اتجاهات التجديد الديني وأثره في الواقع الاجتماعي
محمد محفوظ
2021-06-09 07:38
مقدمة:
تهدف هذه الدراسة إلى التعريف بمفهوم التجديد والإصلاح الديني، وحركة التطور التاريخي التي لحقت بهذا المفهوم، وكذلك الجماعات والفعاليات التي حملت لواء مشروع التجديد والإصلاح في العصر الحديث، مع التعريف الموجز بالاتجاهات الرئيسية في حركة التجديد في المشهد الإسلامي المعاصر.
أغراض البحث:
1- إن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقا مغلقا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.
والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، بدون تطور واقع الناس والمجتمع.
لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطور وقائعه المختلفة، لها الدور الأساسي في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطور واقع الناس والمجتمع، وتطور رؤيتهم ومعارفهم الدينية.
2- عديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته. ولكن السائد في مجتمعنا ولدى فئات عديدة منه، المقاربة الفقهية، التي لا تتعدى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلق دائما بحركة الفرد في المجتمع.
وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثراءه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية..
3- إن قيم الدين ومعارفه الأساسية، هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع، ستنعكس سلبا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية. لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدي إلى تطور وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية.. لهذا نجد باستمرار تحولات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيرات الزمان والمكان.
لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان، لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطور في المعارف الدينية، انطلاقا من تحولات الزمان والمكان.
ومن يبحث عن تطور المعارف الدينية، بعيدا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.
ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدم الأفراد والجماعات.
فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطور المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدما وعدالة وحرية.
لهذا فإننا بحاجة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع، وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعا تجاه تطور معارف الدين الأساسية.
4- تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والثقافي ومشروع الإصلاح السياسي. فلا يمكن أن يتحقق مشروع الإصلاح السياسي في مجتمعنا ووطننا، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والثقافي.
لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في فضائنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والثقافي. فتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. المعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.
الدين والعصر:
على المستوى المنهجي والمعياري، ثمة نظريات وأفكار عديدة حول آليات التجديد في الفكر الديني وطرق وصل الدين بوصفه منهج حياة بالعصر.. ولكن جميع هذه الأفكار والنظريات تتفق أن ثمة حاجة ذاتية وموضوعية لوصل الدين بالعصر، والعصر بالدين.. وإن هناك عوامل وحاجت عديدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر سواء على مستوى الأفراد وحاجاته المتعددة، أو على مستوى المجتمعات الإسلامية وأنماط حياتها المعاصرة ونظام علائقها الداخلية والخارجية، كل هذه العوامل تدفع باتجاه ضرورة تفعيل حركة الاجتهاد والتجديد في الفهم الديني وذلك حتى يتسنى للإنسان المسلم المعاصر، أن يعيش دينه عبر الالتزام بقيمه وتشريعاته، كما يعيش عصره وراهنه بدون عقد أو انزواء عن متطلباته الضرورية..
لهذا فإن الإنسان المسلم اليوم، بحاجة إلى رؤية دينية تؤهله للعيش على قاعدة التزامه الديني في العصر.. بحيث لا تكون حركة انخراطه في العصر ابتعادا عن التزامه الديني، كما لا تكون حركة التزامه الديني انزواءا وانطواءا عن حركة العصر بكل زخمها العلمي والتقني والحضاري..
وهذا بطبيعة لا يتأتى إلا بتأسيس حركة اجتهادية وتجديدية في الرؤى والأفهام الدينية، بحيث يتم تجاوز كل الأنماط التفسيرية لقيم الدين التي تساهم في إبعاد الإنسان عن التزامه العميق والحضاري بقيم الدين وتشريعاته المتعددة..
وحينما ندرك أهمية الاجتهاد والتجديد الإسلامي المعاصر، ندرك في ذات الوقت أهمية وضرورة أن نبقى مسلمين فكرا ومنهجا وطريقة حياة..
فالتجديد ليس نافذة للتهرب من الالتزام بقيم الدين، وإنما هو طوق نجاة لكي تتمكن عملية الاجتهاد من توفير إجابات إسلامية أصيلة على مستجدات العصر وتطوراته المتلاحقة..
وإن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقا مغلقا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.
والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، بدون تطور واقع الناس والمجتمع.
لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطور وقائعه المختلفة، لها الدور الأساسي في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطور واقع الناس والمجتمع، وتطور رؤيتهم ومعارفهم الدينية.
وعديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته. ولكن السائد في مجتمعنا ولدى فئات عديدة منه، المقاربة الفقهية، التي لا تتعدى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلق دائما بحركة الفرد في المجتمع.
وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثراءه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية..
وإن قيم الدين ومعارفه الأساسية، هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع، ستنعكس سلبا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية. لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدي إلى تطور وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية.. لهذا نجد باستمرار تحولات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيرات الزمان والمكان.
لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان، لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطور في المعارف الدينية، انطلاقا من تحولات الزمان والمكان.
ومن يبحث عن تطور المعارف الدينية، بعيدا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.
ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدم الأفراد والجماعات.
فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطور المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدما وعدالة وحرية.
لهذا فإننا بحاجة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع، وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعا تجاه تطور معارف الدين الأساسية.
ومن الضروري في هذا السياق أيضا تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والثقافي ومشروع الإصلاح الاجتماعي. فلا يمكن أن يتحقق مشروع الإصلاح الاجتماعي في مجتمعنا ووطننا، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والثقافي.
لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في فضائنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والثقافي. فتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. المعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.
الخوف من التجديد:
دائما المجتمعات الساكنة والجامدة، تخاف من التغيير والتجديد. وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب. أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما.
وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة، التي تعيشها المجتمعات الجامدة. فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة، وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء، وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيء. وفي ذات الوقت تخاف التغيير، وترفض التجديد، وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيء..
ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد، ليس خاصا بمجتمع دون آخر، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها.. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير، وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب.
من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات، تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد. فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد، حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية، التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرضي من التجديد، فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات.. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود، ستستثمر هذه الحالة المرضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات، والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد.
وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم، أنه في ظل سلالة هان (25-220 ب م) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق، بصورة شفهية أو خطية، أي موضوع لم يعينه له أستاذه. فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا.
وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل. فلكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد.
فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد، هو حالة مرضية، تزيد من انحطاط المجتمعات، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف. ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد.. ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل، ولكننا نود القول: أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود.. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا. بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية. وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد. فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد، إلا أن واقعها الفعلي، أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية، تتوجس خيفة من هذه المقولات، وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد. فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد، إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد.. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات، وباسم الخصوصية يحارب التجديد، وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد. فهو على الصعيد النظري، جزء من مشروع الحل، إلا أنه على الصعيد الواقعي، جزء من المشكلة والمأزق. وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير. وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها، وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما. وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات..
لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع، أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته، حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة، تحارب التجديد في العمق والجوهر، وهي تتبناه في المظهر.
ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة، أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة.. فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير، إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد، لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية. فالتمايز يكون بين المجتمعات، بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته. ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات. ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير. صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد، إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات. فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة، فهي ترفضه وتخاف منه. وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد، فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة.
ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1- إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية، لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية، وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي. وبدون توفر هذا الشرط، لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد. لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي. والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق، ليس ادعاء يدعى، وإنما هو ممارسة سلوكية، تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد، وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام.
فطريق التجديد في مجتمعاتنا، ليس معبدا أو سهلا، وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير. فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة، هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا. وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر. فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية، يتطلب وجود مجددين، يجسدون قيم ومبادئ التجديد، ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته.
2- إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة، وإنما على التراكم. فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية، بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي. ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع.
ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية) بقوله: والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول. وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية. فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة، وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة، بات واجبا على البشر، كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين، أن يتعلموا القراءة. وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة. ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية، بمساندة من الدولة، حملات واسعة النطاق لمحو الأمية. وفي أقل من قرن، كان ثمانون في المئة من السكان، في ذلك البلد القروي، قد أضحوا من المتعلمين. وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة، وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية.
من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات، حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام.
وجماع القول: أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى. ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل، بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب. والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد.
التعريف بمفهوم التجديد:
من البديهي القول، أنه كلما كثر التطور وتعددت أشكال التحول والتغير في حياة الإنسان الفرد والجماعة، كانت الحاجة إلى التجديد والاجتهاد أكثر إلحاحا.
وذلك لأن المستجدات الحياتية بحاجة إلى فهم ومعرفة وتحديد شرعي وعقلي لطريقة التعامل معها أو الاستفادة منها. فالحقائق الجديدة التي تجري في واقع المجتمعات الإنسانية، وعلى الصعد كافة. بحاجة إلى عملية تجديد فكري وثقافي لبلورة الموقف والرؤية المطلوبة تجاه هذه الحقائق. فتطور الحياة وتموجاتها المتعددة، بحاجة دائما إلى صناعة رؤية وبصيرة تجاهها. حتى يتسنى لنا كأفراد ومجتمعات التكيف الإيجابي مع تطورات الحياة. فالتطور في الحياة يؤسس لأسئلة وتحديات جديدة، والإجابة عليها يحتاج إلى عملية اجتهاد وتجديد. وهكذا فالعملية متداخلة مع بعضها البعض.. فالتطور يؤسس لضرورة التجديد والاجتهاد، كما أن التجديد في الرؤية والفكر يفضي إلى التطور النوعي في الحياة.
من خلال هذه المفارقة أو الحقيقة الوجودية، تنبع أهمية التجديد والاجتهاد في كل العصور وفي مختلف المواقع والظروف. والاجتهاد والتجديد وفق هذا المنظور المنضبط بضوابط المعرفة والاستنباط، هو وسيلة الحفاظ على مصالح الإنسان فردا وجماعة. إذ أن قصور الأطر التشريعية عن مواكبة متغيرات الحياة وتطوراتها، يجعل الكثير من المصالح والمنافع الخاصة والعامة عرضة للتلف والنهب والتعدي. والاجتهاد والتجديد وفق منهج واضح ومشروع، هو الذي يوفر الأحكام التشريعية التي تستوعب متغيرات الحياة ومستجداتها. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي في كل الأزمنة والأمكنة هو الإنسان. والباري عز وجل لا يكلف الإنسان ما لا يطيق ومالا يسعه العمل به. قال تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (1).
والتجديد هو عملية عقلية ـ فكرية مستمرة، يتواصل من خلالها اليوم والأمس، وتتقاطع عندها جملة الخيارات الفكرية والإستراتيجية المطروحة في حوارات دائمة وحركة دؤوبة تتجه إلى اختيار الأنسب والأصلح من هذه الخيارات.
وبهذا المنظور فإننا ننظر إلى عملية التجديد، باعتبارها عملية شاملة، وتتطلب جهود الجميع في مواقعهم المتميزة وإمكاناتهم الواضحة.. فالتجديد ليس عملية ذهنية محضة، بل هو عملية حياتية ـ شاملة، وتستوعب كل الطاقات والقدرات، وتحتاج إلى كل الإمكانات الإنسانية المتوفرة.
والتجديد الذي نقصده، لا يقع خارج الأدلة الشرعية والمقاصد الكبرى. وإنما هو من داخل هذه الأدلة والمقاصد. كما أن التجديد لا يعني التكييف التعسفي بين وقائع العصر والنصوص الشرعية، وذلك لأن عملية التكييف التعسفي لا تفضي إلى تجديد ثقافي ومجتمعي، وإنما تؤدي إلى بتر المسلمات العقدية والفكرية عن وقائع الراهن. فالتجديد كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المعاصرين بأنه استمرار متطور للتاريخ، وحركة رعاية دائبة للنتاج الإنساني بين البداية والغاية، تقتضي التصحيح والتصويب حينا، والخلق والإبداع حينا آخر. وبالتالي فإن عملية التجديد من الضروري، أن تخضع لمعادلة متوازنة وواعية بين الزمني واللازمني، بين التاريخ والغيب، تحفظ للفكر الإنساني دوره في كونه امتدادا للحكمة الإلهية، وللتاريخ الإنساني موقعيته في كونه صلة بين حقائق التكوين والهدف من التكوين في حركة التطور الحضاري. لذلك فإن عملية التجديد بكل مستوياتها ومجالاتها في صيرورة مستمرة، تتعامل مع حياة الإنسان وتقلباتها وتحولاتها على هدى الكتاب والسنة. ويخطأ من يتصور أو يتعامل مع التجديد باعتباره مشروعا متحررا من كل الضوابط المعرفية والعقدية.
فالتجديد ليس تفلتا من الضوابط والقيم، بل هو قراءة عميقة للنص والواقع تفضي هذه القراءة الواعية إلى خلق فضاءات معرفية جديدة على قاعدة النص، وليس بعيدا عن مضامين النص المفتوح على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. لذلك من المهم التفريق بين مصطلحي التجديد والاستلاب. فالاستلاب هو في أحد جوانبه التطور البعيد عن فهم النص وقاعدته المتينة وضوابطه الحضارية. بينما التجديد الذي ندعو إليه، ونعتبره ضرورة من ضرورات الحياة في كل عصر، فهو التطور الإنساني المستند على النص فهما وروحا وتجليا. لذلك كلما تعمقنا في فهم النصوص الدينية الخالدة، توفرت لنا ممكنات إنسانية للتطور والتقدم والتجديد.
لذلك فإننا نعتقد أن التطور القانوني والفقهي في الدائرة الإسلامية، كان نتيجة في أحد جوانبه إلى المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية، وما استحدثته هذه المتغيرات من وسائل وإمكانات لفهم ووعي الأسس والمرتكزات التي تستند عليها عملية التجديد في التجربة الإسلامية. فعملية التجديد مفتوحة على الواقع بكل إمكاناته وتفاصيله، كما أنها في ذات الوقت تتواصل بشكل علمي مع النص لاستنطاقه والبحث في آفاقه وأحكامه ضمن الضوابط الشرعية لهذه العملية. فالنص متحرك في مضمونه وآفاقه، لأنه يتحدث عن فكرة وتشريع بل ومنهج، ومن الطبيعي أن الفكرة والتشريع والمنهج لا يمكن أن يحكم عليهم بالتجمد، لأن كلا من الفكرة والتشريع والمنهج يمكن له أن يتحرك بأفق واسع وفي إطار رحب.
وعليه فإن ملاحقة الواقع بمتغيراته ومكتسباته يرافق عملية الاجتهاد والتجديد من حيث حركته في الموضوعات المتغيرة والجديدة، أو من حيث حركته في المجالات والحقول المتعددة. واستمرت هذه الحاجة عبر العصور المختلفة، وناقشها الكثير من العلماء والفقهاء لتكييف الواقع مع الشرع أو بتعبير آخر لجعل التشريع الإسلامي مواكبا لقضايا العصر المستجدة والمتطورة. أضف إلى ذلك فإن الفقه في جوهره ومفرداته، هو استجابة للبيئة والظروف والتطورات التي حدثت في ذلك أو هذا العصر.
وعليه كما يقول أحد المفكرين المعاصرين، فإن مقولة ثبات النص لا تحول أبدا دون مواكبته لحركة الإنسان في الزمن، ولا فرق بين (ادفع بالتي هي أحسن) و (وجادلهم بالتي هي أحسن) بلحاظ حركيتهما، وبين أية قاعدة أو مقولة فقهية من قبيل (لا ضرر ولا ضرار) و (ما جعل عليكم في الدين من حرج) بما تختزنان من حركية ومرونة تشريعية-اجتماعية. لأن الضرر لا يمكن له أن يتجمد في عنوان دون آخر، وصورة دون صورة أخرى، وكذلك الحرج فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص والأوضاع والحيثيات. ولاشك أن حيوية مضمون النصوص، وعدم وقوفها عند حد من حدود الزمان والمكان، يفتح لنا الكثير من إمكانات التجديد وملاحقة الوقائع المعاصرة من داخل دائرة النص وضوابطه التفسيرية والاجتهادية. لذلك فإننا نستطيع القول: أن التجديد استنادا على النص وبالتقنية الاجتهادية المشروعة يفتح الكثير من الآفاق، بحيث لا تبقى واقعة بعيدة عن النظام الفكري والاجتهادي العام.
وإننا نرى أن التجديد من خارج هذه الدائرة، يؤدي إلى الكثير من التداعيات والآثار السلبية الخطيرة، وفي ذات الوقت يمنعنا من الاستفادة من الثروة المعرفية والقانونية التي توفرها النصوص الثابتة في الشريعة، والتي هي تتجاوز حدود الزمان والمكان. بمعنى أن مهمة المجتهد والمجدد هي في فهم النص بلحاظ الزمان والمكان ومتغيراتهما، دون حبس النص في هذه الظرفية التاريخية. وبهذا فإن عملية التجديد من داخل دائرة النص لا يمكن أن نعنونها بأنها عملية العقل المستريح أو المستقيل، وذلك لأن الدين الإسلامي لا يأبى استقبال المفردات والوقائع الجديدة، لأن الدين مثلا عندما يأمر بالعدل، ويأمر بالإحسان، فإنه يتحدث عن مفهوم يتحرك حسب المعروف والعدل والإحسان في حياة الناس المتحركة وفقا لتطور الحياة. فالمجدد وفق هذا المنظور يتعامل مع التاريخ العلمي بمراحل الزمن المختلفة، دون أن تأسره هذه الإنجازات أو تجمد عقله أو قدرته على التفكير والإبداع الفكري.
والجمود الذي يلف حياتنا ويكتنف حقول أعمالنا وممارساتنا، ليس من جراء قصور النصوص من استيعاب متغيرات الحياة كما يتوهم البعض، وإنما هي من جراء عدم خلق علاقة سليمة مع النصوص. لأن هذه النصوص تتضمن قواعد وكليات قادرة على الإجابة على كل الأسئلة والمتغيرات. فحينما يقول تبارك وتعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) فإن هذه الآية الكريمة تؤسس لقاعدة أساسية للتعامل في عملية نقل المال وتملكه والتصرف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحركة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.
و"ضوابط الاجتهاد هو ان لا كوابح تعيق الحركة وهي موجهات لمن يعالج الفقه أن يتأهل لذلك وللمخاطبين أن يقوموا المجتهدين حسب كسبهم من العلم والتقوى ـ وليست حدودا شكلية منضبطة يظل المتعلم مقلدا حتى يبلغ حرفها ويظل المجتمع متميزا بها بين عامة معزولة عن تكاليف التفكر في الدين"(2). لذلك فإن استنطاق النصوص والقواعد الكلية للشريعة، كفيل بتزويدنا بالإجابات والبصائر التي نحتاج إليها في حياتنا المعاصرة. والدور المنهجي المطلوب في هذا الصدد، الانفتاح على كل الأدوات والآليات المعرفية التي تساهم بشكل أو بآخر في عملية الاجتهاد والتجديد.
ولا ريب أن البحث عن التجديد وأشكال الاجتهاد المختلفة من خارج النص والسياق الحضاري للأمة، يقبر ويقتل جوهر عملية الاجتهاد والتجديد. إذ أن هذا الخروج يعد وفق المقاييس والمعايير المعرفية و الحضارية تجاوزا تعسفيا للروح العلمية والموضوعية، وذلك لأنها تخضع النص لمسبقات فكرية ويقينيات سابقة، مما يدفعنا إلى القول والجزم أن هذه العملية أقرب إلى الخضوع إلى المزاج والهوى والميول منها إلى البحث الموضوعي الذي ينشد الحقيقة بصرف النظر عن المسبقات والقناعات السابقة.
وفي إطار الصيغة المنهجية لعملية الاجتهاد والتجديد في الإطار الفكري والمعرفي نؤكد على نقطتين أساسيتين وهما:
(1) ضرورة الاعتماد على الحجة والبرهان:
فهو المنهج العلمي والموضوعي الذي ينبغي الاستناد إليه في عملية التجديد. ولقد استفاضت آيات من القرآن الحكيم في مقام الاعتماد على مقتضى العقول وحجيته. قال تعالى (وفي الأرض قطعا متجــاورات وجنــات من أعناب وزرع ونخيـــل صنوان وغير صنوان يسقــى بمــاء واحد ونفضل بعضــها علــى بعض في الأُكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (3). وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال عز ذكره (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) (4).
فما ثبتت حجيته بدليل قطعي من شرع أو عقل أخذ به، وما لم تثبت حجيته أي لم يقم على اعتباره دليل لا يؤخذ بالاعتبار في عملية الاستنباط والتجديد. وقال تعالى (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) (5).
ولما كان الظن اتباعا لغير العلم والحجة لم يأذن به الله عز وجل، ولم يكن ليغني عن الحق. لهذا فإننا نرى أن من المسائل المنهجية الكبرى، التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في عملية التجديد، هو استناد هذه العملية في كل مراحلها ومستوياتها إلى منهج الحجة والاتكاء الدائم على العلم الذي هو طريق انكشاف المعلوم ورؤية الواقع المقطوع به.
(2) العلاقة بين النص والواقع:
تعددت نظريات العلاقة بين النص والواقع، وازدحمت في هذا الإطار الأيدلوجيات والأطر الفكرية التي تُنظر لهذه المسألة. وبعيدا عن المضاربات الفكرية والأيدلوجية حول هذه القضية، نوضح رأينا وقناعتنا في طبيعة العلاقة بين النص والواقع في الآتي:
إن تبدل الأحكام الشرعية الثابتة للموضوع المحدد، ليس نابعا من متغيرات العصر، وإنما نتيجة لطروء عناوين ثانوية على الحكم أو أحد متعلقاته. والواقع الذي هو العنصر الآخر في المعادلة هو الوعاء الذي يحتضن أو يستوعب العناوين الثانوية. وهي كثيرة في الشريعة الإسلامية من قبيل الضرر والضرورة والحرج والعسر والعجز والإكراه والجهل واختلاف أحوال الموضوعات بفعل الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا) وتبعية الأحكام للموضوعات. فبفعل هذه العناوين وأشباهها تتحول الأحكام من حال إلى حال على حد تعبير العلماء، فيصير المباح واجبا أو حراما، وقد يتحول الواجب إلى حرام أو الحرام إلى واجب. فهذه العناوين الثانوية، تمنح الرؤية التشريعية مرونة كبيرة في مجال الابتلاء والتطبيق. ووفق هذه الرؤية يتم استيعاب مساحة الواقع المتحركة بالنصوص الشرعية الثابتة. بمعنى أن النصوص الشرعية في هذا الإطار تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: النصوص التي تتولى البعد الثابت في الواقع الإنساني من قبيل علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع والآخرين وعلاقته بنفسه وأسرته وبالأشياء من حوله. والقسم الثاني: طائفة من النصوص تتولى استيعاب الواقع الإنساني المتغير وإعطاء المرونة في الحكم الشرعي في مجال التنفيذ والممارسة بمقتضى متطلبات الواقع. بشرط أن تكون العوامل والعناوين التي تكون سببا في تبدل الحكم الشرعي ومرونته في الظروف الواقعية المختلفة معرّفة ومحددة من قبل المشرع نفسه.
وبما أن الحياة والواقع هي مادة الأحكام الشرعية، لذلك فإن أي قطيعة بين الفقه والواقع ستكون على حساب ثراء الفقه وجدواه. لذلك نجد أن القرآن الحكيم نزل منجما حتى تتحد فيه النصوص مع الحياة. وبهذا لا يتورط الفقيه أو المجدد في منهجه بألفاظ النصوص فقط ولا في الوضعية الذرائعية التي تخلد إلى الواقع. لأنه يريد أن ينزل المثال على الواقع ويضبط الواقع على حكم المثال.
لذلك كله فنحن بحاجة دائما إلى الاتكاء في مواقفنا وأحكامنا على الحجة والبرهان، ونبتعد كل البعد عن تلك الآراء التي لا تستند على دليل عميق بحيث تكون جميع قناعاتنا ومسلماتنا مستمدة من العلم والمعرفة والوعي العميق بوقائع الأمور.
والمسلم المعاصر أحوج ما يكون اليوم، إلى تطوير نمط علاقته بالنصوص، حتى تصبح علاقة حيوية وفاعلة وبعيدة عن كل أشكال الحرفية والجمود. فالعلاقة الواعية مع النصوص، هي وسيلتنا لإزالة كل أشكال الغبش الذي حجب عنا الرؤية السليمة، وأدخلنا في متاهات ودهاليز، عمقت الفهم القشري لتعاليم الدين، وأخرجتنا من صميم الحركة التاريخية.
فلا مناص لنا اليوم إلا تجديد وعينا بالإسلام، فهو وسيلتنا للتمكن في الأرض والدخول النوعي في مسيرة الحضارة المعاصرة. فالتجديد ليس خضوعا لضغوطات الواقع وليس توفيقا تعسفيا مع حاجات العصر، وإنما استنطاق أصيل لثوابت النص لاستيعاب المتغيرات وتقديم الحلول والإجابات وفق القواعد العامة والأصيلة.
والدين بالمفهوم العام هو محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الابتلاء الظرفي القائم في الأرض. فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هي صميم الابتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما، حتى تدار الحياة بصروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد في كل حال.
ومن المؤكد ومع انتشار حركة الصحوة الإسلامية، يتطلع اليوم الكثير من أبناء الأمة الإسلامية إلى إقامة حياة إسلامية تتوحد فيها مصالح دنياهم بصلاح آخرتهم. لذا فإن الانتقال إلى فقه المجتمع يتطلب بيان مناهج الإسلام وتشريعاته انطلاقا من الواقع والحياة لا الفرضيات والمجردات. ويقول العلامة الفرنسي في الفقه المقارن (إدوارد لامبير) "أن في الفقه الإسلامي كنزا مخبوءا ينتظر من يجلوه لعالمنا المعاصر، ليهتدي بهديه ويسترشد بمنطقه في الحيرة المدلهمة التي أعجزت عالمنا الآن عن التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وصرفة عن التوفيق الحكيم بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع"(6).
فالاجتهاد والتجديد والفهم المقاصدي للدين، لا يعني بأي حال من الأحوال الاندماج في البنى المعرفية والمنهجية الحديثة، بل يعني تطوير نظام الفهم والمعرفة لقيم الدين ومبادئ الإسلام.
فالتجديد عملية تواصل عميق بين النص والواقع، إذ لا تجديد حقيقي في الدائرة الإسلامية، إلا على قاعدة الإسلام، ولكي يتم تجسيد قيم الإسلام في الحياة، يحتاج أن نتعرف بعمق على حركة الواقع بكل مجالاته وآفاقه، وهكذا تجمع عملية التجديد فقه النص وفقه الواقع، ومن خلال التفاعل الحيوي بينما تنتج الرؤى الجديدة والبصائر الرسالية التي تفضي إلى إقامة القسط والعدل في المجتمع والحياة. ومن خلال الأصول والقواعد والمقاصد العامة للدين، تتم الاستجابة للمتغيرات، وتتبلور الحلول الواقعية للمشكلات الخاصة والعامة. فالجمود الفكري والمعرفي لا يمتلك إمكانية استنطاق النص ولا التفاعل مع الواقع مما يؤدي إلى غربة مزدوجة.. غربة عن النص بآفاقه ومضامينه الحيوية والمتحركة، والواقع بتياراته واندفعاته وممكناته وتموجاته.
وهذه الغربة المزدوجة، تعمق خيار الجمود واليباس الفكري والمنهجي.. لذلك فإن إرساء معالم التجديد الفكري والمنهجي في الواقع الإسلامي المعاصر، يتطلب باستمرار العمل على طرد كل عوامل الجمود واليباس من واقعنا وفضائنا المعرفي والاجتماعي. فالجمود بمتوالياته النفسية والمجتمعية، هو العدو الأول للتجديد. لذلك فإن العمل على نقد أسس الجمود، هو الخطوة الأولى في مشروع التجديد الفكري والمنهجي. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني نفي صفة التراكم في عمليات الاجتهاد والتجديد، ولكنه لتحرير المجدد من سلطة المسبقات التي قد لا تنسجم وروح النصوص الإسلامية. وبالتالي فإن التجديد يتطلب رؤية مفتوحة وعميقة على المنجزات العلمية والفقهية السابقة لاستيعابها وفهم نظامها وروحها الداخلية، دون الانحباس فيها. بمعنى أن استمرار التراكم العلمي والفقهي، يتطلب التواصل العميق مع هذه المنجزات، دون الوقوف عندها، وإنما العمل على الإضافة عليها وتطوير حركتها العلمية والتاريخية.
فالتجديد لا يساوي القطيعة وعدم التواصل مع المنجزات العلمية السابقة، بل يعني التواصل الواعي معها، وامتلاك القدرة العلمية والإمكانية المنهجية للإضافة عليها.
لهذا فإن التعمق في الدرس الفقهي، يعد ضرورة ماسة لكي يتمكن المجدد من إنجاز مفهوم التواصل العلمي والمنهجي. التعمق الذي يبتعد عن أشكال التكديس والتوصيف، ويذهب إلى روح العلم والقيم الأساسية التي تقف ورائه، والعدة المنهجية التي تم الاستناد عليها في عملية الاجتهاد والاستنباط.
وبالتالي فإن مواكبة العصر، وخلق إطارات فكرية ومعرفية جديدة، والشهود والحضور الدائم في كل مساحات الحياة، هي الوظائف والمهام المتوخاة من عملية التجديد والاجتهاد.
فالتجديد ليس سجالا أو مماحكة بلا أفق، وإنما هو استنطاق النص وخلق الإجابات على هداه في موضوعات الحياة المختلفة لذلك فإن " أي عمل على إسقاط جدوائية العقل الإنساني - المدعو في النص الشرعي المعتبر بحجة الله الباطنة - في تحمله لدوره الذي يستحق سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في المساهمة الحضارية، وبقاء الفشل في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد، والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا وأن إلغاء الإنسان العقل من طريق الاجتهاد الديني تحت ذريعة أن النص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوليات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما أحتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميز يمكننا في ظله استنباط واستنطاق النص المتمثل في الوحي، والحديث الشريف " (7).
والاجتهاد المقاصدي، لا يمارس اعتباطا أو بعيدا عن مقتضيات النصوص، وإنما هو بحاجة إلى دراسة عميقة للنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع إطلاع وتواصل معرفي مع المتون الفقهية، واستيعاب لملاكات الشريعة، وإطلالة دائمة على الواقع بتحولاته وتطوراته.
والقرآن الحكيم هو المرجعية العليا، التي تحدد مقاصد الدين والشرع، لذلك فإن الاجتهاد والفهم المقاصدي للدين، يتطلب علاقة حيوية ودائمة مع القرآن الحكيم، حتى يتسنى لنا من خلال آيات الذكر الحكيم من تحديد المقاصد ونظام أولياتها. والمفردات القرآنية كما هو معلوم، تستوعب كل لحظات الزمن، وتحتضن كل الظروف، لذلك فإننا نستطيع من خلال التدبر في آيات الكتاب العزيز من بلورة منهج الفهم والاجتهاد المقاصدي للدين وقال تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) (8).
وإن متغيرات الحياة المتلاحقة، ينبغي أن لا تدفعنا بعيدا عن مرجعيتنا الفكرية والعقدية، لأن هذا الابتعاد لا يؤهلنا على المستويين الذاتي والموضوعي لفهم واستيعاب هذه المتغيرات. إن القبض على تطورات الحياة، لا يتم إلا بتفعيل وتطوير العلاقة مع النص الشرعي والعمل على استنطاقه بعيدا عن أرضية الجمود والركود ومنظومات الاستلاب والارتداد.
وجماع القول: إن عقولنا ينبغي أن تنفتح وتتواصل مع كل المنجزات المعرفية والعلمية، وتستمع إلى كل النظريات والمقولات، وتتبع أحسنها وما ينسجم والمضمون الحضاري للإسلام. قال تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (9).
فالمطلوب هو أن نمارس التفكير ونوظف كل طاقاتنا وإمكاناتنا لفهم واستيعاب منجزات العصر والإنسان، دون شعور بدونية أو مركب نقص، وننخرط بعلم ووعي في مجريات الحياة المعاصرة.
الثابت والمتغير في الأحكام:
بعيدا عن تفاصيل هذه المسألة، ونود أن نتحدث عن الإطار الأساسي لتحديد الثابت والمتغير في الأحكام الشرعية.
فللأحكام الشرعية أنماطا عدة، ينسجم بعضها مع الفطرة الإنسانية تمام الانسجام، وشرع وفق مقاييس الجبلة الإنسانية، بمعنى أن مقتضيات وضع تلك الأحكام والقوانين الشرعية هي الفطرة الإنسانية وإنسانية الإنسان من حيث كونه إنسانا وليس شيئا آخر..
ومن هذه الأحكام: قاعدة البينة على من أدعى واليمين على من أنكر، وقاعدة لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والصلح خير، والناس في سعة مما لا يعلمون، ولا ضرر ولا ضرار وحرمة القتل والسرقة والغش والكذب والخيانة ووجوب العدل والصدق والأمانة وغيرها.
هذه الأحكام والقوانين لا تطالها يد التحول بسبب أن هذه الأحكام تمس فطرة الإنسان، وتعنى بخصوصيته. لهذا هي تعد أحكاما مسلما بها ومثل هذه الأحكام كمثل القوانين الفيزيائية كـ (الجسم يتمدد بالحرارة) أو أن الجسم يحتاج إلى حيز لأنه ثلاثي الأبعاد طول وعرض وارتفاع. فهذه قوانين ثابتة لا تتغير ولا يطالها التحول.
وثمة قوانين وتشريعات في الإسلام لا ترتبط بالفطرة الإنسانية وطبيعتها، بل بالظروف الخاصة للمجتمع ومذاقه العام والخصوصيات التي تحيط به، هذه العوامل وأمثالها هي التي تملي تلك التشريعات والقوانين.. لهذا فإن هذه التشريعات تكتسي خصوصية معينة، وتدور حول مدار ذلك المجتمع بعينه وبالتالي فإنها قائمة بقيام الظروف الخاصة لذلك المجتمع بعينه.. فتتحرك تلك التشريعات مع تحرك الظروف التي تحكم خطى المجتمع وتضبط إيقاعه ومن الأمثلة البارزة لذلك حديث (إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبع أذرع) وواضح أن الأحكام المرتبطة بشؤون الطرق والمسالك والأزقة كانت تتلاءم ومتطلبات الناس المحدودة والبسيطة آنذاك، ولم تكن الحاجة تستدعي أبعد من ذلك.. وتدخل في هذا السياق أيضا التشريعات المتعلقة بالسباقات والرماية وأحكام الرق التي تشمل الغلمان والإماء وما أشبه.
أثر الزمان والمكان في التجديد:
الدين بقيمه ومبادئه، هو كائن حي ومتجدد، وينهض بعناصر الحياة والديمومة، من خلال قيمه العليا المتجاوزة لحدود الزمان والمكان، وتفاعل الإنسان المسلم معها.
وعبر هذه العملية يتم التغلب على المشاكل التي تعترض طريق المجتمع، وتتم مواكبة المتطلبات والحاجات الجديدة.
فعوامل الزمان والمكان، تؤثر في فهمنا لقيم الدين.. وبالتالي فإن المعرفة الدينية التي ننتجها هي متأثرة ومتفاعلة مع الظروف والتحولات والحاجات التي نعيشها..
لهذا نجد أن فقه المدينة له ملامح معينة مستلهما من خصوصيات البيئة ومتأثرا بمتغيراتها، وحينما انتقل إلى العراق والكوفة، اتخذ طابعا مختلفا ولونا مغايرا عنه في بيئته الأصلية. والفقه الشيعي (تاريخيا) في مدينة قم، التي كانت مركزا لكبار المحدثين، كالشيخ الصدوق، وحينما هاجر هذا الفقه إلى بغداد حاضرة العلم وحل في بيئة تختلف في مفرداتها عن سابقتها، فحمل متطلبات المحيط الجديد وخصوصياته.. والشيخ المفيد بعطاءه العقدي والفقهي هو أحد العناوين البارزة لهذه المرحلة.
فالفتاوى والأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال. وينقل في هذا الصدد ابن إدريس عن الشيخ الطوسي أنه قال في كتاب (عدة الأصول): لقد أوردت في الاستبصار وتهذيب الأحكام نقلا عن أئمتنا عليهم السلام ما يربو على خمسة آلاف حديث متعارض ومختلف في المسائل الفقهية، ويقف علماؤنا من هذه الأحاديث مواقف متباينة (فلكل رواية جعلها مستند فتواه). والمعروف عن العلامة الحلي أنه في أغلب مؤلفاته الفقهية كان في كل مرة يراجع مصادر الحكم فيصدر فتوى جديدة تختلف عن سائر فتاواه في كتبه السابقة.
وباختصار نشير إلى أهم العوامل التي تتضح من خلالها عملية تأثير الزمان والمكان على عملية الاجتهاد والتجديد.
1- تحول القيم الأخلاقية: وأبرز علاماته هو مسألة العبيد، فإن انخفاض مستوى الاهتمام بها (مسألة العبيد) في الكتب الفقهية، هو من جراء إلغاء نظام العبيد في البلاد الإسلامية.. وهناك من يذهب إلى تفسير هذه المسألة بانتفاء الموضوع، في حين أن السبب الحقيقي يتمثل بالتحول الذي طرأ على القيم الأخلاقية.. فلو قتل كافر في المجتمع الإسلامي مسلما، فهل يحق لورثة القتيل المسلم، أن يسترقوا الكافر ويتخذوه عبدا؟ هل سألنا أنفسنا عن طبيعة المانع الذي يحول دون الاستفادة من حق التملك الشرعي هذا.
وتتضح هذه المسألة أيضا على طبيعة علاقة الزوجة بالزوج.
وذلك من خلال إثارة هذه العناوين:
أ- هل ينطوي مفهوم المعاشرة بالمعروف (وعاشروهن بالمعروف) في مجتمعنا المعاصر على معناه السابق نفسه الذي كان عليه، وهل يتساوى، بين حياة القرية وحياة المدينة.
ب- هل تنطوي قيمومة الرجل ورئاسته للأسرة (الرجال قوامون على النساء) على معنى امتثال التكليف وحفظ الأمانة، أم يعبر هذا الموقع عن نزعة التسلط وإشباع نزعات الرضا والميول الشخصية لدى الزوج.
وخلاصة القول: إن التحول الهادئ في القيم الأخلاقية، أعاد ترسيم الحدود المألوفة والمتوارثة، واقتضى بروز اجتهادات فقهية جديدة.
2- العوامل الجغرافية والمكانية: لقد أبرز عدم أتساق سن البلوغ الشرعي عند البنات مع الواقع الطبيعي والاجتماعي المعاش في عصرنا الحاضر ميلا للقول أن سن التكليف إنما هو أحد العوامل الكاشفة عن البلوغ، وليس موضوعا كاملا.
3- تغير العلوم والتقدم التكنولوجي: نص الفقه أن البرص والقرن عند المرأة من أسباب فسخ العقد والنكاح، والسبب الذي يذكر لذلك هو أنهما صعبا العلاج وكذلك يقال عن العنن الذي يصاب به الزوج والآن لنفترض أن الطب الحديث استطاع أن يعالج هذه الأمراض بالدواء أو بالجراحة، فهل تبقى بعد ذلك هذه العناوين كأسباب لفسخ عقد النكاح.
4- تغير الاحتياجات والضرورات: ليست قليلة هي الأحكام التي أدرجت في الفقه استجابة لحاجات الناس الملحة أو جاءت جريا على الأعراف السائدة في زمان سابق. وفي عصرنا الحاضر تفرض بعض الضرورات إيجاد تحولات في القواعد الحاكمة على بعض الجماعات الاجتماعية التي تعيش حالة العجز أمام المستطيعين والأقوياء. وأهم جماعتين تبرزان على هذا الصعيد هما العمال والأجراء.
ومن الأمثلة الفقهية التي تم التحول فيها هي: عقد التأمين، إذ أن الفقهاء في السابق كانوا يحكمون ببطلان المعاوضة التي لا يعلم أحد عوضيها، لأجل الغرر المنهي عنه.
وبيع ثمرة العمل بالمؤجل فقد حرم هذا النوع من الضرب من البيع في زمن كان الحكم فيه قانونا لتنفيذ العدالة، والحيلولة دون الظلم الذي يطال العامل الكادح. أما اليوم فقد برزت مصالح أهم أخذت تدفع للقبول الفقهي بمثل هذا الضرب من التعامل. لهذا فنحن اليوم نبيع النفط بهذه الطريقة، ونؤمن جميع ما نحتاج إليه من بضائع وسلع عن طريق بيع السلعة بالسلعة.
5- تغيير البنية الاقتصادية: في الوقت الذي تستطيع فيه المعامل الصغيرة أن تؤمن حاجات المجتمع برساميل صغيرة، فإن صاحب العمل يحتاج لإدامة حياته الاقتصادية إلى الأجير والعامل، وفي الوقت نفسه يحتاج الأجير والعامل إلى صاحب العمل..
وفي الحصيلة يمكن لعقد الإجارة الذي ينظم عن تراض بين الطريفين أن يؤمن العلاقة العادلة بينهما.. أما اليوم فإن الواقع يعكس وجود أصحاب رساميل جشعين مع عمال ذاقوا مرارة البطالة مما يدعو الفقيه إلى ضرورة إيجاد منظومة قانونية تحمي مصالح هذه الفئة المستضعفة والمحرومة.
النص والعقل:
لقد امتدح الباري عز وجل في كتابه الكريم العقل مرات عدة، وأوصى بضرورة التعقل وجعل العقل أساس الدين وبنيته، كما اعتبر رسوله الكريم (ص) العقل إحدى حجتي الله على الأرض، بعد الأنبياء، بمعنى أن دور العقل (في بعض الحالات) شبيه بدور الأنبياء أنفسهم، وأنه يرتجى منه ما يرتجى من النبي في الدلالة والقيادة وبيان المنفعة والضرر والحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فردية أو جمعية.
من هنا فإن الأنبياء عليهم السلام يستندون إلى وحي السماء في إصدار الأحكام، يمكن للفقه الاجتهادي والتجديدي الاستناد إلى العقل في حال انعدام الدليل النقلي أو في فهم وإدراك مقاصد الدليل النقلي.
والمفارقة العجيبة على هذا الصعيد، هو أن العلماء والفقهاء بذلوا جهودا مضنية في إثبات رقي العقل ورجاحته في علم أصول الفقه، لكن في الفقه هناك تخليا عن دور العقل في استنباط الأحكام الشرعية – الفرعية.
وثمة علاقة سببية وطردية بين إيمان الإنسان، وبين تلبية حاجاته، فكلما كانت استجابة الدين لتلك الحاجات أعلى تضاعف إيمان الإنسان وازداد قوة وصلابة وثباتا، فضلا عن ازدياد تعلقه وشغفه بهذا الدين الذي سيضحى قضية محببة للإنسان..
والدين إذا انكص عن النهوض بمتطلبات المجتمع الحي المتجدد عبر القرون والإعصار، وعجز عن توفير أسباب الازدهار والارتقاء للمجتمع، فإنه لن يفلح في فرض المعتقدات عليه.
و الفكر الإسلامي وعبر أطواره المختلفة، أنقسم من ناحية معرفية - استمولوجية إلى قسمين:
1- تيار العقل وهو الذي ينافح عن مرجعية العقل، وتفوقه على النص.
ومثل هذا القسم في التجربة الإسلامية الشخصيات الفلسفية والكلامية.
2- تيار مرجعية النص، الذي استمات في الدفاع عن أصالة النص مرجعية لا يمثل العقل سوى تابع لها إذا اعترفت به تابعا.
ومثل هذا القسم غالبية الفقهاء والمحدثين.
ويبدو من الناحية التاريخية أن قدر الأديان والأفكار الكبرى هو هذا الصراع الذي يستهدف تحديد المرجعية الأولى، هل هي العقل أو النص وقد قدم المفكرون والعلماء حلولا عديدة وصياغات متفاوتة، لحل أزمة العلاقة هذه، من دون أن يجري التوصل إلى إجماع حاسم يفرض الموضوع أساسا مسلما به.. ولعل أول تفجر في الدائرة الإسلامية التاريخية للأزمة بين العقلي والنصي كان مع أبي حنيفة (ت 150هـ) في النصف الأول من القرن الثاني. فقد ركز أبو حنيفة أعمدة العقل وحصر، إلى حد بعيد، دور النص ونشاطه في النطاق الفقهي.. وقد شكل ذلك بداية انقسام فقهي حاد في شأن مرجعية العقل تمثلت في أهل الحديث وأهل الرأي.. وكانت نهايته انتصارا لأهل الحديث بلغت ذروته مع أحمد بن حنبل، وذروة ذروته مع ابن تيمية الحراني في القرن الثامن الهجري.
أما الشيعة فكان الأمر مختلفا بالنسبة إليهم، إذ أنه، وفي القرن العاشر بالذات، دخلت فقهياتهم، مخاضا عسيرا، أسس لنصية جديدة ومتطورة.. فقد قدم محمد أمين الاستربادي مجموعة من التصورات في كتابه (الفوائد المدنية) والذي بدأه بترسيم أولي لقدرات العقل وانتهى به، إلى إيجاد تقليص جديد، تخطى استبعاد العقل إلى تقليص النص نفسه لصالح نص آخر..
فقد استبعد النص القرآني بشكل من الأشكال، وأزيح العقل والإجماع في عملية الاستنباط الفقهي، قابله توسعة لا سابق لها للحديث الشريف إلى حد القول بقطعية الكتب الأربعة، أو اعتبارها حجة بالمطلق.. وقابل هذه المدرسة، مدرسة أصولية، توازن بين النص والعقل وهي مدرسة آمنت بمرجعية مميزة للعقل في العقديات، وفي بعض المراحل وبالذات لدى الفلاسفة والمتكلمين، اعتقدت انسجاما مع السياق الفلسفي العام، بتفوق عقلي – شهودي على النص بمعنى من المعاني. وأول من دشن مرحلة الرد على المدرسة الحديثية – الإخبارية هو الوحيد البهبهاني.
آفاق التجديد المعاصر:
على المستوى المعرفي والروحي والأخلاقي، يشكل الدين الإسلامي بكل أنظمته وتشريعاته، ثروة هائلة وغنية بالمضامين التي تساهم في رقي الإنسان مادة وروحا، ولكن هذه الثروة المتميزة، تحتاج باستمرار لمواكبة العصر ومستجدا ته، والإجابة على أسئلة الراهن وتطوراته، إلى إعمال العقل واستفراغ الجهد الفكري والمعرفي، لتظهير هذه الكنوز المعرفية والروحية والأخلاقية..
ودون عملية الاجتهاد الفكري والمعرفي والفقهي، ستبقى هذه الكنوز في كليات القيم والخطوط التشريعية الكبرى في الإسلام. دون قدرة إنسانية على الاستفادة منها حق الاستفادة.
لهذا فإننا نعتقد أن عملية الاجتهاد الفكري في هذه اللحظة الراهنة، ضرورة إسلامية، وحاجة مجتمعية وجسر عبور للشهود الحضاري في هذا العصر..
وتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. فالمعرفة الدينية لاتتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة. والمهمة الملقاة اليوم على الفقهاء والمفكرين والدعاة، هو صياغة تصوراتهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الفكرية والمجتمعية على قاعدة إن مهمتهم الأساسية هي المشاركة في تحرير الإنسان فردا وجماعة، من كل الأغلال والعقبات التي تحول دون عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى نحو أن تكون تصرفات الإنسان متطابقة ومنسجمة وقيم الإسلام ومثله العليا.
وكما يقرر الباحثون في التجارب الإصلاحية الدينية والسياسية: إن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الدينية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف..
لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي وبيان أنه (الإسلام) صالح لكل زمان ومكان، وضرورة خلق الفاعلية الحضارية للمسلمين عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه.. إن هذه العملية هي مرتكز مشروع الإصلاح، وهي الإطار النظري له.. وحين التأمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، نجد أن هذا الواقع يعاني من تاءات أربع (التخلف–التجزئة–الاستعمار بمرحلتيه المباشر وغير المباشر–الاستبداد) والعلاقة بين هذه الوقائع متداخلة وعميقة.. فلولا التخلف لما كانت هناك تجزئة واستعمار وديكتاتورية.. ولكي يديم الاستعمار هيمنته، هو بحاجة لإدامة التخلف والتجزئة والاستبداد..
فكل حقيقة تتغذى من الأخرى، ولكن جذر المشكلة هو التخلف.. ويمكن مواجهة هذه المعضلة الأساسية من خلال التقاط التالية:
1- صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين..
2- العمل على بناء نخبة واعية، تأخذ على عاتقها صناعة الوعي والحقائق المضادة للتخلف في المجتمع..
3- المساهمة في بناء وقائع وحقائق مجتمعية تتبنى مشروع الإسلام وتعمل من أجل تمكينه في الأرض..
وعليه فإننا نعتقد أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري في أي تجربة إنسانية، هي عبارة عن عملية تفاعل وجدل بين العناصر الثلاثة (النص والفكرة – الواقع بكل مستوياته – الإنسان الذي يقوم بعملية الربط والتفاعل والاستنباط)..
ولا يمكن أن تتم عملية التجديد والإصلاح بدون العلاقة العضوية بين هذه العناصر.. ولكي لا نقع في اللبس وسوء الفهم، في تقديرنا أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري تعني:
1-تجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع..
2-إنهاء المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين، بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي..
3-القدرة على استيعاب التفاصيل والجزيئات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد..
4-تقديم تفسير جديد لمفاهيم الإسلام وقيمه.. فالتجديد يساهم بتقديم رؤية جديدة لقيم الإسلام التي صنعت أمجاد الحضارة الإسلامية.
واليوم وفي ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجالين العربي والإسلامي، لا يمكن أن تسود قيم الإسلام الحياة العامة، وبدون التجديد الديني والإصلاح الثقافي..
لأن هناك حواجز وعقبات كثيرة، تحول دون انطلاقة الإسلام في الحياة العامة.. لهذا فإن التجديد والإصلاح هو جسر العبور نحو هذه الغاية..
فالتجديد وفق الرؤية المذكورة أعلاه، هو ضرورة دينية وحاجة إسلامية معاصرة، وجسر عبور المسلمين لكي يعيشوا الإسلام والعصر معا..
والتجارب الإسلامية الناجحة والمعاصرة اليوم، هي التي توسلت بطريق التجديد الديني والإصلاح الثقافي، لأنه لا يمكن أن تقوم نهضة إسلامية حقيقية في ظل سيادة ثقافة التبرير والتخلف وأنظمة اجتماعية وثقافية تلغي إنسانية الإنسان وتمتهن كرامته.. فحجر الزاوية في مشروع الإصلاح والتجديد هو بناء ثقافة المسلمين ووعيهم المعاصر لذواتهم ولمحيطهم وفضائهم الإنساني بعيدا عن نزعات الاستئصال والجمود وتكرار المقولات التي عمقت وعززت جذور التخلف بكل مستوياته في حياة المسلمين المعاصرة..
فالتجديد والإصلاح هو الذي يحررنا من ثقافة الاستبداد والتخلف.. لهذا لا يمكن أن تتأسس تجربة إصلاحية بعيدا عن هذه القيم ومتوالياتها العقلية والثقافية والاجتماعية.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن الالتزام بخيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي، هي من أهم عناصر القوة في تجربة أي مجتمع إسلامي معاصر لأنه يوفر له إمكانات وآفاق عديدة للعمل وخدمة الإسلام والمسلمين من خلالها.. صحيح إن تبني خيار الإصلاح والتجديد له كلفته الاجتماعية والسياسية، ولكن من ينشد إصلاح أوضاع الأمة، وإعادة مجدها التاريخي، لا يمكن أن ينجز ما يتطلع إليه بعيدا عن خيار التجديد والإصلاح..
اتجاهات التجديد:
1- إعادة صياغة منظومة التشريع الإسلامي صياغة حديثة، قادرة على المخاطبة والفعل في العقول الجديدة.. وهو اتجاه حاول إعادة تقديم الفقه والتشريعات الإسلامية بصورة جديدة، محافظين إلى حد بعيد على المضامين السابقة.. مثلا كتاب العروة الوثقى للسيد اليزدي، كتب بلغة حديثة في(الفتاوى الواضحة) للسيد محمد باقر الصدر.. وكتاب المكاسب وكتاب الروضة كتبا بلغة معاصرة في (فقه الإمام الصادق) للشيخ محمد جواد مغنية.
وهذا الاتجاه لم تكن التغييرات المضمونية هدفا أساسيا، وإنما الأولوية هي لإعادة إنتاج لغوي للنصوص العلمية القديمة..
2- تمثل في ابتكار منظومات مفاهيمية وعقلانية، أريد لها أن تخلع على الموروث المعاد صياغته.. ولم يكن بالإمكان تحقيق هدف كهذا من دون الدخول في عالم (فلسفة الأحكام) و(تاريخية التشريع) و(علم الكلام الجديد) و(تطوير نظام المعرفة الدينية).
لذلك فإننا نعتقد وبنسب متفاوتة، أن كل العلماء والمفكرين الذين كتبوا في العناوين السالفة الذكر، هم ساهموا بشكل أو بآخر في خلق تجاه ومدرسة تجديدية في الفكر الإسلامي.
ولعل أهم الخطوط التي اشتغل عليها هذا الاتجاه هي:
أ- قراءة الموروث الإسلامي، مع الاستعانة بالجهود العقلانية التي توصلت إليها الحضارة الحديثة.
ب- الاقتراب المنهجي من موضوعات وقضايا فكرية وفلسفية مسكوت عنها.
ت- القيام بصياغة جديدة لبعض المفاهيم والبنى المعرفية.
ث- الانفتاح والتواصل مع المنجزات المعرفية الإنسانية والحديثة.
ج- تقديم تفسيرات عقلانية للأحكام والتشريعات الإسلامية.
واستند هذا الاتجاه في عملية تجديده على النظريات التالية:
1- نظرية المستقلات العقلية: إذ أن هذا الاتجاه يعتقد أن الفقه الشيعي تعامل مع المستقلات العقلية (ما يستقل به العقل العملي) تعاملا نظريا، ولم يمنح هذا العقل حركته ميدانيا عدا في عموميات لا تأثير معتد به لها كقبح الكذب وحسن الصدق. وقد نادى هذا الاتجاه بإشراك العقل في هذه المساحة، وهو إشراك تبدو قضايا فلسفة الأحكام ذات دور فعال فيه..
2- نظرية اكتشاف الملاك (11): إذ يرى هذا الاتجاه، إننا قادرون على اكتشاف الملاكات الموجودة في الأحكام، إذا ما استثنينا دائرة العبادات كالصلاة والحج، وأنه لا بد من تخفيف تلك الهالة الغامضة التي حاول العقل الفقهي الإغراق فيها، محيطا الأحكام الشرعية بها، لتبدو الملاكات من خلالها مستحيلة الرؤية.
وهكذا تتحول المكتشفات العقلانية في الأحكام الشرعية إلى وسائل استنباطية جديدة لدى بعض الفقهاء والباحثين. وتجلت تأثيرات هذه النظرية في فقه المرأة والفقه السياسي ونظريات مقاصد الشريعة.