناقد الاسلامي عن موهبة الاديب في تفجير خصائص الكلمة باستخدام قواعد اللغة من نحو وصرف ومعان وبيان وبلاغة وفصاحة، فالتقديم والتأخير والاستخدام الدقيق للحروف، واستخدام التشبيه والاستعارة والتمثيل والمجاز والرمز والكناية، كل ذلك يحتاج الى موهبة حقيقية وطبع سليم. كما يهتم الناقد الاسلامي بدراسة العوامل المؤثرة في اسلوب الاديب من طبيعة اللغة وغناها وخصائصها، وما يتمتع به الأديب من علم وموهبة وتجارب، وما تمتاز به البيئة من طراوة أو قسوة ونداوة أو جفاف وتقدم أو تأخر، وما يسودها من ظروف خاصة اجتماعية وسياسية واقتصادية مما له أثر في بناء الاسلوب وتحديده.
بالاضافة الى دراسة العوامل المساهمة في توجيه الاسلوب ودفعه وحركته كطبيعة الموضوع والجنس الادبي مما يجعل للشعر اساليبه وللنثر أساليبه من خلال القصة أو المسرحية أو المقالة أو غيرها. ومن أهم مايتناوله الناقد الاسلامي في اسلوب الاديب هو الصورة الفنية والحركة فيها ومدى نجاح الاسلوب في بثّ الحركة في عناصر النص الادبي وجعلها كأعضاء البدن الواحد في انسجامها وتكاملها، وإن كانت هذه الحركة تتفاوت في قوتها وضعفها وطبيعتها بحسب الموضوع الملائم لها (44).
ربط العمل الأدبي بصاحبه
ومع سبر الناقد الاسلامي أغوار النص الادبي، فهو لا يغفل عن ربط هذا النص بصاحبه الذي أبدعه لإيمانه بمنهج النقد الاسلامي الذي لا يرتضي عزل النص عن صاحبه ويرى في هذا العزل مدخلاً لأخطاء جسيمة في فهم العمل الادبي وتحليله فضلاً عما فيه من ظلم كبير لشخصية الاديب المبدع باعتباره الانسان الذي اخرج النص بما يمتلكه من طاقات وقدرات عاملة. ومن الاخطاء التي تؤدي اليها الدراسة المعزولة عن دراسة الانسان أننا "ندرس أحياناً قطعة ادبية فنجد فيها رائحة من روائح الاسلام أو مسحة منه فنطرب لذلك ونحاول حشرها ودفعها الى قلب الادب الاسلامي ونعلي من شأن قائلها حتى يقبل الناس فيأخذوا عنه عمله كله وأدبه كله فإذا القطعة المعنيّة يتيمة في موج هائل من أدب مضطرب بعيد عن الاسلام. وسبب هذا الخطأ أننا نسينا أن الأدب الاسلامي ونهجه يجب أن لايكون عملاً متقطعاً بعيداً عن النهج الايماني غائباً عن الاهداف الايمانية معزولاً عن حركة الاسلام ونهجه وغايته ودعوته.
إن النهج المستمر والخط الثابت أساس في تصورالادب الاسلامي، إنه ليس نبضات تظهر ثم تختفي تحت ركام الهوى والشهوة "(45)، ولا يمكننا معرفة هذا الثبات في منهج الاديب إلاّ بدراسة شخصيته من جوانبها المتعددة وبالاخص مايؤمن به من اليقينيات الكبرى، أي الأسس الفكرية أو الفلسفية التي بها يفسر الوجود والأصل الذي تنبثق عنه الأشياء ويتحكم فيها، ولهذه الأسس أثرها في وجدان المبدع وتجربته الشعورية التي ينطلق منها نصه الأدبي بعد أن تصبح لديه حقائق ثابتة تملأ نفسه وتملي عليه تصوراته ونظرته الى العالم والأشياء من حوله، وبالمقاييس الاسلامية فقد تكون هذه اليقينيات صحيحة وقد تكون خاطئة ولكنها على أية حال لا بدّ أن تترك أثرها في نتاج الأديب بعد أن تختلط بوجدانه ومشاعره "فاليقينية الكبرى عند أبي نواس مثلاً هي الذات واللذة، وعند المتنبي هي الذات والمجد، وعند عبد الله بن المبارك هي الله ورضوانه، وتختلط كل منها في وجدان صاحبها بمشاعره وانفعالاته وتظهر آثارها في القضايا التي تفجر إبداعه والمعاني التي تتوالد في نفسه والصور التي تتواثب في مخيلته، فأبو نواس تهزه المؤثرات الغريزية السوية والشاذة، والمتنبي تحركه مكامن الاستعلاء، وابن المبارك يثير انفعالاته كل ما يذكره بالله واليوم الآخر، فيتوجه كل منهم إلى الموضوع الذي يناسبه والمثير والمهيج لانفعاله وتفيض قريحته بالأبيات التي ترصد تلك المؤثرات أو تتحدث عن فعلها فيه، ويصنع الخيال صوراً متميزة تتناغم معها وتحمل بصماتها، وتقدم له ذخيرته اللغوية ألفاظاً وعبارات من قاموس موائم لموضوعه"(46).
وبهذا يظهر أن يقينيات الأديب المكوّنة لفلسفته الخاصة لها دخل كبير في تفجّر ابداعه وموضوعه الذي يبدع فيه وأدواته الفنية كذلك. ومن هنا فإن منهج النقد الإسلامي يرى ضرورة الدخول إلى ثقافة الأديب وتفحصها ويبدي توجيهاته للأديب المسلم بتدبر كتاب الله وسنة المصطفى (ص) ودراسة السيرة النبوية وسيرة خيار الصحابة ليتأثر بمنهجهم في الحياة وكيفية تطبيقهم لتعاليم الإسلام الخالدة، كما ينصح الأديب المسلم بالتفقه في الدين صوناً لنفسه من الزلل وابتعاداً بها عن مواطن الضلال والفتن، ويحذره – بمقابل ذلك – من التأثر بالثقافات الأجنبية المناهضة لعقيدة الإسلام وقيمه والعاملة على زعزعة الإيمان وغرس الفتن والدافعة للضلال والإضلال، ولا يمنع هذا المنهج الأديب المسلم المتفقه في الدين من الاستفادة من الثقافة العصرية الأجنبية الجادة التي تتلاءم مع القيم الإسلامية وتتناسب مع المبادئ السامية (47).
وبهذا فإن منهج النقد الأدبي الإسلامي لا يؤمن بفصل النص عن صاحبه، بل يعدّ الصلة بينهما على درجة كبيرة من الأهمية انطلاقاً من تقرير الإسلام لمسؤولية الكلمة ومسؤولية صاحبها، كما نبه على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} (48). وما جاء في حديث النبي(ص) من قوله: (وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد السنتهم) (49). فهذا التقرير القرآني والنبوي يكشف عن مدى خطورة الكلمة وخطورة مسؤولية الأديب صاحب النص.
فلا ينفصل النص عن صاحبه أبداً كما تريد الحداثة هذا الانفصال، لذلك فإن منهج النقد الإسلامي يهتم بدراسة العوامل النابعة من ذات الأديب والمؤثرة في بناء نصه الأدبي كقوة الإيمان وسلامة النية وطبيعة التجارب وعمقها وسعة العلم واستقامة التفكير وصدق العاطفة وقوتها واتجاه الميول والغرائز وأصالة الموهبة، وهذه القدرات والطاقات العاملة في الإنسان هي الخصائص الواجب توفرها في الأديب الإسلامي. فلا بد لهذا الأديب من إيمان راسخ في القلب، وتصور للكون والإنسان والحياة نابع من ذلك الإيمان، وعلم يقين بالمنهج الالهي المتجلي في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
الالتزام الاسلامي بين الأديب والناقد
بما ذكر من أصول يتحقق الالتزام في ذات الأديب الإسلامي فيكون عطاؤه ممتداً مستمراً في برنامج جمالي إسلامي غير متقطع أو متعثر، ومن هذه الجهة يختلف الأديب الإسلامي الملتزم عن الأديب غير الإسلامي الذي قد ينتج نصاً يتفق مع الإسلام في وجه من الوجوه فيكون كقطرة ماء في صحراء قاحلة أو كومضة نور في ظلام دامس. فليس هذا ما يبحث عنه منهج النقد الإسلامي. بل يبحث عن ذلك النهج الممتد في الأدب، النهج المسؤول الذي يساهم في تحقيق أهداف الأمة. وفي جميع الحالات فإن المنهج النقدي الإسلامي ينصف النص وصاحبه بميزان أدبي فني إيماني لا ظلم فيه(50).
وهنا ثمة مسألة نقدية دارت حولها مناقشات شتى بين الإسلاميين وهي: هل هناك ارتباط محتوم للعمل الأدبي بصاحبه خلال الحكم على (إسلاميته) أو عدمها؟ "إن محمد قطب يقدم جوابه بالايجاب في كتابه المعروف (منهج الفن الإسلامي) فينتقي تحت عنوان (في الطريق إلى أدب إسلامي) نماذج لأدباء غير إسلاميين بل غير مسلمين بالاسم حتى! كطاغور الهندي البوذي، وسنج الايرلندي الكاثوليكي، وهو يحاول أن يقدم لذلك الاختيار تبريراً معقولاً بل تفسيراً مقنعاً إلى حدّ ما"(51). وقد تأثر الدكتور عماد الدين خليل بهذه التجربة التي خاضها الاستاذ محمد قطب، فعمد الى خوضها أيضاً حين اختار مسرحية (مركب بلا صياد) للكاتب الاسباني اليخاندرو كاسونا، ليضعها في صف الأدب الاسلامي ويكتب عنها بحثاً نقدياً بعنوان: القيم الايمانية في مسرحية مركب بلا صياد(52)، ولكنه عاد بعد ذلك ليذكر أنه وعدداً من أساتذة الأدب والأدباء الاسلاميين أثاروا هذا الموضوع وناقشوه طويلاً مقلبين الأمر على وجوهه ولكنهم لم يصلوا الى نتيجة قاطعة وظلوا منقسمين بين مبيح بحجج مقبولة ومحرّم بحجج مقبولة أيضاً، ثم أقرّ الدكتور عماد الدين بأن هذا الموضوع ينطبق عليه مبدأ تكافؤ الأدلة الذي كان يقول به أبو حيان التوحيدي وأنه ليس سهلاً ولا ميسوراً ترجيح هذا الرأي أو ذاك.
وبعد الاشارة الى مبررات كل من الرأيَيْن وما يمكن دفعه وتفنيده منها تساءل الدكتور عماد الدين عمّا يمكن قوله بصدد الارتباط العميق والوشائج المتداخلة بين العمل الأدبي وصاحبه وبصدد المعادلة الاسلامية الواضحة التي يكون فيها الاسلام لقاءً بين التصور والسلوك، ثم ضرب أمثلة تنبيء بتكافؤ أدلة الفريقين حين قال:"ماذا لو أن اديباً ماركسي الهوى والفكر والانتماء ملحداً حتى النخاع، طرح بعض مقولاته الابداعية فجاءت تلك المقولات – بالصدفة المحضة – متوافقة مع المنظور الاسلامي؟ ولكن – من جهة اخرى – وعوداً الى الوجه الآخر للمسألة التي بدأنا بها الموضوع. ماذا بصدد حديث رسول الله (ص): الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها؟ وماذا بصدد تقييمه لقصائد قالها شعراء ما كانت قصائدهم يوماً إلاّ حرباً على الاسلام وتعزيزاً لمواقع خصومه؟ إنها معضلة تكافؤ الادلة مرة اخرى ولن يستطيع المرء ان يحسمها بسهولة "(53) ورغم هذا التكافؤ فقد مال الدكتور عماد الدين الى الرأي الأول الذي ينسب أدباً اسلامياً لأدباء غير اسلاميين معللاً ميله بأن مزايا هذا الرأي أكثر من عيوبه وأن ما سنكسبه من خلاله اكثر بكثير مما سنخسره. وممن ينصر هذا الرأي من الاسلاميين ايضاً، الدكتور أحمد بسام ساعي في قوله: "ان النص وحده منفصلاً عن الدوافع السابقة لوضعه، هو الفيصل في اصدار حكمنا على حقيقته الاخلاقية، بل نذهب الى ابعد من هذا فنقول إن الحكم الاخير على النص لا ينطلق من النص نفسه بقدر ماينطلق من طبيعة الاثر الذي يتركه في نفوس متذوقيه، وبتعبير آخر من طبيعة المصب الذي ينتهي اليه، وهذا يعني من جانب آخر اطراحنا لصاحب النص نفسه وتنحيته جانباً أثناء حكمنا على النص، فقد نرى فيه رجل سوءٍ ونرى في نصه وجهاً آخر مخالفاً، فالابداع الفني يعطي صورة اكثر صدقاً عن صاحبه من سيرة هذا الصاحب او سلوكه، وما القصيدة مثلاً –في معظم حالاتها– إلاّ دفقة شعورية تخرج من اعماق الشاعر لتكشف خباياه وتفضح اسرار نفسه من حيث أراد أم لم يُرد، فنرى من خلالها الشاعر ببصائرنا لا ابصارنا فتكشف لنا هذه البصائر مالم تستطع الابصار أن تكشفه في عناصر حياته أو سلوكه"(54). وهذا الرأي – على وجاهته – لايمكن أن يؤخذ به على إطلاقه، بل لابد – كما اسلفنا – من فحص يقينيات الاديب ومعرفة اتجاهه الايديولوجي والاطمئنان الى انه لايدسّ السمّ في العسل.
حدود الافادة من علم النفس
اما الاعتماد الكلي على مبادئ علم النفس في كشف خبايا الاديب وأسراره، فهو طريق غير مأمون لما عرفناه من المؤاخذات العديدة على هذا العلم ومعظم نتائجه الظنية التي لاترقى الى مستوى الحقائق العلمية. ومع ذلك "تظل النسبية وسياق النص هي التي تفرض ضرورة الاضاءات النفسية وعدمها وليس مطلقاً كما هو طابع الاتجاه النفسي في النقد... ما دامت مهمة الناقد الاسلامي هي ايصال مبادئ السماء الى الآخرين من خلال تعامله النقدي مع النص، وما دام الكشف جمالياً ودلالياً عن خصائص النص لا ينفصل احدهما عن الآخر، حينئذ فإن أية اضاءة خارجية (نفسية) تسهم في عملية الكشف تفرض ضرورتها في سياقات خاصة.
انه من الممكن ان نقتصر على كشف خصائص اللغة الجمالية دون الارتكان الى الاضاءة النفسية فيما لا ضرورة لها "(55). وهنا يتفرد منهج النقد الاسلامي بنظرته الخاصة في مسألة الحديث عن عيوب الادباء إذ" ان المبادئ الاسلامية – في النطاق الاخلاقي للسلوك – تفرض على الاشخاص بأن يتستروا على عيوب الآخرين بصفة أن الكشف عن العيوب يساهم في اشاعة الفحشاء(الانحراف) من جانب، ويساهم في توتير العلاقات بين الاشخاص أي في التنافر بدلاً من التعاون من جانب آخر، ويساهم من جانب ثالث في اسقاط الشخصية اجتماعياً حتى لوكان التناول لنص موروث حيث ان للميت حرمته ايضاً، بيد أن ثمة ملاحظة مهمة هي أن حظر الفضح يخص الشخصيات أو المجتمعات الاسلامية الملتزمة أما الشخصيات المنحرفة التي تتبجح بانحرافها أو ينعدم لديها الحس بالمسؤولية الاجتماعية كالشخصية السيكوباثية – اللااجتماعية – فان فضحها يفرض ضرورته"(56).
الارتباط بين الأديب وبيئته الاجتماعية
إن المنهج الاسلامي في النقد يتخذ الموقف المتوازن الوسط بين الفرد وبيئته الاجتماعية، ولذلك فهو يبحث في النص الادبي عن أثر هذه البيئة كبحثه عن أثر الاديب الفردي، فلا يؤمن منهج النقد الاسلامي بفصل النص عن بيئة منتجه وواقعه الخارجي اذ ان للبيئة أثرها الواضح في فكر الاديب وعاطفته وخياله وتوجهاته وميوله، فلمعرفة الاسلوب الذي يميز الأديب عن غيره، لابد من معرفة مدى تفاعله مع الحياة بجوانبها المختلفة: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. فلهذه الظروف الخارجية أثرها الفاعل فيما ينطوي عليه النص من الافكار والعواطف والأخيلة مما يمثل استجابة الاديب للواقع الخارجي سلباً او ايجاباً.
ويعكس مدى مشاركته في صنع الحدث الاجتماعي ووعيه بمشاكل المجتمع وتفسيره لظواهره وتوجهاته الثابتة والمرحلية. ولا يستغني الاديب الاسلامي في اكتشاف الواقع الخارجي والتفاعل معه، عن وعي السنن الالهية المهيمنة على هذا الواقع والسائرة به في طريق التطور والتكامل الانساني. ولا يستغني الناقد الاسلامي كذلك عن وعي هذه السنن في تقييم تجربة الاديب ومدى عمقها واثرها في إحداث التغيير الاجتماعي المنشود انطلاقاً من قاعدة الالتزام في الادب الاسلامي الهادف الى توصيل مبادئ السماء وردم مواطن التخلف وتقهقر الوعي الاسلامي والارتفاع به الى المستوى المطلوب.
واقعية المنهج الاسلامي
وبهذا يكتسب منهج النقد الاسلامي صفة الواقعية في دراسة النص الادبي مع تأكيده مبدأ التركيز على الانسان في هذه الواقعية الاسلامية "دون الخروج الى ترف التعامل مع الاشياء إلا إن كانت هذه الاشياء في خدمة الانسان، على أن نبدأ بالأكثر أهمية لحاجته او إن استطعنا النفاذ من هذه الاشياء الى الانسان نفسه، فكانت معبراً وطيئاً اليه، وبتعبير اوضح تظل هذه الاشياء هي الوسيلة والانسان هو الغاية"(57) ولا نكران لصلة النص ببيئته الاجتماعية لأن النص في الواقع لا يولد مجرداً منسلخاً عن بيئته دلالياً او جمالياً.
بل هو (تناص) للبيئة المعاصرة والموروثة بخاصة في بعده الجمالي المستند على الجانب الثقافي من البيئة الاجتماعية. اما الجوانب الأخرى من سياسة واقتصاد ومؤسسات متنوعة فمن الممكن ان تسهم في صياغة النص دلالياً وجمالياً في سياق خاص. بل هناك نصوص خاصة أو مناطق خاصة من النص تتطلب اضاءة تاريخية لامناص منها. وهناك نمط من الدراسات الأدبية(تأريخ الادب مثلاً) لايمكن التوفر عليه خارجاً عن بعده التأريخي. وقد طرح المعنيون بشؤون الأدب ونقده إشكاليات عديدة ترتبط بالتفرقة بين تاريخ الادب والنقد التاريخي ونقد الادب، كما طرح الحداثيون منهم إشكاليات جديدة تتصل بالمنهج وأدواته.
وقد ظهر تيار احدث اطلق عليه (التاريخانية الجديدة) أعقب الاتجاه التفكيكي الحديث. ومما لاشك فيه أن النقد الأدبي هو الجنس الذي يستأثر بمعالجة اللغة الجمالية، وحينئذ فالأصل هو ان يحصر اهتمامه في هذه اللغة ولا يلتجيء الى الاضاءة الخارجية – كالبعد الاجتماعي – الا اذا تطلب السياق مثل هذه الاضاءة. والسياق في التصور الاسلامي هو الرؤية الفكرية التي تتخذ اللغة الجمالية أداة لبلورتها حيث تتطلب حيناً القاء الاضاءة الخارجية عليها وحيناً لا تتطلب ذلك.
ومن أبرز ضرورات التوكؤ على البعد التاريخي هو تناول النص المشكوك في صلته بقائله إذ التعامل مع النص المذكور يفضي الى تزييف الحقائق ولذلك فإن تحقيق هذا النص وتصحيح نسبته الى قائله يفرض ضرورة تناوله في سياقه التاريخي. وكذلك عقد الصلة بين اللغة والبيئة أو بين الصورة الفنية والبيئة الحضارية او بين الهجاء والمديح والبيئة السياسية(58) او بين تطور الاجناس الادبية والنظم الاجتماعية التي تفرض ضرورة استحداث او انقراض بعض الانواع الادبية "فالرواية مثلاً ما كان لها ان تكون بدون ولادة المجتمع المستقر الذي يحتاج الى مطبعة وقراء ومستوى من التعليم والصحافة.
وهو أمر يختلف عن البيئة الصحراوية البدوية المتنقلة التي لا تساعد على نشوء هذا النوع من الاجناس الادبية. ولكن هذا شيء وجعل الجنس الادبي ظلاً للحياة الاقتصادية مباشرة شيء آخر، وهو خاضع لنظرية فلسفية يرفض الاسلام منطلقاتها لأنها لا تنظر للانسان الا على انه أداة خاضعة لقوى خارجة عن ارادته ولا تنظر الى اكثر من حاجاته المادية الحيوانية بعيداً عن أشواقه الروحية وطاقاته الانسانية الخاصة"(59). وهكذا يتخذ منهج النقد الاسلامي اسلوباً خاصاً في البحث عن (التوافق) بين الفن والبيئة، ولانقول (التطابق) بينهما، إذ ليس المطلوب من الفن عامة والشعر خاصة ان يتطابق مع البيئة بحيث يشبهها في مرضها وعافيتها وضياعها وهداها وايجابياتها وسلبياتها، ولكنه على العكس "مطالب بأن يلبي حاجات البيئة فيشبعها فيكون منه الدواء في مرضها والهدى في ضياعها والدفء في قرّها والبرد في حرّها والشبع في جوعها والري في ظمئها، ومن حق الناقد أن يحاسب الشاعر حساباً عسيراً حين يسقط – وهو الطبيب – في أمراض البيئة فيضيف الى المرضى مريضاً جديداً بدلاً من ان يكون له دور الريادة والكشف والبحث عن الأمل في متاهة الضياع وعن النور في ظلام الفساد والانهيار الحضاري"(60).
وهذا هو دور الأديب الإسلامي الملتزم بالإسلام عقيدة ومنهجاً دون أن يعني الالتزام هنا توجيهاً إجبارياً على نحو ما يفرضه أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ، بل يعني أن تكيّف النفس البشرية بالتصور الاسلامي للحياة هو وحده سيلهمها صوراً من الفنون غير التي يلهمها التصور المادي او أي تصور آخر، لأن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيراً عن النفس كتعبيرها بالصلاة او السلوك في واقع الحياة (61)، ولهذا فإن أي غبش في التصور او تشويه في المفاهيم والاعتقاد او شذوذ في السلوك او انهزام في الضمير والروح سوف يؤثر على جوهر الالتزام بمفهومه الاسلامي ولذلك فإن التزام الاديب المسلم يختلف عن التزام غيره من أصحاب المذاهب والمدارس المختلفة، اولئك الذين يخدعون الناس ويبذرون الشكوك فيكون الانفصام بين مايقولون وما يعملون كبيراً، ولأن غايتهم ان يشيع الانفصام المذكور وتعمّ صورة الخداع والكذب (62) في ازدواجية فكرية وعاطفية يسعى منهج النقد الاسلامي الى تخليص الاديب والشاعر الاسلامي منها، من خلال صدق الالتزام بالاسلام "حين يعيش الشاعر الاسلام بقلبه فيكون الناسك المتعبد الورع، وبفكره فيكون المؤمن الراسخ العقيدة الصامد لابتلاء الله ومحنه، المدافع عن دينه وشريعته، المتفتح لحقائق العلم والحياة والواقع، وبيده فيكون المجاهد الصادق الباذل ما في يده من روح وولد ومال، حينذاك سينجو من التلوّن العاطفي في شخصيته ومن ازدواجية الخير والشر في داخله وسيكون الشاعر الملتزم حقيقة بخط الاسلام"(63) ويكون نتاجه ذا غاية سامية تجعله أهلاً للنقد والتحليل والاكتشاف، ذلك لأن الاساس الاول الذي يدفع بالأدب الى دائرة الدراسة والتقويم يتمثل في غايته. " فالغاية هي الركيزة الاولى التي يرتكز عليها الأدب، فاذا صلحت هذه الركيزة دخل النتاج في مرحلة الدراسة، واذا فسدت هذه الغاية فلا داعي لبيان مواطن الجمال في النتاج الأدبي الذي يفسد العقيدة ويضيع قيم الأمة ويثبط الهمة، وليكتف الناقد بقوله هذا الشعر ماجن أو خارج عن العقيدة"(64) بل هو غير جميل بالمفهوم الاسلامي للجمال الفني حيث يرتبط الشكل بالمضمون والمتعة بالفائدة والفن بالوظيفة والغاية.
وبناء على هذا المفهوم فلا معنى لتساؤل بعض النقاد بقوله: "ماذا يعود على المجتمع الاسلامي من بيان مواطن الجمال في الوصية الرقيعة أو الخطبة الوضيعة أو القصة الخليعة أو الرسالة الأدبية الهادمة أو القصيدة الخمرية الماجنة التي تتحدث عن الخمر ونشوتها وسمتها وساقيها وشاربها ونديمها؟ ماذا يعود علينا من مثل هذا النتاج الأدبي ومن جماله البنائي وصياغته الفنية الخلابة؟ "(65) ويجيب الناقد نفسه عن هذا التساؤل بأنه لا يعود علينا سوى انتشار المزيد من الفسق والفجور والهدم المدمر لكيان الأمة، ويجيب عن تساؤل آخر عن الثمرة المرجوة من النتاج الأدبي المناهض للعقيدة والساخر من القيم الإسلامية، بأنه الثمرة السامّة المبيدة التي يجب التحذير منها والتنبيه على خطرها حتى ولو كانت طيبة الرائحة أو حلوة المذاق (66). ونحن نقول بأن الناقد الإسلامي لا يمكنه ان يتحسس طيب الرائحة أو حلاوة المذاق أو خلابة الصياغة أو جمال البناء لمثل هذه النتاجات القبيحة بعد أن يحول قبح مضامينها دون تذوقها بشكل جميل.
نقد معياري ملتزم
وما دام النقد الإسلامي يبحث عما حققه العمل الأدبي من وظيفة وغاية ورسالة، فهذا يعني انه ليس نقداً وصفياً يكتفي بوصف العمل الأدبي، بل هو نقد معياريّ حكميّ وأكثر من ذلك هو نقد رساليّ هادف يسعى إلى تحقيق هدف ويتحمل أعباء رسالة عظيمة.
وما دام هذا النقد يتحرى اثر العقيدة الإسلامية وقيمها في العمل الأدبي، فهذا يعني انه نقد ايديولوجي ملتزم بفكرة معينة وفلسفة خاصة ونظرة محددة وتصور خاص للكون والإنسان والحياة، وهو التصور الإسلامي المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله (ص). "إن النقد للأدب الاسلامي يمثل مرحلة متقدمة من مراحل الالتزام، إنه النقد الاعتقادي الذي يقوم على رصد حركات أدب العقيدة الاسلامية الصادرة منها والساعية لخدمتها"(67) ويفرض هذا الالتزام على الناقد المسلم أن يتحلى بمزيد من التجرد في الحكم رغم صعوبة الانفصال التام عن الميول الذاتية في مجال الأدب والفن عامة.
تحقيق القيم الأخلاقية
ولابد للناقد الاسلامي كذلك من تحقيق المزيد من القيم الأخلاقية التي تجعل عمله أقرب الى الحق والعدل والعلم والموضوعية وأبعد عن الكذب والادعاء والظن والهوى وظلم الآخرين، فلا يكون الناقد اسلامياً حتى يتميز بالصدق والمحبة ونكران الذات "ولن نجد في النقد الاسلامي – اذا أردنا الحق – تلك السخائم السوداء والمساحات المدخنة التي تملأ مئات الكتب النقدية وألوف الصفحات، صدرت عن نقاد ما كان هدفهم سوى تحقيق ذواتهم على حساب الآخرين وما كانت طرائقهم في العمل تلتزم القيم الخلقية التي يستلزمها العمل النقدي الجاد.
إن الحق والعدل قيمتان أساسيتان في بنية الكون والعالم وفي نسيج التصور الاسلامي. وهما كذلك قيمتان اساسيتان في سلوك المسلم ومنهجه، ومن ثم نجد الناقد المسلم يسعى – من أجل أن يكون تعبيراً صادقاً عن فكره – الى التزامهما في ميدان عمله، الأمر الذي يتيح له شروطاً أكثر فعالية في تحقيقه المهمة الملقاة على عاتقه " (68) بالاضافة الى التزامه مايفرضه منهج النقد الاسلامي من اتخاذ المحبة والاخاء وسيلة لبعث حركة أدبية أصيلة، فهذه " الوسيلة تجعل الناقد يحب الاديب والاديب يحترم بدوره الناقد ويقدره ويستنصحه فضلاً عن قبول نصائحه. نعم إن الناقد المسلم ينصح الادباء الجاهليين ويشهر نواياهم وأغراضهم الدنيئة خشية أن يفسدوا بنتاجهم ما يصلحه غيرهم. بيد أنه أخ ناصح للاديب المسلم، يصحح هفواته ويبصره بأخطائه كيلا يقع فيها ثانية ويفتح امامه مجالات هامة ليكتب عنها ويرغّب الناس في قراءة نتاجه وبهذا يكون الناقد رجلاً مساعداً للاديب يحميه من كل السقطات ويساعده على المزيد من التطوير والابداع.
وهذا ما لا نراه في أجواء الصراعات الادبية الطاحنة التي ولدتها الجاهلية عن قصد كي تتيه في دوامتها البشرية قاطبة"(69).
مصطلح الالتزام
جدير بالذكر – في سياق الحديث عن التزام الناقد المسلم – أن مصطلح (الالتزام) في رأي بعض النقاد، هو مصطلح مستعار مجلوب، وجد فيه بعضهم مدخلاً مناسباً للجمع بين الدين والادب بمقابل اولئك الذين يقطعون الصلة بينهما. وربما كانت استعارة هذا المصطلح مؤقتة بمرحلة تمهد لفهم الاسلامية في الادب والنقد أما بعد مرحلة التأصيل للادب الاسلامي فإن مصطلح الالتزام قد استنفد أغراضه ولم يعد هناك مسوّغ لاستخدامه بعد انتشار صفة (الاسلامي) واغنائها عن أية صفة اخرى مستعارة وبالأخص حين يُجعل الادب الاسلامي حلقة في سلسلة (الالتزام) الجاهلية التي انخرطت فيها الوجودية والاشتراكية، مع أننا نستطيع أن نفهم ادبنا الأصيل في غياب هذه المصطلحات، ومن الأدلة على أن مصطلح الادب الاسلامي او النقد الاسلامي وافٍ بنفسه لا يفتقر الى صفة (ملتزم): أن (الإسلامي) نسبة إلى الإسلام، فهل هناك إسلام ملتزم وإسلام غير ملتزم عند مستخدمي هذا الاصطلاح؟ ومثل هذا في كل ما يوصف بالإسلامي، مثل: فكر إسلامي، ومجتمع إسلامي، واقتصاد إسلامي، فإنه لا يقال مثلاً: مجتمع إسلامي ملتزم، فهناك إذاً استغناء عن إلحاق صفة الالتزام(70).
منهج تكاملي
ومثلما تتضمن صفة (الإسلامي) معنى الالتزام في منهج النقد الإسلامي، فهي تتضمن كذلك معنى التوازن والتكامل المتحقق فعلاً في هذا المنهج بتجنبه مظاهر التقصير والتطرف في المناهج الأخرى وانتقائه من فضائلها ما يجعله منهجاً متكاملاً "يتعامل مع العمل الأدبي ذاته غير مغفل علاقته (بنفس) قائله ولا تأثرات قائله بالبيئة وحاجاته المحلية.
ويحتفظ لصاحبه بشخصيته الفردية غير ضائعة في غمار الجماعة ولا الظروف ويحتفظ للمؤثرات العامة بأثرها في التوجيه والتلوين لا في خلق الموهبة ولا في طبيعة إحساسها بالحياة. وهكذا ننتهي إلى القيمة الأساسية لهذا المنهج في النقد وهي أنه يتناول العمل الأدبي من جميع زواياه ويتناول صاحبه كذلك بجانب تناوله للبيئة والتاريخ، وأنه لا يغفل القيم الفنية الخالصة ولا يغرقها في غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية، وانه يجعلنا نعيش في جوّ الأدب الخاص دون أن ننسى مع هذا أنه أحد مظاهر النشاط النفسي وأحد مظاهر المجتمع التاريخية إلى حد كبير أو صغير. وهذا هو الوصف الصحيح المتكامل للفنون والآداب "(71) الذي قصرت عن بلوغه مناهج النقد الغربي– على كثرتها – بعد أن وقعت اسيرة نظريات العامل الواحد سواء كان هذا العامل مفروضاً على النص الأدبي من خارجه أو منغلقاً في النص على ذاته. ولذلك فقد رفض منهج النقد الإسلامي نوعين من النقد، أولهما النقد الجمالي والبنائي الخالص الذي يقتصر على تأمل طبيعة النص وفحص خصائصه ودراسة عناصره ومكوناته وسمات بنائه الأسلوبي غاضاً الطرف عن العوامل الخارجية التي أنشـأت معظم ما يتصف به النص. وثانيهما النقد الخارجي الخالص الذي تتوزعه انواع متعددة منها البيئي، و الاجتماعي، والنفسي وغيرها من المناهج التي تشترك في ربط العمل الادبي بعامل خارجي ربطاً حتمياً.
ومقابل هذين النوعين من المناهج النقدية، يأتي منهج النقد الاسلامي فيُعنى بالنص الادبي من حيث غرضه وموضوعه ومعانيه وأساليبه، بالاضافة الى عنايته بعوامل النص الخارجية التي شاركت في انشائه وصقله وبين هاتين الدراستين ترابط عضوي متين وتكامل جميل يوحي بخاصية الانسجام أو التوازن التي يتميز بها المنهج النقدي الاسلامي ويتفرد بها عن غيره رافضاً كل تبعية عمياء تُخضع الادب لظروف العصر أو عوامل البيئة أو قوى الغرائز أو ضغوط المجتمع(72). ويمكن القول بأن هذا المنهج التكاملي هو خلاصة عملية تركيبية بعد بسط وتحليل معمق للمناهج السابقة ومعرفة ما آلت اليه من نهايات وما واجهها من عقبات فكان ضررها اكثر من نفعها للادب ونقده، فهذا المنهج يتصف بواقعية ذات دلالة وضعية وليست مذهبية فحسب وما يجعله أقرب الى الواقعية أنه" يحقق الغاية من الدراسة الادبية التي تتناول النص من جوانبه كلها وتعنى بالعوامل المؤثرة فيه والمساعدة على خلقه كلها.
انه بمعنى آخر يشكل نظرية تعنى بالتجانس بين النسب في النظر الى العمل الادبي وتفسيره وتحاول الاّ يطغى عنصر على عنصر في خطوات الفهم والتفسير والتقويم"(73). وقد ذكر بعض الباحثين بأن الاتجاه التكاملي في النقد لا يخضع لأي تعريف فني واضح المعالم" فهو ليس نقداً تاريخياً خالصاً ولا نقداً بلاغياً ضيقاً ولا نقداً نفسياً محدوداً بما يدلي به أقطاب السيكولوجية من تفسيرات وترجيحات متعددة وقد تكون متناقضة، كما أنه لا يقف عند حدود معينة بقدر ما يقف عند الشكل التعبيري ودلالاته، وقد يطيل الوقوف عند النسيج باعتباره قالباً لمعان ٍتنقل ويمكن أن تحلل، شأنها في ذلك شأن أي تجربة انسانية، وفي الوقت نفسه يواجه بصراحة الامكانات اللغوية التي تفتق عن مثلها ذهن عبد القاهر الجرجاني في كتابه (اسرار البلاغة)، والامكانات التي يهيئها (نوع) العمل الأدبي بحسب استعداد الاديب وثقافته وايديولوجيته "(74). والحق أن هذه الأوصاف والخواص لا تنطبق بتمامها الاّ على منهج النقد الاسلامي وهو أحق بها من جميع المناهج الأخرى. ولذلك فإن أفضل ما يمكن أن يعرّف به الاتجاه التكاملي في النقد، هو أنه اتجاه اسلامي بشرط أن يستند الى فلسفة الاسلام وتفسيره للكون والانسان والحياة.
وبهذا الشرط لا يصبح هذا المنهج عصياً على التعريف أو مجرد افتراض وصورة مثالية غير قابلة للتحقق كما رسمها ستانلي هايمن بقوله: "لو كان في مقدورنا – وهذا مجرد افتراض – أن نصنع ناقداً حديثاً مثالياً لما كانت طريقته الاّ تركيباً لكل الطرق والاساليب العلمية التي استغلها رفاقه الاحياء، وإذن لاستعار من جميع تلك الوسائل المتضاربة المتنافسة وركب منها خلقاً سوياً لا تشويه فيه. فوازن التقصير في جانب بالمغالاة في آخر، وحدّ من الاغراق بمثله حتى يتم له التعادل واستبقى العناصر الملائمة لتحقيق غاياته "(75) ويستمر هايمن في رسم صورة الناقد المثالي بأنه اذا أخذ عن النقاد كل عمل ايجابي وقيّم "طرح في الوقت نفسه كل تافه محدود غير ملائم من اعمال اولئك النقاد واستصفى النواحي الموضوعية لديهم بعد أن ينزع عنها ما يحيطها من مظاهر ضعفهم ومما حكاتهم وفرديتهم "(76) ثم يعقب هايمن على هذه الصورة المثالية للناقد الادبي بقوله:"إن صورة ناقدنا المثالي هذه شقشقة لسانية فحسب، ولكنها شقشقة مفيدة فيها سمو المثل الافلاطونية واستحالتها معاً، فلنحطم هذه الصورة ولنعد الى عالم الحقائق ومجال الامكانات العلمية التي هي في طوق الفرد من بني الإنسان، ونحن إنما نريد طريقة متكاملة فلنقل إن قسطاً صالحاً كبيراً من التكامل ممكن وأنه في طوق انسان واحد أن يستعمل عدداً من الطرق والمذاهب"(77).
وقد فات هايمن أن هذا الإنسان الذي يستطيع أن يحمل على عاتقه منهجاً متكاملاً في النقد إنما هو الناقد الاسلامي لا غيره اذ يمنحه الاسلام قوة الارادة ودقة الفهم لأسرار الظاهرة الادبية بما يتجاوز به نقائص مناهج النقد الغربية التي إثاقلت إلى الأرض فيما قدمته من آراء ونظريات حول العمل الادبي ووسائل دراسته وتحليله مما ادّى بها الى اخطاء فادحة في ميدان التطبيق والممارسة النقدية. وسيظل منهج النقد المتكامل مجرد افتراض ومثال وحلم يراود أذهان الغربيين ما داموا بعيدين عن الاسلام وآفاقه الشمولية ونظامه المنبثق من صميم الوجود وسننه المتآزرة لتحقيق التطور والتكامل المنشود.
ولا يحظى بهذا التكامل الاّ منهج النقد الاسلامي الذي يبصّر الادباء والنقاد بضرورة النظر الى الانسان نظرة شمولية لا تعرف تجزيئاً ويوضح لهم أن للجمال مفهوماً تكاملياً أصيلاً يجمع في طياته جماليات الشكل الفني وجماليات المضمون الادبي معاً بدون افراط أو تفريط، ويريهم المجالات والموضوعات والمحاور الهامة التي ينبغي أن يتناولها الادب تصويراً وتحليلاً واستقصاء بأساليبه الفنية وطرائقه الجمالية، وهو يرسي خلال ذلك قواعد جليلة ومباديء دقيقة تساعد الادب في نهضته ورقيه.
ولا ينحصر هذا المنهج في دائرة التنظير، بل انه ليعنى كبير عناية بمجال التطبيق " فهو يتتبع مسيرة الادب استقصاءً واحصاء وتحليلاً واستدلالاً كي يبرهن بهذه العمليات على صلاحية الادب الاصيل وإفلاس الآداب الجاهلية. فالدور التطبيقي لهذا المنهج مزدوج. فهو ينقد اعمال الادباء المسلمين نقداً بناءً كما انه يفضح التواءات النتاج الادبي الجاهلي"(78).
منهج حضاري
ولا يبعد هذا المنهج التكاملي كثيراً عما أسماه بعض الاسلاميين بالمنهج الحضاري في دراسة الادب" بمعنى انه يدرس الظاهرة الادبية ضمن ظرف حضاري معين، بحيث تكون الروح الحضارية المعينة هي التي تحرك الانسان في نشاطاته كلها ومن ضمنها الادب نفسه.
وقد تكون روح هذه الحضارة وثنية أو دينية أو مادية. فسوف نرى آثار هذا التصور والفهم للحياة والكون والانسان بادياً على الأدب خاصة"(79) وهذا يعني أن المنهج الحضاري يُعنى بالفن الأدبي باعتباره انعكاساً للروح الحضارية نفسها، فلا يمكن لأديب خاضع للحضارة الاسلامية مثلاً أن يلجأ الى أساليب فنية مضادة لروح هذه الحضارة، كما ان من شأن الحضارة الوثنية أو المادية أن تنتج أدواتها وأساليبها الفنية التي تعكس تصورها للحياة وفلسفتها، وليس في هذا المنهج مصادرة لحرية الاديب وعبقريته الفردية كما وجدنا ذلك في المناهج العلمية البحتة والايديولوجية المادية، بل هو استجلاء لواقع الابداع الأدبي وكشف عن صلته الحميمة بالظرف الحضاري السائد " وعلى الرغم من وجاهة القول بعنصر العبقرية الفردية في استحداث بعض الاجناس الادبية، فإنه لاينبغي أخذه منعزلاً عن الظروف الاجتماعية العامة في عصر من العصور. إن هذه العبقرية تنتج ضمن ظرف حضاري معين بمعنى أن هناك محيطاً (اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ونفسياً) يتحرك خلاله الاديب ويستجيب لمؤثراته.
وربما يكون للعقيدة الدينية أو الفلسفية دور بارز في طبيعة هذا التحرك ولونه وعمقه، ومن هنا كان الابداع الادبي في إطار الاسلام أو الرأسمالية أو الشيوعية مختلفاً في مادته وشكله بناء على طبيعة المحضن الحضاري والرؤية الفكرية للكون والحياة والانسان "(80) فالأدب الحق هو مرآة عصره إذ يعكس صورة الاديب النفسية والفكرية، كما يعكس صورة المجتمع الذي يعيش فيه وذلك من خلال رؤية الاديب وتفاعله مع عصره، ورغم ذلك فهو لايؤدي الى معرفة كاملة بالعصر لأن رؤية الأديب تظل فردية محدودة بحدود الفرد في المعرفة والكشف والتصوير ولهذا فلابد من التماس صورة العصر في أدب مجموعة من أدباء العصر تمثل مراحله المختلفة وبيئاته المتعددة ومناحيه المتباينة (81)، ومن خلال هذا التركيب الذي يتبناه المنهج الحضاري " نكون قد فهمنا الأدب على ضوء تمثيله لروح حضارية سائدة في مرحلة معينة وفق قوانين الفن التي يخضع لها الأدب، وبهذا نبتعد عن النظرة المادية أو الايديولوجية البحتة للأدب أو النظرة الفنية المحضة في اتجاه (الفن للفن) كما هو معلوم.
ولا يمكن أن نعد هذا المنهج (تلفيقياً) بل هو منهج ينسجم وطبيعة الظاهرة الادبية باعتبارها ظاهرة انسانية تعكس الفكر من خلال الأدوات الفنية التي تتفاوت من مرحلة تاريخية الى اخرى "(82) فلا يقف هذا المنهج عند حدود الانتقاء من المناهج الأخرى في تحليل النص الأدبي، بل يزيد عليها عملية تركيب وصياغة جديدة لما ينتقيه من العناصر بعد صهرها في بوتقة رؤية شاملة ومتوازنة لجميع العناصر الداخلة والمؤثرة في تكوين العمل الأدبي، ويزيد منهج النقد الاسلامي على كل ذلك حكماً تقويمياً منطلقاً من أصول العقيدة الاسلامية وتصوراتها المتعلقة بغاية الأدب ووظائفه الرسالية.
خصائص إضافية مقترحة
وبالاضافة الى ماتقدم من خصائص منهج النقد الأدبي الاسلامي فقد اقترح بعض النقاد الاسلاميين خصائص إضافية تحقق الارتقاء بهذا المنهج ومنها استيعاب التاريخ وبلورته بوصفه معيناً معرفياً وسنداً حضارياً. وتحقيق التفاعل والتواصل مع المستجدات الحضارية الراهنة لتنتفي عزلة (الأنا) الإسلامية الحضارية في جو الماضي المقدس. والسعي نحو الاتصال المعرفي العالمي وذلك عن طريق مجموعة لقاءات بين الذات والآخر، بين ما نملك وما لا نملك. وتتبع المسارات المنهجية العالمية في الميادين الأدبية والنقدية ومحاولة الاستفادة من معطياتها. مع التنبه الى أن العمل الفردي لايقدم ثمرته ولا يؤتي أكله، والمنهجية المنشودة لاتقوم باجتهاد فردي أو ترف إعلاني مشبع بالكلمات، إنما تقوم بعمل جماعي منظم تشرف عليه جهات ومؤسسات حكومية لها من الهمّ الاسلامي المعاصر النصيب الاكبر، تعمل على جمع الشتات وتوحيد الطاقات وبلورة الآراء وعقد الندوات والمؤتمرات (83). واقترح بعضهم الآخر أسساً لتطوير منهج النقد الأدبي الاسلامي تبدأ بالبحث عن التفرد المغني المرتبط بالأصالة، أي تطوير القاعدة وتغيير العرف والإضافة اليهما، ثم البحث عن الواقع الذي انطلق منه كل من الاصالة والتفرد وتبين مدى ارتباطهما به وهل كانا تعبيراً حقيقياً عنه أو تزييفاً وتوهماً لواقع غير موجود، وكذلك البحث عن الأدب الذي أمسك بالامراض الحقيقية للأمة دون الوهمية والذي خالف التيار السلبي للواقع وحاول أن يوجهه تلقاء الايجاب.
ومن هذه الاسس أيضاً اهمال فكرة الفصل بين الفكر والفن اهمالاً تاماً ومجاهدتها والتركيز على تفنيدها تفنيداً منهجياً، بالاضافة الى وضع اسس فنية تفصيلية جديدة تتدارك اخطاء الواقع القديم للمنهج بأن تكون قابلة هي أيضاً للتطور – كالقاعدة في الأدب – دون اغلاق الباب امام التفرد، وأن تكون نابعة من صميم الأدب العربي المرتبط بواقعه الاسلامي الحضاري دون اعتمادها على المذاهب الغربية في النقد أو على الأدب العربي غير المرتبط بالواقع الاسلامي بركنيه الارضي والسماوي (84). واقترح بعضهم أيضاً خطوات منهجية يمكن أن يسلكها النقد الاسلامي المعاصر لاحياء مجمل الطرح النقدي الراهن سواء على ساحة النقد العربي أو ساحة النقد الاسلامي عامة، وأول هذه الخطوات هو بحث علاقة الانفصام بين الفرد وخالقه وتنظيم التواصل بين الارض والسماء. وتطوير البنية النفسية للأفراد لتكون متوازنة مع التغيرات الحاصلة في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع وذلك من خلال الفلسفة الاسلامية القادرة على احتواء هذا التطوير.
ثم بيان تبعات انغماس الانسان بالمنهج العلمي التجريبي وبعده عن المنهج الروحي الميتافيزيقي. وانطلاقاً من رأي الاسلام بفلسفة عزل الإله الغربية، يمكن للنقد الاسلامي أن يحدد العلاقة المنهجية بين أركان الحدث الكلامي: الناص و النص و المتلقي، ويضع الاسس النقدية لثنائية الدال والمدلول وامكانية أو عدم امكانية تعدد الدال واختلاف المدلولات أو تغييبها وصولاً الى مرحلة لانهائية الدلالة. ومن الخطوات المنهجية كذلك تحديد الموقف النقدي الاسلامي من بنية الهوامش الاجتماعية التي تسهم في انعاش الطرح النقدي المعاصر وممارساته المنهجية. ورسم خصوصية نقدية اسلامية في التعامل مع النص النسوي ووضع فلسفة للأنوثة تقدم إمكانات الاستفادة من الابداعات النسوية في إطار مدرسة نقدية اسلامية تدين بولائها للمنهج النقدي الاسلامي وتقدم طروحاتها إنبثاقاً من الطرح الاكاديمي الذي يتسم بالانحياز الكامل للدقة العلمية الرصينة. ومن الخطوات المهمة أيضاً محاولة رفع الوعي النقدي الاسلامي عند النقاد العرب من خلال تحديد اصطلاحي منضبط لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة، ومصطلحات المناهج النقدية الغربية كالبنيوية وما بعد البنيوية والتأويلية وغيرها.
وتحديد موقف النقد الاسلامي المعاصر من المقولات النقدية لما بعد الاستعمارية وطروحات الدراسات الثقافية المتنوعة، ونقود ممارسات المجتمع ما بعد الصناعي وتقديم المواقف الاسلامية البديلة عن ذلك أو على الاقل الدخول في حوار علمي معها. بالاضافة الى تحديد الموقف النقدي الاسلامي من مفهوم النزعة الانسانية ودورها في بناء النص النقدي والأدبي بعيداً عن مهيمنات البنية والانظمة الدلالية والأنساق النصية. ومحاولة إعادة تنظيم قدرات الانسان المبدع من خلال خلق مسار جديد للغة يبتعد عن الهمّ الذاتي ليدخل في نظام لغوي اجتماعي ذي صبغة إسلامية، وأخيراً لابد من خلق عناصر قوة نقدية في وعي الناقد بضرورة الايمان بمستقبل النقد الاسلامي المعاصر والمراهنة على أحقيته في امتلاك الواقع النقدي العربي في المستقبل (85). بل يحدونا أمل كبير في امتلاك هذا المنهج ساحة النقد العالمي بعد أن يسطع نور الاسلام على جميع المعمورة ويملأ الارض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.