ضمور الدولة وإعادة تصوّر الأراضي الحدودية في سورية والعراق
ديناميكيات ما بعد 2011
مركز كارنيغي
2020-06-15 07:54
بقلم: هاروت أكديديان/حارث حسن
مع استمرار التقلبات في الترتيبات المحلية، تبقى الأراضي الحدودية محوراً للنزاعات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية مع مستويات مرتفعة من النزعات التدميرية والمسبّبة للاضطرابات والتي تطال المجتمعات المحلية.
ملخّص
تدفعنا الظروف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إعادة تصويب اهتمامنا نحو مناطق جغرافية برزت كمواقع أساسية للصراع على السلطة. تنظر هذه الورقة البحثية في النزاعات الناشئة في إطار تفكّك مبدأ التيريتوريالية (أي الإقليمية) السيادية المحدّدة بتخوم في الأراضي الحدودية، من خلال التوقف عند السباق للسيطرة على الفضاءات العسكرية والاقتصادية والسياسية-الاجتماعية في أعقاب التبدّل في هوية الجهة التي تحتكر العنف، وبروز العديد من الفاعلين الجدد والقدامى على المستوى المحلي.
منذ العام 2011، تحوّلت المناطق الحدودية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى مواقع أساسية للصراع على السلطة بين العديد من الأفرقاء. تتطرق هذه الورقة إلى الأنماط الناشئة لسقوط أقلمة السلطة وإعادة أقلمتها بأشكالها ومظاهرها المختلفة في الأراضي الحدودية. تُظهر ديناميكيات "المكان والأداء" في الأراضي الحدودية في سورية والعراق تنوُّع الطرق التي جرى من خلالها استخدام الحدود في الظروف المتأتية عن ضمور الدولة والنزعات التدميرية في الأراضي الحدودية.
مقدّمة
شهدت بلدان عدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسارات من التفكك السياسي متشابهة إلى حد ما منذ عام 2010، ماأفضى إلى اضمحلال مراكز السلطة، وتُرِكت الجهويات المحلية كي تتدبّر أمورها بنفسها وتُعيد التنظّم. وتجلّى ذلك بصورة أساسية في البلدان التي عانت من النزاعات، مثل سورية والعراق وليبيا واليمن، وبدرجة مختلفة، مصر. فعلى ضوء تراجع احتكار الدولة للعنف (كما في العراق وسورية وليبيا واليمن)، أو تعرُّض هذا الاحتكار لتحدٍّ شديد في مناطق محددة، انتقلت السيطرة على الأراضي، والأنماط المركزية للتنظيم الاجتماعي، ووظائف الدولة في الجهويات المحلية المختلفة إلى كيانات جديدة بدرجات متفاوتة. يتيح هذا المشهد من التفكك السياسي والاجتماعي للمجموعات الهامشية القائمة أو الحديثة العهد المؤلّفة من فاعلين وأفكار وحيزات مكانية أن تجد لها موقعاً نافذاً جديداً حيث تتمتع باستقلال ذاتي أكبر، وأن تكتسب أهمية جيوستراتيجية، وتشغل دوراً مركزياً في توزيع الثروات والموارد. تشمل المؤشرات المرئية عن هذه التحولات في الأراضي الحدودية سيطرة تشكيلات مسلّحة على الأراضي، وتسيُّد أمراء الحرب واقتصادات زمن الحرب والشبكات غير النظامية للتوزيع والنشر.
عدا المدن التي غالباً ماتُعتبَر نواة السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المركَّزة، تدفع بنا الظروف الراهنة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إعادة توجيه اهتمامنا نحو المناطق التي لم تكن في السابق عند الأطراف الجغرافية وحسب2 ولكنها أيضاً ذات أهمية هامشية نسبياً مقارنةً بعلاقات القوة في المنطقة بعد العام 2011. الأراضي الحدودية هي المكان حيث تظهر على النحو الأوضح إعادة تكوين أنماط التنظيم السياسية والاقتصادية والمجتمعية. لقد تحوّلت الأراضي الحدودية إلى مراكز للمبارزة السياسية بوجود طوبوغرافيات معقّدة للسلطة وعلاقات وهيكليات قوة آخذة في التطور، وهي محط تنازع من الداخل وفي حالة صراع مع عدد كبير من الفضاءات الأخرى لتحقيق مزيد من الاستقلالية الذاتية والنفوذ (Akdedian, 2018).
وانطلاقاً من الإدراك بأن الأراضي الحدودية لم تكن جميعها مهمّشة بحكم تعريفها، أو مهمّشة بالدرجة نفسها وبأشكال متشابهة، تُميّز الورقة أنماطاً ونزعات في تطور الحدود والأراضي الحدودية منذ اندلاع الانتفاضات العربية بدلاً من إعطاء توصيفات مفصّلة لمواقع محددة. وبما أن هذه المواقع لاتزال قيد التطوّر (أو حتى في طور التحوّل الجذري)، يركّز التحليل على الروابط بين الحدود والأراضي الحدودية "المتحركة" في ظروف النزاع وتفكك الدولة (Konrad, 2015). ونظراً إلى الطبيعة المتغيّرة والمتواصلة للتطورات قيد الدراسة، لاترمي هذه الورقة إلى الإضاءة على واقع هامد، بل إلى تسليط الضوء على أنماط التغيير في الأراضي الحدودية وديناميكياته وتأثيره.
المعيار المستخدَم في تصنيف الأرض الحدودية وتعريفها، باعتبارها منطقة جغرافية، هو قربها من الحدود. لكن الحدود ليست مجرد خصائص جغرافية للأرض الحدودية مثلما أن الأراضي الحدودية ليست مجرد منطقة جغرافية متاخمة للحدود. بل إن طبيعة ضبط الحدود تشكّل إلى حد كبير علاقات القوة، وأنماط التنظيم الاجتماعي، والتبادلات داخل المجتمعات المحلية وبينها، والاقتصادات السياسية، وعلى نحوٍ أوسع نطاقاً، العلاقات بين الدولة والمجتمع داخل الأراضي الحدودية وحولها. بالمثل، تطبع الأراضي الحدودية والخصائص المحلية وظيفة الحدود. لذلك، فإن النظر في الديناميكيات بين الحدود والأراضي الحدودية في سياق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد العام 2011 يقتضي الغوص في ديالكتيكيات المكان والأداء؛ وفي التغييرات التي طالت طبيعة الحدود والأراضي الحدودية، وفي التأثيرات المتبادلة بينها، وفي الطرق التي طبعت بها هذه الحدود والأراضي الحدودية التبادلات والأنشطة المحيطة بها وانطبعت بها (Brambilla, 2015، ص. 17).
بعد مراجعة الكتابات والخلفيات عن الحدود والأراضي الحدودية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يستكشف القسم الأساسي في الدراسة حالتَي سورية والعراق للنظر في الأشكال المختلفة لتفكّك مبدأ الإقليمية السيادية المحددة بتخوم في الأراضي الحدودية. وتُستخدَم هاتان الحالتان لدراسة النزاعات على الفضاءات والموارد العسكرية والاقتصادية والاجتماعية عقب التحوّل في احتكار العنف وبروز العديد من الفاعلين الجدد والقدامى.3 تعتمد هذه الورقة البحثية مقاربة استقرائية، وقد اختيرت الحالتان انطلاقاً من أهميتهما التحليلية لأنهما شهدتا أشكالاً ودرجات مختلفة من ضمور الدولة. وتستند الأمثلة الواردة في الورقة إلى مزيج من الملاحظات والعمل الميداني والمقابلات.
بعد عرض الإطار والخلفية النظريتَين، يجري تحديد أربعة ميادين أساسية للتغيير التحوّلي واستكشافها. الميدان الأول هو فرض الأمن عند الحدود والأراضي الحدودية في ظل الظروف المتأتية عن ضمور الدولة في سورية والعراق. يتطرق هذا القسم إلى أهمية الحدود والأراضي الحدودية في تحدّي سلطة الدولة، وأهميتها الجيوسياسية بالنسبة إلى الأفرقاء الدولتيين وغير الدولتيين الإقليميين والدوليين على السواء. والميدان الثاني هو النظم الناشئة لضبط الحدود وتقلباتها. يعرض هذا الجزء أنواع مجموعات الفاعلين الناشئة وتصنيفها، وديناميكيات السيطرة في الأراضي الحدودية وحولها. والميدان الثالث هو الاقتصاد السياسي للأراضي الحدودية بما يسلّط الضوء على أشكال جديدة لتوليد الرساميل في الأراضي الحدودية في ظل اقتصادات الحرب. وفي القسم الأخير من الورقة نقاش عن التأثير الذي تمارسه الصراعات على الأراضي الحدودية.
تتوقّف الورقة عند ثلاث طرائق لضبط الحدود مستندة إلى المجموعات المختلفة من الأجهزة الأمنية بين عامَي 2011 و2019: أ) الفاعلين غير الدولتيين في جهتَي الحدود، ب) الفاعلين الدولتيين في جهة من الحدود والفاعلين غير الدولتيين في الجهة الأخرى، وج) الأنظمة الهجينة. تُحدّد طبيعة آلية ضبط الأمن والأفرقاء المعنيين بها أنماط انتقال السلطة وطبيعة التبادلات في السياق. وقد أدّى انتقال سلطة الدولة إلى ظهور طرق جديدة تُستخدَم الحدود من خلالها أداةً لأغراض معيّنة، وإلى نشوء اقتصادات سياسية بديلة حدّدت التبادلات عبر الحدود وكذلك حركة الثروات وتداول السلطة على المستوى المحلي. وفي حين يبدو أن هيكليات الدولة أُضعِفت أكثر من أي وقت مضى بسبب النزاعات والأنماط الناشئة، لم تكن سلطة الدولة غائبة تماماً. وتبعاً لذلك، لم يُحسَم على الإطلاق الصراع بين الدولة والمجموعات المتناحرة على تحقيق نفوذ وامتداد أكبر، وغالباً مايتخذ أشكالاً إقصائية ومدمِّرة وعنيفة. يحاول الفاعلون المجتمعيون المحليون، في معظم الأحيان، إرساء توازن قوى بين العديد من أصحاب الشأن النافذين الذين يفرضون أنفسهم، بيد أنهم يُفيدون من التفاوض والمساومة مع المجتمعات والأفرقاء المحليين. ولكن في ظل الظروف الناجمة عن ضمور الدولة، ظهرت الأراضي الحدودية بمثابة مواقع استراتيجية لفرض السلطة والصراع عليها؛ وقد أدّى ذلك، في بعض الحالات، إلى نمو المناطق الواقعة عند الأطراف على المستويَين الديمغرافي والاقتصادي، لكنه أفضى في معظم الأحيان إلى العسكرة والعنف المدمّرَين.
الحدود والأراضي الحدودية وتفكك الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: النظرية والخلفية
يستند تعريف الأراضي الحدودية - باعتبارها مناطق قريبة من الحدود وذات صلة بالحدود وبالتبادلات عبرها – إذاً إلى روابطها مع الحدود. لذلك، عند الحديث عن السياسة والمجتمع والاقتصاد السياسي في الأراضي الحدودية، الحدود هي حكماً جزء من ذلك النقاش. والحدود، باعتبارها مصطلحاً سياسياً، تُشير عموماً إلى الخطوط التي تفصل بين الدول وتطبع تخوم الأراضي التابعة لولاية الدولة وسيادتها (Crawford, 2006). تساعد الحدود، من خلال نظم التبادلات التنظيمية، على تحديد المحلي والخارجي، والمدرَج والمستثنى. إذاً لايمكن اعتبار الحدود مجرد أكسسوار خلفي لمنطقة معيّنة.
نظراً إلى تنوّع الأشكال التي قد تتخذها الحدود والوظائف التي قد تؤدّيها، يتّصف ميدان الدراسات الحدودية بتعدّد الاختصاصات وأطر العمل التي تُميّز أبعادها المتعددة وتستكشفها (Kolossov, 2005). بغض النظر عن المقاربة المعتمدة، لايمكن تعريف الطبيعة الفعلية للحدود تعريفاً وقائعياً إلا بالاستناد إلى حقائقها السياقية، أي الأطر المؤسسية والتنظيمات المعمول بها، وآليات التنفيذ، والمجتمعات المحلية المقيمة حول هذه المناطق، وطبيعة الروابط والتبادلات عبر الحدود. ونظراً إلى التقلبات في هذه العناصر السياقية، فإن الحدود، واستطراداً الأراضي الحدودية، هي "في حركة" دائمة ويجب إعادة النظر فيها ودراستها باستمرار على هذا الأساس (Konrad, 2015). فالهيئات الناظمة والتنظيمات ليست عرضة للتغيير وحسب، بل إن حركة الأشخاص والأفكار والسلع، وحتى سيادة الأراضي التي تُقدّم نفسها بأنها ثابتة ومقدّسة، هي أيضاً رهنٌ بمجموعة متنوعة من الظروف الديناميكية القائمة.
على الرغم من هذه التقلبات، السلطة السيادية على الحدود عاملٌ أساسي في إدخال عنصر من الثبات من خلال مايُسمّيه باسي "فضاءات محدّدة بتخوم" (Paasi, 2009، ص. 216). لقد ازدادت تدفقات الأشخاص والسلع والمعلومات عبر الحدود منذ خمسينيات القرن العشرين. ولكن الفضاءات المحددة بتخوم حيث تتداخل الهويات الإقليمية ونظم التنظيم والولاية القضائية وتتشابك نوعاً ما لتشكيل النطاق الإقليمي للسلطة السيادية تبقى أيضاً واقعاً قائماً (Kolossov, 2005، ص. 611؛ Paasi, 2009، ص. 216-217). وتجدر الإشارة إلى أن هذه المفاهيم عن طبيعة السيادة الإقليمية تُصاغ على شكل نموذج مثالي يعرض الأساس المنطقي لنظم الدولة وتطلعاتها ومنطقها التشغيلي. بعبارة أخرى، تختلف مستويات النجاح في إرساء هذه النزعة الإقليمية، والأشكال المحددة التي تتخذها هي رهنٌ بالسياق. يؤكّد نيومان: "خسارة السيادة لاتعني خسارة الجغرافيا" (2003: ص. 16). تؤيّد هذه الورقة المقولة المعاكسة أيضاً، أي إن خسارة الأراضي لاتعني خسارة السيادة أو سلطة الدولة. وهذا يعود إلى الإمكانات المختلفة للتنفيذ والتأثير التي ربما لاتزال سلطات الدولة والأفرقاء غير الدولتيين يتمتعون بها في منطقة معينة على الرغم من خسارتهم السيطرة على الأراضي.
تتخذ أساليب ممارسة السيادة والسلطة أشكالاً مختلفة استناداً إلى الاستراتيجيات المعتمدة، والظروف التكنولوجية القائمة والقيَم المعطاة للحدود (مثلاً الحدود الأميركية-الكندية في مقابل الحدود الأميركية-المكسيكية). إضافةً إلى ذلك، حتى عندما تتعرض قدرة الدولة على فرض سيطرتها على حدودها للإضعاف بسبب حركات التمرد أو النزاعات الداخلية (مثلاً الحدود الشمالية-الشرقية في سورية والحدود الغربية في العراق بين 2003 و2008، وبين 2014 و2018)، فإن الاعتراف الدولي بالسيادة التي تمارسها الدولة بحكم القانون يستمر في منحها صلاحية ضبط الحدود.4
تماماً مثلما تقتضي دراسة ظاهرة الحدود الاهتمام بالتصورات المحلية والممارسات اليومية والتجارب المعيوشة حول مفاهيم الحدود والأراضي الحدودية (Newman & Paasi, 1998)، كذلك يجب دراسة السيادة، خصوصاً في صيغتها الإقليمية أي المتعلقة بالأراضي، من خلال أشكالها "التجريبية" و"الناشئة دائماً" المتجذّرة في الجهويات المحلية (Hansen & Stepputat, 2006، ص. 295). لهذا السبب، يشير نيومان إلى أنه من أجل "دراسة الحدود بوصفها مؤسسات ديناميكية، من [...] المهم دراسة عملية التغيير "من الأسفل إلى الأعلى" (2003: ص. 15). وتحديداً، السؤال الذي تنبغي الإجابة عنه هو التالي: ماهي الأشكال التي تنوجد بها الدولة وتبرهن عن نفسها من خلالها في سياق معيّن مثل الأراضي الحدودية في أثناء ضمور الدولة؟ يرتدي هذا السؤال أهمية خاصة في آليات سقوط أقلمة السلطة والسيطرة وإعادة أقلمتهما. عملية المساومة والصراع بين سيادة الدولة و"السيادة غير النظامية"، ولاسيما على ضوء ماتشهده منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال المتمردين، والأجهزة الأمنية غير الدولتية، والشبكات غير القانونية، هما مايُحدّد السيادة في شكلها المادي وكذلك طبيعة مفهوم الإقليمية في الأراضي الحدودية (Hansen & Stepputat, 2006، ص. 305).
لذلك، الإقليمية السيادية هي أكثر من مجرد استعداد تقني للحفاظ على السيطرة على الأراضي والحدود. فهي تُفرَض ويُعاد إنتاجها باستمرار ويجري التنازع عليها من خلال أدوات سياسية واقتصادية واجتماعية ليست بالضرورة رهناً بالسيطرة على الأراضي أو ضبط الحدود، ولكنها قد تقود إليهما (Berezin, 2003، ص. 7؛ Paasi, 2009، ص. 216). في سياقٍ حيث تتعرض سيادة الدولة إلى التقويض والتحدي المباشر، يصبح الصراع على كل طبقة من الطبقات المكانية للأراضي الحدودية أكثر بروزاً. تتفكك الحدود السياسية والاجتماعية والعسكرية، ويجري التنازع على كل واحدة من هذه الحدود بغض النظر عن التداخل بينها على مستوى الأراضي.
قبل صعود التيارات الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما كانت الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية تعمل على ترسيخ سلطتها وتركيزها، صبّ الباحثون اهتمامهم على الدول واعتبروها مراكز أساسية للسلطة في المنطقة. وأدّى ذلك إما إلى تجاهل مناطقٍ مثل الأراضي الحدودية وإما إلى عدم إيلاء اهتمام كافٍ للهامشية (أو آليات الإقصاء في تداول السلطة) (Atzili, 2012 ؛ Bechev & Nicolaidis, 2010). وقد شكّل العدد الخاص (المجلد 93، العدد 4) الذي صدر عن مجلة "إنترناشونال أفيرز" في العام 2017 وتولّى تحريره كلٌ من رافاييلا أ. ديل سارتو ولويز فوست وأسلي س. أوكياي، عن "الحدود الخلافية"، انطلاقة أجندة بحثية جديدة الهدف منها استكشاف التأثير الذي مارسته تطورات مابعد 2011 على طبيعة الحدود ووظيفتها. ولكن من أجل الإضاءة على التطورات الأخيرة في الأراضي الحدودية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ظلّ الباحثون يلجأون في معظم الأحيان إلى السرديات التاريخية عن طبيعة الحدود في المنطقة وتأثيرها على المناطق المحيطة بها.
يشير ديل سارتو إلى أن جميع المقالات تقريباً التي كُتِبت عن الحدود في الشرق الأوسط تتضمن نقاشاً حول اتفاقية سايكس بيكو (Del Sarto & Raffaella, 2017). هذه السردية الكلاسيكية التي يتحدث عنها ديل سارتو والتي غالباً مايجري الاسترشاد بها، تؤكّد أن الخرائط والحدود المصطنعة في الشرق الأوسط رسمتها قوى أوروبية إمبريالية من دون الاكتراث للمجموعات المحلية (Del Sarto & Raffaella, 2017). وبحسب السردية، أصبحت الحدود المصطنعة منذ ذلك الوقت المصدر الأساسي للاضطرابات والعنف في المنطقة (Bilgin, 2016). يوافق ديفيد باتل على أن هذه السردية غير دقيقة، نظراً إلى أنه "لم يكن لاتفاقية سايكس-بيكو شأنٌ يُذكَر بدول الشرق الأوسط الحالي وحدوده [و] الجزء الأكبر مما جرى الاتفاق عليه في العام 1916 لم يُنفَّذ مطلقاً" (Patel, 2016، ص. 2 و3؛ Pursley, 2015).
إثباتاً على ذلك، يشير باتل إلى القسم الجنوبي من الحدود العراقية-السورية والقسم الشمالي من الحدود الأردنية مع العراق باعتبارهما الجزئَين الوحيدين في الحدود العراقية الحالية اللذين يمكن نسبهما إلى اتفاقية سايكس-بيكو. فالحدود الفعلية للشرق الأوسط وضعتها في نهاية المطاف عصبة الأمم في العام 1932، وكذلك المفاوضات بين الحكومات العربية التي أفضت أحياناً إلى ترسيم الحدود، على غرار الحدود العراقية-السعودية والعراقية-الأردنية. وعرفت الحدود بين العراق والكويت تغييراً كبيراً أيضاً بعد طرد القوات العراقية من الكويت في العام 1991. وفي الفترة الممتدة بين وضع اتفاقية سايكس بيكو وترسيم الحدود الرسمية من جانب عصبة الأمم، ساهمت نحو ست اتفاقيات ومعاهدات أخرى في رسم معالم الحدود الحديثة لكل من سورية والعراق والبلدان المجاورة (Pursley, 2015).5 إضافةً إلى ذلك، شارك أفرقاء محليون متعددون بصفات مختلفة في جولات المفاوضات وخلال العمل على صياغة الاتفاقات المذكورة (Schayegh, 2015). يطرح ذلك تساؤلات بشأن السرديات المتعلقة بعدم شرعية الحدود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.6
السرديات التقليدية عن الطابع المصطنع للحدود الحديثة وعدم شرعيتها تُصوّر الحدود بأنها أسباب أو عوامل محفِّزة للنزاعات الإقليمية والميول الانفصالية (Neep, 2012). على الرغم من أن هذا المفهوم صحيح في بعض الحالات، كما في المناطق الواقعة شمال العراق وسورية، يكشف التاريخ أن النزاع والالتباس يلوحان في الأفق عندما تظهر فرصٌ لإعادة تصوّر الحدود (Forster et al., 1989).7 بعبارة أخرى، لا إثباتات تؤيّد الافتراض بأن إعادة ترسيم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وفقاً للخصائص المحلية أو المتعلقة بالسكان الأصليين من شأنها أن تؤدّي إلى إضفاء مزيد من الشرعية على الحدود، وبالتالي إلى تراجع العنف. وهذا هو الحال تحديداً عندما تكون المسائل التي يمكن اعتبارها محلية أو خاصة بالسكان الأصليين أو من النوع الذي يؤمّن الاكتفاء الذاتي موضع خلاف شديد (Patel, 2016). يلفت فواز طرابلسي إلى أن مايُسمّيه العرب "سورية الطبيعية" هو في الواقع مصطنَع بقدر ما أن ترتيبات سايكس-بيكو مصطنعة (Traboulsi, 2016). لذلك، ومن منظار تحليل النزاعات، بدلاً من النقاش بشأن الأصول أو الشرعية، فإن موضوع النقاش الأكثر فائدة وصلة بالمسألة هو نظم الحكومة، والتنظيمات، وعلاقات القوة التي تؤثّر في الجهويات المحلية.
بغض النظر عن التأثير الفوري للحدود على النزاع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يجب عدم اختزال الموضوع من خلال الافتراض بأن جميع النزاعات - وعلى الرغم من التطورات السياسية والاجتماعية على امتداد قرنٍ من الزمن – تستمد جذورها من الترسيم المصطنع للحدود في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وقد تجّلت هذه النقطة على نحوٍ ممتاز في صور مقاتلي الدولة الإسلامية الذين ظهروا فيها وهم يعبرون الحدود السورية-العراقية في جرّافات في العام 2014 ويدّعون انتهاء اتفاقية سايكس-بيكو، وكأن الشطب الرمزي للخطوط والحدود الخرائطية من شأنه أن يحدث تحولاً في المنطقة. حتى في النزاعات الإقليمية السابقة التي انطوت على خلافات حدودية، لم تكن هذه الخلافات بحد ذاتها الدافع الأساسي وراء النزاعات أو العامل الأساسي الذي طبع مسارها، بل كانت هناك عوامل سياسية وجيوسياسية متعددة (Bilgin, 2016).8
الحدود السياسية هي خصائص جوهرية في الدولة الحديثة – فعلياً ومعيارياً على السواء – وتؤدّي دوراً أساسياً في إرساء السيطرة على الأراضي والحفاظ عليها. لقد أتاحت التطورات المؤسسية التي بدأت في القرن الثامن عشر للدول أن تفرض منظومات خاصة بضبط الحدود وبأراضي الدولة داخلياً وخارجياً على السواء.9 وتضمنت الابتكارات الداخلية إقامة "تجانس إداري من خلال المركزية" و"حكم مباشر" لاسيما عن طريق التجنيد الإلزامي والضرائب (Kahler, 2008، ص. 36). أما الأبعاد الخارجية فكانت عبارة عن وسائل "لتعيين الحدود بدقّة" و"تطابق الولاية القضائية" على نحوٍ منفصل، أبعد من تخوم الحدود السياسية (Kahler, 2008، ص. 36). وقد أتاحت هذه التطورات تصوُّر الفضاء الإقليمي المحدد بتخوم داخل الحدود السياسية، حيث تتداخل الفضاءات الاجتماعية والرمزية، والفضاءات العسكرية، والحدود السياسية والقانونية والاقتصادية، ويجري احتواؤها من خلال احتكار العنف وقدرة السلطات المركزية على الفرض و/أو الإكراه و/أو التطويع.10
الهدف من الحدود السياسية هو تنظيم نوع ووتيرة التبادلات التي تحدث بين المناطق الإقليمية الداخلية والخارجية. تتطلع الدولة إلى تحديد أنواع التبادلات المباحة عبر الحدود من خلال السماح بحركة الأشخاص والسلع أو تقييدها بواسطة الانتشار العسكري والأمني عند الحدود. وتتطلع الدول أيضاً إلى ترسيخ سيطرتها على الجغرافيا الوطنية عبر فرض مدلولات القومية الإقليمية على الشرائح الأكثر نشاطاً وتأثراً في المجتمع. يحدث ذلك من خلال إدخال هذه المفاهيم في المناهج المدرسية وعن طريق مؤسسات العنف التي تفرض هذه الأفكار بواسطة التجنيد الإلزامي والتدريب الأيديولوجي للمجنّدين إلزامياً (Tilly, 1975). إذن تستخدم الدولة الإقليمية تلك الحدود أداةً لتوليد فضاء رمزي وحدوي. ولكن في الآليات مابعد الاستعمارية لتكوُّن الدول، مفهوم السيادة المحددة بتخوم شديد الهشاشة لأن الأشكال المختلفة للسلطة المحلية إما تنقض هذه المفاهيم وإما تفرض بنجاح مفاهيمها الخاصة (Hansen & Stepputat, 2006، ص. 297). إذن، تتفاعل الإقليمية السيادية وتتنافس مع مفاهيم ووقائع أخرى للإقليمية (مثلاً مذهبية، قبلية، دينية، قطرية، متعلقة بصلة القرابة).
بمعزل عن هذا التنافس، يُشير طرابلسي إلى أن التحولات الحداثية ساهمت فعلياً في رسم معالم الأراضي الحدودية ووظيفة الحدود اليوم (Traboulsi, 2016). لقد مارست التطورات الحداثية، في سياق تشكُّل الدولة بعد الاستعمار ثم لاحقاً في ظل الآليات النيوليبرالية، تأثيراً مباشراً من خلال عمليات تركيز العمالة، والعسكرة (التجنيد الإلزامي والمساكن العسكرية لكبار العناصر في المراكز السياسية وحولها مثل دمشق وبغداد)، وتركُّز خدمات الدولة، وتطبيق التنظيمات الاقتصادية وإلغائها. تكشف الدراسات التي تنظر في الظروف والسياسات البنيوية التي ولّدت مراكز وأطرافاً أو عزّزتها أو قوّضتها، عن معدلات مختلفة من تهميش الأراضي الحدودية خارج شعاع المدن الكبرى، ولاسيما على ضوء معدّلات التنمية في المراكز المدينية مقارنةً بالمناطق الأبعد (Gries & Grundmann, 2018). وفي ظل الآليات النيوليبرالية على وجه الخصوص، تجسّدَ التمدين المصحوب بتركُّز السكان والموارد والمؤسسات، من خلال تجريد المناطق الأخرى من مواردها أو توزيع الثروة الوطنية على نحوٍ مجحف (Semmoud, Florin, Legros, & Troin, 2014). تنظر الدراسة التي أجراها غريس وغروندمان في آليات الحرمان والتهميش الاقتصاديَّين السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سيّما تلك المرتبطة بالتصنيع والتمدين، وفي نهاية المطاف بالتنمية الاقتصادية النيوليبرالية، وكذلك في آليات ترسيخ السلطة بواسطة موارد محدودة داخل منظومة اقتصادية معولمة. بعبارة أخرى، تولّد الآليات المركزية للاستخراج الاقتصادي وإعادة التوزيع منظومة مؤلّفة من المركز والأطراف تُعطي الأفضلية للمركز وتُهمّش ماهو خارج المركز وصولاً إلى الفضاءات السياسية-الاجتماعية الثانوية التي هي في معظم الأحيان مفقَرة وخالية من السكان ومستضعَفة سياسياً وموصومة (Florin & Semmoud, 2014).
في سياق تفكّك الدولة، تتيح الحدود والمعابر للأراضي الحدودية التي ربما تعرضت إلى التهميش أن تتحوّل إلى مراكز للسلطة. على غرار آليات التراجع الحضري التي تطرق إليها ابن خلدون في "المقدمة" وجوزف تاينتر في "انهيار المجتمعات المركّبة" (Collapse of Complex Societies)، السياق في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد العام 2011 هو مظهرٌ من مظاهر تفكك الهيكليات الكبرى السياسية-الاجتماعية (Tainter, 1988؛ Khaldun, 2015 ؛ ص. 165-172).
بعبارة أخرى، فيما تصبح المجتمعات أكثر اعتماداً على تركّز الموارد والترتيبات المؤسسية المتخصصة وأنماط العمل المركزية، يُطلق إضعاف القوة المنظِّمة الأساسية (أي الدولة) عملية انتقال للسلطة وتركّزها على المستوى المحلي حيث ينقسم المجتمع إلى "أجزاء أصغر حجماً وأقل تمايزاً وتبايناً، و... عدد أقل من الأجزاء المتخصصة" (Tainter, 1988، ص. 38). وعندما تتقلص هيكلية كبرى بالوتيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تُترَك الجهويات المحلية لمصيرها وتُضطر إلى البحث عن أدوات جديدة للتنظيم والحكم. في الأراضي الحدودية، تتنافس مجموعات نافذة مختلفة على الموارد الاستراتيجية على وقع تداعي محرّكات الفضاء الإقليمي المحدد بتخوم (الفضاء السيادي)، وتحوُّل كل طبقة تأسيسية من طبقات الفضاء السيادي (العسكرية والاقتصادية والسياسية-الاجتماعية) إلى بؤرة خلاف. بغية إلقاء الضوء على التحوّل في هذه الطبقات التأسيسية في الأراضي الحدودية، ينظر القسم التالي في الحالتَين العراقية والسورية. وبما أن الأراضي الحدودية تتأثر بالتبادلات عبر الحدود، تتضمن دراسة هاتين الحالتين النظر في حدودهما مع بعض البلدان المجاورة أيضاً.
الحالتان السورية والعراقية
في خضم الاضطرابات التي شهدتها سورية والعراق بعد العام 2011، ظهر أفرقاء أساسيون في الأراضي الحدودية ماأفضى إلى تحوّل في علاقات القوة. فقد تعاملت الدول والمجموعات المسلحة وغيرها من الأفرقاء المحليين والعابرين للأوطان بطرق مختلفة مع ظروف الاستقلالية الذاتية المتنامية في الأطراف.11 وبرزت هذه الاستقلالية الذاتية على وجه الخصوص في الأراضي الحدودية والتبادلات عبر الحدود، ونظراً إلى الأهمية الجيوستراتيجية لبعض هذه المواقع، ظهرت الأراضي الحدودية بأنها مواقع مرغوب فيها لدى بعض الأفرقاء غير الدولتيين، ماأسفر في نهاية المطاف عن صراعات شديدة على الأراضي. لقد تمكّنت الكيانات التي تعمل من خلال الشبكات والروابط العابرة للحدود من إعادة تصوُّر المنظومة الناظمة للحدود وإعادة توجيه الغايات المتوخّاة منها تحقيقاً لمآربها الخاصة. تنظر الأقسام التالية في ديناميكيات فرض الأمن، وأنظمة ضبط الحدود الناجمة عنها، والاقتصادات السياسية في الأراضي الحدودية، والتأثير الطاغي الذي تمارسه الصراعات على الأراضي في تلك المناطق.
فرض الأمن عند الحدود وأهمية الأراضي الحدودية
يسلّط هذا القسم أولاً الضوء على أهمية الأراضي الحدودية بالنسبة إلى الأفرقاء غير الدولتيين وديناميكيات النزاع التي طبعت التطورات في الأراضي الحدودية، وأفضت في نهاية المطاف إلى أنماط مختلفة من السيطرة الحدودية في سورية والعراق. يتضمن النزاع السوري، منذ العام 2012، أنماطاً موجودة في أماكن أخرى في المنطقة. فمع تفكّك احتكار الدولة للعنف وانتقال وظائفها إلى كيانات متعددة، أصبحت البلاد كناية عن رقعة مقسَّمة جغرافياً من المناطق المعسكرة والمتنازَع عليها. في الأراضي الحدودية السورية، طبعت المعابر الحدودية وأوضاع الحدود (الأفرقاء وطبيعة التنقلات والتبادلات في الأراضي الحدودية وحولها) مسار التحولات المحلية. لقد أعطت الدولة السورية، على امتداد فترة الحرب، الأولوية للحدود العسكرية الداخلية، وأظهرت لامبالاة بالحدود الدولية.
ينطبق هذا أيضاً على العراق في المعركة التي تخوضها الحكومة المركزية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.12 في المواقف الدفاعية، ركّزت استراتيجيات دمشق وبغداد على الحدود العسكرية الداخلية وحماية خطوط الإمدادات. وفي المواقف الهجومية، كان التكتيك المعتمد شنّ حرب استنزاف لقطع خطوط الإمدادات عن العدو وخنق الفضاء الخاص به. وقد تجلّت هذه الاستراتيجية بوضوح في المعارك المدينية للسيطرة على حلب والموصل. وقد كانت الأراضي الحدودية المناطق الأكثر صموداً في وجه هذه المخططات. فالوصول إلى الحدود والمعابر الحدودية يجعل من شبه المستحيل محاصرة هذه الأراضي من دون الحصول على التعاون من القوى الموجودة في الجهة الأخرى من الحدود. وهذا يكشف كيف أن الحدود في الحالتَين السورية والعراقية كانت بمثابة موارد حاسمة لبقاء المجموعات المسلحة غير الدولتية فيما تُحدّد في الوقت نفسه مستوى التأثير الذي تمارسه الدول والقوات المجاورة.
إضافةً إلى ذلك، أصبحت الأراضي الحدودية في سورية ذات أهمية استراتيجية للأفرقاء الدوليين أيضاً، لاعتبارات إنسانية وجيوسياسية. بحلول العام 2014، فيما سعى نظام الأسد إلى الحؤول دون وصول المساعدات وجهود الإغاثة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، قامت المنظومة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة وكذلك المنظمات الدولية الخاصة مثل "ميرسي كوربس" بتجاوُز الدولة السورية بالكامل وإنشاء عمليات عابرة للحدود بالاشتراك مع مجموعات وكيانات مسلحة غير دولتية تفرض سيطرتها على المناطق الحدودية (Chulov & Beales, 2014). بالمثل، عمدت دول مجاورة لديها مصلحة سياسية في النزاع الدائر مثل تركيا إلى إنشاء معسكرات عند الحدود، وسمحت، في فترات زمنية مختلفة، بتنقّل الأشخاص والمقاتلين والأسلحة ونقل الإمدادات الطبية، فضلاً عن العبور إلى الجهة الأخرى من الحدود لتلقّي العلاج الطبي (Vignal, 2017).13
في المجالَين العسكري والإنساني، أصبحت المعابر الحدودية موارد لاغنى عنها. لقد أكّد عضو رفيع في مجلس القائم المحلي، والقائم هي بلدة في الجانب العراقي من الحدود السورية-العراقية، أن بلدة الباغوز السورية، وعلى الرغم من كونها منطقة ريفية مهمَّشة إلى حد كبير، باتت المعقل الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية (قبل سيطرة قوات سورية الديمقراطية عليها) ليس فقط بسبب خصائصها الجغرافية التي أمّنت ملاذاً لمقاتلي الدولة الإسلامية في البادية الشاسعة، إنما أيضاً لأنها قريبة جداً من الحدود العراقية.14 أضاف أن بعض أولئك المقاتلين عبروا الحدود بعد خسارة السيطرة على الباغوز، حيث تفرّقوا في القرى المحاذية في الجانب العراقي من الحدود أو في الصحراء الواسعة في الأنبار (Loveluck & Salim, 2019).15 لذلك ليس مفاجئاً أن بعض المناطق الحدودية كانت، طوال فترة النزاع، موضع صراع شديد بين المجموعات المختلفة التي تتنافس على تعزيز سيطرتها على الموارد الحدودية.
وحدث ذلك أيضاً في المعركة التي دارت في العام 2014 بين الدولة الإسلامية والقوات الكردية في كوباني (عين العرب)، وهي مدينة استراتيجية عند الحدود السورية-التركية. ففي حين هاجم تنظيم الدولة الإسلامية هذه البلدة الحدودية بنيّة ارتكاب إبادة، أغلقت تركيا حدودها فحاصرت عملياً سكّان البلدة والمقاتلين على السواء في مواجهة الدولة الإسلامية. وكانت المناطق التي تضم وجوداً قوياً لقوات سورية الديمقراطية عند الحدود السورية-التركية تشكّل خطراً أمنياً جدياً لتركيا – وقد تحوّلت هذه الأراضي الحدودية الشمالية مجدداً إلى موقع لعمليات الترحيل ومبادرات إعادة التوطين التي أعادت رسم الواقع الديمغرافي في المنطقة عقب انسحاب القوات الأميركية والهجوم التركي في أواخر العام 2019.
حدّة النزاع على المناطق المحيطة بالحدود ووجود وكالات إنسانية في المناطق في طرفَي الحدود هما العاملان الأكبر اللذان يحدّدان تأثير الصراع على السلطة في الأراضي الحدودية ونوعية الحياة في القرى السورية المجاورة. في الفترات القصيرة التي سادها استقرار حول الحدود وحركة عبور ناشطة للمعابر الحدودية، ازدهرت القرى وتحوّلت إلى بلدات ذات صناعات ورساميل جديدة، ماأدّى إلى استقطاب مجموعة كبيرة من اليد العاملة النازحة والعاطلة عن العمل، وأصبحت هذه القرى قاعدة تشغيلية وشريان حياة للمناطق المحيطة بها أيضاً. وكان ذلك واضحاً في بلدة أعزاز الحدودية حيث ازدهرت الاقتصادات غير الشرعية وأدّى موقعها الجغرافي على مقربة من البلدان التركية والمعابر الحدودية دوراً كبيراً (Tokmajian, 2016). وقد حوّلت هذه الديناميكيات الأراضي الحدودية إلى مناطق معسكرة جداً وموضع نزاع شديد.
النظم الناشئة لضبط الحدود ومسارات التغيير
ظهرت ثلاثة أنواع مختلفة من أنظمة ضبط الحدود في سورية والعراق اللتين تشهدان نزاعات وهما موضوع هذه الورقة البحثية: (1) أفرقاء غير دولتيين وأفرقاء دولتيون في جانبَي الحدود، (2) أفرقاء غير دولتيين في الجانبَين، و(3) أنظمة هجينة. لاينطبق هذا التصنيف على جميع الأراضي الحدودية في الحالتَين قيد النقاش، فالهدف هنا هو التطرق فقط إلى نظم ضبط الحدود التي ظهرت خلال النزاع. تُشير التقلبات التي عرفتها هذه النظم إلى أنها لم تستمر بالضرورة. بغض النظر عن التحولات والتغييرات، تعبّر الأنواع عن أنماط التغير التحوّلي وحدوده. وتعكس الأنواع الثلاثة للنظم الناشئة لضبط الحدود طرائق مختلفة ومظاهر مختلفة للسيطرة على الأراضي المتنازع عليها في الأراضي الحدودية.
تُقدّم الحدود الشمالية والغربية في سورية أمثلة عن الأفرقاء الدولتيين وغير الدولتيين في كل جهة من الحدود. تتّصف نظم الحدود القائمة هنا بأنها غير متكافئة. على سبيل المثال، قد تتخذ الحكومة التركية قراراً أحادياً بشأن السماح بعبور هذا المعبر الحدودي أو ذاك، وتحدد حدود حركة التنقل وقيودها. وقد تبدّلَ موقف الحكومة التركية، بدفعٍ من هواجسها الأمنية ومصالحها الاستراتيجية، وذلك بحسب الأفرقاء غير الدولتيين الذين كانت تتعامل معهم وأنماط المخاطر. قدّمت أنقرة مثلاً ملاذاً آمناً في الشمال للمجموعات غير الدولتية المعارِضة لنظام الأسد، حتى إنها غضّت النظر عن دخول الجهاديين إلى سورية عبر أراضيها في سنوات النزاع الأولى. وتحالفُ تركيا مع المجموعات المعارِضة أتاح لها وجوداً و(نفوذاً) راسخَين في سورية فيما كان أيضاً بمثابة ثقل موازِن في مقابل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني. تعتبر أنقرة الجناح المسلّح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، المعروف بوحدات حماية الشعب، جزءاً من حزب العمال الكردستاني الانفصالي الذي تصنّفه تركيا في خانة التنظيمات الإرهابية. يلفت فينيال إلى أن تركيا سعت، من خلال تطبيقها تكنولوجيات جديدة لضبط الحدود (الجدران والأسيجة والخنادق وآليات المراقبة)، إلى وقف جميع التنقلات والحد منها فعلياً في المناطق الحدودية الشرقية التي تضم أكراداً (Vignal, 2017، ص. 821).16 من جهة أخرى، عرفت الأراضي الحدودية السورية في إدلب وحلب فترات من الازدهار شكّلت خلالها الحدود التركية-السورية شريان حياة حيوياً لقوى المعارضة وسكان الأراضي الحدودية في تلك المحافظات.
اتّسم ضبط الحدود في ظل ضمور الدولة، وبغض النظر عن الأفرقاء المعنيين، بالترتيبات غير النظامية بين القوى القائمة. على سبيل المثال، السيطرة التي تفرضها الأحزاب الكردية الأساسية في كردستان على المعابر الحدودية مع تركيا وإيران هي سيطرة غير نظامية، نظراً إلى أنها ليست منظَّمة من جانب حكومة إقليم كردستان، ولا تحظى بموافقة الحكومة المركزية في بغداد. لقد استخدم الحزب الديمقراطي الكردستاني قوته العسكرية وعلاقاته الودّية مع الحكومة التركية للاستمرار في فرض سيطرته بحكم الأمر الواقع على معبر ابراهيم الخليل الذي يُعَدّ المعبر الحدودي الأساسي مع تركيا. ويتولى الحزب أيضاً إدارة معبر حاج عمران الحدودي مع إيران، فيما يُسيطر الاتحاد الوطني الكردستاني على معبر باشماخ الحدودي مع إيران. حتى لو كانت حكومة إقليم كردستان تدّعي ممارسة سلطتها الرسمية على هذه الحدود، الجهة التي تتولى إدارتها عملياً هي الجناح العسكري لكل من الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. هذا فضلاً عن أن الحكومة الفيدرالية التي تدّعي أنها صاحبة الحق الدستوري في السيطرة على جميع المعابر الحدودية في إطار سلطتها السيادية، فشلت في بسط سيطرتها على هذه المعابر. والمحاولة الأخيرة في هذا الصدد كانت في 2017-2018، عقب الاستفتاء على الاستقلال الذي نظّمته حكومة إقليم كردستان بصورة أحادية.17
النوع الثاني من الأنظمة الحدودية يتألف من أفرقاء غير دولتيين في جانبَي الحدود. من الأمثلة في هذا المجال الحدود السورية-العراقية بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية، والحدود اللبنانية-السورية قبل عام 2014. ثمة مجموعات غير دولتية عدة موجودة في هذين السياقَين: على الحدود العراقية-السورية، طوّر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني علاقة عمل مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في العراق.18 لدى الاتحاد الديمقراطي الكردستاني حلفٌ استراتيجي مع حزب العمال الكردستاني الذي يمتلك حضوراً متنامياً في شمال العراق، ويستمر في العمل من خلال شبكات الدعم عند الحدود العراقية-السورية، لاسيما عن طريق معبر سيمالكا غير النظامي. في غضون ذلك، سيطرت الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة في جانبَي الحدود السورية-العراقية قبل طردها من هناك في إطار الحملة العسكرية الدولية التي انطلقت ضدها في العام 2014. وعلى الحدود الشرقية بين لبنان وسورية عند سلسلة جبال القلمون، كانت قوات حزب الله اللبنانية تسيطر فعلياً على المنطقة (مع وجود محدود للجيش اللبناني) فيما كانت مجموعات المعارضة موجودة في الجانب السوري حتى طردها من هناك في منتصف العام 2014. إضافةً إلى ذلك، تنتشر الفصائل المسلحة الشيعية المدعومة من إيران في جانبَي الحدود السورية-العراقية (Kittleson, 2019). وكان بعض هذه الفصائل يعبر الحدود بصورة منتظمة لدعم القوات المتحالفة مع النظام، حتى إنها كانت تسيطر على خطوط التهريب (الأسلحة والنفط والمخدرات)، مستفيدةً من إغلاق المعابر الحدودية النظامية.19
النوع الثالث عبارة عن أنظمة هجينة لضبط الحدود تضمّ مزيجاً من الأفرقاء الدولتيين وغير الدولتيين والقوات العسكرية الأجنبية.
وتظهر ملامح هذه الأنظمة الهجينة في الظروف التي نشأت مؤخراً ولاتزال تتبلور معالمها في جنوب سورية، حيث جرى التوصل إلى اتفاق هدنة بين الدولة السورية ومجموعات المعارضة المسلّحة في منتصف العام 2018. وقد نصّ الاتفاق على استعادة الدولة السورية رسمياً السيطرة على الحدود فيما يتولى الجيش الروسي فعلياً الإشراف على شؤون الأمن الداخلي. وفي إطار الصفقة، تخلت بعض مجموعات المعارضة عن أسلحتها الثقيلة وأُجيز لها البقاء في مدنها، في حين أُجلي الأفرقاء المعارِضون للاتفاق إلى المناطق الواقعة شمال سورية (Al-Tamimi, 2018). فيما تتسبب النظم الهجينة بتقويض سيادة الدولة، تبقى سلطة الدولة حاضرة ومؤثِّرة بأشكال مختلفة. قبل الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية، كانت للأردن علاقات دبلوماسية مع الدولة السورية فيما كان يتولى أيضاً إدارة المعابر الحدودية الخاضعة لسيطرة المجموعات المعارِضة ويسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى سورية. علاوةً على ذلك، استضاف الأردن أيضاً على أراضيه معسكرات لبعض مجموعات المعارضة السورية المدعومة والمموَّلة من الولايات المتحدة (Vignal, 2017، ص. 821).
ولكن مع ازدياد أعداد اللاجئين السوريين الذين دخلوا إلى الأردن، طبّقت الحكومة الأردنية إجراءات أكثر تشدداً في ضبط الحدود من خلال الحد مثلاً من حرية تنقّل الفلسطينيين-السوريين، قبل أن تعمد في نهاية المطاف إلى إغلاق المعابر الرسمية وغير الرسمية على السواء أمام حركة الأشخاص (Vignal, 2017، ص. 821). يأخذ الأردن، في مقاربته لمسألة الحدود، المصالح المختلفة في الاعتبار، بما في ذلك مصالح حلفائه. فمن جهة، فضّلت الحكومة الأردنية عدم اتخاذ موقف عدائي مباشرةً من الحكومة السورية وأبقت على العلاقات الدبلوماسية معها؛ ومن جهة أخرى، لم تتخذ موقفاً مناوئاً من المجموعات غير الدولتية، فسمحت للمساعدات الإنسانية بدخول المناطق الخاضعة لسيطرة تلك المجموعات وأجازت للولايات المتحدة تنظيم معسكرات لتدريب قوى المعارضة ودعمها. بالمثل، وفيما أعاد الجيش العراقي وحرس الحدود تثبيت وجودهما على الحدود مع سورية بعد هزيمة الدولة الإسلامية، إلى جانب قوات الحشد الشعبي التي تُشكّل مظلة للميليشيات الشيعية، وكذلك البشمركة الكردية، أقيمت منظومة هجينة لضبط الحدود حيث طوّر الأفرقاء غير الدولتيين روابط مكمِّلة مع الأفرقاء الدولتيين.
أدّت الأنماط الخلافية في فرض الأمن والسيطرة إلى ظهور أنظمة مختلفة لضبط الحدود داخل كل جهوية محلية معنية. لقد استخدم الأفرقاء الدولتيون وغير الدولتيين الحدود أداةً لتثبيت وجودهم وتعزيز مصالحهم ومصالح حلفائهم؛ وحاولوا أيضاً خلق تبعيات وعلاقات نفوذ غير متكافئة. وأعقبتها إجراءات ناعمة (تنظيمات محدودة ومقتصرة على الحد الأدنى) وصلبة (قيود وضوابط واسعة على التبادلات والتنقل) لضبط الحدود. وكشف عدد كبير من الحالات قيد الدراسة في هذه الورقة البحثية عن واقع متناقض، حيث يمكن أن تُعتبَر الحدود نفسها ناعمة في مايتعلق ببعض التبادلات وصلبة في أنواع أخرى.
كذلك تبدّلت الاستراتيجيات وأساليب الضبط استناداً إلى التطورات العسكرية في المناطق المجاورة. مثلاً، استُخدِم معبر سيمالكا غير النظامي بين كردستان العراق والمناطق الخاضعة إلى سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في شرق سورية، من أجل دعم القوات الكردية السورية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكنه استُعمل بصورة أساسية لعبور القوات الأميركية المتمركزة في شمال شرق سورية. وعندما انسحبت هذه القوات في العام 2019، أصبح المعبر مفتوحاً أمام حركة الأشخاص والشاحنات، على الرغم من أن الحكومة العراقية ونظيرتها السورية لم تمنحا تراخيص لإجراء هذه التبادلات ولم تسمحا بها.20 ووفقاً لرئيس هيئة المنافذ الحدودية في العراق، كان لكردستان العراق في الأعوام الماضية 21 معبراً حدودياً غير معترَف بها لامن الحكومة الفيدرالية ولامن حكومة إقليم كردستان، إنما كانت تديرها مجموعات محلية غير نظامية (Al-Iqabi, 2019).
تأرجحت الحدود السورية-الأردنية بين الحالتَين الناعمة والصلبة، لكنها تجمع أيضاً بين عناصر الليونة والصلابة في الوقت نفسه. والدليل على ذلك حرية التنقل النسبية للمساعدات الإنسانية في مقابل القيود على حركة الأشخاص عبر الحدود. وينطبق الشيء نفسه على الحدود العراقية-السورية حيث فرّ اللاجئون من هذا الجانب من الحدود أو ذاك إلى الجانب الآخر في فترات زمنية عدة بعد العام 2014. وفي العام 2018، كان نحو 11 ألف عراقي لايزالون في مخيم الهول في الجانب السوري من الحدود.21 وفيما كان عناصر حزب العمال الكردستاني والميليشيات الشيعية وكذلك مقاتلو الدولة الإسلامية (بدرجة أقل اليوم) يعبرون الحدود بصورة منتظمة، كانت ُفرَض قيود شديدة على الوصول إلى الجزء الأكبر من هذه الحدود.
إضافةً إلى ذلك، هناك في الجانب العراقي (ماعدا كردستان) مايُسمّى رسمياً "الأرض الحرام"، وهي عبارة عن منطقة عازلة تمتد على طول نحو 10 كيلومترات داخل الحدود العراقية، ويُطبَّق فيها حظر تجوال يُمنَع بموجبه التنقل من دون إذن. لقد استُخدِمت الحدود بطرق متعددة الوظائف، بحسب الأفرقاء المتواجدين على الأرض، فقد فُرِضت مثلاً إجراءات مشددة في مايتعلق بحركة الأشخاص، فيما أُبقي على منافذ لنقل الأسلحة. وكانت الأنماط المحددة لفرض الأمن واستخدام الحدود لأغراض معيّنة رهناً بمجموعة منوّعة من المتغيرات، مثل الأفرقاء الناشئين، وأجنداتهم، وإمكاناتهم واستراتيجياتهم في مجال ضبط الحدود، وحدّة العنف، وعلاقات القوة في المناطق الحدودية. وكانت هذه العوامل أساسية أيضاً في تحديد الاقتصادات السياسية الناشئة حول الأراضي الحدودية، ما ساهم بدوره في تعزيز تكتلات القوة الجديدة.
الاقتصاد السياسي للحدود والأراضي الحدودية
في معظم الأحيان، لاتحصل المجتمعات الحدودية في سورية والعراق، حتى في المناطق التي تملك موارد وفيرة، سوى على حصة هامشية أو ضئيلة جداً من إيراداتها (Benedict & Nora 2014). هذا لايعني أن التنمية، ولاسيما من النوع الصناعي، لم تكن موجودة في الأطراف. فعلى سبيل المثال، تحوّلت بلدة القائم في العراق، خلال سبعينيات القرن العشرين، من اقتصاد زراعي إلى استضافة مجمّع ضخم لمعالجة الفوسفات تشغّله الدولة العراقية ويتصل ببغداد وسواها من المدن بواسطة السكك الحديد. لقد تحوّلت هذه المدينة الواقعة في الأطراف إلى مركز للإنتاج الاقتصادي الجديد وللتوظيف، ماأفضى إلى دمجها على نحوٍ متزايد في المركز فيما ساهم في الوقت نفسه في التنمية المحلية.22 ولكن خلال العقدَين المنصرمين في سورية ومنذ اجتياح صدام حسين للكويت، أظهرت الدولتان المعنيتان، لأسباب عدّة، ميلاً أقل إلى التعويض على مجتمعات الأطراف أو تزويدها ببرامج الرعاية الاجتماعية والخدمات العامة والاجتماعية والاقتصادية (Azmeh, 2019 ؛ Hanieh, 2018). وقد تأثّر ذلك بمجموعة عوامل. في القائم، لحقت أضرار شديدة بمعمل الفوسفات وخسر جزءاً كبيراً من قدراته الإنتاجية بسبب القصف في العام 1991 والعقوبات الدولية لاحقاً. وبعد تغيير النظام في العام 2003، أصبحت المنطقة موقعاً أساسياً لأنشطة التمرد، وتلاشى حضور الدولة. فباتت مجتمعات الأطراف محرومة من الموارد. وقد ولّد ذلك سلسلة من التحديات المختلفة للمجتمعات الحدودية، فضلاً عن أساليب تشغيلية جديدة.
في حين أن الإطار السياسي-القانوني الوطني للدولة الفاعلة يحمل فوائد، فإن الموقع الجغرافي على مقربة من ولايات قضائية أخرى والوصول إلى الأنشطة غير الشرعية العابرة للحدود، يتيحان فرصاً اقتصادية فريدة من نوعها لسكان الأراضي الحدودية. وتتوافر هذه الفرص على نحوٍ أكبر في الأراضي الحدودية حيث يمتلك الأفرقاء غير الدولتيين سيطرة واسعة في جانبَي الحدود. على سبيل المثال، المحروقات المدعومة التي يجري تهريبها وبيعها في أراضٍ خارج الحدود الوطنية هي سوق تخصصية مربحة (مثلاً المحروقات السورية التي تُباع في لبنان). وكان تهريب المواشي ممارسة شائعة عبر الحدود العراقية-السورية، وغالباً مايتم على أيدي مجموعات قبلية يُقيم أعضاؤها في جانبَي الحدود (مثل قبيلة شمر). في حالة اللاتنظيم النيوليبرالي العنيف وتفكيك دولة الرعاية الاجتماعية، تبقى عملية الاستخراج من الأطراف إلى المركز على حالها من دون تغيير، في حين تُفرَض قيود شديدة على الدعم لمجتمعات الأطراف. هذا ماحدث في سورية في مرحلة مابعد 2005 عندما سجّلت أسعار الفيول والديزل ارتفاعاً شديداً بعدما عمدت الحكومة إلى خفض الدعم لها (Dolbee, 2018، ص. 6). وجاء الجفاف في العام 2006 مقروناً بالتضخم وغياب الدعم من الدولة ليزيد من حدّة آليات التهميش في المناطق الريفية.
مع تراجع الاعتماد على المركز، عزّزت المجتمعات المحلية عند الحدود السورية-العراقية مداخلها إلى الاقتصادات غير النظامية بما في ذلك تهريب السلع والأسلحة والجهاديين عبر الحدود (Mustafa, 2020). في الأنماط النيوليبرالية للإنتاج الاقتصادي أو الاقتصادات الريعية التي تُدار مركزياً، تُدفَع المجتمعات في الأراضي الحدودية، وحتى تُشجَّع أحياناً، على تطوير اقتصادات غير نظامية. لايؤدّي ضمور الدولة إلى تراجع اعتماد الأطراف على المركز وحسب، بل أيضاً إلى التشكيك في امتداد السلطة الإكراهية للدولة ومؤسسات العنف التابعة لها. خير مثال على ذلك ماجرى في غرب العراق. فمنذ العام 2003، أصبحت المنطقة غير قابلة للحكم عملياً بسبب العوامل المذكورة آنفاً. وتحوّلت أقضية مثل القائم والبعاج في الجانب العراقي من الحدود مع سورية، إلى معاقل للتنظيمات الجهادية، ولاسيما حين كان النظام السوري يعمل لتسهيل دخول الجهاديين إلى العراق (نُفِّذت العملية الأولى ضد الجيش الأميركي قرب القائم في آذار/مارس 2003 على يد عنصر جهادي محلي).23 ومع انهيار الدولة في العام 2003، أصبحت البصرة في قبضة القوات شبه العسكرية التي كانت تسيطر أيضاً على الميناء الوحيد في العراق (أم قصر). ولم تتولَّ الدولة إدارة حدود المدينة مع إيران ومنفذها إلى الخليج، ولو بشكل غير كامل، سوى في العام 2007 حين شنّت الحكومة العراقية حملة عسكرية لتطهير البصرة من الميليشيات. حتى في الوقت الحالي، ونظراً إلى تزايد أعداد الفصائل والميليشيات المسلحة وتنامي نفوذها، لاتمتلك الدولة سيطرة كاملة على الميناء، وتتولى القوات شبه العسكرية، وفقاً للتقارير، إدارة بعض المراسي في الميناء.24 مؤخراً، أغلقت الحكومة العراقية معبراً حدودياً عند الحدود العراقية-الإيرانية في مدينة ديالى، لعدم قدرتها على ضبط التجارة غير الشرعية عبر الحدود أو الحد من تورّط الميليشيات في هذه الأنشطة.25
في هذه الظروف المتقلّبة، لم تعد الحدود تطبع البداية والنهاية الفعليتين لسيادة الدولة، بل هي تتحوّل إلى أدوات اقتصادية لتوليد موارد مختلفة للاقتصادات المحلية وأبعد منها. وهكذا تصبح الشبكات المحلية للمعرفة والقدرة على التنقل والتبادل غير النظاميَّين عبر الحدود عوامل اقتصادية أساسية في الأراضي الحدودية، بحيث تتطور الاقتصادات الحربية حولها وتحاول المجموعات المسلحة الإفادة منها. في غرب العراق، عرف الاقتصاد السياسي المرتبط بالأراضي الحدودية تغييراً جذرياً على ضوء التنافس بين المجموعات المسلحة لوضع يدها على الريوع المستمدة من السيطرة على الطرقات والمعابر الدولية المؤدّية من صحراء الأنبار باتجاه الأردن وسورية. وقد استخدم تنظيم القاعدة الطرقات السريعة للحصول على الريوع عبر اللجوء إلى الخطف أو النهب أو الاكتفاء بإقامة نقاط تفتيش وفرض ضرائب على التبادلات الاقتصادية وحركة المواصلات. بالمثل، عندما بدأ الجيش الأميركي بتجنيد بعض الميليشيات القبلية في المنطقة أو دعمها لتعبئة القوى المحلية ضد تنظيم القاعدة، تغاضى عن الأنشطة غير الشرعية التي تقوم بها الشبكات القبلية وسمح لها بالسيطرة على طرقات التهريب والطرقات السريعة الدولية (Malkasian, 2017، ص. 150).
واقع الحال هو أن الشبكات والطرقات غير النظامية للتنقلات والتبادلات عبر الحدود هي ذات قيمة لاتُقدَّر بثمن للأفرقاء الدولتيين وغير الدولتيين على السواء من أجل الحصول على الموارد واللوجستيات الضرورية للبقاء أو التوسع خلال النزاع. على الرغم من أن الشبكات غير النظامية والمجتمعات المحلية في الأراضي الحدودية تُفيد من التجارة غير الشرعية، إلا أن ارتباطها مع مركز السلطة ليس غائباً تماماً، فالعلاقات مع الدولة أو مع أي مجموعة مسيطرة ليست موضع رفض بالمطلق، بل يُعاد التفاوض عليها وغالباً مايجري استغلالها. لقد ساهمت التبادلات الاقتصادية غير النظامية على مر عقود من الزمن عند الحدود السورية-العراقية في تغذية الشبكات الجهادية، أولاً بعد الاجتياح الأميركي للعراق ولاحقاً عقب انتفاضة 2011. وأمّن التداخل بين الشبكات الجهادية والشبكات الاقتصادية غير النظامية تمويل المجموعات القتالية غير الدولتية قبل العام 2011 وبعده (Neumann, 2014).
في غضون ذلك، تعمّدت الدولة السورية الإشاحة بنظرها عن هذه التبادلات بعد الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003 بهدف تعزيز نفوذها السياسي في الدولة المجاورة الواقعة عند حدودها الشرقية وممارسة ضغوط على القوات الأميركية المتمركزة هناك (Harling & Simon, 2015، ص. 1-10). وكانت هذه الشبكات القائمة مسبقاً "ضاربة الجذور في عمق الجهات القبلية الفاعلة بين دير الزور [في سورية] والأنبار [في العراق]" والتي أصبحت أكثر نشاطاً بفعل العقوبات التي فُرِضت على العراق خلال حرب الخليج، والمشقات الاقتصادية التي تتخبط فيها سورية منذ العام 2000، والطبيعة المذهبية للسياسة الإقصائية العراقية بعد العام 2003 (Harling & Simon, 2015، ص. 5).
مستقبل الأراضي الحدودية
على الرغم من الفرص الاقتصادية، تعاني دورات استخراج الثروات من الهشاشة بسبب غياب الاستقرار والتقلبات في العوامل والظروف التمكينية. فقد شكّلت التحولات الديمغرافية الدراماتيكية أمثلة شائعة عن الأنماط المدمِّرة. ونظراً إلى الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية التي تتحقق في ظل ظروف ضمور الدولة، استُتبِع بروز أفرقاء غير دولتيين في الأراضي الحدودية بصراعات عسكرية الطابع أسفرت عن تقلّص البلدات والقرى نتيجة الدمار والعسكرة المتواصلَين.26 والإجابة عن السؤال عما إذا كان الأشخاص الذين غادروا هذه المناطق سيعودون إليها في نهاية المطاف تتوقف على مسار تنقلاتهم (نزوح داخلي أم خارجي، أو انتقال منظّم إلى مكان إقامة آخر، أو تشتّت عشوائي)، ومكانتهم في محيطهم الجديد (المكانة القانونية، ومستوى الدمج في القوة العاملة، ومستوى المعيشة)، وخطط إعادة الإعمار والأمن في المناطق التي يتحدرون منها. ومثال على ذلك الأيزيديون في بلدة سنجار في الجانب العراقي من الحدود مع سورية. فعندما تعرّضت البلدة للهجوم على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، فرّ معظم أبنائها وعبروا الحدود عند خطوط الحماية التي أمّنها حزب العمال الكردستاني وحلفاؤه السوريون الذين يتشاركون مع الأيزيديين انتماءهم إلى الإثنية الكردية.27 وقد عبرَ معظمهم الحدود من جديد باتجاه كردستان العراق الذي لجأ إليه مئات الآلاف ولم يعودوا إلى ديارهم، حتى بعد تم طرد تنظيم الدولة الإسلامية من مناطقهم.28
لقد ارتفعت أعداد السكان في بلدة أعزاز شمال سورية عند الحدود السورية-التركية من 30000 قبل العام 2011 إلى أكثر من 200000 في العام 2017 بسبب معركة حلب، وموقع البلدة الجغرافي على مقربة من الحدود التركية، والموارد التي تؤمّنها عبر الحدود (Farouq, 2018). على النقيض، سجّلت أعداد السكان في سنجار عند الحدود العراقية-السورية تراجعاً دراماتيكياً من 400000 قبل العام 2014 إلى 60000 في منتصف العام 2019، جراء النزوح والهجرة اللذين تسبب بهما غزو تنظيم الدولة الإسلامية للمنطقة، وماأعقبه من عدم استقرار بوجود ميليشيات متعددة (أي المجموعات المدعومة من حزب العمال الكردستاني، والمجموعات المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني، والمجموعات المدعومة من قوات الحشد الشعبي)، وفي ظل التنافس بين الإدارتَين المحليتين (الإدارة المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني وتلك المدعومة من حزب العمال الكردستاني وقوات الحشد الشعبي).29 في غضون ذلك، تراجع الاقتصاد الذي كان زراعياً وريفياً في جزء كبير منه، ماأتاح سيطرة اقتصادات الحرب غير النظامية والابتزاز.
في الأماكن حيث حاولت الفصائل المسلحة الحلول مكان الشبكات القائمة، ليس موقع الأفرقاء الاقتصاديين الجدد ودورهم مماثلاً بالضرورة لموقع الأفرقاء الذين كانوا موجودين قبل النزاع ودورهم. على سبيل المثال، عندما قام مجلس أعزاز المحلي بتعيين أعضاء جدد في المجلس البلدي في تموز/يوليو 2018، تولّت الحكومة التركية إدارة التفاصيل الدقيقة لهذه التعيينات، كما أكّد المختار المعيّن حديثاً مواس دانون. ولم يسبق للمعيَّنين أن شغلوا مناصب محلية من قبل (Danun, 2018). في القائم، لطالما تنافست المجموعات القبلية، مثل عشائر البو محل والكرابلة والبو سلمان، على الأراضي والسلطة المحلية وطرقات التهريب. عندما سيطر الجهاديون على المنطقة بعد العام 2003، تحوّل هذا التنافس إلى نزاع عسكري بين عشيرة البو محل التي خاض شيوخها في نهاية المطاف نزاعاً مع المجموعات التي كان يقودها الزرقاوي، وبين عشيرتَي الكرابلة والبو سلمان اللتين كانتا تدعمان الجهاديين (Knarr et al, 2015). اليوم، لكل قبيلة ميليشياتها المحلية، ولكنها تخضع إلى حد كبير للميليشيات الشيعية الأفضل تسلحاً والتي لديها أيضاً مداخل أكبر إلى موارد الدولة وشبكات المحسوبيات النافذة. لقد حوّل النزاع في هذه المنطقة الأمن إلى سلعة اقتصادية أساسية، إذ تسعى كل مجموعة إلى كسب الريوع عن دورها في ضبط أمن الحدود والتبادلات عبر الحدود. وعلى الرغم من الفرص الاقتصادية التي أتاحها ذلك للشبكات المحلية أو المجموعات المسلحة أو الأفرقاء الدولتيين، غالباً ماأسفرت الإمكانات التدميرية للنزاعات العسكرية عن تفريغ المنطقة من سكانها أو حتى دمارها الكامل.
تسبّب الهجوم التركي في شمال شرق سورية لدى انسحاب القوات الأميركية من المناطق الحدودية، بسقوط أعداد كبيرة من الضحايا، وموجات نزوح واسعة، فضلاً عن هندسات ديمغرافية داخل الأراضي الحدودية.30 لقد استهدف الهجوم التركي، بالاشتراك مع التنظيمات الثورية السورية، الأكراد في الأراضي الحدودية لطردهم منها وإعادة توطين اللاجئين العرب السوريين الذين نزحوا إلى تركيا في هذه المناطق.31
إضافةً إلى ذلك، تبذل الدول والأفرقاء غير الدولتيين على السواء محاولات متزايدة لتثبيت سلطتهم، بما في ذلك من خلال الاستراتيجيات السكانية لتغيير الوقائع الديمغرافية بهدف توسيع حضورهم وسيطرتهم (McGarry, 1998 ؛ Morland, 2014). وتشمل الاستراتيجيات السكانية استراتيجيات للهندسات الديمغرافية والاجتماعية، فضلاً عن جهود شاملة لإعادة تصوّر المدركات الاجتماعية والآراء العالمية (Weiner & Teitelbaum, 2001 ؛ Bookman, 1997؛ Akdedian, 2019). على سبيل المثال، أقام عدد كبير من الأشخاص الذين نجحوا في الفرار من سنجار روابط جديدة وأقوى مع حزب العمال الكردستاني – الذي كان في السابق دخيلاً بالنسبة إلى معظم الأيزيديين – بعدما أدركوا أنه لولا المساعدة من الحزب لما تمكّنوا من الهروب من المجزرة التي كان تنظيم الدولة الإسلامية على وشك ارتكابها. وقد تُوِّج ذلك بتشكُّل وحدات مقاومة سنجار، وهي عبارة عن ميليشيا محلية مدمجة في الشبكة العابرة للجنسيات التابعة لحزب العمال الكردستاني. تعمل هذه الميليشيا على مقربة من الحدود وتتنافس مع ميليشيا أخرى هي قوة حماية يزيكسان المدعومة من الحزب الديمقراطي الكردستاني. نتيجةً لذلك، احتدمت المنافسة بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وقد أدّى ذلك إلى مزيد من الانقسامات داخل المجتمعات الأيزيدية.32 يعتبر بعض السكان المحليين أن هذا الانقسام هو السبب وراء إحجام الحزب الديمقراطي الكردستاني عن تشجيع عودة اللاجئين الأيزيديين من الأراضي التابعة له، نظراً إلى أنه يرفع منذ وقت طويل مطلب ضم المدينة إلى إقليم كردستان ويرفض الأدوار التي يؤدّيها حزب العمال الكردستاني وقوات الحشد الشعبي في المنطقة.33 في نهاية المطاف، في هذه المناطق المتنازَع عليها بشدة، تُستخدَم السيطرة على حركة الأشخاص من أجل رسم معالم المجتمعات المحلية وارتباطاتها بالأرض. لقد كانت الاستراتيجيات الديمغرافية الواسعة النطاق ولاتزال قيد التنفيذ على امتداد النزاع، وخصوصاً في الأراضي الحدودية المتنازع عليها (Salloum, 2019).
الدافع الأساسي وراء جهود الهندسة الديمغرافية نابع من الفرضية الآتية: تترتب على الحجم النسبي للسكان وولائهم تداعيات على إرساء سيطرة وحوكمة فعالتَين (Bookman, 1997، ص. 18). بعبارة أخرى، في النزاعات حيث تُسيَّس الهوية باعتبارها وسيلة من وسائل التعبئة والتجنيد، يصبح تجانس المحلّة على مستوى التضامن الاجتماعي مساوياً لولائها وإخلاصها السياسيَّين.34 تُوجَّه الهندسة الديمغرافية عادةً نحو توليد تداخل كامل بين الحدود (الخطوط الأمامية ضد فضاءات العدو) والتخوم (العلاقات الاجتماعية المحلية والتركيبة الديمغرافية)، في مسعى لتوليد فضاء سيادي محدَّد بتخوم (Anderson, 2016).
اشتملت المعاملة القاسية للأيزيديين على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في سنجار في آب/أغسطس 2014 على أمثلة نموذجية عن هندسة ديمغرافية صارمة. فعمليات الإعدام الجماعية، وإرغام الأشخاص قسراً على تغيير دينهم، وتجارة الجنس، والزيجات القسرية، والترحيل، أدّت فعلياً إلى إلغاء شريحة من السكان كانت تشكّل سابقاً الأكثرية في منطقة ذات أهمية عسكرية استراتيجية. تقع سنجار عند تقاطع الرقة في سورية والموصل في العراق، وكانت على مقربة من أحد خطوط الإمدادات الأكثر أهمية لتنظيم الدولة الإسلامية (الطريق السريع 47)، والذي استخدمه التنظيم لنقل الأسلحة والسلع والجهاديين (The Associated Press, 2015). وعندما خسر تنظيم الدولة الإسلامية في نهاية المطاف السيطرة على الطريق السريع، اضطُرّ إلى استخدام طرقات غير معبّدة تمتد لمسافات أطول (Kalin, 2015). وحدثت أشكال أخرى من النزوح عقب المعارك على القلمون في سورية. وبعد توقيع هدنة، نُقِل 2500 مقاتل من الثوّار مع عائلاتهم من المنطقة الواقعة عند الحدود السورية-اللبنانية إلى إدلب الخاضعة لسيطرة الثوار (Adely & Ibrahim, 2017). وفي غضون ذلك، تكشف العلاقات بين أركان الحكم الأكراد والمجموعات الأشورية المحلية في شمال سورية عن نمط من التطويع الداخلي للأقليات (Joseph & Isaac, 2018). هذا فضلاً عن أن قيام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بإغلاق المدارس وإعادة صياغة المناهج التعليمية لترويج السرديات الإثنية عن ثقافة أهل المنطقة وعن أبنائها الأصليين والحق في الأرض، ما تسبّب بتهميش الأقليات الذين يعيشون في شمال شرق سورية (Assyrian Policy Institute, 2018 ؛ Dolbee, 2018؛ Joseph & Isaac, 2018). وفيما يتعرض ميزان القوى بين الأفرقاء الدولتيين وغير الدولتيين للاختلال على نحوٍ مطرد، تصبح القوى الإقصائية والتدميرية أكثر حضوراً في الأراضي الحدودية، بما يشبه الديناميكيات السائدة في الأراضي الحدودية الواقعة في شمال شرق سورية.
خاتمة
تركّز هذه الورقة البحثية على ديناميكيات التغيّر التحوّلي في الأراضي الحدودية في سورية والعراق وأنماطه. وتشير هاتان الحالتان إلى تفوّق عامل ضبط الأمن وخصائصه في تحديد واقع الأراضي الحدودية خلال مسارات ضمور الدولة. وقد بُذِلت جهود متضاربة لاستخدام الحدود بمثابة أدوات لوظائف مختلفة على أيدي كيانات عدّة، ما أفضى إلى إسناد أغراض متعددة للحدود. بالنسبة إلى المجتمعات المحلية في الأراضي الحدودية والأفرقاء المعنيين على المستوى المحلي، تتيح الحدود مجموعة متنوّعة (ومتناقضة في معظم الأحيان) من الفرص نتيجة الوصول اللوجستي إلى التبادلات عبرها. فالإطار السياسي-القانوني الوطني للدولة، أينما وُجد، يحمل فوائد (ولو كانت محدودة).
في الوقت نفسه، يتيح موقع الأراضي الحدودية على مقربة من الولايات القضائية الأخرى ووصولها إلى الأنشطة غير الشرعية عبر الحدود، فرصاً اقتصادية فريدة من نوعها. ولكن في فترات تفكك الدولة، يتراجع بوضوح اعتماد الأطراف على المركز لأن قدرة الدولة الإكراهية تصبح أكثر محدودية. في هذه الحالات التي تتفكك فيها سلطة الدولة على أراضيها، تشهد الحدود تحولات ولاتعود بمثابة علامة تطبع بداية سيادة الدولة ونهايتها. بل تظهر الحدود داخل الأراضي الحدودية في شكل مراكز للتبادلات غير النظامية التي تولّد موارد سياسية واقتصادية مختلفة.
ويتسبب هذا النمو والتوسّع بنزاعٍ وعسكرة في نهاية المطاف. وفي الأماكن حيث أتاحت ذلك تكنولوجيات العنف والظروف السياسية، تكرّر سيناريو الدمار الواسع الذي تسبب به في معظم الأحيان عنف الدولة، وحتى المجموعات الثورية (مثل الدولة الإسلامية) في بعض الأحيان. وفي حالات أخرى، حيث تعذّر ذلك بسبب الأولويات والإمكانات، طوّرت الفصائل المسلحة (الأفرقاء الدولتيون أو سواهم) موقفاً أكثر تساهلاً. تبعاً لذلك، تتبدّل طبيعة العلاقات بين الدولة والمجتمع على نحوٍ مستمر، وتتواصل فصول المساومة غير المتكافئة بين الأفرقاء المتعددين. وهذا الواقع غير المتكافئ يميل على نحوٍ مطرد لمصلحة قوى الدولة.
في الفترة الزمنية الممتدة من 2011 إلى 2020، أسفرت المحاولات التي بذلتها الدولة المركزية في بلدان مثل العراق وسورية من أجل إعادة تثبيت سلطتها في الأراضي الحدودية، فيما تفتقر إلى الإمكانات اللازمة لفرض المستويات السابقة من السيطرة الرسمية – أسفرت إذاً عن إعادة تصوُّر العلاقات بين المركز الوطني والأفرقاء المحليين. وقد أدّت عمليات إعادة التصور أحياناً إلى ترتيبات هجينة وإلى بروز إضافي للأدوات غير النظامية وشبكات المحسوبيات، فتمكّن أولئك الأفرقاء من الوصول إلى التبادلات عبر الحدود ومن الحصول على مكافآت من الدولة المركزية. وأدى ذلك إلى تحالفات أفضت إلى توليد آليات جديدة للهندسة الاجتماعية يُحدّدها مزيج غير مستقر من المصالح الدولتية والمحلية والعابرة للأوطان، ما دفع في نهاية المطاف إلى ظهور مقاومة لدى الشرائح المقصيّة على مختلف المستويات – حيث تظهر فرصٌ للمقاومة. لقد أصبحت الحدود مورداً أساسياً متوافراً في الأراضي الحدودية إما يتشاركه أفرقاء متعددون وإما تستخدمه أطراف متناحرة لتحقيق مكسب أو حرمان الخصم من تحقيق مكسب. مع استمرار التقلبات في الترتيبات المحلية، تبقى الأراضي الحدودية محوراً للنزاعات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية مع مستويات مرتفعة من النزعات التدميرية والمسبّبة للاضطرابات والتي تطال المجتمعات المحلية.