المساعدة الأمنية في الشرق الأوسط: رقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد
مركز كارنيغي
2020-02-25 04:15
بقلم: روبرت سبرينغبورغ/ف. س. بينك وليامز/جون زافاج
من الواضح أن الولايات المتحدة وروسيا وإيران اختارت مناهج مختلفة للمساعدة الأمنية في الشرق الأوسط لها تبعات هائلة على بناء الدول والاستقرار.
تُعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ساحة الاختبار على المستوى الدولي في ما يتعلق بفعالية المساعدة الأمنية التي تُقدمها القوى العالمية والإقليمية. ساهمت تلك المساعدة الأمنية في شدة وتكرار الحروب بالوكالة – مثل تلك القائمة الآن أو انتهت مؤخرًا في ليبيا واليمن وسوريا والعراق – وفي عسكرة الجهات الفاعلة الحكومية وشبه الحكومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. المساعدة الأمنية هي جوهر التنافس على التفوّق العسكري والاستراتيجي والأيديولوجي وحتى الاقتصادي في الشرق الأوسط. لكن على الرغم من الأهمية الواسعة والمتنامية للمساعدة الأمنية للمنطقة وللمنافسة داخلها بين الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية، كانت المساعدة الأمنية موضع قدر قليل نسبيًا من التحليل المقارن. وبالمثل فالجهود المبذولة لتقييم العلاقات بين الأهداف الاستراتيجية وبين الأساليب التشغيلية لمزودي المساعدة الأمنية وتأثيراتها النسبية على المستفيدين.
الأدبيات الأكثر وفرة حول فعالية المساعدة الأمنية بشكل عام هي تلك المُنتجة في الولايات المتحدة، وفي المقام الأول من جانب الوكالات الحكومية أو الباحثين والمؤسسات بموجب عقود معها.1 تهتم هذه الدراسات اهتمامًا كبيرًا بمسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة قد حققت أهدافها أم لا من خلال توفير المساعدة الأمنية، ويُشار إلى أحد مكوناتها الرئيسة باسم "بناء قدرة الشريك". وفقًا لوكالة أبحاث الكونغرس. تشمل هذه الأهداف النصر في الحرب أو إنهاءها؛ وإدارة التحديات الأمنية الإقليمية؛ والدعم غير المباشر لأحد أطراف النزاع؛ وتخفيف حدة النزاع؛ وبناء الروابط المؤسسية والشخصية؛ وتعزيز مشاركة التحالف؛ وبناء التحالف.2
يفيد الإجماع الناشئ من هذه الدراسات أن الآمال المُتمثلة في أن المساعدات الأمنية سوف تُمكّن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها بتكلفة أقل في الأفراد والعتاد من خلال التدخل العسكري المباشر لم تتحقق. يُقر ستيفن بيدل، مثلاً، بأنه على الرغم من أن مساعدة القوات الأمنية "ذات الأثر الصغير" قد "أصبحت ركيزة رئيسة لسياسة الأمن القومي للولايات المتحدة... إلا أنَّ الآثار الصغيرة عادةً ما تعني مكافآت صغيرة".3 يعود السبب في ذلك إلى "اختلالات كبيرة في المصلحة بين المزوّد (المسؤول الرئيسي) والمستلم (الوكيل)، والتحديات الصعبة في الرقابة، والظروف الصعبة للإنفاذ: وهي تركيبة عادةً ما تترك للمسؤولين الرئيسيين نفوذًا حقيقيًا محدودًا وتُشجع على عدم الكفاءة في تقديم المساعدات".4 ونتيجةً للمشاكل الكامنة في العلاقات بين المسؤول الرئيسي وبين الوكيل، فإنه كلما كانت أهداف المساعدة الأمنية الأمريكية أكثر شمولية قل احتمال تحقيقها. ومن أمثلة ذلك، نادرًا ما يتحقق النصر في الحرب أو إنهاء الحرب، لكن تسهيل الروابط الشخصية وبناء التحالفات غالبًا ما ينجح.5
العامل الرئيس المُحدد في هذه الأدبيات الأمريكية، باعتباره تسهيلاً للعلاقات الفعالة بين المسؤول الرئيسي والوكيل، وبالتالي تسهيلاً للمساعدة الأمنية، يمتاز بأهمية خاصة في الشرق الأوسط، وهو وجود "مؤسسة حكم شرعية وفعالة نسبيًا". تشير وكالة أبحاث الكونغرس إلى أن "الجهود الأقل فعالية التي أجراها بناء قدرة الشريك كانت تتم إما أثناء النزاعات والحروب (المواقف التي تتنافس فيها أطراف معارضة على الحكم) أو في البلدان التي يكون فيها الحكم الشرعي ناشئًا نسبيًا. "وتخلص إلى ملاحظة أن "الفساد والكسب غير المشروع لدى الشريك يمكن أن يعوقا فعالية بناء قدرة الشريك بشكل كبير. توجد أدلة قليلة تفيد بأن فعالية بناء قدرة الشريك يمكن أن تكون فعالة من دون وجود شريك راغب وقادر على أرض الواقع".6
هذه الشروط المُسبقة للحوكمة الشرعية الفعالة الخالية من الفساد، إلى جانب غياب "النزاعات والحروب"، نادرة الوجود نسبيًا في الشرق الأوسط. فهذه المنطقة من أكثر المناطق عرضةً إلى النزاع في العالم، وعادةً ما يُعاق فيه الحكم بسبب الشرعية المحدودة والفساد المفرط. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة مناطق غير خاضعة إلى الحكم أو محل نزاع عنيف في دول هشّة أو فاشلة مثل ليبيا وسوريا واليمن والعراق، وأيضًا في مناطق داخل الدول القومية القائمة مثل شمال سيناء المصرية أو مناطق الحدود اللبنانية مع سوريا. باختصار، المفارقة هي أنه على الرغم من أن الشرق الأوسط ليس منفتحًا بشكل خاص على المساعدة الأمنية الفعالة، على الأقل من الولايات المتحدة، إلا أنه غارق فيها فعليًا. وهذا يطرح على الفور مسألة ما إذا كانت ظروف عدم الاستقرار وسوء الحوكمة والعنف الشائع في المنطقة قد تكون ترحيباً بمُزودي المساعدة الأمنية الآخرين الذين تتناسب مقارباتهم مع مثل هذه الظروف.
نهج غير أمريكي
التفسير المشترك على نطاق واسع في الولايات المتحدة للشروط المُسبقة للمساعدة الأمنية الفعالة قد يعكس بالفعل خصوصيات غايات الولايات المتحدة وأساليبها. فمن المعروف أن منافسيها الرئيسيين في المنطقة في تقديم المساعدة الأمنية – أي روسيا وإيران – ساعدا وكلاءهما على تحقيق نجاحات ملحوظة في ميدان المعركة. فالمنافس الأول، روسيا ساعد في سوريا وبشكل مطرد في ليبيا؛ والمنافس الثاني "إيران" ساعد في سوريا وكذلك في لبنان، وإلى حد أقل في اليمن والعراق. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن روسيا أنجزت، بدرجات متفاوتة، عددًا من أهداف المساعدة الأمنية التي حددتها وكالة أبحاث الكونغرس. فدورها المحوري المتزايد في المنطقة، والذي يعتمد إلى حد كبير على قدرتها الظاهرة كمزود للمساعدة الأمنية، إلى جانب الدبلوماسية المُحنكة، مكناها من إدارة التحديات الأمنية الإقليمية في المشرق والمغرب الكبير، مثل تلك التحديات التي تنطوي عليها العلاقات التركية العربية، وبناء روابط مؤسسية وشخصية مع النخب العسكرية والسياسية ليس في سوريا وحدها ولكن أيضًا في مصر والسودان والجزائر. وهذا إلى جانب نجاحات مماثلة في بلدان أخرى، من الممكن لهذه الروابط في المستقبل أن تمكنّ روسيا من إقامة تحالفات غير رسمية تمارس عليها على الأقل نفوذًا كبيرًا.
تمكنت إيران، من جانبها من الاستفادة سياسيًا واقتصاديًا من نجاح وكيلها حزب الله في لبنان بالتأثير على الحكومة التي مارست عليه حق الفيتو، ومن نجاح وكلائها من مختلف الميليشيات في العراق، التي مثلما هو الحال في لبنان، تضع حدودًا للخيارات السياسية لحكومة بغداد وتؤكد على حقها في الهبات الحكومية الرسمية وغير القانونية. على سبيل المقارنة، لطالما كانت الدول الشريكة أمنيًا مع الولايات المتحدة في المنطقة العربية تعقد الآمال على واشنطن من خلال البحث في الوقت نفسه عن علاقات أمنية مع أطراف خارجية أخرى، بما في ذلك روسيا. كما أن الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة، خصوصًا تلك الموجودة في سوريا، لم تحظ بالنجاح في ساحة المعركة بالقدر نفسه الذي حظيت به الميليشيات المدعومة من روسيا و/أو إيران، مع الاستثناء الجزئي المُتمثل في وحدات الدفاع الشعبية التي يسيطر عليها الأكراد، والتي سحبت منها الولايات المتحدة دعمها لها فجأةً في أكتوبر/تشرين الأول 2019، مما جعل هذه الوحدات تلجأ إلى روسيا طلبًا للمساعدة.7
مع ذلك، ربما يكون من السابق لأوانه الادعاء قطعيًا بأن المساعدة الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط كانت أقل فعالية من المساعدة الأمنية التي قدمتها روسيا وإيران. فباعتبار روسيا وإيران من الجهات الفاعلة المناهضة للوضع الراهن في المنطقة، تميل أهدافهما إلى أن تكون أكثر تركيزًا ومحدوديةً من أهداف الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، استفادت كلتا هاتين الدولتين من ظروف على العكس تمامًا من تلك التي حددتها وكالة أبحاث الكونغرس بأنها ملائمة للمساعدة الأمنية الأمريكية. فإيران أسست حزب الله في ظل الحرب الأهلية اللبنانية واستخدمته لاحقًا لمنع الدولة من توحيد قوتها وإضفاء الشرعية عليها. كما أن دعمها لميليشيا "الدعوة" وللميليشيات الأخرى التي تُشكل الآن مجتمعةً "الحشد الشعبي في العراق" يعكس بالمثل ضعف حكومة بغداد. ومع ذلك، وفي كلتا الحالتين، فإن الانتفاضات الشعبية التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الحكومات المدعومة من إيران تعكس تداعي استراتيجية طهران التي تستند على التلاعب وتهدف إلى منع توطيد حكومة شعبية لها قاعدة عريضة. يمكن قول الشيء نفسه عن الدعم الإيراني للحوثيين اليمنيين الذين أخذ نجاحهم الأوليّ في إضعاف حكومة صنعاء في أعقاب انتفاضة 2011 والذين لا يزال مستقبلهم في اليمن مجهولاً ولكنه من غير المُرجح أن يأخذ شكل سيطرة لا منازع لها على اليمن في يمن موّحد. لم يتم بعد تحويل المساعدات الأمنية إلى الرئيس السوري بشار الأسد إلى روابط حكومية مشتركة أوسع وأمتن بين الحكومتين. في الواقع، تعارض روسيا استراتيجية إيران المُتمثلة في الحفاظ على دولة ضعيفة تابعة يرأسها بشار الأسد الضعيف في سوريا معارضةً شديدة. فيما تنظر روسيا إلى مصالحها في البلاد، بما في ذلك إخضاع الميليشيات المدعومة من إيران الى سيطرة الحكومة المركزية، على أنها تخدمها بشكل أفضل دولة أقوى.8 لم تنجح إيران في أي من هذه الدول في تحويل وكلائها إلى موقع شرعي ومسيطر داخل حكومة مستقرة يسري نفوذها في جميع أنحاء البلاد، على الرغم من إخفائها تلك الميليشيات في زي سياسي مدني مموه.
كما تحقق النجاح الأخير لروسيا في الشرق الأوسط إلى حد كبير بسبب الاضطرابات وأعمال العنف واسعة النطاق في المنطقة. وتشير دراسة حديثة عن مجموعة فاغنر –مرتزقة الكرملين "غير السريين"– إلى أنها هي وروسيا بشكل عام "تربحان الشعبية الأكبر في الدول الضعيفة أو المنعزلة المنفتحة على نُهج الكرملين".9 ومن المُتوقع أن تواصل في النجاح "في المناطق ذات السيادة القانونية المحدودة والمؤسسات الديمقراطية الضعيفة ومستويات الفساد العالية وسجلات حقوق الإنسان المريبة".10 وهذا يعني أنه من المُتوقع نجاح روسيا تحديدًا في الظروف التي يُحتمل أن تتعثر فيها المساعدة الأمنية الأمريكية. ولكن في مثل هذه السياقات شديدة التقلب وغير المؤسساتية، من الممكن أن تصبح مكاسب اليوم خسائر الغد بسهولة. ومن أمثلة ذلك الدعم الروسي للرئيس السوداني السابق عمر البشير، بما في ذلك توفير مرتزقة. كما أن دعم روسيا للجنرال الليبي خليفة حفتر قد يكون مصيره فشلاً مماثلاً، مثل دعمها لمعمر القذافي سابقًا.11
اللعبة ثلاثية الأبعاد للمساعدة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
من الصعب إجراء تقييم مقارن نهائي لفعالية المساعدة الأمنية في الشرق، الأوسط لأن الفعالية تنتج عن عوامل عدة، ولأن مؤشرات قياسها عديدة وليست مُوحدة، ولأنها تُقدم في سياقات دينامية يمكنها بسرعة تحويل النجاح إلى فشل. ومن طرق إجراء هذه المقارنة الصعبة وصف النُهج الإيرانية والروسية والأمريكية وتقييم نقاط القوة والضعف لكل منها. يكمن الفرق الرئيس الواضح بين هذه المناهج في اختلاف الأدوار المُسندة إلى الدولة. تشترك إيران وروسيا والولايات المتحدة في ما يشبه لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد والبُعد المُحدد لها هو درجة القدرة على القيام بالوظائف الأساسية للدولة، المُضمنة في استراتيجيات المساعدة الأمنية الخاصة بكل منها.12
تسند إيران استراتيجيتها على ما هو مُزدرى فعليًا لقدرات الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فقدرات الشركاء التي أسستها، بما في ذلك قدرات حزب الله اللبناني والحوثيين اليمنيين والكثير من المليشيات العراقية، تكاد تكون تابعة حصريًا لجهات فاعلة شبه حكومية إما أن تكون إيران نفسها قد أوجدتها أو عملت على تقويتها. كما أن مزيج القدرات القسرية والسياسية لديها يُسهل اختراق الدول المعنية التي يستخرج هؤلاء الوكلاء من خلالها موارد بينما يستخدمون تلك الدول كأوراق التين التي يختبئون وراءها من الانتقام المُحتمل والتي يستمدون منها الشرعية.
كما أن المزيد من الموارد المادية اللازمة للحفاظ على هؤلاء الوكلاء، وخصوصًا قواعدهم الاجتماعية السياسية، يجري الحصول عليها من خلال أنشطة غير مشروعة عادةً ما تُسهلها إيران أيضًا وتدعمها. وفي كثير من الأحيان، يكون الأكثر ربحًا فيها، كما هو الحال في لبنان، هو إنتاج المخدرات وتهريبها. تُمثل علاقات إيران مع هذه الدول بالضرورة إشكالية بالنظر إلى تخريبها المستمر والمخفى لها، لكن تلك المسؤولية يجري تعويضها عن طريق التأثير الكبير على الدول بالإضافة إلى استخراج موارد مادية وشرعية منها. وفي حين أن هذا النهج المناهض للدولة يتطلب من إيران ووكلائها التعامل المستمر مع مسألة إلى أية أمة/دولة ينتمي أولئك الوكلاء انتماءً حقيقيًا – إلى إيران أم الدولة العربية المعنية – فإنه مصمم تصميمًا جيدًا لدور إيران الاستراتيجي كجهة فاعلة معادية للوضع الراهن في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولديها موارد أقل من منافسيها الرئيسيين، وأهمهم الولايات المتحدة.
تسعى روسيا لشغل موقع متوسط على رقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد، إذ توازن مساعدتها الأمنية بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، وتسعى في جميع الحالات لإنشاء علاقات تبعية يمكن أن تستفيد منها استراتيجيًا و/أو اقتصاديًا. ويجب ألا تكون تلك التبعية ذات طبيعة قسرية أو مالية مباشرة، فمن المُمكن أن تنبع من الحاجة إلى الوساطة الروسية لدى أي من الجهات الفاعلة الحكومية أو شبه الحكومية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تعمل معها على رعاية الأمن والدبلوماسية وغيرها من جهات الاتصال والحفاظ عليها. لا تتحكم روسيا تحكمًا مباشرًا في الوكلاء بالدرجة نفسها مثل إيران، لكنها تعمل على تدريب بعضها وتجهيزها ومساعدتها بشكل مباشر، كما هو الحال مع الجيش الوطني الليبي بحسب نظام حفتر. لكنها تُفضل عمومًا أن تسند مساعدتها العسكرية على أساس العلاقات بين الدول، كما هو الحال في سوريا، حيث سمح الأسد لروسيا بالسيطرة على العناصر الرئيسة لجيشه لضمان بقائه. لكن العلاقات بين روسيا وبين كل دولة على حدة مرتكزة بشكل أضيق من تلك العلاقات بين الولايات المتحدة وبين كل دولة على حدة، إذ تستند عادةً إلى أسس أكثر هشاشة للحكم الاستبدادي الشخصي كما هو الحال في سوريا الأسد أو السودان البشير أو بوتفليقة الجزائر، أو ربما مصر السيسي. تعكس استراتيجية النصف والنصف هذه المكانة الهامشية لروسيا كقوة عالمية عظمى، وتفتقر إلى الموارد المالية التي للولايات المتحدة وما يرتبط بها، مما يحد من جاذبيتها للجهات الفاعلة الحكومية الإقليمية الراسخة مع تضخيمها للحكام الأكثر هشاشة وللجهات الفاعلة غير الحكومية. وباختصار، تبني روسيا استراتيجيتها للمساعدة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على نقاط الضعف لدى شركائها، سواء كانوا من الجهات الفاعلة الحكومية أوغير الحكومية، ولذلك ليس لديها اهتمام كبير بتطوير القدرات للدول الأوسع وإضفاء الطابع المؤسسي عليها.
أما المساعدة الأمنية الأمريكية فتعمل بشكل كبير على مستوى الدول، وكما تشير وكالة أبحاث الكونغرس والتحليلات الأخرى المذكورة أعلاه، فإن فعاليتها تتناسب تناسبًا مباشرًا مع قدرات تلك الدول. من الأرجح أن تنجح في ظروف مرتبطة بالدولة القادرة، وهذه تحديدًا هي البيئة المعاكسة الملائمة للمساعدة الأمنية الإيرانية، وبدرجة أقل، للمساعدة الأمنية الروسية. أحد العوامل المُحددة الرئيسية لمركزية الدولة في ما يتعلق بالمساعدة الأمنية الأمريكية الفعالة هو أنه باعتبار الولايات المتحدة القوة السائدة للوضع الراهن في المنطقة، فإن خياراتها للشركاء وأنواع القدرات التي تسعى لبنائها تكون مُقيدة بذلك الدور. فحتى في حالات الدول في مرحلة الفشل أو الفاشلة، فإن دعم الولايات المتحدة للجهات الفاعلة شبه الحكومية مُقيد بعلاقاتها مع الدول الإقليمية وحتى غير الإقليمية؛ ومُقيد بالحاجة التي تُمليها مصالحها الخاصة لتعزيز مفهوم الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث تواجه جميع الدول تقريبًا تآكل قدراتها؛ وإلى أنه مُقيد بالقيود التي تفرضها القواعد الدولية في ما يخص الأنشطة الإجرامية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، أي تلك القواعد التي يستند اليها النظام الدولي الذي كانت الولايات المتحدة نصيرًا له بصفة تقليدية.
تُؤثر هذه المخاوف الاستراتيجية الواسعة لدى الولايات المتحدة على اختيارات الشركاء الأمنيين، وهذا ما يُشكل بدوره برامج المساعدة. فالسمات المختلفة لأولئك الشركاء – بما في ذلك تفضيلهم للوضع الراهن، وإمكانية وصولهم إلى الموارد، ورغبتهم في إبراز سلطة السيادة والتأثير في المنطقة، وفي العديد من الحالات قواعدهم السكانية المحدودة – تدفع بالمساعدة الأمنية نحو أسلحة عالية التقنية يمكنها إظهار السلطة فيما وراء الحدود. ومما يُعزز هذا الاتجاه هو الميل الطبيعي لتعزيز الجيوش الشريكة على صورة نظائرها الأمريكية، والتي يُعتبر إظهار القوة العالمية أمرًا حيويًا لها والتي تُصمم لها أنظمتها الرئيسية من الأسلحة. وتركيز الولايات المتحدة على القوة الجوية باعتباره مكونًا حيويًا للمساعدة الأمنية، يعكس هذا جزئيًا ويُميز تلك المساعدة عن كل من النهج الإيراني الذي يستند إلى حد كبير على بناء القدرات الأرضية بالمعنى الحرفي بالإضافة إلى قدرات جوية غير متماثلة؛ وعن المساعدة الأمنية الروسية التي تشغل موقعًا متوسطًا بين الولايات المتحدة وإيران حيث تشمل دعمًا للقوات البرية يتراوح من الميليشيات إلى جيوش الدول بالإضافة إلى القوات الجوية الحكومية وإن كان ذلك بدرجة أقل من مستوى الولايات المتحدة.
باختصار، تعمل الجهات الثلاث الرئيسة التي تُزود المساعدة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مستويات استراتيجية وتكتيكية مختلفة تُحددها في المقام الأول درجة حالة الدولة المرتبطة بنهجها. وهذا بدوره يثير مسألة مدى فعاليتها المُرجحة نسبيًا على المدى الطويل في ضوء إمكانات حالة الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لوحظ أعلاه أن صعود الدول الهشة والفاشلة هناك، الذي يرتبط بدوره بتوسيع المساحات غير الخاضعة للحكم، قد فتح الباب لكل من إيران وروسيا اللتين أصبح ارتياحهما مع الجهات الفاعلة شبه الحكومية والجهات الفاعلة الحكومية الضعيفة أكبر بمراحل من ارتياح الولايات المتحدة. ومن هذا المنظور، يبدو أن المساعدة الأمنية الأمريكية غير مواكبة للأحداث، وهذا ما يرتبط بتآكل الوضع الراهن وتراجع السيادة.
لكن هذا الرأي قد يكون مُفرطًا في التشاؤم. فقد يكون تراجع قدرات الدولة ظاهرة مؤقتة مرتبطة بالانتفاضات العربية في 2011 وتكثيف "الحرب الأهلية" الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بين إيران وحلفائها الشيعة والإسلاميين السُنَّة والمتعاطفين معهم، من جهة، وبين معظم الحكومات العربية السُنّية، من جهة أخرى. عادةً ما يكون شطب الدولة في نظامنا العالمي [الذي يتبع مبادئ السياسي مترنيخ] سابقًا لأوانه، لأن جميع الدول تقريبًا يثبت أنها عنيدة تمامًا كما تشير حتى بالفعل حالات سوريا والعراق. من أمثلة ذلك، قد يكون الاستياء المتزايد ضد إيران حتى بين أعضاء الميليشيات الشيعية العراقية، مؤشراً حاليًا على استمرار الوطنية العراقية، وهي بحد ذاتها أساس رئيسي ومؤشر على السيادة.13 ويمكن قول الشيء نفسه عن الشيعة اللبنانيين الذين يحتجون في خريف 2019 ضد حزب الله وحزب لبناني آخر، وهو حركة أمل، بينما يعلنون وطنيتهم اللبنانية بصوت عالٍ.14
من السمات ذات الصلة بالرؤية التشاؤمية لمستقبل دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن على الرغم من كونها ربما متراجعة إلا أنها لم تنتهِ بعد. فهي تستمر بشكل جماعي في التصرف بالكثير من القوة والموارد، مع إظهار وعي كبير بالمصالح المشتركة. الشاهد على ذلك هو التحالف غير الرسمي الذي ينخرط فيه حاليًا بعض حلفاء دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي ترعاه الولايات المتحدة ولكنها بحكمة لم تسع لتحويله إلى تحالف رسمي. وبحسب الظروف والقضية المطروحة، يشمل أعضاؤه إسرائيل والأردن والمملكة العربية السعودية ومعظم دول الخليج الأخرى ومصر والمغرب. وتُعتبر المساعدة الأمنية الأمريكية أمرًا حيويًا لاستمرار هذا التحالف غير الرسمي وتمكينه. بالإضافة إلى ذلك، يضم هذا التحالف من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعض أكبر المنفقين في العالم على الجيوش وما يرتبط بها من قدرات عسكرية هائلة وخصوصًا القوات الجوية.
من النتائج الملموسة لهذا التحالف والمساعدة الأمنية للدول الأعضاء فيه هي أن الحرب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد جعلت القوة الجوية التقليدية التي تمتلكها تتنافس بشكل متزايد ضد القوات البرية والجوية غير المتماثلة التي تتكون أساسًا من الصواريخ والطائرات بدون طيار، كما يتضح ذلك بمنتهى الوضوح في الهجوم على المنشآت النفطية السعودية في بقيق وخريص في 14 سبتمبر/أيلول 2019. أما السؤال المفتوح حاليًا فهو هيكل القوة الذي سيثبت عمليًا في النهاية أنه الأكثر فاعلية. فالهجوم على بقيق وخريص والوضع في اليمن يوحيان أن الأفضلية قد تكمن لدى الأطراف التي تستخدم أساليب غير متماثلة. لكن الأمر الواضح بالفعل هو أنه في حين أن العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد ضعفت، مما أتاح فرصًا لكل من إيران وروسيا، فإنه لم تختفِ أي منها تمامًا من الوعي القومي أو الدولي، إذ تظل معظمها ملتزمة بما فيه الكفاية بالمشاركة في النظام العالمي القائم ومؤسساته المالية العالمية التي تتأثر بواشنطن تأثرًا شديدًا، وبالحذر من إيران وبالتعامل الصارم في العلاقات مع روسيا التي لا يمكنها سوى تقديم القليل نسبيًا لها.
الجزء المتبقي من هذا البحث مُخصص لمناقشة أعمق لاستراتيجيات وتكتيكات المساعدة الأمنية لهؤلاء المنافسين الثلاثة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويجري تقييم كل منها من حيث غايات تلك المساعدة، وطرق تقديمها، أي أنواع المنظمات المدعومة وطبيعة العلاقات المكونة معها، والوسائل المستخدمة، مع الإشارة إلى القيم التجارية والمقدار وأنواع المعدات المقدمة.
المساعدة الأمنية الإيرانية
الغايات
من بين الجهات الثلاث التي تُقدم المساعدة الأمنية، فإن إيران ليست الأقل دعمًا لقدرات الدولة وحسب، لكنها تعمل جاهدةً على تخريبها أيضًا. هذا لا يعني أن استراتيجية المساعدة الأمنية عند إيران تهدف الى تقويض مفهوم وممارسة سيادة الدولة. لكن مساعدتها للجهات الفاعلة ذات التوجه نفسه والداعم للسردية الثورية الإيرانية، تستبعد بالضرورة الدول التي تعارض تلك السردية، وبالتالي فإنها تُقوض سيادتها كمحصلة ثانوية بدل أن يكون ذلك هدفًا في حد ذاته، كما يشير أفشون أوستوفار مثلاً. وهذا يعني أن المساعدة الأمنية الإيرانية يجري تقديمها في المقام الأول للنهوض بمُثُل الثورة الإسلامية، بحيث يكون أثرها الثانوي تحدي قدرة الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.15 ترى إيران أن المواءمة الأيديولوجية أهم من المؤسسات المعترف بها دوليًا، بما في ذلك الدول والحدود التي ترسمها.16 ومن وجهة نظر إيران عن مشهد المساعدة الأمنية، فإن الجهة الفاعلة غير الحكومية الموالية للسردية الثورية الإيرانية تتمتع بمكانة وبمصداقية مؤسسية أكثر من دولة معترف بها دوليًا تعارض تلك السردية الثورية.
يحدد هذا المنظور أنشطة المساعدة الأمنية الإيرانية تجاه لبنان والعراق واليمن وسوريا، ويختصر حالة تلك الدول. ففي ثلاث من تلك الحالات الأربع على الأقل، تناصر الجهات الفاعلة شبه الحكومية ثورة إيران، وبذلك تصبح المستفيد الرئيس من الدعم في ذلك البلد. تسعى إيران في لبنان مثلاً إلى زيادة نفوذها الإقليمي، وخصوصًا تجاه إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وذلك من خلال تقوية حزب الله، وهو منظمة تنشر قيم الثورة الإيرانية على حساب الدولة اللبنانية.17 في الواقع، كان رد إيران الأساسي على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 هو إنشاء حزب الله حيث كانت الأهداف المشتركة لكليهما هو الدافع إلى تلك المساعدة الأمنية.18 وفي العراق، تدعم إيران الميليشيات الشيعية بما في ذلك عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله ومنظمة بدر، وهي جماعات تشترك أيضًا في السردية الثورية الإيرانية وتدين الفضل لإيران الى حد كبير في ما يخص تأسيسها وحتى وجودها.19 وتقوية هذه المنظمات يؤدي بالضرورة الى إضعاف الحكومة العراقية المُنتخبة، وبالتالي لإضعاف قدرات الدولة في العراق.20
أما الأهداف الإيرانية في دعم الحركة الحوثية في اليمن فتتحدى بطبيعتها المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن، من خلال مجابهة النفوذ السياسي والديني للمملكة العربية السعودية في اليمن عبر السعي الى وضع نظام يحكمه الحوثيون يكون متحالفًا مع إيران محل حكومتها المُعترف بها دوليًا.21 وبالنسبة الى سوريا، فإن أنشطة المساعدة الأمنية الإيرانية تفيد نظام الأسد، ولكن أهدافها تفترق عنه بما فيه الكفاية عبر دعم الميليشيات المتحالفة أيديولوجيًا معها كوثيقة تأمين في حال انهيار النظام هذا. يمكن توصيف الدعم المباشر لنظام الأسد، كما يجري طرحه، بأنه وضع معكوس، لأنه ينتج جزئيًا عن دعم إيران لحزب الله وعناصر الميليشيات الشيعية العراقية العاملة في سوريا، على الرغم من أن التحالف طويل الأجل بين سوريا وإيران يُحفز أيضًا دعم طهران المباشر لحكومة بشار الأسد.22 ومع ذلك، يمكن تفسير الحالة السورية لتعزيز الادعاء بأن سياسة المساعدة الأمنية الإيرانية تبتعد عن التفضيل الطبيعي للدول.
وبالتالي، تشمل الغايات المُحددة للمساعدة الأمنية الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما يلي:
النهوض بالمُثُل الدينية والاجتماعية والسياسية للثورة الإسلامية في جميع أنحاء المنطقة.
تقويض تأثير تلك الدول في المنطقة التي تعارض الثورة الإسلامية.
تقوية الجهات الفاعلة شبه الحكومية التي تناصر النموذج الإيراني، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، حزب الله وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر.
الطرق
يتخذ بقدرات الدولة وجود مستوى إضافي من الفوارق الدقيقة عند النظر في تلك الوسائل، لأنها تتمحور حول الحرس الثوري الإسلامي. وقد برز فيها فيلق القدس باعتباره العامل الرئيس والجهة التنفيذية الذي تنفذ من خلاله الحصة الاساسية في أنشطة المساعدة الأمنية.23
ينعكس دور الحرس الثوري الإسلامي في المساعدة الأمنية الإيرانية ودور تأثير تلك المساعدة الأمنية على قدرات الدولة بطرق ثلاث مختلفة. أولاً، تأسس الحرس الثوري الإسلامي نفسه على مبدأ المعارضة لسيطرة الدولة المؤسسية الحديثة. فقد اعتادت الميليشيات الإسلامية المُنظمة محليًا، والتي وافقت على اندماج وتشكيل الحرس الثوري الإسلامي في أعقاب الإطاحة بالشاه، على المرونة التنظيمية واستقلالية العمل. واتفقت على الاندماج في الحرس الثوري الإسلامي إلى حد كبير لأن المجلس الثوري الإسلامي الإيراني منحها الاستقلالية عن الحكومة الرسمية التي أُعلنت في أعقاب ثورة 1979.24 ثانيًا، ظهرت الميليشيات الإسلامية غير المتماسكة التي شكلت الحرس الثوري الإيراني إلى الوجود قبل ذروة ثورة 1979 لدعم رجال الدين الشيعة.25 وبهذا المعنى التأسيسي، كان الإخلاص للدين قبل الدولة مبدأً أساسيًا يعكس تاريخ الحرس الثوري الإسلامي منذ البداية.
وأخيرًا، مع تطور الحرس الثوري الإيراني، أصبح التزامه بنشر التعاليم الأيديولوجية للثورة الإسلامية بين مجموعات ذات التوجه نفسه في الخارج هو سبب وجود المنظمة.26 عند الجمع بين هذه الخصائص الثلاث الكامنة في الحرس الثوري الإسلامي – أي الاستقلال في العمل المناهض للمؤسسات، وإعطاء الأولوية لدعم الإسلام ورجال الدين على دعم الدولة، والالتزام بنشر الثورة في الخارج – فإن وجود الحرس الثوري الإيراني في حد ذاته تخريب لقدرات الدولة كما تكشف ممارسته أيضًا.
بفضل الدور المركزي للحرس الثوري الإيراني في تأسيس حزب الله ردًا على الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، فإن مصالح تلك المنظمة تتماشى بحكم تعريفها مع مصالح إيران.27 فمنذ البداية، اعتمدت ميليشياتها المؤهلة اعتمادًا هائلاً على الحرس الثوري الإيراني للحصول على المساعدة المالية والعسكرية، وعلى ملاءمتها المالية. وبالتالي، تعتمد مكانتها السياسية إلى حد كبير على الزبائنية التي تُوفرها للعملاء المخلصين.28 بالإضافة إلى ذلك، من خلال التواصل الأيديولوجي والسياسي المدعوم من الحرس الثوري الإيراني، سعت إيران الى جعل حزب الله امتدادًا للمصالح القومية الإيرانية على حساب المصالح اللبنانية إذا لزم الأمر. وتفيد ملاحظات ج. ب. تيرفري أن أساليب إيران في تقديم المساعدة الأمنية من خلال الحرس الثوري الإيراني تُقوض قدرات الدولة في لبنان عبر حقيقة أنها تنشر توقعات بأن حزب الله يتبع الأجندة الإيرانية حتى عندما تتعارض مع تطلعات لبنان الوطنية وربما حتى مع مصالح حزب الله الخاصة داخل لبنان.29
ومثلما هو الحال في لبنان، تتشاطر الميليشيات الشيعية العراقية عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله ومنظمة بدر تحالفًا أيديولوجيًا مع الحرس الثوري الإيراني، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى الدور المركزي للحرس الثوري الإيراني في تشكيل منظمة بدر في العراق سنة 1982 في عهد صدام حسين.30 كما أن التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة في العراق العام 2003 قد حفز ردود الفعل السياسية التي سهلت ظهور عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وغيرها من الميليشيات الشيعية بإشراف إيران، مع توسيع المساعدة الأمنية في الحرس الثوري الإيراني لتشمل هذه الجماعات وكذلك المستفيد الأصلي، أي منظمة بدر، كما يروي كينيث كاتزمان.31 المواءمة الأيديولوجية بين عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله ومنظمة بدر مع الحرس الثوري الإيراني، التي عززتها المساعدة الأمنية، تُمكن إيران من ممارسة تأثير كبير على الحكومة العراقية، وبالتالي تُقوض تماسك الدولة العراقية ومكانتها التي تُشكل قدرات الدولة فيها.32
في حين أن علاقة إيران بحركة الحوثيين في اليمن أضعف من المنظور الأيديولوجي الشيعي، يشترك الطرفان في المصلحة الخاصة بالسعي الى مواجهة النفوذ السعودي في اليمن.33 ولأن قرارات الأمم المتحدة تحظر تقديم المساعدة العسكرية الخارجية الى الحوثيين، يعزز ذلك اعتماد الحوثيين على إيران والحرس الثوري الإيراني، وبالتالي يجري التغلب على العقبة المحتملة المُتمثلة في نقص الدعم الحماسي للعقيدة الإيرانية لدى الحوثيين، وفي الوقت نفسه جعل دولة يمنية غير قادرة على فرض سيطرة شكلية على أراضيها السيادية.34
الوسائل
في حين من المُفترض عمومًا أن الاستثمارات المادية في المساعدات الأمنية الإيرانية هزيلة مقارنةً بالولايات المتحدة وروسيا، فإن قيمتها النقدية مهمة بالفعل في تلك الدول التي ترسل إليها الأموال – أي لبنان وسوريا والعراق واليمن. وتفيد وكالة أبحاث الكونغرس أن إيران تُقدم الى حزب الله ما يقرب من 700 مليون دولار سنويًا في إجمالي مساعدات اقتصادية وعسكرية.35 وهذا يفوق المتوسط السنوي الذي يبلغ حوالي 200 مليون دولار في قيمة المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي منحتها الولايات المتحدة لحكومة لبنان وللقوات المسلحة اللبنانية منذ 2006.36 وبالمثل، تشير تقارير أن إيران ربما تُقدم لنظام الأسد في سوريا حوالي 6 مليارات دولار سنويًا.37 وبخصوص الأرقام المُحددة للمساعدة العسكرية للعراق، تشير بعض الأدلة إلى أن الدعم المُقدم للميليشيات وللأحزاب الشيعية المدعومة من إيران في العراق منذ 2014 قد بلغ حوالي مليار دولار سنويًا.38 أما الدعم الإيراني للتمرد الحوثي في اليمن فيتم انتهاكًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، مما يجعل مسألة الحصول على أرقام موثوق بها أكثر صعوبة، على الرغم من أن بحث توماس جونو يشير إلى أن القيمة النقدية للمساعدة الإيرانية أقل من تلك المُقدمة للمستفيدين في لبنان وسوريا والعراق.39 فإذن القيمة النقدية للمساعدة الأمنية الإيرانية إلى الوكلاء في الشرق الأوسط كبيرة إجمالاً لكنها أقل بكثير من تلك التي قدمتها الولايات المتحدة إلى جميع شركائها، من ما يشير إلى أن تكلفة المساعدة الأمنية لا تُوفر دليلاً جيدًا على فعاليتها.
تتكون الوسائل الأخرى من أنواع المعدات العسكرية التي تُقدمها إيران. تُركز هذه الوسائل تركيزًا كبيرًا على تطوير القدرات غير المتناظرة التي تهدف من بين أشياء أخرى إلى إحداث تأثير استراتيجي من خلال استهداف القدرات المؤسسية للدول – وهذا ما يعني جوهريًا اكتساب تأثير استراتيجي بالقضاء على حالة الدولة من خلال تكتيكات غير نظامية. ينبع هذا التفضيل للقدرات غير المتماثلة جزئيًا من التاريخ التنظيمي للحرس الثوري الإيراني، إذ كانت القدرات غير المتناظرة أمرًا حيويًا لإنشائه ولتطويره لاحقًا كما تؤكد مريم المزاده. كما تشير إلى أن الحرس الثوري الإيراني يواصل تقديم مساعدة هائلة وفعالة لوكلائه لأن قادة إيران يثقون في قيادة الحرس الثوري الإيراني ويعملون على تمكينها من رئاسة المستشارين الإيرانيين والقادة المحليين، الذين يُسمح لهم بدورهم بالعمل بصفة مستقلة ضمن الإطار الأوسع لمتابعة مُثُل الثورة الإسلامية. وهذه المرونة التشغيلية اللامركزية مكون أساسي للحرب غير المتناظرة.40
تنعكس مركزية الوسائل غير المتناظرة للحرس الثوري الإيراني وللمستفيدين من مساعدته الأمنية في التحسين المستمر للصواريخ البالستية وقدرات نشرها، بالإضافة إلى الاعتماد المتزايد عليها.41 مثال ذلك، سمح الدعم الإيراني لحزب الله في شكل صواريخ الدفاع الجوي بتحقيق مكاسب عسكرية كبيرة على حساب إسرائيل في حرب 2006، ما أسفر عن تحسين مكانة حزب الله الاستراتيجية تجاه إسرائيل ودولة لبنان.42 والمساهمات الإيرانية لقدرات الحوثيين في مجال الصواريخ الباليستية التي تُمكنهم من تهديد الرياض وجدة من ضواحي صنعاء مثال آخر على استخدام إيران قدرات غير متناظرة لتقويض حالة الدولة لدى خصومها.43 أما إمداد إيران للمليشيات المستفيدة في العراق بذخائر مرتجلة بالدعم الصاروخي، فقد فرض ضغطًا استراتيجيًا على الولايات المتحدة لإنهاء احتلالها العسكري للعراق، وبالتالي حققت مكسبًا استراتيجيًا ضد الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه قوضت قدرات الدولة في العراق.44 وبطريقة مماثلة، اكتسب الحوثيون نفوذًا استراتيجيًا في مواجهة التحالف الذي تقوده السعودية والمجتمع الدولي، من خلال تهديد الشحن في مضيق باب المندب بصواريخ كروز مضادة للسفن وبقوارب متفجرة وبقدرات غير متناظرة ناتجة عن المساعدة الإيرانية.45 وبهذه الطرق، ساهمت الوسائل الإيرانية المتجذرة في تاريخ الحرس الثوري الإيراني في التصدي لفعالية المساعدة الأمنية الأمريكية، وقوضت في الوقت نفسه قدرات تلك الدول العربية التي يعمل فيها وكلاء إيران، وربما كذلك وكلاء المملكة العربية السعودية وحتى دول الخليج المتحالفين معها عن كثب. وهذا يعني أن المساعدات الإيرانية تزيد الاستفادة الاستراتيجية من الموارد العسكرية المقدمة للمستفيدين من خلال التركيز على القدرات وتطويرها، مما يعزز النفوذ الأوسع في مناطق معينة بينما يجري دعم الأهداف الإيرانية.
باختصار، توضح غايات وطرق ووسائل المساعدة الأمنية الإيرانية الموجهة إلى المستفيدين في لبنان وسوريا والعراق واليمن بشكل جماعي الكيفية التي تؤدي بها تلك المساعدة إلى تآكل قدرات الدولة وحتى وضعية الدولة لدى خصومها. وبما أن غايات المساعدة العسكرية الإيرانية تهدف الى توليد الدعم للمُثُل وللممارسات الثورية الإيرانية، فإنها تشمل بالضرورة تآكل حالة الدولة لدى خصومها. لا يرجع السبب في ذلك إلى أن إيران تزدري الدول بما هي كذلك، وخصوصًا الدول التابعة لها، بل لأنها تسعى إلى الإلتزام بسرديتها الثورية على حساب الولاءات الأخرى، بما في ذلك بالنسبة إلى الدول العربية. بالإضافة إلى ذلك، تتركز طرق المساعدة العسكرية الإيرانية على الحرس الثوري الإيراني ومبادئه الأساسية المتمثلة في الاستقلالية في العمل والدعم من رجال الدين الإسلامي، والالتزام بتوسيع الثورة الإسلامية خارج حدود إيران، وهي كلها تتعارض مع قدرات الدولة لدى الدول العربية المنافسة. وفي حين أن القيمة النقدية لبرامج المساعدة الأمنية الإيرانية لا تبدو مؤشرًا دقيقًا على فعاليتها، فإن هذه القيمة ليست تافهة بأي حال. ومع ذلك، فإن أنواع المعدات التي توفرها إيران بالإضافة إلى دمجها في العقيدة الاستراتيجية هي التي توفر للمستفيدين القدرة على تحقيق نفوذ تكتيكي لدعم غايات أوسع أهمها تقليل الفعالية النسبية للدول العربية التي يعمل بها أولئك المستفيدون بالإضافة إلى الفعالية النسبية للدول العربية الأخرى المعارضة لإيران.
المساعدة الأمنية الروسية
الغايات
فيما تتبوأ روسيا مكانتها بجدارة باعتبارها ثاني أكبر مزود للمساعدة الأمنية في العالم، فإنها تسعى الى تحقيق غايات طموحة من خلال تلك المساعدة، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فقد أعلن المدير السابق لوكالتها عن "التعاون العسكري والتقني" – وهو المصطلح الروسي المرادف للمساعدة الأمنية – أن "تجارة الأسلحة ونظام التعاون العسكري والتقني بأكمله" هو "أداة للسياسة الخارجية الروسية مصممة لتمييز الوجود الروسي في منطقة ما والتأثير على ميزان القوى فيها."46 ينص قانون المساعدة الخارجية الأمريكي وقانون مراقبة تصدير الأسلحة اللاحق له على أن غايات المساعدة الأمنية الأمريكية – المُعرفة على أنها "التدريب العسكري والمعدات التي يجري منحها أو بيعها أو تأجيرها إلى دول أجنبية" – تهدف "الى تعزيز السياسة الخارجية للولايات المتحدة".47 يشير تشارلز ك. بارتلز إلى أن الأهداف المُحددة للمساعدة الأمنية لكلتا الدولتين "متشابهة بشكل ملحوظ"، بما في ذلك تطوير التحالفات وتعزيز توافقية العمل ضمن عقيدة موحدة ودعم مجمعاتها العسكرية الصناعية.48
تعكس الولايات المتحدة وروسيا الأهداف المشتركة لمساعدتهما الأمنية وتقدمان تلك المساعدة من خلال مؤسسات مماثلة، بما في ذلك تلك المؤسسات المسؤولة عن العلاقات المالية والتفاعل مع مجمعاتها الصناعية العسكرية ورصد الصادرات والترخيص. لكن بارتلز يرى أن الدولة الروسية، باعتبارها صاحبة مصلحة بنسبة الأغلبية في معظم المكونات الرئيسة لمجمعها الصناعي العسكري، لها مصلحة مالية أكبر وأكثر مباشرة في المساعدة الأمنية من مصلحة الحكومة الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، بالنظر إلى أن الاقتصاد الروسي يمثل عُشر حجم الاقتصاد الأمريكي، فإن الأهمية النسبية لمبيعات الأسلحة أكبر بكثير ومثيلتها بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، على الرغم من أن الولايات المتحدة هي أكبر مُصدِّر للأسلحة في العالم.
مع ذلك، التشابهات الظاهرة في برامج المساعدة الأمنية الروسية والأمريكية تخفي اختلافات جوهرية في غاياتها وطرقها ووسائلها. فالعامل الرئيس الذي تقوم عليه تلك الاختلافات عامل اقتصادي كما اقترحنا للتو. والضعف النسبي للاقتصاد الروسي من حيث الحجم ونقص التنويع والاندماج الضعيف في سلاسل الإنتاج العالمية والاعتماد المتزايد على الصين وسعي الأطراف المقربة فيها الذين امتلكوا زمام الأمور وراء الريع يؤدي بشكل مطّرد إلى الاعتماد الأكبر على المساعدة الأمنية. فتلك المساعدة، إلى جانب الدبلوماسية القائمة عليها، هي الأداة الوحيدة تقريبًا المتبقية في حقيبة السياسة الخارجية لموسكو. وفي حين أن الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفيتي في 1989 كان ضعف نظيره في الصين، فإن الناتج المحلي الإجمالي للصين الآن أكبر بستة أضعاف من نظيره في روسيا. وفيما كانت روسيا يومًا ما مُصدِّرًا رئيسيًا للأسلحة إلى الصين، فإنها تعتمد الآن على المكونات الإلكترونية الصينية وغيرها من مكونات أنظمة أسلحتها. كما أن حوالي نصف معدات التنقيب عن النفط والغاز فيها صينية الصنع. فالصين ثاني أكبر سوق للصادرات في روسيا، لكن روسيا تحتل المرتبة العاشرة في سوق الصادرات في الصين.49 وتحرز الصين نجاحات ثابتة في موقع روسيا في آسيا الوسطى، بينما اكتسبت معظم الملاحق الغربية للاتحاد السوفيتي بالفعل الاستقلال السيادي والثقافي والاقتصادي.
من الجدير بالملاحظة أن الاستثمار والمساعدة الخارجية العامة، وهما أدوات عادةً ما تصاحب المساعدة الأمنية، غالبًا ما يكونان غائبين عن مجموعة الأدوات الروسية. ففي مصر مثلاً، بدأت موسكو مفاوضات في فبراير/شباط 2015 لاستثمار 7 مليار دولار في منطقة صناعية روسية بالقرب من بورسعيد. وقد تم التوصل أخيرًا إلى اتفاق في يناير/كانون الثاني 2019 للبدء في مشروع من ثلاث مراحل من المقرر فيه بحلول سنة 2031 أن تعمل بعض الشركات الروسية، وذلك بعد حوالي 16 سنة من المفاوضات الأولية والإعلان السابق لأوانه جدًا عن الاستثمار الروسي بمبلغ 7 مليار دولار. واعتبارًا من أغسطس/آب 2019، لم تُقدم أية أموال روسية.50 في غضون ذلك، استثمرت الصين في أوائل سنة 2019 مبلغ 3 مليار دولار في مصر والتزمت بمبلغ آخر قيمته 20 مليار دولار، مما جعل أحد المراقبين يُعلق على الأمر قائلاً: "على عكس روسيا، فإن الصين لديها جيوب عميقة للغاية".51
وبالتالي، فإن المساعدة الأمنية الروسية مدفوعة في المقام الأول بنقاط ضعف الدولة وشعورها العام بالضعف، الأمر الذي يتطلب استراتيجية دفاعية نشطة. يفيد نائب رئيس معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، الذي يُدرب حوالي 95% من الدبلوماسيين الروس، أن أهداف السياسة الخارجية الروسية هي "أن تكون لاعبًا مستقلاً وأن تدعم هويتها كقوة عظمى مستقلة استراتيجيًا". حاليًا يفيد بأن روسيا "تتعرض الى سوء المعاملة... وللخيانة".52 فالقادة الروس، siloviki، الذين خرجوا من جهاز أمن الدولة وجهاز الأمن الفيدرالي تدربوا على "رؤية العالم من حيث التهديدات". وبالتالي، يرى أندريه سولداتوف، وهو صحفي استقصائي متخصص في الأمن، أنه "ليست لديهم استراتيجية" وأنهم "يعتمدون على التكتيكات" لأنهم "لا يعرفون هوية التهديد المقبل"، وبالتالي لا يسعهم "سوى الاستجابة وحسب".53 كما يُفسر هو وغيره من المحللين في السياسات الأمنية الروسية "عودة روسيا مرة أخرى على المسرح العالمي على أنها ردود فعل وتكتيكات ومراهنات مرتجلة كانت في بعض الأحيان أكثر إزعاجًا من كونها مُتقنة".54
العامل الثاني لسياسة المساعدة الأمنية الروسية التي تميزها عن سياسة المساعدة الأمنية الأمريكية هو السلطوية والمؤسسات والأيديولوجيات والسلوكيات التي تقوم عليها وأهم مثل هذه المؤسسات هي الجيوش والمليشيات التي تدعمها في المعتاد أجهزة الاستخبارات. فقد حلوا محل الأحزاب الشيوعية كحلفاء رئيسيين لموسكو وكمستفيدين رئيسيين لمساعدتها. كما أن الأيديولوجية مهدت الطريق للنفعية التي تركز على السيطرة كعوامل تحفيز رئيسة لكل من روسيا والمستفيدين من مساعدتها. وبعيدًا عن تشجيع الرقابة المدنية على الوكالات القسرية والعمل على تطوير المؤسسات التي يمكن تحقيق ذلك من خلالها، تسعى المساعدة الأمنية الروسية الى تفضيل الفروع التنفيذية والوكالات العسكرية والأمنية المرتبطة بها على جميع الجهات الفاعلة الأخرى الحكومية وغير الحكومية. والكشف عن المساعدة الأمنية لسوريا منذ تدخل روسيا فيها في أواخر 2015 يدل على هذا النمط الأوسع. فقد بدأت بدعم الوحدات الرئيسية في الجيش السوري، والتي أخضعتها بثبات لسيطرتها المباشرة، وأخضعت حتى الجنرالات لضباط روس أقل رتبة. ثم تحولت بطريقة مماثلة إلى تسخير مختلف الميليشيات الموالية لعناصر النظام أو لإيران قبل البدء في محاولة لاختراق مختلف أجهزة المخابرات التابعة للنظام وللسيطرة عليها.55 وتجاهلت روسيا ببساطة الجهاز السياسي السوري الأوسع، ناهيك عن اقتصاد البلاد.
العامل الثالث الذي يؤثر على غايات المساعدة الأمنية الروسية ويجعلها تختلف عن المساعدة الأمنية الأمريكية هو وجود سكان مسلمين عديدين على أطراف روسيا الذين خضعوا لنفوذ موسكو ثم لسيطرتها، أولاً من قِبَل الإمبراطورية الروسية ثم من قِبَل الاتحاد السوفيتي. فظهور الحركات الانفصالية والإرهاب، ناهيك عن احتمال وقوع الدول المجاورة لها في آسيا الوسطى تحت سيطرة المنافسين، وأهمها الصين، يثير مخاوف كبرى لدى صانعي القرار الروس. تمثل الحرب في أفغانستان، التي واجهت فيها القوات الروسية المجاهدين المدعومين من الولايات المتحدة وأسقطت الاتحاد السوفيتي، كارثة واضحة في أعين القادة الروس. كما أن المخاوف المرتبطة بالإسلام أكثر صلة بسياسات المساعدة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تنتشر الإسلاموية انتشارًا واسعًا وتزعزع الاستقرار، تُعتبر سببًا رئيسيًا للانقسام بين الدول مثلما هو الحال بين قطر وتركيا من جهة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر من جهة أخرى.
يخلص الاستقصاء الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز حول استراتيجية بوتين العالمية إلى أن "أهداف روسيا بحسب القيمة الاسمية أقل توسعية بكثير من أهداف أمريكا، ومصالحها أضيق وأكثر ثباتًا. ومن الملاحظ أنها لا تمتد إلى مسائل حقوق الإنسان أو الديمقراطية".56 وبينما لا يتناول التقرير بشكل مباشر مسألة ما إذا كانت "القيمة الاسمية" تعكس الاستراتيجية الروسية بدقة، أو تهدف على الأغلب إلى خداع المعارضين المحتملين نظرًا للقيود المفروضة على القدرات الروسية، فإن وجهة النظر القائلة بأن الأهداف الروسية "أقل توسعية" تبدو صحيحة، على الأقل الى حين تطوير تلك القدرات أو لحين ظهور سطوة الى إستراتيجية أكثر جرأة ومخاطرة في الكرملين.
باختصار، تشمل الغايات المحددة للمساعدة الأمنية الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تعكس استراتيجيتها الشاملة والقيود التي تُشكلها، ما يلي:
المكاسب الاقتصادية من خلال نقل الأسلحة والتدريب والمساعدة العسكرية
تعزيز الأنظمة الاستبدادية "الصديقة"
احتواء الإسلاموية
تعزيز دور روسيا الإقليمي وموقفها من خلال تشجيع الاعتماد على نفوذها الدبلوماسي/الأمني
تقويض مكانة الولايات المتحدة في المنطقة
الطرق
وتحدد هذه الأهداف الاستراتيجية بدورها الخيارات المتعلقة بمن يجب دعمه ومعارضته في المنطقة وكيفية عمل ذلك. فرد فعل روسيا تجاه الاضطرابات في 2019 في السودان أمر مفيد. وبناءً على الوثائق التي سربها مركز Dossier في لندن التابع لرجل الأعمال الروسي المنفي ميخائيل خودوركوفسكي الى صحيفة غارديان، سعت روسيا لنزع الشرعية عن المعارضة السودانية من خلال أخبار ومقاطع فيديو مزيفة تهدف إلى "تصوير المتظاهرين على أنهم معادون للإسلام وموالون لإسرائيل وللحركة المثلية".57 وقد أرسلت في وقت واحد مجموعة من المرتزقة الذين تُوظفهم مجموعة فاغنر المملوكة للدولة لتدريب ضباط عسكريين سودانيين كجزء من محاولة لتوطيد شراكة مع المجلس العسكري الانتقالي الذي "وافق على دعم عقود روسيا المهمة في الدفاع والتعدين والطاقة في السودان".58 وبحلول 2019، أصبح السودان ثاني أكبر مشترٍ للأسلحة الروسية في إفريقيا بعد الجزائر، حيث أن نصف إجمالي مشتريات السودان من الأسلحة تم الحصول عليها من روسيا. كان الرئيس السابق البشير قد وافق شخصيًا على دخول شركة روسية لتعدين الذهب إلى بلاده وكان يتفاوض على إنشاء مصفاة نفط روسية وقاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر عندما تمت الإطاحة به. ربما يكون مرتزقة مجموعة فاغنر قد انخرطوا بالفعل في إجراءات قمعية اتخذها المجلس العسكري الانتقالي. لكن المعارضة السودانية ترى أن روسيا تدعم الرجعيين في المجلس العسكري الانتقالي دعمًا كاملاً كجزء من استراتيجيتها الشاملة للحفاظ على استثماراتها العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية الضخمة في عهد البشير.59
تكشف الأنشطة الروسية الأخيرة في ليبيا عن نماذج مماثلة في السودان. اعترفت روسيا اسميًا بحكومة الوفاق الوطني المتمركزة في طرابلس وبخطة التسوية التابعة للأمم المتحدة، وبدأت في الوقت نفسه تغازل حفتر وجيشه الوطني الليبي في 2016. وقد اعترضت روسيا على قرار الأمم المتحدة الصادر في مارس/آذار 2019 والذي يدعو حفتر الى وقف هجومه على طرابلس، وبعد ثلاثة أيام زار حفتر موسكو.60 يبدو أن حفتر بدأ يتلقى الأسلحة من روسيا في 2016 مقابل وعود بالسماح بإنشاء قواعد روسية في بنغازي وطبرق بمجرد انتهاء الصراع. وفي ذلك الوقت أو بعد ذلك بقليل، بدأ مرتزقة من مجموعة فاغنر ومن شركة تعاقدات عسكرية ثانية يسيطر عليها الكرملين، وهي شركة RSB، في تعزيز قوات حفتر. وفي 2018 التقى حفتر بالمالك الاسمي لمجموعة فاغنر، يفغيني بريغوزين، وهو من حلفاء بوتين ومدان سابقًا والمالك السابق لوكالة أبحاث الإنترنت الخاضعة الى لعقوبات التي استخدمتها موسكو للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016.61 وفي 2019، التزم 300 من المرتزقة في مجموعة فاغنر بتأمين موانئ طبرق ودرنة للأسطول الروسي وبالسيطرة على تدفق النفط الليبي.62 وفي العام الماضي، ذكرت صحيفة RBC الروسية اليومية أن روسيا أرسلت قوات إلى شرق ليبيا لدعم مروحة متنوعة من عمليات حفتر63 ومنذ ذلك الحين ظهرت تقارير مختلفة عن تلقي جنود حفتر للعلاج في مستشفيات روسية.64 وفي 2017، وقَّعت Rosneft اتفاقية مع المؤسسة الوطنية للنفط لتعزيز استخراج النفط. ويقول أحد المراقبين عن اختراق روسيا في ليبيا بعد القذافي أن "روسيا تعتقد أن الضامن الأفضل للاستقرار في ليبيا وحكم استبدادي وزعيم بخلفية عسكرية. بالإضافة إلى ذلك، يرى الكرملين أن حفتر هو من سيضمن الوجود العسكري والاقتصادي والعسكري الروسي في البلاد".65
يشير سجل روسيا في أوكرانيا والقرم ودول البلطيق الى تشكيل خلايا نائمة، يُطلق عليها أيضًا "الأعداء في الداخل" إلى طريقة أخرى تستخدمها موسكو للمساعدة الأمنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فاستيلاؤها على القرم في 2014 وتحريضها على القتال الانفصالي في شرق أوكرانيا جاءا بتسهيل من وكلاء محليين "زرعتهم وكالات الاستخبارات الروسية والقوات الخاصة الروسية". وقد تم زرع بعض هؤلاء العملاء في وزارة الدفاع الأوكرانية حيث عملوا على إبطاء رد البلاد على الاستيلاء الروسي على أراضيها. والآن تعمل الاستخبارات العسكرية الروسية على تجنيد زعماء عصابات في شرق أوكرانيا من خلال منحهم وظائف في إدارة روسية مستقبلية. هذه السوابق، إلى جانب الدعاية الروسية بأن دول البلطيق كانت "منحًا من موسكو في العهد السوفيتي وبالتالي فإنها تنتمي إلى روسيا"، حفزت تلك الدول على التخلص من الخلايا النائمة المحتملة وعلى المُحرضين المحتملين. فعلى الرغم من عدم وجود تقارير موثوق بها عن جهود تخريبية معاصرة مماثلة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لن يكون من المستغرب أن تكون موسكو قد سعت أيضًا إلى تجنيد "أعداء من الداخل" في تلك الدول أيضًا.66 الاتحاد السوفيتي كان قد فعل ذلك في مصر مثلاً عندما كان في ذروة نفوذه هناك وجند من بين أشخاص آخرين سامي شرف رئيسًا لأركان رئيس مصر السابق جمال عبد الناصر. وقد أصبح بعد ذلك أحد المتآمرين الرئيسيين في مؤامرة 1971 للإطاحة بالرئيس اللاحق أنور السادات الذي كان الروس يعتبرونه عن حق تهديدًا لمصالحهم.67
أما محاولة روسيا القياسية لكسب النفوذ لدى حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وخصوصًا الحكومات التي لها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، فتجري من خلال نقل الأسلحة. من المُفترض أن يكون الغرض الرئيسي هو تنمية العلاقات مع صناع القرار العسكري والمدني. ومن أمثلة ذلك مصر وتركيا ولبنان. فعندما أوقفت إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تزويد مصر بأنظمة الأسلحة، سرعان ما تدخلت روسيا وباعت القاهرة نظامًا مضادًا للطائرات بقيمة مليار دولار في 2015 وتبعت ذلك شحنات عديدة من الطائرات وغيرها من المعدات العسكرية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، قبلت حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري في لبنان وقتها عرضًا طويل الأمد بقيمة 5 ملايين دولار في صورة مساعدات عسكرية روسية، وهذه دلالة على رغبة الكرملين "في تنمية العلاقات الدينية والثقافية والاقتصادية والعسكرية في بيروت كجزء من استراتيجية لتوسيع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط والنهوض بدورها كصانع سلام وتهميش الولايات المتحدة".68 وفي وقت سابق من تلك السنة، كانت شركة نفط روسية جزءًا من تحالف ربح عقدًا لاستغلال قطاعين بحريين في المياه اللبنانية. ومنذ 2011، دعمت موسكو التجمع اللبناني الأرثوذكسي الذي يُعد من بين أبرز قياداته نائب رئيس البرلمان كجزء من جهده الأوسع لربط روسيا بالمعتقدات الأرثوذكسية الشرقية. كما زار الحريري موسكو كثيرًا، وذلك على ما يبدو بسبب رغبته في استخدام دعم روسيا في إدارة العلاقة مع سوريا. ووافقت تركيا في 2019 على شراء منظومة الدفاع الجوي الروسي من طراز S-400، ويبدو أن هذا يرجع جزئيًا لتراجع شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان وما صاحب ذلك من الرغبة في تعزيزها عن طريق إثارة العداء لأمريكا.69
تشير هذه الحالات إلى أن روسيا تستهدف المساعدة الأمنية التي تدعمها في المعتاد الروابط الاقتصادية والسياسية، وذلك لدى القادة الاستبداديين في المقام الأول، وخصوصًا أولئك الذين يفتقر تمسكهم بالسلطة إلى الدعم الشعبي المؤسسي. ومن المُفترض أن هذا يُعزز نفوذ روسيا على النخب التي تحتاج إلى دعم خارجي. ويمكن لروسيا بعد ذلك استمالة النخب بتقديم مكافآت في شكل المزيد من عمليات شراء الأسلحة وتنازلات اقتصادية ومصالح دبلوماسية وما إلى ذلك.
الوسائل
تؤكد الصحافية الروسية إيفجينيا سوكولوفسكايا أن الكرملين لديه خطة ثلاثية لتوسيع نفوذه في إفريقيا، وهذا يعكس أيضًا نهجه لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تتمثل الأولى في مبيعات الأسلحة، حيث يبدو أن الحالات التي تم عرضها تؤكد ذلك. والخطوة الثانية هي إرسال "مرتزقة... للحصول على فهم أوسع على أرض الواقع من دون مشاركة الكرملين رسميًا". والأدوار الأساسية للمرتزقة هي حراسة القادة وتدريب القوات وإدخال الأسلحة الروسية كما هو الحال في ليبيا والسودان بحسب إفادة إيفجينيا.70 والخطوة الثالثة هي القفزة الكبيرة التي تتضمن إرسال أفراد عسكريين روس تتنوع واجباتهم ومشاركتهم وقد تتصاعد في مستواها كما في حالة سوريا. والنشر الأولي للقوات هو الأكثر شيوعًا لتعليم الجيوش المحلية على استخدام أنظمة الأسلحة الروسية وصيانتها، والغرض الرئيس منها في إفريقيا هو تمهيد الطريق لمشاركة روسية أوسع نطاقًا وخصوصًا في الاقتصاد. أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث مستوى النزاع أعلى، تأخذ مثل هذه المشاركة أيضًا شكل مشاركة روسية مباشرة في المعركة كما هو الحال في سوريا. ولكن لكي يحدث ذلك، يتعين على الدولة المضيفة التنازل عن سيطرتها الكبيرة على قواتها لروسيا كما كان الحال في سوريا.
تُمثل خطة الكرملين الثلاثية المفترضة هذه الخطوط العريضة للاستراتيجية الروسية والوسائل المستخدمة لتحقيق الغايات، وإن لم يكن في كل بيئة ولا بتفاصيل دقيقة. فهي مثلاً لا تربط ربطًا واضحًا بين الغايات والكمية والجودة النسبيتين للأسلحة المقدمة، كما أن المحصلات يُفترض أيضًا أن تعتمد على قدرات المستفيدين. ولا تعالج مسألة جودة المساعدة التقنية العسكرية المقدمة، وهو موضوع لم يحظَ سوى بقدر ضئيل من الاهتمام.
تناول نورفيل ب. ديتكيني هذه المسألة في مصر. فبصفته ضابطًا حاليًا في الجيش الأمريكي، عمل على تقييم أداء نظرائه الروس.71 يشير إلى أنه قبل أن يقيلهم السادات، كان "المستشارون السوفييت على جميع المستويات يشاركون في كل جانب من جوانب التخطيط والتدريب واللوجستيات في مصر". وكانت نقاط قوة مشاركتهم ترجع في المقام الأول إلى النهج البسيط نسبيًا الذي كان مستخدمًا. "لم يكن من المتوقع من المتدربين قط استعمال المبادرة أو الابتكار، بل الاستمرار في أداء التدريبات حتى تصبح صفة متأصلة فيهم". أمضى المستشارون السوفييت فترات طويلة بشكل معقول في مصر وكانوا على استعداد لتحمل مصاعب كبيرة في الحياة اليومية. فالمعدات التي نشروها كانت بسيطة التشغيل والصيانة، في حين كان النظام اللوجستي أقل تعقيدًا بكثير من نظيره الأمريكي. أما نقاط الضعف فشملت المشكلات اللغوية التي لم يجرِ علاجها بالكامل، بالإضافة إلى المشكلات الثقافية الأوسع نطاقًا التي يُوضحها ديتكيني بشيء من التفصيل والتي تدور حول مسألة التزمت النسبي للمستشارين السوفييت. منذ كانوا يميلون إلى عزل المصريين الذين شعروا بالسعادة عمومًا عندما طردهم السادات بحسب إفادة ديتكيني. كما يرى ديتكيني أن الدروس الروسية المستفادة من التجربة المكثفة في مصر يجري تطبيقها الآن في سوريا. فالمستشارون العسكريون المتخصصون الروس يشاركون في القتال إلى جانب القوات السورية أو يمارسون عليهم القيادة، وهو نوع من برنامج التدريب العملي بدلاً من أساليب التدريس الأكثر رسمية التي تم استخدامها في مصر. تأخذ المشاركة الروسية الشاملة في سوريا شكل حرب هجينة تشمل "قوات غير نظامية ومرتزقة وأساليب سرية ومعلومات وبرامج تضليل".72
باختصار، تشتمل الوسائل الروسية للمساعدة الأمنية على مروحة من أنظمة الأسلحة وتدريب أفراد من الجيش أو من متعاقدين أمنيين "خاصين" مُتخفين، وتوسيع نطاق الحماية للنخب المحلية، وحملات التضليل التي تنطوي أحيانًا على دعم القوات العسكرية المحلية مثلما هو الحال في السودان. وهذه الوسائل مصممة تصميمًا جيدًا للغايات الروسية وللشركاء الذين اختارت روسيا العمل معهم. تتشكل غايات روسيا وطرقها ووسائلها بأنظمتها الاستبدادية الخاصة بها والخاصة بالمستفيدين منها، والتي تتضح مواطن قوتها وضعفها بالمقارنة بالمساعدة الأمنية الأمريكية.
المساعدة الأمنية الأمريكية
الغايات
لطالما كانت غايات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل تقليدي هي تعزيز أسواق الطاقة العالمية المستقرة من خلال ضمان التدفق الحر للنفط والغاز في المنطقة، والحفاظ على توازن القوى المؤيد لمصالح الولايات المتحدة، والأهم من هذا كله تعزيز الاستقرار الإقليمي.73 وبخصوص هذا الهدف الأخير، تتناقض الولايات المتحدة تناقضًا صارخًا مع إيران التي يميل استخدامها للجهات الفاعلة غير الحكومية ذات التوجه نفسه إلى تقويض السيادة وتعزيز عدم الاستقرار، على الأقل في المدى القصير. فمنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، أصبح من الأهداف الإضافية للولايات المتحدة منع الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة أو مصالحها. وقد أدى هذا بدوره إلى وضع استراتيجية لمنع أو إحتواء "الأماكن غير الخاضعة الى لحكم" التي قد تجدها المنظمات المتطرفة ملجأً لها وتُنظم فيها الهجمات.74
ولتعزيز هذه الأهداف، كانت الاستراتيجية الأمريكية المفضلة هي الشراكة مع الحكومات في المنطقة لإرساء جهات اتصال مهنية طويلة الأجل والحفاظ عليها، وبناء قدرات شريكة في الأمة لتمكين الدفاع عن النفس ولتعزيز القواسم المشتركة مع القوات الأمريكية في عمليات التحالف، وتسهيل وصول القوات العسكرية الأمريكية. وقد دخلت الولايات المتحدة في بعض الحالات في شراكة مع جهات فاعلة غير حكومية لتحقيق أهدافها، كما هو الحال في سوريا وكما هو الحال إلى حد محدود في اليمن. ومع ذلك، فإن الضرورة الاستراتيجية للحفاظ على وضع راهن مستقر تُقلل عمومًا من فرصة دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية مع تعزيز قدرات الدولة في الوقت نفسه.
يتطلب ضمان الاستقرار أبعد من مجرد دعم الحكومات المعترف بها والفعالة في مقابل الجهات الفاعلة غير الحكومية. ففي حين أن الولايات المتحدة قد واصلت وسوف تواصل بلا شك العمل مع الأنظمة القمعية عند الضرورة لتعزيز أهدافها، يوجد اعتراف واسع النطاق، على الأقل داخل الجيش الأمريكي، بأن القمع الشديد لا يؤدي إلى الاستقرار طويل المدى. ولذلك السبب، فإن تعزيز المؤسسات الوطنية، وتشجيع الرقابة المدنية على الجيش، وتعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان حيثما أمكن هي أهداف أمريكية ليس فقط في حد ذاتها بل أيضًا لأنها تدعم الوضع النهائي المرجو المتمثل في الاستقرار الإقليمي.
بالإضافة إلى تعزيز الاستقرار الحكومي، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز التعاون الإقليمي لتعزيز الثقة والتواصل، وإذا لزم الأمر، تعزيز عمليات التحالف العسكرية لمواجهة التهديدات التي تستهدف المصالح الإقليمية ومصالح الولايات المتحدة.75 تهدف برامج المساعدة الأمنية والتعاون الأمني الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تعزيز هذه الاستراتيجية من خلال تطوير الشراكات وقدرات الشركاء، وبناء تحالفات، وتسهيل المداخل الخاصة بالولايات المتحدة.76 تتشابه أهداف الولايات المتحدة في أنحاء المنطقة، وهذا ما يتضح من نظرة عامة مختصرة على أهداف المساعدة الأمنية الأمريكية في دول محددة. ففي لبنان مثلاً، تتمثل سياسة الولايات المتحدة في "تعزيز سيادة لبنان وتأمين حدوده، ومواجهة التهديدات الداخلية، وبناء مؤسسات الدولة الشرعية بها".77 والأداة الرئيسية لتعزيز هذه الاستراتيجية هي دعم القوات المسلحة اللبنانية "بهدف إنشاء قوة وطنية قوية بما يكفي لمواجهة الجهات الفاعلة غير الحكومية وتأمين حدود البلاد".78 كما سعت الولايات المتحدة الى تعزيز قدرة أجهزة الأمن المدنية في البلاد لمواجهة التهديدات الإرهابية.79 تشمل الأهداف الأمريكية في المملكة العربية السعودية ضمان أمن النفط، والاستفادة من الأهمية الإقليمية للمملكة وموقعها الاستراتيجي كحصن ضد إيران، وتسهيل وصول القوات الأمريكية إليها وحقوق التحليق فيها، وحماية "المملكة العربية السعودية والمنطقة من الآثار المزعزعة للاستقرار ومكافحة النفوذ الإيراني، وغيرها من التهديدات".80
يمثّل اليمن صورة أكثر تعقيدًا إلى حد ما في ما يتعلق بغايات ووسائل تحقيقها. نفذت الولايات المتحدة عمليات قتالية في اليمن منذ 2002، وذلك في المقام الأول من خلال ضربات بطائرات بدون طيار وتواجد على نحو متقطع لقوات العمليات الخاصة بهدف تدمير أو إضعاف قدرات القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وما يُسمى بالدولة الإسلامية في اليمن، ومختلف فروعهما. وبعد 2015، بدأت الولايات المتحدة في تقديم أشكال مختلفة من المساعدة لقوات التدخل بقيادة السعودية. وقد كانت الأهداف هي "استعادة الحكومة اليمنية التي تعترف بها الأمم المتحدة والحفاظ على وحدة الأراضي السعودية من هجوم المتمردين الحوثيين المتمركزين في اليمن"81، و"مواصلة دعم شركائنا الإقليميين... والمساعدة على تخفيف التهديدات التي تستهدف السكان المدنيين والبنية التحتية الحيوية... [و] تحسين الأداء التشغيلي للمملكة العربية السعودية وتقليل الخسائر بين المدنيين".82
بعد هزيمة قوات الدولة الإسلامية في العراق، واصلت الولايات المتحدة السعي الى تحقيق الأهداف المتمثلة في عراق مستقر لا تسيطر عليه إيران أو وكلاء إيران. وكما هو الحال في أماكن أخرى في المنطقة، تركز المساعدة الأمنية الأمريكية في العراق على تطوير جيش حديث ومهني يكون خاضعًا الى محاسبة السلطة المدنية وقادرًا على الدفاع عن الحدود القومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن برامج الولايات المتحدة تعزز "الامتثال لسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان مع زيادة قدرة الجيش العراقي في الوقت نفسه على الاستجابة للتهديدات وإجراء عمليات لمكافحة الإرهاب.83 وفي حين أن الأهداف المُعلنة للولايات المتحدة في سوريا قد تباينت وأحيانًا تتناقض مع بعضها البعض، فإن مسؤولين أمريكيين بعد مراجعة السياسة الداخلية في أواخر 2018 "قالوا أن السياسة تجاه سوريا تسعى إلى (1) الهزيمة الدائمة لتنظيم الدولة الإسلامية؛ (2) وتسوية سياسية للحرب الأهلية السورية؛ (3) وانسحاب القوات الخاضعة لأوامر إيران".84
وكما تشير هذه البرامج في هذه البلاد، فإن الطبيعة الواسعة وطويلة الأجل لغايات الولايات المتحدة، وخصوصًا تلك الغايات المتعلقة بضمان الاستقرار، تدعم إلى حد كبير استراتيجية العمل مع الحكومات القائمة ومن خلالها، مع وجود استثناءات في بعض الأحيان. ففي حين تستفيد المساعدة الأمنية الأمريكية من كونها متضمنة في العلاقات بين الدول، فإن الولايات المتحدة تتحمل أحيانًا مسؤولية أفعال شركائها وسياساتهم، الخارجية والمحلية منها، سواء كانت متفقة معها أم لا وسواء كانت تلك الأفعال والسياسات تدعم في الواقع المصالح الأمريكية أم لا. وهذه أمثلة لمشكلة القيادي والتابع التي جرت الإشارة إليها أعلاه باعتبارها تعمل على تشويش علاقات المساعدة الأمنية. فنتيجةً لرغبة الولايات المتحدة في الحفاظ على علاقاتها مع الدول المستفيدة للمساعدة الأمنية، يمكنها أيضًا أن تصبح شريكًا متواطئًا دون رغبته في مصائب أمة شريكة، كما يُوضح دعمها الحالي للعمليات التي تقودها السعودية في اليمن.
على الرغم من اختلاف الاستراتيجيات المُطبقة من دولة إلى أخرى، فإنها مصممة جميعًا لدعم الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة في المنطقة:
الحفاظ على توازن القوى لمصالح الولايات المتحدة
تعزيز الاستقرار الإقليمي
منع الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة أو مصالحها
تعزيز استقرار أسواق الطاقة العالمية من خلال ضمان التدفق الحر للنفط والغاز
الطرق
تتميز طرق المساعدة الأمنية الأمريكية بالمشاركة في نقاط متعددة وعلى مستويات مختلفة داخل حكومات الدول المضيفة وجيوشها وقواتها الأمنية. وفيما هو يعكس هذه المشاركة المتنوعة، يفوض الكونغرس وزارة الدفاع تنسيق مجموعة واسعة من البرامج مع شركاء الأمن، بما في ذلك:
عمليات الطوارئ والدعم التشغيلي للتحالف ذات الصلة
التدريب والتجهيز غير الطارئين
الدعم التشغيلي
مكافحة المخدرات ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية ومكافحة انتشار الأسلحة
المساعدة الإنسانية والإغاثة في حالات الكوارث
التمارين
التعاون في مجال التسلح الدولي
برامج التعليم والتبادل
الاتصالات العسكرية
بناء مؤسسة الدفاع ودعمها
استعادة الموظفين المفقودين وتقديم تقرير عنهم85
يفترض النهج العريض المتأصل في النموذج الأمريكي المفضل للمساعدة الأمنية وجود حكومة فعالة ومستقرة نسبيًا وموالية للغرب مثل تلك الموجودة في مصر والأردن والمغرب. ومع ذلك، أصبحت مثل هذه الظروف نادرة على نحو متزايد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما يشير الاستعراض الموجز للدول.
تقترب المملكة العربية السعودية من مطابقة ذلك النموذج – فلديها حكومة مستقرة ذات روابط عسكرية وسياسية وتجارية قائمة مع الولايات المتحدة، وتشترك في العديد من الأهداف الإقليمية وخصوصًا في ما يتعلق بإيران. ومع ذلك، فإن التدخل الذي تقوده السعودية في اليمن غيَّر تلك الصورة، مع إدماج الولايات المتحدة في صراع كانت تُفضل تجنبه. وقد غيّر هذا من نوع الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية، مما أثر تأثيرًا كبيرًا على مهمة القوات الأمريكية الصغيرة وعملياتها في اليمن. وعلى الرغم من أن المصالح الأمريكية والسعودية بخصوص اليمن قد تتزامن إلى حد كبير، فإن الطرق التي اختارها السعوديون لتحقيق أهدافهم لم تحقق مصالح الولايات المتحدة بل تسببت في الواقع في أضرار جسيمة لها.86
تتعاون الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية في برامج عديدة لتحسين التدريب للعمليات الخاصة وقوات مكافحة الإرهاب، ولدمج أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، ولتعزيز الدفاعات الإلكترونية، ولتعزيز الأمن البحري، ولتطوير القدرات الأمنية للبنية التحتية الحيوية.87 وتعمل على تيسير هذه البرامج في المقام الأول بعثة التدريب العسكري في الولايات المتحدة ومكتب مدير البرنامج – الحرس الوطني السعودي، ووزارة الداخلية – مجموعة المساعدة العسكرية. تعمل بعثة التدريب العسكري مع وزارة الدفاع والطيران السعودية، إذ تُقدم تعليمات التدريب وخدمات استشارية إلى جانب الدراسات والتوصيات. ويتولى مائة وأربعون مستشارًا أمريكيًا أساسيًا للمساعدة الأمنية مسؤولية تنسيق حالات المبيعات العسكرية الأجنبية، لكنهم يقدمون أيضًا المساعدة والمشورة عبر نظام العقيدة والتنظيم والتدريب والقيادة.88 وعلى المستويات الأخرى، تتمثل مهمة بعثة التدريب العسكري في:
تنسيق تقديم خدمات التدريب والمعدات للدفاع الجوي الملكي السعودي لتعزيز قدرات الدفاع الجوي والصاروخية؛
تقديم المساعدة للقوات البرية الملكية السعودية لتحسين التعليم العسكري؛
مساعدة القوات البحرية الملكية السعودية والقوات البحرية الملكية السعودية الخاصة لتعزيز قدرات الدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب؛
وتنسيق شراء المعدات للقوات البحرية الملكية السعودية.89
يعمل مكتب مدير البرنامج – الحرس الوطني السعودي مع وزارة الحرس الوطني لتنظيم ثاني أكبر قوة برية في المملكة وتدريبها وتجهيزها، والتي تضم عدة ألوية من المدرعات الخفيفة والمروحيات والمدفعية.90 وتركز مجموعة المساعدة العسكرية التابعة لوزارة الداخلية على حرس الحدود وقوات أمن المنشآت وغيرها لتطوير القدرات الأمنية للبنية التحتية الحيوية.91
بعد التدخل الذي تقوده السعودية في اليمن، بدأت الولايات المتحدة في تقديم المشورة العسكرية والاستخبارات والدعم اللوجستي لقوات التحالف – بصورة أوضح في شكل عمليات للتزود بالوقود جوًا. نسقت الولايات المتحدة مع السعوديين لتحسين قدرة السعودية على الدفاع ضد الصواريخ الباليستية والمركبات الجوية بدون طيار. وفي ضوء الأداء التشغيلي الضعيف للسعوديين وتصاعد الخسائر في صفوف المدنيين، أنشأت الولايات المتحدة فريقًا مشتركًا لتقييم الحوادث وبدأت في تقديم المشورة بشأن استهداف الإجراءات والدقة.92 بدأت قوات العمليات الخاصة الأمريكية مهمة محدودة للمشورة والمساعدة مع الحكومة اليمنية وقوات التحالف خلال عمليات في مدينة المكلا في 2016. ويُشار إلى أن قوات العمليات الخاصة قدمت المساعدة في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والإعتراض البحري؛ ودعم الطائرات بدون طيار للتحالف.93 وتشير ضربات سبتمبر/أيلول 2019 على المنشآت النفطية السعودية في بقيق وخريص، بالإضافة إلى الفشل في إخضاع تمرد الحوثيين في اليمن، إلى أن هذه المساعدة الأمنية الأمريكية المتنوعة لم تُحسن القدرات السعودية تحسينًا كافيًا إما للدفاع عن أراضيها أو لعرض قوتها في اليمن.
وفي العراق، توالت حكومة مستقرة نسبيًا، إن لم تكن متصدعة، الانقسامات العميقة ليس فقط بين السكان بل في الجيش وقوات الأمن والنخبة السياسية، في حين تعمل العديد من الميليشيات عملاً مستقلاً بشكل أو بآخر. بدأت الولايات المتحدة في تقديم المساعدة العسكرية للعراق من خلال المبيعات العسكرية الأجنبية في 2003. وبدأ التمويل العسكري الأجنبي في 2012 بهدف تمويل التدريب المهني العسكري وغيره من التدريبات بالإضافة إلى البرامج لتعزيز القدرات اللوجستية وقدرات الاستدامة في العراق. ولكن مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في 2014، أعيدت برمجة أجزاء من التمويل العسكري الأجنبي لمكافحة الإرهاب. يقدم حوالي 5000 عنصر من القوات الأمريكية في العراق الدعم الاستشاري والتدريب لقوات الأمن العراقية، مع إعطاء الأولوية حتى 2019 لعمليات القوات العراقية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.94 تتواصل جهود تحقيق الاستقرار في أعقاب الهزيمة العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية، مما يُعقد الجهود الأمريكية للمشاركة في مختلف أشكال المساعدة الأمنية وتنسيقها، والمهام التي أصبحت أكثر إشكالية بسبب المظاهرات واسعة النطاق في خريف 2019 ومقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 بناءً على أوامر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ومن خلال صندوق التدريب والتجهيز الخاص بمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، تم تقديم الدعم إلى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي والجيش والشرطة الفيدرالية وحرس الحدود وكتائب الاستجابة في حالات الطوارئ وشرطة الطاقة والقوات الخاصة وقوات وزارة البيشمركة التابعة لحكومة إقليم كردستان.95 وفي حين أن عناصر من الجيش الأمريكي تواصل دعم القوات العسكرية والأمنية العراقية بالتدريب والمشورة ودعم الاستخبارات والعمليات القتالية، فإن مكتب التعاون الأمني-العراق (OSC–I) يعمل على إدارة برامج المساعدة الأمنية بما في ذلك التدريب المهني العسكري والتقني والتشغيلي الممول من برنامج التعليم والتدريب العسكري الدولي للولايات المتحدة. كما أن الصلاحيات الموسعة الممنوحة لمكتب التعاون الأمني جعلته يُقدم المساعدة الاحترافية والإدارية لجميع "القوات العسكرية وغيرها من القوات الأمنية التي لديها مهمة أمنية وطنية"، ما يتيح مشاركة السفارة مع الشرطة وقوات الأمن المحلية.96
أما في لبنان، فإن الحكومة التي في حالة سقوط حر دائم والميليشيا الطائفية المقترنة بحزب سياسي يُمثل أقوى قوة عسكرية في الأرض هي عناصر تعمل على تقييد الخيارات الأمريكية للتنسيق وللتعاون. تُعزز الولايات المتحدة قابلية التشغيل وتشجع على إقامة علاقات عسكرية من خلال توفير التعليم العسكري المهني والتعليم التقني والتدريب التكتيكي. وقد تلقى أكثر من 30 ألف عضو في الخدمة الأخيرة تدريبًا في الولايات المتحدة أو لبنان بين عامي 2006 و2017، بما في ذلك أكثر من 900 خريج من برامج التعليم العسكري المهني. وقدمت البرامج الأمريكية مساعدة تقنية وبنت القدرات لأفواج الحدود البرية ودعمت تطوير قدرات الاستخبارات الجوية والمراقبة والاستطلاع ونظام وطني للقيادة والسيطرة.97 كما ترعى الولايات المتحدة تدريبات الرد الحازم، وهي تدريبات عسكرية ثنائية سنوية تضم عناصر من البحرية الأمريكية وخفر السواحل والجيش إلى جانب القوات المسلحة اللبنانية.98 يُقدر وجود القوات الأمريكية في لبنان بحوالي سبعين فردًا، وهي وحدة توفر التدريب لقوات العمليات الخاصة اللبنانية، بما في ذلك المساعدة لمدرسة القوات الخاصة اللبنانية.99
أجرت القوات الأمريكية عمليات مكافحة الإرهاب مع توفير أشكال مختلفة من المواد والتدريب والدعم المباشر إلى الوكلاء في اليمن وسوريا، حيث صلاحية الحكومة المركزية محدودة وحيث توجد معارضة حكومية شديدة لأمريكا. وقد بدأ الدعم الأمريكي المحدود للمعارضة السورية في 2012، وفي 2014، بعد أن سمح الكونغرس ببرنامج تدريب وتجهيز لمجموعات خضعت للفحص. وبحلول 2015، شاركت وحدات قليلة في عمليات قتالية أو تم حتى إرسالها إلى الميدان، وقد أعيد تصميم البرنامج وتقليصه في مواجهة انتقادات داخلية متزايدة. وفي الوقت نفسه، دفع النفوذ المتزايد للمنظمات الجهادية بين المتمردين الولايات المتحدة إلى تقليص دعمها للجماعات المتمردة السورية عمومًا مع التركيز بدلاً من ذلك على التهديد المتزايد الذي يُمثله تنظيم الدولة الإسلامية. ونتيجةً لذلك، أُعيد توجيه البرنامج المعدل نحو تجهيز وتمكين قادة ومجموعات خضعوا للفحص داخل سوريا وكانوا يقاتلون تنظيم الدولة الإسلامية. وقبل إعلان السياسة الأمريكية المعلنة في ديسمبر/كانون الأول 2018 عن نيتها بسحب القوات العسكرية من سوريا، فإنها أشارت إلى نية تدريب القوات المحلية وتجهيزها للاحتفاظ بالمناطق المستعادة وتأمينها.100 وفي فبراير/شباط 2019، أعلن البيت الأبيض أن مئات عدة من القوات الأمريكية سوف تبقى في سوريا وأنه طلب 300 مليون دولار لتمويل عمليات الدفاع في العام التالي لمواصلة تجهيز القوات الشريكة السورية ودعمها.101 وقبل أكتوبر/تشرين الأول 2019، كانت الجهود الأمريكية المتمثلة في التدريب والتوجيه والمشورة والمساعدة والدعم المباشر تركز تركيزًا أساسيًا على قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد، على الرغم من أن القوات الأمريكية كانت مخولة بمساعدة مجموعات أخرى خضعت الى لفحص على رغم أن الولايات المتحدة حتى لم تُدربها. وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2019، كان يوجد ما يُقدر بنحو 1000 عنصر من القوات الأمريكية في سوريا متمركزين في الشمال الشرقي للبلاد ولكن كانت من ضمنهم وحدة صغيرة في التنف في الجنوب الشرقي. كانت القوة الأساسية للمشورة والمساعدة والمرافقة في سوريا هي فرقة العمل المشتركة للعمليات الخاصة، عملية العزم الصلب.102 وقد أنهى ترامب جميع المساعدات الأمريكية فجأةً في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
بينما تشدد الطرق المُفضلة للولايات المتحدة في المنطقة على الاتصالات واسعة النطاق بين الحكومات، والعلاقات طويلة المدى، ومجموعة واسعة من البرامج التعليمية والتدريبية، فقد فرضت الظروف بعض النُهج الأضيق والأقل طموحًا، وخصوصًا في سوريا واليمن.
الوسائل
على الرغم من تخصيص موارد كبيرة للبرامج الأمريكية الخاصة بالتدريب وبالتمرين وبالاتصال العسكري، تُركز معظم التحليلات للوسائل الأمريكية في الشرق الأوسط على المعدات، حيث أن النفقات هائلة والأجهزة الناتجة عنها هائلة بالمقدار نفسه. وبما أن غايات الولايات المتحدة وطرقها في المنطقة واسعة النطاق، فكذلك مدى الأجهزة والتعليمات المقدمة، كما هو موضح في حالة العديد من الدول العربية. فمن 2008 حتى 2011 مثلاً، ربحت الولايات المتحدة 45 مليار دولار من عمليات نقل الأسلحة وحدها للسعودية، تلاها مبلغ 17 مليار دولار إضافية من 2011 إلى 2015.103 لا تعكس هذه الأرقام الهائلة الجيوب الكبيرة للسعوديين وحسب بل أيضًا ولعهم لامتلاك أسلحة راقية، وهو الولع الذي تشاركهم فيه حكومات أخرى في المنطقة. يستخدم السعوديون الطائرة المقاتلة المتقدمة من طراز F-15 المزودة بأسلحة متطورة، ويُشغلون بطاريات عدة من صواريخ الدفاع الجوي باتريوت PAC-3، ويملكون أساطيل من الدبابات القتالية الرئيسية والحوامات الهجومية. وقد تضمن الطلب المُقدم في 2017 وحده أربع سفن قتالية ساحلية و115 دبابة قتال رئيسية من طراز M1A2، وحوامات إضافية، وصواريخ باتريوت من طراز PAC-3. كما كانت جوانب التدريب والدعم الخاصة بالوسائل الأمريكية حاضرة وكانت لها أهمية متزايدة في ضوء أداء سلاح الجو الملكي السعودي في اليمن الذي تعرض لانتقادات شديدة. جرى توقيع مذكرة نوايا بقيمة 18 مليار دولار لتحديث أنظمة القيادة والسيطرة في المملكة العربية السعودية، ولتعزيز تدريب سلاح الجو الملكي السعودي لتحسين قدرات وعمليات الاستهداف الدقيقة، ولتقديم المزيد من التعليمات حول قانون النزاع المسلح.104
وفي العراق، وافقت الولايات المتحدة على أكثر من 23 مليار دولار في معاملات المبيعات العسكرية الأجنبية منذ 2003،105 وقدمت وزارة الدفاع أكثر من 2.3 مليار دولار من خلال صندوق التدريب والتجهيز بالعراق وصندوق التدريب والتجهيز لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية.106 وكما هو الحال في لبنان والمملكة العربية السعودية، تتراوح المعدات التي تُوفرها الولايات المتحدة بين المقاتلات التكتيكية الراقية من طراز F-16 إلى دبابات القتال الرئيسية إلى الأسلحة والذخيرة الصغيرة إلى معدات الحماية. أما عملية تمويل التدريب فهي عملية واسعة بالمثل، مع وجود تخصيصات للبرامج التعليمية المتعلقة بقانون النزاع المسلح وحقوق الإنسان، والدورات العامة عن القيادة والموظفين، ودورات الاستخبارات العسكرية، ودورات كبار ضباط الصف، إلى جانب التعليم التقني والتشغيلي.107
تلقى لبنان أكثر من ملياري دولار من المساعدات منذ 2005، بما في ذلك ما يقرب من 1.4 مليار دولار من منح التمويل العسكري الأجنبي. تستخدم القوات المسلحة اللبنانية مجموعة من المعدات الأمريكية، بما في ذلك مدافع هاوتزر ذاتية الدفع وناقلات الجنود المدرعة والطائرات الهجومية والمروحيات ومركبات برادلي القتالية. وعلى الجانب الآخر، تُزود الولايات المتحدة لبنان ببنادق هجومية وبمعدات للحماية الشخصية وبروبوتات للتخلص من القنابل.108 وفي 2017، تلقى لبنان 42.9 مليون دولار من صناديق شراكة لمكافحة الإرهاب موجهة لإحداث تحسينات في أمن الحدود. وقد بلغ التمويل الدولي للتعليم وللتدريب العسكري منذ 2006 ما قيمته 29.4 مليون دولار ولا يُمثل سوى أحد البرامج التدريبية التي شارك فيها أكثر من 30 ألف من الأفراد العسكريين اللبنانيين.109
وفي سوريا، نظرًا لتقييد المساعدة الأمنية الأمريكية بسبب الوضع السياسي والعسكري وطبيعة شراكتها، فإن الوسائل الأمريكية في المقابل أقل توسعية على الرغم من الإنفاق الكبير بالدولار. وعلى الرغم من عدم توفر أرقام من وزارة الدفاع للعمليات الخاصة بسوريا، فإن تكلفة الحملة المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق – عملية العزم الصلب – قد بلغت 28.5 مليار دولار بحلول سبتمبر/أيلول 2018.110 فمجموعة المعدات والتدريب المُقدمة مُركزة تركيزًا أكبر بما يتناسب مع الموقف، مع تعليمات تؤكد على المهارات والمعدات التكتيكية والتشغيلية المناسبة للواقع، وهي قوة مركزية صغيرة نسبيًا تُميز قوات سوريا الديمقراطية.
وبالتالي، فإن وسائل الولايات المتحدة، على الرغم من أنها عمدت الى استهداف كيانات وطنية مستقرة نسبيًا، جرى تعديلها بالضرورة لتناسب مختلف المواقف التي تواجهها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ولا يزال النموذج الذي جرى تطويره للعمليات العسكرية داخل المملكة العربية السعودية سليمًا إلى حد معقول، على الرغم من تعديله كنتيجة للتوغل السعودي في اليمن. وفي العراق، يُمثل التهديد المستمر من تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب التحديات التي تُمثلها الميليشيات غير الحكومية المعادية للمصالح الأمريكية، بالإضافة إلى العلاقات المتوترة بين الحكومات، تعقيدات أمام تطوير وتشغيل برنامج متماسك وفعال للمساعدة الأمنية. وينطبق الشيء نفسه في لبنان، حيث توجد مشكلات مماثلة. وأخيرًا، أُجبرت الولايات المتحدة في سوريا واليمن على العمل إلى حد كبير من خلال وكلاء، مما أدى لظهور نتائج مختلطة في أفضل الأحوال.
وباختصار، تطورت غايات وطرق ووسائل المساعدة الأمنية الأمريكية في المقام الأول في إطار العلاقات بين الدول. وهذه الخلفية تُفسر إلى حد كبير نقاط قوتها وضعفها، ومن بين نقاط ضعفها عدم المرونة النسبية المرتبطة بالعمل في المقام الأول في بيئة أكثر ثباتًا واستقرارًا تُوفرها الدول على عكس ما يحدث في الأماكن غير الخاضعة للحكم والأماكن المتنازع عليها.
الخاتمة
أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي منطقة الاختبار على المستوى الدولي في ما يتعلق بالمساعدة الأمنية. ويعمل المزودون الرئيسيون الثلاثة للمساعدة الأمنية – إيران وروسيا والولايات المتحدة – على مستويات مختلفة من منظور قدرات الدولة. فشركاء إيران الأساسيون جهات فاعلة شبه حكومية؛ وعادةً ما يكون شركاء روسيا جهات فاعلة ضعيفة ومعتمدة على الدولة؛ وشركاء الولايات المتحدة دول راسخة بأغلبية ساحقة. تعكس هذه الاختيارات المواقف الاستراتيجية لمزود المساعدة الأمنية المعني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وطبيعة القدرات العسكرية والاقتصادية له ولشركائه.
أما السؤال الحيوي بخصوص أي من مزودي الخدمة كانت وستكون لمساعدته الفعالية الأكبر في المستقبل فيمكن الإجابة عنه على المستويين التشغيلي والاستراتيجي. فعلى المستوى التشغيلي، يبدو أن إيران هي الأكثر فعالية كما تشهد على ذلك القدرات غير المتناظرة الهائلة التي بنتها مع شركاء في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ونتائج النزاعات العنيفة التي اشترك فيها أولئك الشركاء. كانت المساعدة الأمنية الروسية حاسمة من الناحية التشغيلية فقط في سوريا، حيث اتخذت شكل السيطرة المباشرة على الوحدات داخل الجيش السوري. وفي أماكن أخرى، شاركت روسيا في المساعدة الأمنية لجهات فاعلة شبه حكومية، كما هو الحال الآن في ليبيا، ومع جهات فاعلة حكومية ضعيفة مثل القذافي في ليبيا أو البشير في السودان، ولكن تلك المساعدة لم تكن حاسمة ويبدو أن دافعها في المقام الأول كان الاعتبارات الانتهازية على المدى القصير. أما المساعدة الأمنية الأمريكية، المقدمة بأغلبية ساحقة لجهات فاعلة حكومية، فيبدو أنها كانت دفاعية من الناحية التشغيلية وتُركز بشدة على القوة الجوية لردع المعارضين المحتملين، وإذا لزم الأمر، لإلحاق خسائر بقواتهم البرية في المقام الأول.
ومع ذلك، فإن تحويل العمليات إلى مكاسب استراتيجية دائمة كان صعبًا لإيران. فدعمها التصاعدي للجهات الفاعلة شبه الحكومية في لبنان وسوريا والعراق واليمن لم ينتج عنه بعد أن تعزز إيران لسيطرتها على مستويات الدولة المعنية، كما أن القيود الملازمة لنهجها قد تمنعها من إجراء ذلك. فقد نتجت عن مساعدتها الأمنية، التي تهدف بوضوح إلى توسيع النفوذ الإيراني، ردود أفعال ضد إيران نفسها، وعلى الأخص في شكل مظاهرات ضدها في لبنان والعراق، ومن خلال نظام العقوبات الذي أضعف اقتصادها وقوض عرض قدرات قوتها.
وبالمثل، لا تكشف روسيا سوى عن القليل من الدلائل على قدرتها على توطيد علاقتها ببشار الأسد في شكل حكومة شرعية موحدة قادرة على إعادة إعمار سوريا تظل روسيا فيها شريكًا أساسيًا. وفي أماكن أخرى من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استعادت روسيا موطئ قدم لها في بعض المواقع الاستراتيجية السابقة التي احتلها الاتحاد السوفيتي، لكنها لم تحول مواطئ القدم هذه، كما هو الحال في مصر، إلى علاقات واسعة النطاق أكثر جوهرية.
وعلى النقيض من ذلك، تعرضت المساعدة الاستراتيجية الأمريكية الى فترات ضعف وقوة من خلال صلتها بالدول القائمة ونظام الوضع الراهن الذي تتورط فيه. فقد تقوضت القوة الناعمة الأمريكية بسبب تلك الصلة، وهي نتيجة أدت إلى إخفاق العمليات في لبنان وسوريا وليبيا والعراق واليمن. وعلى الرغم من ذلك، فقد ساعدت المساعدة الأمنية في الحفاظ على نظام الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو هدف استراتيجي رئيس للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
مع ذلك، يُشكل صعود أمراء الحرب والميليشيات تحديًا وجوديًا لذلك النظام. فقد دفع هذا بعض المحللين، بمن فيهم دانييل بيمان وإسراء صابر، للقول بأنه: "يتعين على الولايات المتحدة والقوى الأخرى الاعتراف بالحاجة المؤسفة للعمل مع أمراء الحرب وتحسين قدرتهم البيروقراطية لعمل ذلك". وفي إشارة إلى المسؤوليات المحتملة المتمثلة في تقديم المساعدة الأمنية للجهات الفاعلة شبه الحكومية، بما في ذلك التدخل في جهود تحقيق الاستقرار وبناء الدولة، بالإضافة إلى ميل تلك الجهات الفاعلة لانتهاك حقوق الإنسان، ناهيك عن الحواجز القانونية التي تحول دون دعمها، فإنهما ينصحان بتطوير "سياسات محددة بخصوص أمراء الحرب تُركز على مقدار وصولهم إلى المساعدة، وكيفية دمجهم في الدولة الأوسع نطاقًا، وأية أنشطة غير مشروعة يمكن التساهل معها إن وُجدت".111 ومع ذلك، قد يترتب على القبول التام لهذا النهج تكاليف لنظام الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالتالي تكاليف على الاستقرار العام للمنطقة، ناهيك عن سُمعة الولايات المتحدة في الحفاظ على النظام الدولي. فمن أمثلة تلك التكاليف المرتبطة بالسُمعة الإدانة العالمية تقريبًا من أعضاء النخبة السياسية العراقية في أعقاب مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في مطار بغداد الدولي في يناير/كانون الثاني 2020.
المحصلات المترتبة على السياسة
يثير هذا الاستعراض سؤالاً حول إلى أي مدى قد يمكن لهذه الجهات الثلاث الرائدة في تقديم المساعدة الأمنية إلى الشرق الأوسط تغيير غايات وطرق ووسائل برامجها، واتجاهات ذلك. تُفيد الإجابة المختصرة بأن هذا ليس بالأمر الكثير، على الرغم من أنه يمكن أن يكون بقدر أكبر بكثير للولايات المتحدة من إيران وبقدر أكبر نسبيًا للولايات المتحدة من روسيا. ففي جميع الحالات الثلاث، يجري تحديد الغايات والطرق والوسائل من خلال مصالح وقدرات مزودي المساعدة الأمنية، والتي من غير المحتمل أن تخضع أي منها الى تغيير جذري مفاجئ دون الوصول إلى تغيير النظام.
فمصلحة إيران بتصدير ثورتها في المقام الأول من خلال تطوير قدراتها غير المتناظرة وقدرات الميليشيات التابعة لها، كما قيل هنا، هي جزء من طبيعة نظامها. وبعد توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة في 2015 مثلاً، ضاعفت إيران الجهود لتوسيع نفوذها في المنطقة من خلال تقديم المساعدة الأمنية، بدلاً من اختيار مسار الاعتدال والتنمية المحلية التي كانت إدارة أوباما تعقد آمالها على إيران في أن تنتهجها. كما أن استثمارها الإضافي في الحرب غير المتناظرة، كما يتضح من هجوم سبتمبر/أيلول 2019 على المنشآت النفطية السعودية، إلى جانب قمعها الصارم المتزامن للمعارضة الداخلية، يشير إلى أن احتمالات إجراء تقليصات كبيرة أو تغييرات في الأنماط الحالية للمساعدة الأمنية احتمالات محدودة، على الرغم من أن إيران يبدو أنها تواجه معارضة جدية في مختلف بلدان المنطقة. وقد كان ردها الثابت هو السعي لتشويه صورة المعارضة وإخمادها بدلاً من تغيير السياسات.
أما المساعدات الأمنية الروسية فتعكس انتهازية نظام بوتين المتأصلة في ضعفه العالمي المقارن إلى جانب، كما هو الحال مع إيران، الهشاشة المتأصلة لنظامها الاستبدادي. فكما هو الحال في إيران أيضًا، على الرغم من أن تغيير النظام في موسكو أمر ممكن، فإنه هذا يبدو من غير المحتمل في المستقبل القريب أو حتى المستقبل شبه القريب. وبخلاف تغيير النظام، فإن العامل الوحيد الذي يمكنه تغيير سلوك المساعدة الأمنية لدى إيران وروسيا هو أن تشرعا في أداء أدوار مشروعة ومحترمة ومهمة في منطقة الشرق الأوسط وبالتالي تكسبا حصصًا في الوضع الراهن. في حالة إيران، فإن الطريقة التي تنتهجها لتقديم المساعدة الأمنية تجعل ذلك مستحيلًا لأنها لا تتوافق مع الدول القوية والمستقرة. وباختصار، سوف يتعيّن على إيران تغيير مواقعها.
وعلى النقيض من ذلك، فإن تركيز روسيا المتزايد على أداء دور الوساطة الدبلوماسية في العديد من نزاعات المنطقة، إلى جانب أن الموارد الاقتصادية وغيرها من الموارد تفوق إيران بكثير، يشير إلى أن روسيا، على عكس إيران، يمكنها أن تطمح إلى أداء مثل هذا الدور في تحقيق الاستقرار في المستقبل المنظور من دون تغيير مسبق لنظامها. ومن المفترض أن أداء مثل هذا الدور سوف يؤدي بدوره إلى تخفيف الجوانب الأكثر عدوانية للمساعدة الأمنية التي تُقدمها، مثل توفير مرتزقة لأمراء الحرب ولشاغلي الوظائف الحكومية غير الآمنة. وحينها، سوف يكون دورها في المنطقة ومساعدتها الأمنية شبيهًا بدور الولايات المتحدة والقُوى الغربية الأخرى.
تتمتع الولايات المتحدة بأكبر قدر من المرونة المحتملة وأيضًا بأكبر احتياج إلى المرونة في تقديم المساعدة الأمنية. فمصلحتها الأساسية في المنطقة هي الحفاظ على استقرار الدول والعلاقات السلمية بينها. وتلك المصلحة تُشكل بقوة غايات المساعدة الأمنية التي تُقدمها وطرقها ووسائلها. ومع ذلك، فقد أصبح النظام المستقر القائم على الدولة في الشرق الأوسط أمرًا بعيد المنال. فمنذ غزو العراق في 2003، وما تبعه من اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011، بدا أن احتمالات قيام مثل هذا النظام القائم على الدولة تتراجع.
وهذا يترك للولايات المتحدة بدائل أساسية ثلاثة لتوفير المساعدة الأمنية في المنطقة. البديل الأول هو التأكيد على نظام الدولة من جانب واحد، وبذل كل ما بالإمكان لتعزيزه، من خلال المساعدة الأمنية والإنمائية. ومع ذلك، فإن الإخفاقات المُتصورة لما يُسمى بمساعي بناء الدولة في العراق وأفغانستان قد قللت من الشهية السياسية للولايات المتحدة تجاه مساع بهذا الحجم، مما جعل المساعدات الأمنية الأمريكية تقتصر على برامج التدريب والاستحواذ ذات النفوذ الأصغر من النوع الموصوف في هذا المقال.
والبديل الثاني قد يكون نهجًا "واقعيًا" متشددًا يستند إلى المفهوم القائل أنَّ نظام الدولة في الشرق الأوسط هش بطبيعته وضعيف للغاية بحيث لا يمكن أن تستند عليه المصالح والتعاملات الأمريكية. وقد يستلزم هذا البديل إعادة تشكيل المساعدة الأمنية بحيث تكون أشبه بالمساعدة الأمنية التي تُقدمها روسيا، أي الجمع بين الطرق والوسائل المتناظرة وغير المتناظرة، مع الأمل بألا يصاحب ذلك سعي وحشي منفرد للمصلحة الذاتية الوطنية كما يبدو أنه الحال مع روسيا.
في حين أن تخفيض الطرق والوسائل من الناحية التقنية بحيث يكون جزء كبير منها له طبيعة غير تناظرية يُمثل تحديًا للجيش الأمريكي وللمجمع الصناعي الذي يُزوده بأسلحته، فإنه سيكون تحديًا أقل بكثير مما ستواجهه إيران مثلاً عند محاولة ترقية تركيز مساعدتها الأمنية من قدرة حرب غير متناظرة إلى قدرة حرب متناظرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحدي التقني الذي يواجهه المجمع الصناعي العسكري الأمريكي سوف يكون أقل من التحدي السياسي المتمثل في تقديم التخلي الواضح عن التزام واشنطن طويل الأمد بنظام عالمي سلمي يُشجع على إقامة مشاريع حرة وديمقراطية ليبرالية أمام الشعب الأمريكي والجماهير الغربية والإقليمية بشكل عام. ودفاعًا عن هذا البديل الثاني، يمكن القول بأن المساعدة الأمنية خلال الحرب الباردة كانت أكثر تنوعًا مما أصبحت عليه، إذ كانت تتضمن طرقًا ووسائل غير متناظرة أكثر مما هو عليه الآن. ربما يُقرر صناع القرار الأمريكيون أن الجمع الحالي بين الشرق الأوسط غير المستقر والمغامرة الروسية والتخريب الإيراني لمؤسسات الدولة يستلزم العودة إلى شيء مشابه لسمة المساعدة الأمنية في الحرب الباردة.
البديل الثالث للولايات المتحدة مماثل للبديل الأول، ولكن بإضافة اهتمام أكبر بكثير لكسب دعم الحلفاء، وخصوصًا في أوروبا وآسيا، مما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة. فالسعي أحادي الجانب من الولايات المتحدة للمساعدة الأمنية والأهداف التي تهدف لتحقيقها أدت، إلى حد كبير، إلى تهيئة الظروف المسؤولة عن الاختيار الحالي الكريه الذي تواجهه الولايات المتحدة الآن. وإعادة بناء دول الشرق الأوسط الفاشلة والضعيفة أو الحفاظ عليها، وجعل النظام يربط دول المنطقة وشعوبها بطريقة أكثر سلمية، سوف يتطلب استراتيجية للمساعدة الأمنية تستند إلى افتراضات قدرات الدولة التي يمكنها أولاً أن تكون مقبولة لدى جمهور أمريكي يشك فيها، وثانيًا، يمكن تنسيقها مع جهود حلفاء لديهم التوجه نفسه. تُعد المشاركة في العبء أمرًا ضروريًا لنجاح المساعدة الأمنية الأمريكية تحديدًا لأنه يمكنها تعزيز حالة الدولة التي تعتمد عليها. ولا يمكن للولايات المتحدة ببساطة تحمل الأمر بمفردها، فهذه ستكون على أية حال استراتيجية أقل ترحيبًا في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن العودة إلى سياسات الحرب الباردة سوف تنتج عنها على الأرجح تكاليف مالية وجانبية كبيرة وتكاليف خاصة بالسُمعة بل وحتى تكاليف أمنية. فالخيار المُفضل هو إقناع الحلفاء بالمساعدة في مشاركة المسؤولية لإعادة بناء نظام شرق أوسطي تداعى بشكل سيئ على مدى عقد من الزمان أو نحو ذلك وأصبح تهديدًا للرفاهية العالمية.