أزمة التربية على حقوق الإنسان في العالم العربي

د. علي أسعد وطفة

2020-09-09 08:01

يقول الإمام علي كرم الله وجه: "يا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً للحق فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لا تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ، وَلَا تَقُلْ مَا لا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الْأَلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَلَا تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ، فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ» (نهج البلاغة).

مقدمة:

يؤكد فيض الدراسات الاجتماعية والسياسية أن المجتمعات العربية في أغلبها تعاني من مختلف أشكال القهر والاستبداد السياسي والاجتماعي وأن الأوضاع الديمقراطية في حالة تدهور وتراجع ولا توجد هناك في حقيقة الأمر أية مؤشرات واقعية على تقدم مسيرة الديمقراطية أو حقوق الإنسان في العالم العربي، بل وعلى خلاف ذلك تؤكد المعطيات السياسية والاجتماعية أن الاستبداد والتسلط يتقدم بصورة مستمرة، وأن الإنسان العربي غدا اليوم أكثر عزلة وإحساسا بالضياع الإنساني بالمقارنة مع ماضي الأيام والسنوات. فالاستبداد السياسي والاجتماعي أصبح راسخا كالجبال الراسية وهو يسحق الجماهير العربية ويستلبها ويمعن في قهرها بدرجة يندر مثيلها في تاريخ القهر والاستلاب.

ويشهد الواقع الاجتماعي العربي المعاصر غيابا واسعا ومتزايدا لحقوق الإنسان، حيث يتعرض الإنسان العربي وبصورة متنامية لمختلف أشكال الاضطهاد والتمييز والتسلط، ويعاني مختلف ألوان التعصب والقهر، ويكابد من غياب الحريات العامة، "فهو محروم من حرية إبداء الرأي والتعبير في شؤون مجتمعه ووطنه وأمته وهو مغلول عن المشاركة في تقرير مصيره ومصير بلده ومكبل بقيود القهر والخوف والحاجة"(1). وفي خِضَمِّ هذه المعاناة، وفي غمرة هذه المكابدة التاريخية، ينزوي الإنسان العربي صاغرا في دائرة الصمت، يخشى الحلم، ويرهب الكلمة، وتغتذي في نفسه كل مشاعر الهزيمة والاغتراب.

لقد أكدت رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية في العالم العربي هذه الصورة المأساوية لواقع حقوق الإنسان في الوطن العربي في تقريرها السنوي في تشرين أول/أكتوبر 1985 حيث جاء في هذا التقرير: "أن وضع الحريات الأساسية للإنسان والمواطن في بعض البلدان العربية مأساوي إلى حد كبير، فالحرية الفردية يضرب بها عرض الحائط والحريات الجماعية لا تصان، والرقابة مفروضة، وحرية التعبير لا تمارس إلا سرا (2). وقد بين التقرير أن هجرة الأدمغة والعقول العربية إلى الخارج إنما يأتي نتيجة لغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذه البلدان.

وقد بينت أغلب بحوث المشاركين في ندوة حقوق الإنسان التي عقدتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة في أيار/مايو 1985: " إن حقوق الإنسان التي نُصَّ عليها في معظم الدساتير ونادت بها الشريعة الإسلامية، والتزمت بها الدول العربية أمام المجتمع الدولي لا تزال تنتهك في الأقطار العربية، وأن المواطن العربي يدفع ثمن كل هذا، ولذلك فإن حصول المواطن العربي على حقوقه كاملة أصبح واجبا لا يحتمل المساومة لتحقيق التقدم والوحدة " (3). هذه هي صورة الإنسان العربي على تخوم القرن العشرين، لقد حاصرته كل القوى التي تدمر وتقهر، وفي غمرة هذا الحصار، تحول هذا الإنسان إلى مواطن لا يعرف من حقوق الإنسان غير ألفاظها، ومن القيم التي تنهض عليها غير رنينها، ومن الأمل في حياة حرة كريمة غير التصورات الخيالية الحالمة.

فالحياة الاجتماعية العربية متشبعة بقضايا التمييز العنصري واستبداد الأقوياء، واضطهاد الأقليات العرقية، وخرق المبادئ الإنسانية في المجتمع. وهنا يمكن للتربية أن تؤدي أدوارا في غاية الأهمية والموضوعية، ويكمن دورها في "احترام حقوق الإنسان واحترام حقوق الطفل واحترام حقوق الأقليات، والإيمان بالعدالة الاجتماعية". وهذا يعني على حد تعبير الحطاب " التأكيد على مبدأ التربية الأخلاقية وقيم التسامح بالدرجة الأولى في المدارس والمؤسسات التربوية " (4).

فالرصد التاريخي والموضوعي يبين بالأدلة القطعية أن أغلب الأنظمة العربية الاجتماعية والسياسية تعاني من وضعية تخلف شاملة وهي أشبه بالبيوت الآبدة القديمة التي أصبحت خارج التاريخ ولكن أحجارها الضخمة وزنزاناتها التي زُندقت في الصخور باقية تعاند زمن الحضارة وهي قادرة بأثقالها حتى اليوم أن تضيق الخناق على شعوبها وأن تمنع هذه الشعوب من مصافحة ضوء الشمس وأن تسلبها الإرادة والقدرة وكل إمكانيات الحرية والحضور.

ولم يكن أمام الشعوب العربية المغلوبة على أمرها غير الإيمان القدري بأن الزمن وحده هو الكفيل بأن يداوي جراحها، وهي تنتظر الحتمية التاريخية الطبيعية لنهاية الحكام الشموليين علها تجد مخرج النجاة من مخالب القهر لتخرج إلى دائرة الحياة. ولذلك فإن هذه الشعوب المستلبة تنتظر وتنتظر ولا أحد يعرف ماذا يحمل لها زمن الانتظار !.

فالأقطار العربية محكومة بقوى تتفرد بالسلطة بصيغتها التسلطية، وتقتل الجماهير، وتحطم الروابط الاجتماعية بين الناس، وتعمل على إحياء كل ولاءات الماضي ما قبل المجتمعية وانتماءاته كالطائفية والقبلية والعشائرية والأثنية... وغيرها بحيث يصبح الكل في حرب ضد الكل (...) وتمعن في إفقار معظم أفراد الشعب، وتنقل ثرواتها إلى خارج الحدود وتمتنع عن توظيفها واستثمارها في مشاريع إنتاج عربية الأمر الذي يؤدي في نهاية الأمر إلى تأجيج الأحقاد بين العربي والعربي داخل القطر العربي الواحد أو بين الأقطار العربية وبالتالي تهميش العامل المنتج للمشاعر القومية بين الناس (5).

يلاحظ أغلب الكتاب العرب اليوم أن بعض الحكومات العربية تحكم شعوبها اليوم بالنار والحديد من جهة، وبالخداع والتضليل من جهة أخرى. وبين النار والحديد والخداع والتزييف والترهيب تتبدد كل القيم الإنسانية وتغيب كل الممارسات الديمقراطية والحقوقية للإنسان حيث تفرض الدولة رأيها على مختلف أشكال التعبير الثقافي(6). والإنسان العربي في ظل هذه الممارسات، وفي حمأة هذا القهر والتسلط يفقد جوهر إنسانيته وحرياته وحقوقه الإنسانية، ويقع في حصار الخوف والقلق إزاء الحياة والمستقبل والمصير.

إن بعض الأنظمة السياسية في الوطن العربي تقوم على الإرهاب والاستبداد الفردي في الداخل، " وأن السجن والموت، على حد تعبير شاكر مصطفى، هو الخيار الوحيد لمن يرفض الولاء، وفي ظل هذه الممارسات الإرهابية خسر الإنسان العربي منذ عهد الاستقلال إلى اليوم كرامته كانسان وحقوقه كبشر(7). فالحكام العرب في غالبيتهم لم ينهجوا منهج عمر بن الخطاب وفلسفة علي في الحكم بل رفعوا من فلسفة الحجاج بن يوسف الثقفي في فلسفة الرؤوس التي أينعت وحان قطافها شعارا لهم" (8).

من يستقرئ الواقع الاجتماعي العربي يجد مشاعر المرارة التي تتمثل في الرعب والخوف من تسلط الأنظمة السياسية وخوف المواطن الشديد من بطش هذه السلطة، وفي خوف الأنظمة العربية من شعوبها والتي تعتمد الحراب والقهر في حماية وجودها وهيمنتها، وتتمثل هذه المشاعر السوداء في خوف الطوائف بعضها من بعض وهو خوف تخطط له الأنظمة السياسية وتغذيه في شعوبها كاستراتيجية لإبقائها في دائرة السلطة وإبقاء شعوبها في دائرة القهر، ولا يجب أن ننسى في أتون هذا الخوف والرعب مرارة الخوف بين الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والسياسية بعضا من بعض أيضا. وهذا يجعل الشعب العربي في دائرة الخوف والعنصرية والتسلط.

ففي ظل العولمة والتحولات الجارية في هذا الكون الإنساني أصبح يستحيل على العرب أن يعيشوا في آوابد تاريخية قائمة على التسلط والبطش والحرمان. لقد انتشر المد الديمقراطي في كل أصقاع الكون وبدأت حتى الشعوب التي عرفت بتخلفها التاريخي الشامل تمد يدها لتناشد القيم الديمقراطية في هذا الكون، وما زلنا نحن العرب نعيش تاريخا تفوح منه رائحة الموت وينتشر فيه الدمار. فالشعوب الإنسانية لا تنظر إلينا اليوم نظرة تقدير واحترام كما يجب لأننا لم نستطع حتى اليوم أن نبني وجودا سياسيا أو اجتماعيا قائما على مبدأ التسامح وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذا بالضرورة يجب أن يقودنا إلى أن هذه الشعوب لن تحترم قضايانا ولن تتعاون معنا على مبدأ المشاركة والكفاءة ما لم نستطع أن نعزز وجودنا على أساس ديمقراطي وإنساني. فما زلنا في تصورات الشعوب الغربية العداوة والصديقة شعوبا أقرب إلى الصورة الهمجية والوحشية للوجود الإنساني.

مواقف الأنظمة العربية إزاء حقوق الإنسان:

تتخذ الأنظمة السياسية العربية موقفا سلبيا من حقوق الإنسان ولاسيما الحقوق المدنية كما جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي تشمل: حق الحياة، حق الحرية والأمن، وحرية التفكير والتعبير، وتبادل الرأي والأفكار، وحق التنقل من بلد لآخر، وحق طلب اللجوء إلى دولة أخرى هربا من الاضطهاد، وحرية العقيدة والاجتماع، والحكم الذاتي، والحق في الجنسية، والحق في عدم الاعتقال التعسفي، أو التدخل في شؤون الأفراد الخاصة والعائلية، ومنع العبودية والتعذيب الجسدي والمعنوي...إلخ(9).

وعندما يرصد المرء موقف الحكومات العربية من هذه الحقوق، ويأخذ هذا الموقف معيارا للحكم على مستوى الديمقراطية ودرجتها في الحياة السياسية لهذه الأنظمة سيصل إلى قناعة قوامها الغياب الكبير للطابع الديمقراطي في الحياة السياسية العربية. لقد رفضت بعض الدول العربية، المصادقة على البروتوكول الاختياري الأول المتصل بالحقوق المدنية والسياسية الذي يسمح لكل مواطن بأن يقدم شكوى ضد انتهاك حقوقه إلى لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة (10).

إن سبب الضعف والانهيار الذي تعانيه الأمة العربية يعود إلى غياب حقوق الإنسان وكرامته حيث يقول محمد عصفور في هذا السياق: "إن السبب الرئيسي في كل ما عانيناه ونعانيه هو كفر نظم الحكم المتعاقبة بالإنسان وكرامته(11). وإذا كانت حقوق الإنسان تشكل البعد الاجتماعي والإنساني المتقدم للديمقراطية، فإن هذه الحقوق تشكل العدو الأول للأنظمة القائمة على القهر والاستبداد. ويعبر عن هذه القضية مصطفى دحماني خير تعبير إذ يقول: "إن فكرة الديمقراطية وما تنطوي عليه من تعددية، وحرية التعبير والرأي، وحقوق الإنسان (...) وحق الإضراب وتكوين النقابات، (...) وصحافة حرة متعددة ومستقلة، ومفكرين أحرار، كل هذا يتعارض مع مشروع نظام حكم استبدادي يجسم على صدر المجتمع ويكتم أنفاس كل الشرائع الحية فيه(12).

وليس أدل اليوم على مدى غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان مما تشهده الحياة الاجتماعية في البلدان العربية والإسلامية اليوم من فصول حياة مأساوية تحكمها علاقات التعصب والقهر والعنف الدموي، وهذه الصورة المأساوية هي نتائج طبيعية لغياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في مناطق واسعة من الوطن العربي وفي بعض أصقاع العالم الإسلامي.

منذ عام 1948 وبعض الحكومات العربية تطرح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة الصادر في عام 1948 للجدل والمناقشة والتشكيك. وقد رأت بعض هذه الدول أن هذا الإعلان ينطوي على نزعة استعمارية وأنه يتعارض مع قيم الإسلام وتشريعه، مع أن أغلب الدراسات الإسلامية التي تناولت الإعلان بالرصد والفحص والتمحيص، قد بينت بصورة قطعية على أن الشريعة الإسلامية تتضمن محتوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتتجاوزه. وتبين هذه الدراسات على وجه الإطلاق أن مبادئ الإسلام وشريعته تجسد حقوق الإنسان، وأن الإسلام هو دين القيم والمبادئ والحقوق وأن لا تعارض جوهري بين الحقوق التي أعلنتها المنظمة الدولية ومبادئ الإسلام السمحاء. إن هذه الوقائع تبين بأدلة قاطعة على أن بعض الأنظمة العربية ما زالت ترهب كل ما يتصل بحقوق الإنسان، وتخشى التوقيع على أي صيغة للمبادئ والحقوق تجعلها مسؤولة أمام المنظمات الدولية، وتأسيسا على ذلك كانت هذه الدول وما زالت تلجأ إلى أسلوب المراوغة والمماطلة في التوقيع على الاتفاقيات الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والمتعلقة بحقوق الإنسان.

هذا وقد رفضت بعض الدول العربية المصادقة على الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن الجامعة العربية في 15/9/1994. حيث سُجلت تحفظات كبيرة، مع أن الميثاق كما جاء في الديباجة "ينطلق من المبادئ الخالدة التي أرستها الشريعة الإسلامية والديانات السماوية الأخرى في المساواة بين البشر"(13). وفي هذه الممارسات ما يدعو إلى الشك في نوايا الحكومات العربية إزاء حقوق الإنسان أو على تقصيرها الكبير في هذا المجال.

"تتلخص سياسة تطويع المواطن بإفساح المجال له بشكل عام أن يعمل ويلهو وينام ويسافر، على أن يترك للنظام أن يفكر عنه ويقرر سياسة الدولة بالنيابة عنه، فإذا خرج عن هذه القاعدة تعرض لإجراءات تبدأ في مطاردته في رزقه وقد تنتهي باختفائه القسري، وربما إلى الأبد، وهو الوباء الجديد الذي بدأ ينتقل إلى بعض أجزاء الوطن العربي، وإن كان تطبيقه لا يزال محدودا في نطاق ضيق من حسن الحظ "(14).

ويظل أخطر ما في موقف المجتمع العربي من قضية حقوق الإنسان مواقفه من قضايا المرأة والأقليات، والثابت أن موقف بعض القوى السياسية والاجتماعية من هذه القضايا يبدو أكثر تخلفا وعنتا من موقف الأنظمة العربية في بعض الأقطار(15).

إن هذه الوقائع تبين بأدلة قاطعة على أن الحكومات العربية ما زالت ترهب كل ما يتصل بحقوق الإنسان، وتخشى التوقيع على أي صيغة للمبادئ والحقوق تجعلها مدانة أمام المنظمات الدولية. وتأسيسا على ذلك كانت هذه الدول وما زالت تلجأ إلى أسلوب المراوغة والمماطلة في التوقيع على الاتفاقيات الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والمتعلقة بحقوق الإنسان. هذا وقد رفضت الدول العربية المصادقة على الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن الجامعة العربية في 15/9/1994. وقد سجلت بعض الدول العربية تحفظات كبيرة ولاسيما دول الخليج العربي واليمن والسودان، مع أن الميثاق كما جاء في الديباجة "ينطلق من المبادئ الخالدة التي أرستها الشريعة الإسلامية والديانات السماوية الأخرى في المساواة بين البشر"[16]. وفي هذه الممارسات ما يدعو إلى الشك في نوايا الحكومات العربية إزاء حقوق الإنسان.

التربية العربية وحقوق الإنسان:

يقول ليث شبيلان في معرض حديثه عن الحياة الاجتماعية في الأردن: "تتمثل محنة الديمقراطية في أن أجيالا قد تمت تربيتها في أجواء غير ديمقراطية فانتقل القمع إلى الشخصية الإنسانية التي باتت مع الزمن مروّضة من أجل البقاء بعيدا عن الاضطهاد"(17). والمدرسة العربية تسعى إلى (...) إحراز مبدأ الطاعة العمياء والمحافظة على قيم ومعايير المجتمع التي تحافظ على وضعية القهر الاجتماعي. فجزء كبير مما يتعلمه التلميذ ليس له علاقة بمحتويات الدروس وإنما يقصد به طلب الطاعة المطلقة وجعل التلميذ يستهلك استهلاكا سلبيا كل التحيزات الدينية والقيمية والأيديولوجية التي يزخر بها أي مجتمع"(18).

لقد حولت التربية العربية السائدة الهزائم إلى انتصارات، وقيم القمع والتسلط إلى ديمقراطية، والتخلف إلى ازدهار، فخلقت أفرادا مشوهين يعتزون بلغتهم وأمتهم ووطنهم لفظا، ولكنهم بعيدون عمليا عن إتقان لغتهم وبناء وطنهم وأمتهم إن لم نقل أنهم يعيثون فيها فسادا وخرابا وتدميرا، ويؤثرون العدو على الصديق والأجنبي على العربي"(19).

لقد أعد المعهد العربي لحقوق الإنسان بتونس ندوة كان موضوعها "التربية على حقوق الإنسان والديمقراطية" بتاريخ(18-20/فبراير/1993) وهي الأولى من نوعها (...) وقد أعد المعهد دراسة حول واقع التربية على حقوق الإنسان في الدول العربية... وهي نتائج استبيان موجه للدول العربية...ووزارات التربية في 21 دولة و(200) مؤسسة للتعليم العالي و(50) منظمة عربية غير حكومية تعمل في مجال حقوق الإنسان، وكانت نتائج الاستبيان بشكل مختصر على النحو التالي:

1- غياب استراتيجية عربية في مجال التربية على حقوق الإنسان، وأن هناك خلطا بين مفهوم الخطة، وبين المبادئ العامة لحقوق الإنسان.

غياب تشريعات خاصة بالتربية على حقوق الإنسان.

رفض بعض البلدان بعدم الأخذ بالمبادئ الإنسانية العامة لتعارضها-حسب رأيها والشريعة الإسلامية - وهي ظاهرة تستحق الدراسة والتحليل والنقاش وذلك بالنظر لتعدد القراءات والاجتهادات من بلد عربي إلى أخر في هذا المجال (20).

معوقات التربية على حقوق الإنسان في العالم العربي:

1- التعطيل السياسي:

تواجه التربية على حقوق الإنسان نسقا من العوائق والمعطلات التي تمنع انطلاق أي مشروع عربي نحو تأصيل حقوق الإنسان في المؤسسات التربوية.

ومن أهم المعطلات هيمنة الاستبداد السياسي في المنطقة الذي يقف موقفا معاديا من كل الصيغ التربوية لحقوق الإنسان. فالأنظمة السياسية الاستبدادية تجد نفسها في مواجهو حقيقية عندما يتعلق الأمر بالتربية على حقوق الإنسان وذلك لأن نشر حقوق الإنسان يناهض كل شكل من أشكال الاستبداد السياسي، وتأسيسا على هذا التصور تقف السياسات العربية موقفا معاديا للتربية على حقوق الإنسان وتعمل على تعطيلها وتحويلها إلى مجرد فعالية أيدولوجية مفرغة من مضامينها الحقيقية.

2- العطالة الاجتماعية:

تأخذ البنية الاجتماعية وضعية مضادة لحقوق الإنسان، فالتكوينات الاجتماعية السائدة تكوينات قبلية طائفية عشائرية دينية أبوية بطرياركية هي في أنساقها القيمية مضادة لحقوق الإنسان ومتناقضة معها. فالنظام القيمي لهذه التكوينات الاجتماعية يقوم على مبادئ الطاعة العمياء والخضوع المطلق للأب والتسليم لولي الأمر والتمييز ضد المرأة والطفل، ففي الأنساق الثقافية لهذه التكوينات الاجتماعية نجد مفهوم الواجب بدلا من مفهوم الحقوق ومفهوم الرعايا بدلا من مفهوم المواطن ومفاهيم الفزعة والتضامن الجمعي بل الواجب ولا المواطنة بل الرعاية وبالتالي فالأنا هنا تأخذ طابعا جمعيا تغيب فيه شخصية الفرد وحقوقه.

يقزل زكي حنوش في هذا الصدد "هناك تركيبات اجتماعية لا تزال تشكل عوائق ضد نظام حقوق الإنسان، لعل على رأسها مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيات المحلية وأساطيرها المختلفة، والتي تتساند وتتفاعل في ديناميكية فريدة مع مفهوم الأبوية "البطريركية" التقليدية، أو الحديثة الممثلة في الدولة، وهذه التركيبات الفسيفسائية، وأسسها العرقية والقومية والطائفية، تمثل عقبات بنائية ضد نظم حقوق الإنسان(21). بل إن العائلة الممتدة في مناطق عدة داخل هذه التركيبات، لا تزال تمثل عقبة أخرى من العقبات، ولعل أخطر هذه العقبات كافة سيادة وهيمنة العقل المنغلق والماضوية الفكرية لدى غالب القوى السياسية والثقافية والحزبية – حيث يعاد انتاج مصادر الأفكار داخل كل جماعة دونما تجديد أو اجتهاد(22).

3- التربية التقليدية السائدة:

تترجم التربية التقليدية السائدة في الأسرة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية غير المدرسية القيم الثقافية السائدة في الوسط الاجتماعي. ولأن القيم الثقافية العامة أو الشعبية قيم مضادة لحقوق الإنسان فإن التربية تأخذ هذا المنحى وتغرس القيم والتصورات التي تناهض كل مفاهيم حقوق الإنسان بتجلياتها المختلفة.

وفي هذا الصدد يقول سعد الدين إبراهيم في وصفه للوضعية التربوية التي تعزز مفاهيم التمييز العنصري والإباحية الدموية في الخليج العربي حيث يقول: "إن جيلا كاملا في بعض دول منطقتنا الآن عاش فترة تكوينه النفسي والعقلي في ظل مفاهيم تبيح القتل والتدمير، ولا ترى السلام طريقة عيش ومنهج حياة"، ومن شب على شيء شاب عليه وهذه قاعدة منطقية" (23). ويشير الكاتب في سياق آخر إلى أن التعصب بما ينطوي عليه من تصورات نمطية (....) هو شيء مكتسب يتعلمه الأطفال من الكبار خلال عملية التنشئة الاجتماعية السائدة في بلادنا (24).

إن إحدى الأركان الأساسية للتنشئة الاجتماعية في الثقافة العربية تتمحور حول مبدأ تطبيع الطفل العربي على الانصياع والخضوع للكبار، سواء أكان ذلك عن طريق التسلط والقهر(25). وهذا يعني غياب قيم الحرية والتسامح في نسق العمل المدرسي ولا نستطيع أن ندرك كيف يمكن لمدرسة تبث قيم التسلط أن تتحول إلى مؤسسة تعزز قيم التسامح وقيم الإنسان.

وتشير أغلبية الدراسات العربية الجارية أن التنشئة الاجتماعية العربية تسعى إلى أن تخلق الطاعة والأدب عند الطفل(26). أي أن هذه التربية تتنافى مع قيم الحرية والتسامح والاستقلال وحقوق الطفل التي هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان.

وتكاد تجمع الدراسات الجارية أن الأسرة العربية تركن إلى أسلوب التسلط. وليس ذلك غريبا فالآباء يرزحون تحت عبء التسلط كقيمة في الثقافة العربية وهي قيمة تسود الحياة الاجتماعية برمتها في الثقافة العربية المعاصرة ويكاد يكون هذا التسلط واحدا في البلدان العربية جميعها على اختلاف ثقافاتها الفرعية(27).

وفيما يتعلق بطابع القيم والمفاهيم السائدة في أجواء الأسر المتسلطة تبرز قيم العنف والإكراه والقسر والخضوع، والعلاقات العمودية، وغياب قيم المودة والتفاهم والحوار والمحبة. فالعلاقات القائمة في الأسرة المتسلطة هي علاقات قوامها مركب العلاقة بين الكبير والصغير، بين القوي والضعيف، بين السيد والمسود، بين الغالب والمغلوب، بين الآمر والمأمور، وذلك كله دون وجود حدود وسطى لطبيعة التطرف في هذه العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة وهي عين العلاقات التي تبدد كل إمكانيات حقوق الإنسان وتصوراتها.

وفي هذه الأوساط التربوية المتسلطة غالبا ما تسود هذه العلاقات التي تفتقر إلى الحب والحنان والتساند والدعم النفسي، والتعزيز والمساندة والتفاهم، والحوار بين أطراف العائلة، وخاصة بين الآباء والأبناء. وعلى خلاف ذلك كله يسود التنافر العاطفي وتهيمن أساليب التسلط والتعنيف وانفعالات الغضب والعدوان وتسود النزعة إلى إيجاد الحلول التربوية عن طريق القوة والقهر. وفي المناخ التسلطي يفرض الآباء على الأبناء أنماط سلوكهم وحركتهم وفعالياتهم ولا يسمح لهم بإبداء الرأي أو الاعتراض.

وفي هذا المجال يرى حليم بركات بأن التربية العربية: ما تزال تشدد على العقاب الجسدي والترهيب، أكثر مما تشدد على الإقناع كما تؤكد على أهمية الضغط الخارجي والتهديد والقمع السلطوي، إنها تركز على مبدأ الحماية والطاعة والامتثال والخوف من الأخطار وتجاوز الحدود المرسومة حيث تنشأ عن ذلك نزعة نحو الفردية والأنانية والتأكيد على الذات ونحو الإحساس الشامل بالغربة والاغتراب(28).

لقد تبين لنا في المستوى التربوي في الوطن العربي كيف يوضع الإنسان في دائرة الاغتراب والجمود من خلال أساليب التنشئة الاجتماعية القسرية التي تنطلق من القمع وتصنعه في الآن الواحد. حيث يتوجب على الصغار الطاعة العمياء للكبار وذلك في إطار علاقة سلطوية مفعمة بالإكراه. فالتواصل بين الكبار والصغار يتم عموديا ويأخذ هذا الاتجاه من فوق إلى تحت على حد تعبير حليم بركات: "طابع الأوامر والتهديد (...) والتحذير والتخويف (...) والإذلال وتوليد الشعور بالذنب والقلق. وقد يقترن هذا من فوق إلى تحت بالعقاب والحرمان والغضب والصفع والإخضاع وكسر الشوكة والعنفوان؛ أما التواصل من تحت إلى فوق فيأخذ طابع الترجي والإصغاء... والانصياع والاسترحام والتذلل (...)، ويقترن ذلك بالبكاء والانسحاب واحناء الرأس (...) والخوف والرضوخ، ويأتي ذلك كله نتيجة لعلاقات الاستبداد التي تعتمد فلسفة تربوية تقوم على الترهيب وليست على الإقناع (29). فالفلسفة التربوية السائدة كما يبين بركات هي فلسفة ترهيب تتنافى مع كل القيم التي تتصل بحقوق الإنسان ومعايير السلام والحب والتسامح. هنا تتم عملية إعادة إنتاج القهر والتسلط والعبودية في المجتمع بصورة واضحة.

4- العقبات الأيديولوجية:

تواجه التربية على حقوق الإنسان تحديات كبيرة من طبيعية أيديولوجية ودينية. إذ غالبا ما يعترض على حقوق الإنسان بوصفها ايديولوجيا غربية ناجمة عن ثقافة غربية تريد أن تفرض حضورها وهيمنتها على الثقافة العربية. ولذلك غالبا ما تطرح ومن أجل احتواء مفهوم حقوق الإنسان العالمية فكرة حقوق الإنسان الإسلامية بديلا للعالمية. وهذا ما لجأت إليه الوثيقة النهائية لندوة حقوق الإنسان في الإسلام المنعقدة في الكويت بتاريخ 9_14 ديسمبر1980، على أهمية إدخال مادة حقوق الإنسان كمادة إلزامية في مناهج التدريس. جاء في توصيات الندوة حول هذه النقطة ما يلي: "توصي الندوة بإدخال مادة حقوق الإنسان في الإسلام كمادة إلزامية في مناهج التدريس، كما تدعو النخبة الواعية إلى القيام بدورها في النهوض بالرأي العام في البلاد الإسلامية، وقيادته إلى معرفة حقوقه التي يقررها الإسلام. كما تدعو الحكومات إلى أن توجه هذا الرأي العام بكل وسائلها الإعلامية والتعليمية توجيها موضوعيا، يهدف إلى التأكيد على دور الإسلام وفضل السبق له في تقرير حقوق الإنسان وأحاطتها بكافة الضمانات (30).

فأهل المعرفة والاختصاص، يدركون اليوم ما تثيره حقوق الإنسان من جدل ساخن، ومماحكات صعبة يخوض غمارها العلماء والمفكرون، حول طبيعة هذه الحقوق ومراميها. فالساحة الحقوقية تغص اليوم باتجاهات فكرية عربية وإسلامية مختلفة المواقف فيما يتعلق بحقوق الإنسان العالمية في مستوى الماهية والغائية، ومدى تجاوب هذه الحقوق مع الخصوصية العربية الإسلامية.

ففي الوقت الذي يذهب فيه بعض المفكرين العرب إلى رفض الصيغة العالمية لحقوق الإنسان بقضها وقضيضها، يذهب بعض آخر إلى قبولها بصورة كلية بوصفها تتكامل مع الرؤية الإسلامية لحقوق الله والإنسان، وبين الطرفين نجد اتجاهات انتقائية تأخذ بأغلب هذه الحقوق وترفض منها ما تراه منافرا للرؤية الإسلامية.

ولا يخفى على أهل الحصافة والتدبير أن حقوق الإنسان دخلت اللعبة الأيديولوجية والسياسية، فالموقف غالبا من هذه الحقوق يستند إلى اعتبارات أيديولوجية وسياسية واضحة لا لبس فيها. وغني عن البيان أن هذه الخلفيات الأيديولوجية المتباينة تفسر منطق الاختلاف والتباين بين التيارات الفكرية حول الشأن العام لحقوق الإنسان.

وفي خضم هذا التنافر الأيديولوجي الصارخ، وفي نسق هذا الصخب السياسي المتنافر، حول قضايا حقوق الإنسان العالمية، يدرك العارفون مدى الصعوبة المنهجية التي تحكم البحث في قضايا حقوق الإنسان. وهذا يعني أن تقديم صورة موضوعية لحقوق الإنسان لا يمكن أن يكون أمرا يسير المنال، وأنه يترتب على الباحث في هذا المجال أن يخرج من أزمة المماحكات ومضاربات الصور كي يستطيع أن يشكل وعيا تربويا يترجم هذه الحقوق في أنقى صورها الموضوعية، بعيدا عن كل لبس أيديولوجي أو محاباة سياسية.

يشير عبد الله عبد الدايم في هذا الصدد إلى الضياع الأخلاقي والقيمي الذي يعاني منه المجتمع العـربي، ويرجع الأزمة الثقافية والقيمية في الوطن العربي إلى عوامل تتمثـل في سـلطان المـاضي والعصبية والتعصب: التعصب للرأي والقبيلة والعائلة والطائفة الدينية وسـيطرة الغريزة على العقل والانفعال على الفكر. والأخطر والأدهى في هذا المستوى أن كثيرا من المفكرين العرب " يسقطون في إطار المنظور الطائفي أو المذهبي الضيق متأثرين بالجو العام بدلا من أن يخرجوا منه ويوسعوا الإشكالية ويفتحوا للمسلمين خطا جديدا"(31).

5- عقبات في مستوى التعليم الرسمي:

بينت التجربة الإنساني بجلاء أن التربية يمكنها أن تلعب دورا مزدوجا في بناء الجدار القيمي للسلام والإخاء وحقوق الإنسان. وفي إطار هذه الرؤية يمكن القول بأن الأنظمة التربوية العربية وعلى خلاف ما هو متوقع منها تبث قيم التمييز بأشكاله الاجتماعية والدينية والعرقية.

بقيت التربية العربية طيلة الأعوام الثمانين الماضية مسيّسة بل وغارقة في التسييس. وكان التسييس ذو طبيعة سلفية ماضوية فظل الماضي يشكل الحاضر لأن التأكيد ظل ينصب على معطيات الماضي حتى صار يوحي للناشئة أن الحاضر الحقيقي هو الماضي الذي تجب استعادته لتأخذ الأمة مكانها في الحاضر. وفي إطار هذه التربية أو في هذه العملية لتزييف العقل مكان ذو معنى للديمقراطية، ولا لإنسانية الإنسان المتعلم نفسه، قدراته وطاقاته وحريته وفرديته وحقوقه الإنسانية. كما لم يكن في هذه التربية شأن يذكر لاحترام الحاضر الحضاري للإنسانية وابداعات الإنسان المعاصر في العلوم والفنون (...) والتفكير المستقبلي (32).

فالتعليم السائد يعمل على استلاب الأطفال والمتعلمين وتغريبهم ويجردهم من إمكانيات التفتح الإنساني علي. والتربية تستلب الأطفال والناشئة بدلا من تحقيق نمائهم وبناء شخصياتهم إنها تغرب وتشوه وتقمع وتقهر وتستلب وتقوم بأداء أدور تتنافى مع التوجهات الإنسانية لتربية تنهض في الإنسان كل الملكات والقابليات وتنمي فيه أسمى المشاعر وأزهى القيم وطفة.

"إننا نجد أنفسنا إزاء تربية ماضوية عقيمة وعاجزة حتى في ماضويتها ليس لأنها لم تستطع إعادة اختراع الماضي، لأن الماضي نفسه غير قابل لإعادة الاختراع، ولكنها عاجزة لأنها لم تكشف للناشئة الجوانب المضيئة من الماضي نفسه، ولم تقربه من عقول الناشئة، لقد مررنا جميعا عبر نظام تربوي وغذ ذاك كم منا يتذكر أنه قرأ ابن رشد وابن سينا واخوان الصفا أو غيرهم من مؤسسي العقلانية العربية الإسلامية (33). " لقد اضر بالتربية العربية أمران لو أصابا أي نظام تربوي في العالم لكانا كافيين لابتلائه بالعجز والعقم وبما هو شر من العجز والعقم، وهما: عزل الأمة عن حضارة العصر، وإفساد نظام التفكير عند الأجيال التي تعاقبت منذ الحرب العالمية الأولى حتى الوقت الحاضر (34).

وفي مجال التأكيد على وضعية التشبع بالعنف يؤكد قاسم الصراف على هذه الحقيقة بقوله: " إن مناهجنا التربوية مشبعة بمفاهيم الحرب والدمار والعداوة، والبغضاء، والعنف، والظلم، والكراهية"(35). وهذا يعني أن المدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته التعصبية لصالح النخبة المهيمنة (36).

خلاصة:

إن التحرر من داء التعصب والتفرقة والنزعات العنصرية في المجتمعات العربية أمر مرهون بإذكاء عملية تربوية تتصف بطابع الشمول والأصالة والعمق، وتكون قادرة على أن توظف كل الطاقات التربوية والمدرسية في تعزيز بناء قيمي وروحي قوامه التسامح والسلام وحقوق الإنسان. ولا يمكن لنا أبدا أن نجهل اليوم الأهمية الصارخة لتدريس مواد حقوق الإنسان ونضال الإنسانية من أجل الحرية والسلام والتسامح في مدارسنا، وأن يُوجَّه إعلامُنا لتعزيز هذه الانطلاقة التربوية التي تشكل ضرورة تاريخية حيوية لا مندوحة عنها.

ومن أجل بناء هذه القيم وغرسها في حياة المجتمع يجب على التربية أن تبني في الإنسان الحس النقدي وأن تعلمه كيف يضع موضع الشك أكثر الأفكار عمومية في انتشارها، وقدسية في مركزها. وإذا كان الاستبداد يشكل غول الحرية والتسامح فإن تربية التسامح يجب أن تعلم الإنسان كيف يعلن الحرب ضد الاستبداد وكيف يواجه التحديات التي تفرضها ممارسات القهر والقمع والإكراه.

إن التربية العربية الجديدة معنية اليوم أكثر من أي وقت فائت بأن تعلم الطفل كيف يعيش مع الآخرين وإن اختلفوا عنه، وأن تجعل تفكيره حرا أصيلا نزاعا إلى الخير والحق والعدل والحرية. يحترم القانون والملكية العامة والرأي الآخر، ويعتز بلغته وأمته ويعمل على نهضتها(37).

وقد "لا يكفي أن يصدر دستور ديمقراطي لكي تتحقق الديمقراطية إذ لا بد أن يتلقى الناس تربية ديمقراطية وأن يتعودوا ممارسة الديمقراطية وأن تصبح الديمقراطية قيمة مستقرة في أعماق الناس ودخائل نفوسهم" (38). وهذا يعني عملية إطلاق العقل العربي من إسار المعتقدات المذهبية والجامدة المتعصبة والمتحجرة التي تحاصره وتشد الخناق عليه.

...........................................
مراجع الدراسة وهوامشها:
[1] - خالد الناصر، أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، في علي الدين هلال وآخرون: الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1983، ص51.
[2] -جريدة الوطن الكويتية، عدد 9 تشرين الأول/أكتوبر 1985.
[3]- حسن جميل، حقوق الإنسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص 120-121.
[4] - الحطاب، أحمد: الصفات التي يجب أن تتسم بها التربية للاستجابة لمتطلبات المجتمع خلال القرن الواحد والعشرين، مكتب اليونيسكو الإقليمي للتربية في الوطن العربي، العدد 35، يونيو/حزيران 1989، ص38.
[5] حامد خليل، مستقبل العلاقات الثقافية والاجتماعية العربية - العربية، شؤون عربية، العدد 93، مارس /آذار، 1998، (صص 61-80)، ص66.
- [6] فؤاد زكريا، خطاب إلى العقل العربي، تابع العربي، الكتاب السابع عشر، الكويت 1987.ص20.
[7] - شاكر مصطفى، الأمة العربية في المنظور التاريخي، المعهد العربي للتخطيط، الحلقة النقاشية السنوية الرابعة، التخطيط لتنمية عربية أفاقه وحدوده، الجزء الأول، الكويت، 1981، ص31.
[8]- حسن جميل، حقوق الإنسان في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 166.
[9]- صالحي عبد الرزاق، ديمقراطية نور أم سراديب ظلمة: عن مواقف العلمانيين من التيار الإسلامي، الناقد، العدد71، أيار/مايو، 1994، صص(26-30)، ص26.
[10]- صالحي عبد الرزاق، ديمقراطية نور أم سراديب ظلمة، مرجع سابق، ص27.
[11]- محمد عصفور، ميثاق حقوق الإنسان العربي ضرورة قومية مصيرية، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت، 1986، (صص 215 - 245)، ص 240.
[12] مصطفى دحماني، فضح الزمن الأصولي: قراءة تحليلية نقدية لبعض مفاهيم الحركة الإسلامية المعاصرة. دراسات عربية عددم7/8 أيار حزيران 1994. ص58.
- [13] الميثاق العربي لحقوق الإنسان، مجلة الفكر السياسي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، العدد الأول السنة الأولى، شتاء 1997، (صص 183-194)، ص 187.
[14] - منذر عنبتاوي، دور النخبة المثقفة في تعزيز حقوق الإنسان، المرجع السابق، ص 281.
[15]- زكي حنوش، مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد، عالم الفكر، العدد التسعون، السنة الثامنة عشرة، خريف1997، (صص228_245)، ص241.
[16] الميثاق العربي لحقوق الإنسان، مجلة الفكر السياسي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، مرجع سابق، ص 187.
[17] انظر المنار، السنة 7، العدد 70، تموز آب، 1993 (صص 26-29)
[18] خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، المستقبل العربي، عدد 174، آب/ أغسطس، 1993، (صص 67-86)، ص 70.
[19] سمر روحي الفيصل، الثقافة المستقبلية للطفل العربي، شؤون عربية، العدد 93، مارس آذار، (صص 160-170)، ص 166.
[20]- عبد العالي ناصر عبد العالي، في مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية والتدريب عليها، الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، المنظمة العربي لحقوق الإنسان، الكويت، 1993، ص44.
[21]- زكي حنوش، مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد، عالم الفكر، العدد التسعون، السنة الثامنة عشرة، خريف1997، (صص228_245)، ص239.
[22] زكي حنوش، مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد، المرجع السابق، ص239.
[23] - سمير هوانة، قضية السلام في المناهج الدراسية الحديثة، الجمعية الكويتية تربية التسامح وضرورة التكامل الاجتماعي، الكتاب السنوي العاشر 1995، ص23.
- [24] سعد الدين إبراهيم، التعصب والتحدي الجديد للتربية في الوطن العربي، مرجع سابق، ص30.
[25] - محمد عماد إسماعيل، الأطفال مرآة المجتمع، النمو النفسي الاجتماعي للطفل في سنواته التكوينية، عالم المعرفة، مارس (آذار) 1986. (ص331).
[26] - محمد عماد الدين إسماعيل، الأطفال مرآة المجتمع، المرجع السابق، (ص 232).
[27] - محمد عماد الدين إسماعيل، الأطفال مرآة المجتمع، المرجع السابق: (ص: 232).
[28] - حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991.
[29] - حليم بركات، «المجتمع العربي المعاصر: المرجع السابق، ص190.
[30] - الوثيقة النهائية لندوة حقوق الإنسان في الإسلام المنعقدة في الكويت بتاريخ 9_14 ديسمبر1980، مجلة الحقوق، كلية الحقوق بجامعة الكويت، السنة السابعة، العدد الثالث، سبتمبر1983، ص397.
[31] هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية و التحديات، الوحدة، عدد 101، فبراير/ مارس، 1993، (صص 14-30)، في الهوامش ص 26.
[32] محمد جواد رضا، العرب في القرن الحادي والعشرين: تربية ماضوية وتحديات غير قابلة للتنبؤ، المستقبل العربي، السنة العشرون، العدد 230، نيسان /إبريل، 1998، (صص 47-63)، ص 61.
[33] محمد جواد رضا، العرب في القرن الحادي والعشرين: تربية ماضوية وتحديات غير قابلة للتنبؤ، المرجع السابق، ص 62.
[34] محمد جواد رضا، العرب في القرن الحادي والعشرين: تربية ماضوية وتحديات غير قابلة للتنبؤ، المرجع السابق، ص 60.
[35]- قاسم الصراف، غياب المفاهيم التربوية في البيئة المدرسية، ضمن، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، الكتاب السنوي العاشر، الكويت، 1994-1995. (صص113-151)ص121.
[36] خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي المشكل التربوي والثورة الصامتة، دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، المستقبل العربي، عدد 174، آب/ أغسطس، 1993، (صص 67-86)، ص 83.
[37] سمر روحي الفيصل، الثقافة المستقبلية للطفل العربي، شؤون عربية، العدد 93، مارس آذار، (صص 160-170)، ص 166.
[38] اسماعيل صبري عبد الله، المقومات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية في الوطن العربي، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت، 1986، (صص 105-78)، ص 119.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي