مدى توافق لامركزية الإدارة في العراق مع المبادئ العامة للامركزية الإدارية
مؤتمر الإصلاح التشريعي
2019-12-21 04:50
بقلم: م. زينب عباس محسن-كلية الإدارة والاقتصاد/جامعة القادسية
(بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018)
الـملخـــص
بعد التحول الذي طرأ على نظام الحكم في العراق بعد دستور العراق لعام 2005 الذي نص في مواده على أن تمنح المحافظات غير المنتظمة في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، صار لزاماً أن تتوافق تلك الصلاحيات الممنوحة وإجراءات وضعها موضع التنفيذ وفق مبدأ اللامركزية الإدارية المتعارف عليها في المبادئ العامة للقانون الإداري والتي وضعت أركاناً مهمة لهذا المبدأ، والتي تتمثل بالاعتراف لتلك المحافظات بوجود مصالح محلية الى جانب المصالح الوطنية وأن يتم انتخاب مجالس مستقلة محلية تضع تلك المصالح موضع التنفيذ من خلال ممارسة الاختصاصات المنصوص عليها في الدستور أو القوانين وأن تكون تحت الرقابة، فهي إدارات ذات استقلال نسبي لامطلق.
وقد تركز بحثنا في إيجاد مدى التوافق بين مبادئ للامركزية الإدارية في القانون الإداري ومبادئ اللامركزية الإدارية التي أسس لها دستور 2005 في المادة (122) حيث وجدنا تبايناً واختلافاً في بعض الاسس والقواعد لا الاركان التي تستند لها لامركزية الإدارة التي وضعت تفاصيل تكوينها والاختصاصات الممنوحة لها في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل.
المقدمــــــــــــة
كانت محافظات العراق تدار باسلوب النظام المركزي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وبقيت قبضة المركز سارية على جميع أجزاء الدولة وبموجب التسلسل الهرمي للأوامر، ومنذ ذلك الحين وبرغم محاولات عديدة جرت للتخلص بطريقة او أخرى من هذا الأسلوب لكنها جوبهت بالفشل، والعوامل في ذلك متعددة منها الداخلي والخارجي، باستثناء المحافظات الشمالية التي انفصلت إدارياً بعد احداث غزو النظام السابق للكويت.
واذا كان هناك أكثر من نظرية لإدارة شؤون الدولة، إلا أن اللامركزية الإدارية باتت اليوم اكثر انتشاراً في الدول المتقدمة، وبدأت تستهوي الكثير من دول العالم الثالث، ومنها العراق، وبالفعل بعد تغيير النظام في الدولة عقب دخول القوات الأمريكية عام 2003 فإن أسلوب النظام اللامركزي بدأ بالظهور الى جانب الأفكار المطالبة بفيدراليات متعددة وأخرى باللامركزية الإدارية، بيد أن دستور 2005 حسم الامر لصالح اللامركزية الإدارية في المحافظات التي لم تنتظم بإقليم من خلال انتخاب مجالس لتلك المحافظات تتولى إدارة شؤونها وفق الاختصاصات التي انيطت لها بالدستور والقانون العادي الذي صدر لاحقا وهو قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008، حيث بات العراق متجها ً للنظام اللامركزي نظرياً وتطبيقياً وفعلياً من خلال تشكيل مجالس للمحافظات اثر نتائج الانتخابات التشريعية في عام 2008، وبذلك كفل الدستور العراقي لسنة 2005 النظام الإداري اللامركزي، كما كفل إدارة هذه المحافظات التي لم تنتظم في إقليم من قبل مجالس لتلك المحافظات.
أهمية البحث:- تكمن أهمية البحث في أن الدستور بين ان جمهورية العراق تتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية (م / 116 من الدستور)، وبالتالي فإن وضع الدولة مبني على شكلين فيدرالي ولا مركزي، وهذا الامر يستوجب بيان قدرة المشرع على وضع المبادئ العامة واللامركزية موضع التنفيذ من خلال نصوص دستورية أو قانونية عادية دون الاخلال بها او وضعها بصورة مشوهة أو مخالفة للمبادئ العامة أو الاركان التي تقوم عليها.
مشكلة البحث:- تكمن مشكلة البحث في وجود بعض الاحكام التي خالف فيها المشرع للمبادئ العامة للامركزية الإدارية حين مزج بين النظام الفيدرالي واللامركزي، من خلال مساواة المحافظات غير المنتظمة بإقليم ببعض الاختصاصات الدستورية الممنوحة للأقاليم، والتي درجت المبادئ القانونية المتعارف عليها على عدم منحها لها، فضلا عن النص في الدستور على عدم خضوعها للرقابة أو الاشراف من بعض الجهات وهو ماينافي المبادئ العامة للامركزية، كما نص الدستور وقانون المحافظات على جواز تفويض المحافظات التي تدار لامركزياً بعض من اختصاصاتها للحكومة الاتحادية وبالعكس، وهو ما أثار استغراب الفقه الدستوري والإداري من كيفية حصول التفويض من الادنى للاعلى؟ عليه سنحاول بحث هذه المواضيع بما لايتسع لما تم بحثه مسبقاً.
فرضية البحث:- تقوم فرضية بحثنا على المقارنة بين المبادئ العامة للامركزية الإدارية في القانون الإداري والمبادئ التي جاء بها دستور العراق لعام 2005 وقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم لسنة 2008 المعدل في بعض نصوصه وأحكامه، والتي نفترض ان بعضا ً منها لاتتوافق مع المبادئ العامة سالفة الذكر، حيث سنحاول في بحثنا التركيز على النقاط التوافقية واللاتوافقية بينهما والتي لم يتم التركيز عليها من قبل الباحثين مسبقاً، او انهم بحثوها دون التركيز على مدى توافقها مع مبادئ اللامركزية الإدارية من عدمه.
هيكلية البحث:- سنحاول في خطة بحثنا عدم التوسع فيما تم بحثه مسبقاً بقدر ما نطرحه بصورة مختصرة في مبحثنا الاول الذي سنبحث فيه مبادئ اللامركزية الإدارية واركانها في القانون الإداري ومقارنتها مع ما يشتبه بها من مبادئ الفيدرالية أو اللامركزية السياسية والذي سنقسمه لمطلبين أحدهما للمبادئ العامة والثاني لما يشتبه باللامركزية الإدارية من أساليب في الإدارة وبفروع عدة، أما المبحث الثاني وهو ما يخصص لوضع كل ماجاء به المشرع العراقي كأسلوب إدارة للمحافظات غير المنتظمة بإقليم سواء في الدستور النافذ أم في قانون المحافظات لسنة 2008 في ميزان التوافق مع ماسنبحثه في المبحث الاول من مبادي اللامركزية الإدارية، ثم ننهي البحث بخاتمة نذكر فيها ما تم التوصل اليه من وجود التوافق من عدمه مع مبادئ اللامركزية سالفة الذكر مع بعض التوصيات التي نرى ضرورة الاخذ بها.
المبحث الأول
التعريف باللامركزية الإدارية
تختلف الدول بتبنيها لنظام الحكم بحسب العوامل التاريخية والقومية والسياسية والعرفية والاقتصادية وحتى الدينية، فالأخيرة لها أهمية كبيرة في رسم معالم النظام السياسي والإداري [1].
والتعريف باللامركزية الإدارية ليس بالخفي على المختصين، بيد أن ضرورات البحث تستوجب منا ان نتطرق ولو بشيء من الايجاز لهذه الموضوعات دون الولوج في تفاصيل لاتمت لصلب بحثنا بشيء.
وعلى هذا الاساس سنقسم المبحث الى مطلبين نتناول في المطلب الاول مفهوم اللامركزية الإدارية وفي المطلب الثاني أركان اللامركزية الإدارية في المبادئ العامة للقانون الإداري.
المطلب الاول
مفهوم اللامركزية الإدارية
هذا المطلب سنبحث فيه تعريف اللامركزية الإدارية إصطلاحاً في فرع أول وفي فرع ثاني نميز بينها عما يشتبه بها من نظم إدارية مقاربة لها.
الفرع الأول: تعريف اللامركزية الإدارية
اللامركزية الإدارية حسب ما وصفها معظم فقهاء القانون انها (درجة عدم تركيز السلطة، أي تشتت السلطة وتوزيعها بين الأشخاص والمستويات الإدارية المختلفة في المنظمة او على مستوى الدولة)[2]، ووصفت بأنها نقل السلطة التنفيذية من المستويات الحكومية العليا للمستويات الدنيا [3].
وبعيداً عن الولوج في تفاصيل تم بحثها مسبقاً، يتضح ان مصطلح اللامركزية يرتبط ارتباطاً مباشراً تمركز السلطة أو تشتتها، وان كلا المفهومين يوضح درجة التفويض، وهذان المصطلحان هما نهايتان متعاكستان لمحور التفويض، حيث يشير الى ان اللامركزية تدل على تفويض للأنشطة الوظيفية ومن ثم صلاحية اتخاذ القرار للمرؤوسين، في حين تدل المركزية على عدم وجود التفويض [4].
ان اهمية توزيع السلطات في نظام اللامركزية لا تتعلق بنوع السلطة المفوضةKind of Authority وانما تتعلق بكمية السلطة Quantity of Authority التي يتم تفويضها، فعلى مقدار السلطة تتحدد اللامركزية وبالتالي يكون تقدير تلك السلطات في ضوء ما يتخذ من اجراءات، اذ كلما زاد عدد هذه القرارات التي يتخذها المرؤوسين ازدادت درجة اللامركزية، وكلما كانت القرارات التي تتخذ في المستويات الدنيا على جانب كبير من الأهمية، امكن القول ان النظام يتجه نـحو اللامركزية، كلما تعددت المهام او العمليات التي تتأثر بالقرارات كالتي يتخذها المسؤولون في المستويات الإدارية الدنيا، كان النظام لامركزياً، فكلما قلت هذه الرقابة، كان النظام في صلب اللامركزية [5].
فكل ما يزيد من اهمية ما يمارسه المرؤوسين في التنظيم يعد شكلاً من أشكال اللامركزية، وبالعكس فان كل ما يقلل من أهميتهم يعتبر ميلاً نحو المركزية [6].
ورغم أن ما تقدم وبناء على عموم التوجه المركزي ذا الطابع والمردود السلبي في كافة الدول النامية اقترن التأكيد على الميل اللامركزي بالتوجيه الايجابي في الأجهزة الإدارية، بيد أن السير في هذا الاتجاه دون تحفظات قد يؤدي الى نتائج غير مقصودة بالنسبة للمخطط الإداري، رغم أنها تمنح مرونة اكثر في صنع القرارات ومواجهة المواقف المتغيرة وبذلك نحصل على الكفاءة التنظيمية في اجهزة الدولة الإدارية [7].
وعموماً يمكن القول كما ذهب من قبلنا الفقه الإداري، انه لا توجد مركزية مطلقة او لا مركزية مطلقة، بل ان الواقع هو مزيج بينهما بنسب متفاوتة والسبب هو لارتباطهما بتخويل الصلاحيات من عدمه، وهذا يعد أمراً نسبياً يعبر عن مدى او درجة التخويل، فالسلطة المركزية لا تستطيع تخويل جميع صلاحياتها (لامركزية مطلقة) وإلا كانت النتيجة توقفها عن ممارسة أعمالها، والعكس أيضاً فإن عدم تخويل الصلاحيات وتركيزها في الإدارة العليا (مركزية مطلقة) لا يؤدي فقط الى إلغاء دور الإدارة الدنيا او الإدارة المحلية بل الى إلغاء الهيكل التنظيمي للدولة بالكامل[8].
الفرع الثاني: تمييز اللامركزية عما يشتبه بها من مفاهيم قانونية
تشتبه اللامركزية الإدارية بمجموعة من المفاهيم ذات الصلة بأنظمة الإدارة، منها المركزية الإدارية، والتفويض الإداري، والفيدرالية، بيد أننا وكما أسلفنا سنبحث فيما له ماله صلة ببحثنا، عليه سنتطرق للتمييز بين اللامركزية الإدارية والتفويض الإداري وتمييزها عن الفيدرالية.
أولاً / تمييز اللامركزية الإدارية عن التفويض الإداري:
التفويض في القانون الإداري هو ان يعهد عضو إداري ببعض اختصاصاته الى عضو آخر ليمارس مؤقتاً هذه الاختصاصات بدلاً عنه اذا كان هناك نص قانوني يجيز له ذلك [9].
والتفويض نوعين تفويض بالاختصاص وتفويض بالتوقيع وكلاهما يعهد فيه صاحب الاختصاص جزءاً من اختصاصاته سواء تم نقل الاختصاص الاصيل للمفوض إليه أم تم تفويض التوقيع فحسب [10].
وللتمييز بين التفويض الإداري واللامركزية الإدارية نجد أن تفويض الاختصاص او التوقيع يتم بقرارات إدارية من المفوض الى المفوض إليه بينما تمنح الاختصاصات في اللامركزية بقانون من السلطة التشريعية، فضلا عن أن التفويض يمكن يلغى بمجرد إلغاء القرار الإداري ويعود لصاحب الاختصاص الاصيل بينما الاختصاص لايلغى الا بإلغاء القانون، وإلغاء القرار ليس كصعوبة إلغاء القوانين أو تعديلها.
ولابد أن نميز كذلك في أن التفويض يمارسه المفوض اليه باسم ولحساب الحكومة المركزية والاخيرة مسؤولة عما يصدر عن ممثليها بينما نجد ممثلو السلطة اللامركزية يمارسون اختصاصاتهم باسم ولحساب الشخص المعنوي الإقليمي وهم مسؤولين عما يمارسوه من تصرفات قانونية [11].
بعبارة أخرى أن اللامركزية الإدارية أكثر تطوراً واستقلالاً في العمل التنفيذي من التفويض الإداري.
ثانياً/ تمييز اللامركزية الإدارية عن الفيدرالية:
إذا كانت اللامركزية نظاماً إدارياً لتوزيع السلطات الإدارية بين المركز والوحدات الإدارية المحلية، فإن الفدرالية federalisme نظام سياسي لتوزيع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين السلطة الاتحادية المركزية والولايات الاتحادية التي قد تكون في الأصل دولاً مستقلة ذات سيادة ولكنها آثرت الاتحاد فيما بينها في ظل سلطة اتحادية مركزية تملك سلطات سيادية تساعدها على وحدة الدولة الاتحادية وتماسكها في ظل توزيع واسع للسلطات الرئيسة الثلاث داخل الدولة.
واذا كانت السلطات المحلية في اللامركزية الإدارية تستمد سلطاتها من القانون العادي فأن الولايات أو الاقاليم تستمد اختصاصاتها من ذات الدستور الفيدرالي[12]، وبالتأكيد فإن محاولة نزع اختصاص ما من أحدى الهيئات المحلية أو الولايات يختلف بين إذ كان الاختصاص ممنوح بقانون عادي يمكن تعديله بإجراءات ايسر من إجراءات تعديل الدستور الباهظة.
فضلاً عن ان اللامركزية الإدارية تعد شكل من اشكال الإدارة في الدولة البسيطة أو الفدرالية على السواء، بينما الفدرالية شكل من اشكال الدولة المركبة ولا علاقة لها بأشكال الإدارة ولا بأشكال أنظمة الحكم الدستوري كالنظام الملكي والنظام الجمهوري [13].
ويميز الفقه أيضا بين اللامركزية الإدارية من خلال التمثيل في المجالس التشريعية الثنائية والتي تتمتع بها الدول الفيدرالية وتكون الولايات أو الاقاليم ممثلة فيها وهذا مالانجده في النظام اللامركزي حيث فيه مجلس محلي منتخب واحد لايقوى على تشريع القوانين العادية التي تتمتع بها الاقاليم أو الولايات [14]، سوى أمكانية تشريع بعض القرارات التنظيمية أو الفردية المحلية.
المطلب الثاني
اركان اللامركزية الإدارية
درج الفقه في القانون الإداري على وضع ثلاثة أركان لنظام اللامركزية الإدارية[15]:-
الركن الأول: الاعتراف بوجود مصالح محلية عامة الى جانب المصالح الوطنية/ حيث أن هذه المصالح تهم عموم هذه المنطقة المعينة (المحلية) والتي قد تكون محافظة أو قضاء أو ناحية، حيث يكون الاعتراف من قبل المشرع العادي من خلال منح الشخصية المعنوية لها [16].
فالمصالح المحلية ينبغي ترك الاشراف ومباشرة إدارتها لمن يهمهم أمرها بصورة مباشرة، وان تتفرغ الحكومة المركزية للمصالح العامة والوطنية، فتحديد هذه المصالح ذات الطابع الخاص يجب أن يترك إدارتها وتصريفها للهيئات اللامركزية وما على المشرع الا ان يحدد نطاق تلك المصالح في ضوء القانون [17].
الركن الثاني: وجود مجالس محلية منتخبة/ هذا الركن يوضح كيف أن يعهد إدارة تلك المصالح الخاصة والمحلية لهيئات محلية تتمتع بنوع من الاستقلال في مواجهة السلطة المركزية، ذلك لان عدم توافر هذا الشرط فإننا أمام نظام عدم التركيز الإداري الذي يجري فيه تفويض إداري للسلطات ولسنا أما لامركزية إدارية [18].
فاعتراف المشرع بهذه المجالس ضروري لقيام هذه اللامركزية، يضاف لذلك أن ينصب الاعتراف بصورة انتخاب لها دون التعيين كل أو بعض من أعضائه ضماناً لاستقلالها[19]، بيد أن ذلك لايعني الاستقلال المطلق بل هو إستقلالاً نسبياً يضمن لتلك المجالس عدم الخضوع للسلطة المركزية وتفادي سطوتها وهو مانبحثه في الركن الثالث.
الركن الثالث: الرقابة والإشراف/ تختلف الدول في طريقة واسلوب الإشراف والرقابة على السلطات اللامركزية، فبعضها يجعل الرقابة بيد القضاء والبرلمان مع رقابة بسيطة لحكومة المركز في حين ان البعض الاخر تجعل من الحكومة المركزية رقيباً مع رقابة البرلمان والقضاء[20].
فالاستقلال بالنسبة للسلطات اللامركزية مسألة مهمة تدور معها اللامركزية الإقليمية وجوداً وعدماً[21]، فلا يحق لسلطات الحكومة المركزية أن تخرج في نطاق رقابتها عما رسمه القانون، وبخلافه فإن هذا يسبب تهديداً لوحدة هذه السلطات المحلية ووحدة الدولة السياسية والاتجاه الإداري العام للدولة[22].
واذا كانت المصالح المحلية التي تستقل بها السلطات اللامركزية تختلف ضيقاً وإتساعاً تبعاً لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية بكل دولة[23]، إلاَ أن ذلك لايعني أن تنقطع الصلة بين حكومة المركز وتلك السلطات المحلية، بل نجد الرقابة الإدارية مهما اختلفت في مداها حاضرة وفقا لما يحدده المشرع أن كان يجعل من السلطات الثلاث رقيبة على تحقيق تلك المصالح أم بعضاً منها أو تمارسها هيئات مستقلة، وبحسب أن كان المشرع متأثراً بالرقابة الإدارية في فرنسا ام انكلترا[24].
المبحث الثاني
مظاهر لامركزية الإدارة في العراق
من المظاهر البارزة للامركزية الإدارة في المحافظات هو نص المادة (116) من دستور العراق لعام 2005 التي نصت على ان (يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية)، فهذا النص يشير بصريح العبارة على تبني نظام اللامركزية الإدارية الإقليمية في المحافظات التي لم تنتظم في إقليم.
وفي ذات الوقت الذي أقر فيه دستور 2005 للمحافظات التي لم تنتظم في إقليم الحق بأن تتحول الى أقاليم بموجب المادة (119) بموجب الشروط المنصوص عليها في هذه المادة، فإنه أقر أيضاً في المادة (122) حق تلك المحافظات بإدارة شؤونها بنفسها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية على أن تمنح الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة.
عليه ومن أجل توضيح ما نود التركيز عليه في بحثنا بعد أن أتضح أن المشرع الدستوري هو من تبنى هذا النظام الإداري، نحاول أن نسلط في هذا المبحث مظاهر اللامركزية في الإدارة وهل أنها متوافقة مع مبادئ اللامركزية في القانون الإداري التي وضع أسسها الفقه الإداري والتي تم بحثها ولو بشيء من الايجاز في المبحث الاول، حيث سنقسم مبحثنا الى ثلاث مطالب نبحث في كل مطلب مظهرا يمثل الاركان الثلاث التي لابد من وجودها لقيام اللامركزية الإدارية على الوجه المتعارف عليه في مبادئ القانون.
المطلب الاول
الاعتراف بوجود مصالح خاصة محلية في المحافظات التي لم تنتظم في إقليم
لابد عند دراسة هذا المظهر أو الركن من أركان اللامركزية الإدارية في العراق أن نبحث في مدى اعتراف المشرع بهذه المصالح المحلية الخاصة، وبما أن الاعتراف بحق المحافظات غير المنتظمة في إقليم في إدارة شؤونها وفق مبدأ اللامركزية الإدارية ورد في نصوص دستور 2005 وفي قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008، لذلك سنقسم هذا المطلب الى فرعين لنبحث في كل منهما مدى الاعتراف بتلك المصالح في كلاً منهما.
الفرع الأول: الاعتراف بالمصالح المحلية الخاصة في دستور العراق لعام 2005
لاشك أنه لاتوجد دولة الاَ وفيها نوعين من المصالح تتمثل بالمصالح الوطنية التي تهم جميع كل الدولة ومصالح محلية تهم إقليماً أو مدينة ما[25].
والنظام الفيدرالي عادةً عندما تتبناه دولة ما فإن السلطات فيه ستزيد المهام الملقاة على الاقاليم أو المدن التي تتكون منها الدولة، ومن أجل الاستجابة لهذه المهام ومن أجل الاستجابة للمصالح المحلية ولإقامة توازن بين صلابة الدولة وحماية تلك المصالح المحلية فإن المشرع الدستوري أو العادي هو من يتبنى تحديد تلك المصالح والحاجات المحلية[26].
وبما أن اللامركزية الإدارية سند وجودها في الدستور فأن القانون العادي هو من يحقق وينظم هذه اللامركزية[27].
بيد أن المشرع الدستوري في العراق ذهب في دستور 2005 الى أبعد من ذلك حينما أعطى للمحافظات غير المنتظمة في إقليم اختصاصات دستورية مساوية الى حد ما مايتم منحه للولايات أو الاقاليم في الدول الفيدرالية متجاهلاً أن إدارة تلك المحافظات يكون وفقاً لمبدأ اللامركزية الإدارية التي نص عليها في المواد (116، 122) ووقع في خلط كبير بين مفهومي اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية[28]، حيث أن الاعتراف بمصالح تلك المحافظات المحلية يجب أن يكون بقانون عادي من السلطة التشريعية[29].
فالمشرع الدستوري كانت رغبته واضحة في إعطاء اختصاصات للمحافظات غير المنتظمة بإقليم على حساب سلطة المركز، وهذه الاختصاصات قد تؤدي الى اضعاف سلطة المركز وتغليب المصالح المحلية على حساب المصلحة العامة، وما يدلل على أن ماتم النص عليه من اختصاصات على أنها مصالح للمحافظات غير المنتظمة بإقليم ليس من شأنها ولا من صميم مصالحها المحلية هو أن هذه المحافظات لم تمارس أغلب (أن لم يكن جميع) هذه الاختصاصات رغم النص عليها، حيث لم تفسح سلطة المركز المجال لها لممارسة هذه الاختصاصات لقناعة الاخيرة أنها هذا الاختصاص هو اختصاص إتحادي مركزي لا محلي، فهي لم تشارك مثلاً في إدارة النفط والغاز ولا تطويره إستناداً لنص المادة (113) من الدستور ولم تفتح مكاتب في السفارات والبعثات الدبلوماسية إستناداً للمادة (121 / رابعاً)، ولم تشارك في إدارة الكمارك ولا في رسم السياسة التعليمية والتربوية ولا الصحية إستنادا لنص المادة (114)، وسكوت المحافظات متمثلة بمجالسها يدل على أن هذه المصالح أو الاختصاصات لاتعني لتلك المحافظات الشيء الكثير أما لكونها غير قادرة على الاشتراك في ممارسة تلك الاختصاصات لعدم خبرتها[30]، أو لكونها غير مكترثة لتلك المصالح أو قناعتها بأن طابعها وطني أكثر مما هو محلي.
ومما زاد الامر سوء تلك الاولوية المنصوص عليها في الدستور عند الخلاف حول الاختصاصات المشتركة، حيث تكون للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم على حساب قوانين المركز الاتحادية[31]، وهذا توجه من المشرع لايحمد عليه وخلاف مايهدي إليه المنطق[32].
ولاشك أن النص على تلك الاختصاصات التي تمثل مصالحاً لتلك المحافظات التي لم تنتظم في إقليم في صلب الدستور سيمنحها السمو على حساب القوانين العادية، وبالتالي لاسبيل للمساس بتلك الاختصاصات والمصالح الا بتعديل الدستور ذو الاجراءات المعقدة.
خلاصة القول أن المشرع الدستوري العراقي قد اعترف بوجود مصالح محلية للمحافظات غير المنتظمة بإقليم في دستور 2005 ونص عليها في صلب مواده خلافاً لما هو متعارف عليه بأن الاعتراف بوجود هذه المصالح والنص عليها يكون في قانون عادي، بل نجد أن الدستور قد أشرك هذه المحافظات باختصاصات ومصالح وطنية أكثر مما هي محلية ونص أنه عند الخلاف حولها فالأولوية لتلك المحافظات أي الاولوية للمصلحة المحلية على حساب المصلحة الوطنية، وهذا مالايقبله العقل والمنطق ولا القواعد العامة للقانون المتعارف عليها.
لذلك نعتقد بضرورة تعديل نص المادة (115) من دستور 2005 التي تعطي الاولوية للمصالح المحلية على حساب المصالح الوطنية، وكذلك عدم إشراك المحافظات التي لم تنتظم بإقليم ببعض الاختصاصات المشتركة بينها وبين المركز والمنصوص عليها في المواد (113) المتعلقة بالإدارة المشتركة للنفط والغاز وتطويرهما و(114) المتعلقة بإشراك المحافظات مع المركز بالإدارة أو التشاور ببعض الاختصاصات التي لا قدرة للمحافظات على القيام بها للأسباب التي أوضحناها مسبقاً.
الفرع الثاني: الاعتراف بالمصالح المحلية في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008
اعترف المشرع العراقي للمحافظات غير المنتظمة بإقليم في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 بجملة من الاختصاصات التي تعد بمثابة مصالح محلية خاصة بها[33]، أضافة لما ورد في نصوص دستور 2005 السالف ذكرها.
واذا كانت السلطة التشريعية هي الجهة المختصة بتحديد المصالح المحلية وتمييزها عن المصالح الوطنية، فإن هنالك اسلوبين درج الفقه على تحديدهما أولهما هو الاسلوب الانكليزي في تحديد تلك الاختصاصات حيث يحدد المشرع فيه تلك المصالح على سبيل الحصر، وتختلف تلك الاختصاصات من هيئة مركزية لأخرى، وثانيهما هو الاسلوب الفرنسي حيث تحدد اختصاصات أو المصالح المحلية بصورة عامة وتكون متشابهة لكل السلطات او الهيئات اللامركزية[34].
والمشرع العراقي نرى أنه قد أتبع الاسلوب الثاني حين اعترف بنفس المصالح المحلية وأعطى ذات الاختصاصات للمحافظات التي لم تنتظم بإقليم، فاعترف لها بحق إصدار التشريعات المحلية لتنظيم شؤونها الإدارية والمالية بما لايتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية وأعطاها الحق في رسم سياستها العامة وتحديد أولوياتها وأعداد موازنتها الخاصة ورفعها للحكومة الاتحادية لتوحيدها مع الموازنة الفيدرالية، وحق انتخاب واستجواب وإقالة محافظها بعد أن كان الاخير يعين مركزياً وفق قانون المحافظات الملغى، وحق تعيين أصحاب المناصب العليا في المحافظة وإعفائهم، والمصادقة على الخطط الامنية المحلية، واجراء التغييرات الإدارية في الأقضية والنواحي والقرى بالدمج والاستحداث، وتخصيص الاراضي لإقامة المشاريع الخدمية والعمرانية بشروط، وإعلان منع التجول بالتنسيق مع سلطات المركز وقبول الهبات والتبرعات، وممارسة أي اختصاص منصوص عليه في الدستور والقوانين[35]، وهذا مؤشر على الاعتراف بأن لهذه المحافظات مصالح محلية خاصة بها وهي تملك الدراية في طريقة إدارتها ومن هم الاشخاص المناسبين لتولي هذه الإدارة، وكل هذا تحت رقابة مجلس النواب كما سنبحث ذلك لاحقاً.
ونعتقد أن هذه الطريقة هي التي تتلائم وتتوافق مع مبادئ اللامركزية الإدارية حيث يمنح القانون العادي حق تولي إدارة المصالح المحلية لذات السلطات المحلية وترك ماعداها لسطات المركز حيث تتولى إدارة المصالح الوطنية التي ينص عليها في الدستور.
المطلب الثاني
إنشاء مجالس منتخبة خاصة بالمحافظات التي لم تنتظم في إقليم
سبق وأن تطرقنا الى أن من أركان اللامركزية الإدارية هو أن يتم إنشاء مجالس منتخبة تمثل الشخص المعنوي الإقليمي وتشرف على المصالح المحلية التي تم الاعتراف له بها.
وبما أن أساس اللامركزية الإدارية للمحافظات غير المنتظمة بإقليم نص عليها الدستور فضلاً عن قانون المحافظات رقم (21) لسنة 2008 الذي نص بدوره على تفاصيل هذه الإدارة اللامركزية ومنها كيفية إنشاء مجالس منتخبة لتلك المحافظات، عليه سنقسم بحثنا الى فرعين نتناول في الاول إنشاء المجالس المنتخبة وفقاً لدستور 2005 ونبحث في الثاني إنشائها في قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم.
الفرع الأول: إنشاء مجالس منتخبة محلية وفقاً لدستور العراق لعام 2005
لايكفي اعتراف المشرع بوجود مصالح محلية مالم تكن هنالك سلطات محلية مستقلة تتولى تسييرها وإشباعها تنوب عن السكان المحليين ويكونوا على دراية تامة بمشاكلهم وحاجاتهم[36].
فنجد أن المشرع الدستوري نص في المادة (122 / رابعاً) على أن ينظم بقانون انتخاب مجلس المحافظة والمحافظ وصلاحياتهما.
فهذا النص يشير بصريح العبارة على إلزام السلطة التشريعية بأن تشرع قانون ينظم انتخاب مجلس للمحافظة وينص على اختصاصاته، وهذا دليل دامغ على أن الدستور قد وضع أساس هذا الركن المهم من أركان اللامركزية الإدارية الا وهو إيجاد مجلس منتخب يمثل الشخص المعنوي الإقليمي، ورغم أنه لم ينص على محليته الا أن ذلك لايمنع أن ينص على ذلك في القانون العادي.
أن انتخاب السلطات اللامركزية هو الاسلوب الافضل الذي يضمن استقلالها في إدارة تلك المصالح المحلية، إذ تجيز بعض القوانين تدخل السلطة المركزية باسلوب أو بآخر يحدده القانون لاختيار بعض الاعضاء أو قد يصل التدخل في تعيين بعضاً منهم[37]، بيد أن دستور العراق قد حسم هذا الامر في المادة (122 / رابعاً) بالنص على إتباع آلية الانتخاب دون غيرها من الآليات، ولاشك أن نص الدستور يعلو ولا يعلى عليه من النصوص الاخرى.
فالفقه الإداري يميز بين نوعين من اللامركزية الإدارية أولاهما اللامركزية الإدارية التامة التي تعني أن يتولى الإدارة فيها أشخاص لامركزيين بلا استثناء، وثانيهما اللامركزية الإدارية النسبية التي يتولى الإدارة فيها عناصر لامركزية وعناصر مركزية[38]، وهذا توجه آخر يحسب للمشرع الدستوري في العراق يوضح إرادته بقيام نظام إدارة هذه المحافظات وفق اللامركزية الإدارية التامة حين نص صراحة في المادة المشار أليها أعلاه على انتخاب هذا المجلس دون طريقة أخرى.
الفرع الثاني: إنشاء مجالس منتخبة محلية وفقاً لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008
إستناداً لنص المادة (122/رابعاً) المشار إليها أعلاه تم تشريع قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 والذي نص في المادة (3 / أولاً / 4) أن يتم انتخاب أعضاء المجالس عن طريق الانتخاب السري المباشر حسب قانون الانتخابات للمجالس، وجاءت المادة (4) من ذات القانون لتحدد مدة الدورة الانتخابية بأربع سنوات تقويمية تبدأ بأول جلسة لها.
ومن أسس اللامركزية الإدارية أن تنتمي هذه المجالس المحلية (مجالس المحافظات والاقضية والنواحي) الى سكان وأبناء هذه الوحدة الإدارية ويتم اختيارهم من قبل سكانها[39]، فضلاً عن انتخاب هذه المجالس والذي نص الدستور وقانون المحافظات على كيفية انتخابها وإجراءات تكوينها[40].
وبالفعل فقد نصت المادة (5) قانون المحافظات لسنة 2008 على أن يشترط في المرشح لعضوية المجالس الشروط الاتية: (رابعاً: أن يكون من أبناء المحافظة بموجب سجل الاحوال المدنية أو مقيماً فيها بشكل مستمر لمدة لاتقل عن عشر سنوات على أن لاتكون اقامته فيها لأغراض التغيير الديمغرافي)، فهذا النص ان دلّ على شيء إنما يدل على توجه المشرع العادي نحو تحقيق المصالح المحلية عن طريق مجلس منتخب بالاقتراع السري المباشر المتكون من أبناء المحافظة ذاتها، والذي يتم التحقق من كونهم سكان محليين عن طريق سجل أحوالهم المدنية أو أقامتهم التي لاتقل عن عشر سنوات في المحافظة التي يرشحون فيها لكونهم أدرى بمتطلبات محافظتهم وحاجاتها وكيفية تحقيقها.
خلاصة القول ومن كل ماتقدم أعلاه نجد أن المشرع قد توافقت نصوصه فيما يتعلق بضرورة إنشاء مجالس منتخبة محلية مع أركان مبدأ اللامركزية الإدارية الذي أوجبه الدستور، وحسناً فعل المشرع العراقي حين نص على محلية مرشحي هذه المجالس وجعلها من ضمن شروط الترشيح.
المطلب الثالث
الرقابة والاشراف على لامركزية المحافظات غير المنتظمة في إقليم
لاشك أن اللامركزية الإدارية تعني استقلال بعض الهيئات أو السلطات ببعض المسؤوليات والتصرفات المقرونة بالاعتراف لها بالشخصية المعنوية والاهلية القانونية والذمة المالية تجاه الغير، وهذا الاستقلال هو استقلال أصيل مصدره الدستور والقانون، بيد أن هذا الاستقلال كما أسلفنا ليس مطلقاً ولايعني قطع الصلة بين سلطات المركز والسلطات اللامركزية، حيث تبقى الرقابة على أعمالها وأعمال أعضائها من خلال السلطة المركزية أو من خلال ممثلين لها[41].
والرقابة والاشراف على التصرفات القانونية لمجالس المحافظات التي لم تنتظم في إقليم أشار لها دستور العراق لعام 2005 وقانون المحافظات رقم (21) لسنة 2008، عليه سنتناول هذه الرقابة في كلاً منهما في فرع مستقل.
الفرع الأول: الرقابة والاشراف على مجالس المحافظات في دستور العراق لعام 2005
كما هو معلوم أن الدستور هو من يحدد نطاق حدود كل سلطة ويبين كيف تتم الرقابة عند وجود مخالفة دستورية أو خروج عن المشروعية، وفي حالة الدولة اللامركزية فإن ثمة تقاسماً لسلطة الحكم والإدارة بين سلطات المركز والسلطات المحلية، فمن الضروري أن تكون هنالك رقابة على هذا التقاسم بموجب الدستور أو القانون[42].
ومن خلال استقراء ومراجعة نصوص الدستور العراقي من أجل البحث عن الرقابة والاشراف على مجالس المحافظات نجد أنه أعطى حيزاً لابأس به للسلطتين التشريعية والقضائية وبعضاً من الرقابة للسلطة التنفيذية، وهذه الرقابة قد نجدها في الدستور ذاته أو أنه أحالها لقانون لاحق.
فمجلس النواب يملك بموجب المادة (61) سلطة تشريع القوانين الاتحادية والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، فرقابة هذا المجلس ذات أهمية كبيرة لكونه هو من يشرع القوانين التي حددت اختصاصاته وآلية تكوينه وشروط العضوية فيه والاقالة منه، فضلاً عن أنه ممثل للشعب الذي بموجب المادة (5) من الدستور هو مصدر السلطات.
أما السلطة القضائية فنص المادة (93) واضحاً بأن المحكمة الاتحادية العليا هي صاحبة الاختصاص في النظر بعدم دستورية أي تشريع أو أنظمة أو تعليمات تصدر عن مجالس المحافظات، وكذلك هي الجهة التي تفصل في المنازعات التي تنشأ بين حكومة المركز ومجالس المحافظات الناشئة عن تطبيق القوانين الاتحادية أو المحلية، أو المنازعات التي تحصل بين تلك الحكومتين لأي سبب كان، ولاشك أن أحكام هذه المحكمة بموجب المادة (94) باتة وملزمة للسلطات كافة.
بيد أن دستور العراق أشار بصريح العبارة في المادة (112 / خامساً) على أن (لايخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو أشراف أية وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة)، وهذا النص يشير بصريح العبارة على عدم إخضاع مجالس المحافظات لرقابة أو أشراف الوزراء في الحكومة الاتحادية، فالدستور منع أي نوع من أنواع الرقابة أو الاشراف المباشر من قبل حكومة المركز على تلك المجالس.
ويرى بعض الفقه أن إخضاع السلطات المحلية لرقابة السلطة المركزية يعد دعامة أساسية من دعائم اللامركزية الإدارية، ومن ثم فإن إسقاط هذه الدعامة يعني بذلك سقوط اللامركزية الإدارية وبالتالي لامحل لوجودها[43]، بيد أن هناك رأي يشير الى أن الاستقلالية التي منحها الدستور للمجالس هي من أجل إنجاح عملها وإعطائها الحرية بالقدر الذي يلبي متطلبات العمل لإشباع حاجات المحافظة، وهذا لايعني ترك الباب مفتوحاً دون محاسبة أو مراقبة في حال مخالفة المجالس لواجباتها الإدارية أو المالية والتي تضر بسكان المحافظة[44].
عليه ووفق النص الدستوري أعلاه فأنه لا مجال لإيجاد أي وسيلة في القانون العادي كقانون المحافظات للرقابة أو الاشراف من حكومة المركز على مجالس المحافظات وهو خلاف ماتذهب إليه باقي الدول اللامركزية من إعطاء دور في الرقابة والتفتيش أو التصديق السابق أو اللاحق لأعمال السلطات اللامركزية[45].
ومما تقدم نعتقد أن المشرع الدستوري خالف المبادئ العامة للامركزية الإدارية المتعارف عليها في إقرار رقابة وإشراف حكومات المركز، ولم يكن موفقاً عند النص في المادة (122/خامساً) على منع خضوع مجالس المحافظات لرقابة وإشراف حكومة المركز بأي صورة من الصور المتعارف عليها أعلاه لكون السلطة التنفيذية في المركز هي أعرف بتفاصيل تنفيذ القوانين وأكثر إحتكاكاً مع المجتمع كما هو حال مجالس المحافظات ومحافظيها، وبالتالي فإن رقابة السلطات التشريعية أو القضائية لاتؤتي أُكلها كرقابة وأشراف حكومة المركز.
الفرع الثاني: الرقابة والاشراف على مجالس المحافظات في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008
نص قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم على جملة من النصوص التي تشير على وجه التأكيد على وجود الرقابة والاشراف على مجالس المحافظات، بيد أننا لابد أن نوضح ما وجه الرقابة أو الاشراف على تلك المجالس وأي السلطات هي التي تمارسها.
أولاً: رقابة مجلس النواب/ مجلس المحافظة يخضع عند ممارسته لاختصاصاته لرقابة مجلس النواب إستناداً لنص المادة (2 / ثالثاً – رابعاً) من قانون المحافظات، ويكون مسؤولاً عن كل ماتتطلبه إدارة الوحدة الإدارية وفق مبدأ اللامركزية الإدارية.
ومن المظاهر البارزة لرقابة مجلس النواب هي منحه حق حل هذه المجالس بالأغلبية المطلقة للمجلس فنصت المادة (20) على أن (لمجلس النواب حل المجلس بالأغلبية المطلقة لعدد اعضائه بناءً على طلب من المحافظ أو طاب من ثلث عدد أعضاءه أذا تحقق أحد الاسباب....)، فهذا بلا شك سلاح لايستهان به بيد السلطة التشريعية تستطيع استخدامه عند الحاجة لاستخدامه لأي سبب من الاسباب الواردة في المادة أعلاه، عليه بات لزاماً على مجالس المحافظات احترام قواعد الدستور والقوانين النافذة وبخلافه فإن حل هذه المجالس يغدو واجباً.
ويثار التساؤل هل يستطيع أعضاء مجلس النواب سؤال واستجواب أعضاء مجالس المحافظات التي لم تنتظم في إقليم؟
نُجيب على التساؤل بالقول أن الدستور لم ينص على جواز هذا الاجراء من عدمه وكل ماتم النص عليه في اختصاصات مجلس النواب في المادة (61) هو آلية مساءلة واستجواب الوزراء ورئيس الوزراء، بيد أن هذه المجالس مادام أنها مسؤولة أمام مجلس النواب فبالتأكيد تستطيع مساءلة واستجواب الاعضاء في مجلسها، والا ما آلية توجيه المسؤولية إن لم نفسح المجال للتساؤل والاستجواب، فنعتقد بجواز التساؤل والاستجواب من قبل مجلس النواب لأعضاء مجالس المحافظات إستناداً للنصوص التي تقرر مسؤولية الاخيرة أمام السلطة التشريعية.
وهناك من يطرح تساؤلاً آخر مفاده هل أن الرقابة التي يمارسها مجلس النواب رقابة مشروعية أم ملائمة؟ ويجيب بأن الاخير يمارس كلا الرقابتين فهو يستطيع الاعتراض على قرارات مجالس المحافظات إستناداً لنص المادة (20 / ثانياً /أ) إذا كانت مخالفة للدستور أو القوانين النافذة وهذه رقابة ملائمة، وفي حالة عدم إزالة المخالفة فلمجلس النواب إلغاء القرار بالأغلبية البسيطة وهذه رقابة المشروعية[46]، أي بعبارة أخرى فان الرقابة ممكن أن تنصب على الاعتراض على التصرفات القانونية ويمكن أن تتطور الرقابة للإلغاء وقد يتم اللجوء للحل كما بينا مسبقاً.
ثانياً: رقابة القضاء/ تتمحور رقابة القضاء في الطعون المقدمة أمام محاكمه عند النظر فيها وفقاً للقانون أو الدستور، فكما بحثنا في الفرع الاول فإن المحكمة الاتحادية ممكن أن تكون رقيباً على هذه السلطات اللامركزية وفقاً للدستور، وفي قانون المحافظات فإن بعد التعديلات التي أجريت على هذا القانون فإن محكمة القضاء الإداري هي من تفصل في النزاعات التي تحصل عند أتخاذ بعض القرارات كإقالة رئيس وأعضاء المجالس أو إقالة المحافظ لأي سبب من الاسباب القانونية، والتي يقع على عاتق القضاء تحديد وجود السبب كتحديد وقوع الاستغلال الوظيفي أو عدم النزاهة أو التسبب بهدر المال العام أو فقدان أحد شروط العضوية، فإثبات وجود هذه الاسباب أو هذه الجرائم يقع على عاتق المدعي أمام القضاء الذي يشرف ويراقب على مشروعية أو ملائمة هذه القرارات للدستور أو القوانين النافذة.
ثالثا: رقابة الحكومة الاتحادية/ تعد هذه الرقابة من أهم أنواع الرقابات التي تمارس على السلطات اللامركزية في الدول التي تتبع هذا النظام، ويمكن أن تتخذ عدة حالات منها التصريح أو الاذن المسبق، أو التصديق على الاعمال أو إلغاء القرارات أو إيقافها، أو الحلول محلها[47].
وتأكيداً على ماتم بحثه مسبقاً فإن المشرع الدستوري قد منع في المادة (122/خامساً) إخضاع مجالس المحافظات لسيطرة أو أشراف أي وزارة أو أية جهة غير مرتبطة بوزارة، وبالتالي فإن طرق الرقابة أعلاه والمعهودة في الدول ذات نظام اللامركزية الإدارية لايمكن اللجوء إليها بمقتضى الدستور.
الخاتمـــــــــــــة
في نهاية بحثنا لايسعنا الا أن نختم بحثنا بأهم النتائج التي تم التوصل إليها، ونتطرق للتوصيات التي نرى ضرورة الاخذ بها من قبل المشرع.
أولاً / النتائج:-
1. توصلنا الى أن المشرع الدستوري العراقي خلط بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية حينما أعطى اختصاصات دستورية للمحافظات غير المنتظمة بإقليم مشابهة ومساوية الى حد ما لاختصاصات الاقاليم، ونجد أن هذا لايتوافق مع مبادئ اللامركزية الإدارية، حيث أن المبادئ الاخيرة يُنص عليها في القوانين العادية في حين أن اختصاصات الولايات والاقاليم يُنص عليها في الدستور.
2. نجد أن المشرع العراقي قد اعترف بجملة من المصالح المحلية في دستور 2005 وقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل وهي ذات أثر فعال في تسيير شؤون تلك المحافظات إداريأ وماليأ، بيد أنه تمادى في الاعتراف بهذه المصالح حين أعطى الاولوية لتلك المصالح المحلية في المادة (115) من الدستور على حساب المصالح الوطنية بالنص على تغليب قانون الاقاليم والمحافظات على القانون الاتحادي عند التعارض بينهما.
3. حسناً فعل المشرع الدستوري في العراق حين نص في صلب الدستور على أن يتم انتخاب مجالس المحافظات ونظم أحكام الانتخاب بقانون خاص، وصدر القانون العادي لينص في أحكامه على أن يكون المرشحين من سكنة المحافظة، وهذا اجراء يحسب للمشرع العادي حينما ساير المشرع الدستوري والعادي المبادئ العامة للامركزية الإدارية وظهرت متوافقة معها ومع مايذهب إليه الفقه الإداري.
4. المشرع الدستوري خالف المبادئ العامة للامركزية الإدارية المتعارف عليها في إقرار رقابة وإشراف حكومات المركز من تصريح وإقرار مسبق أو تصديق لاحق، ولم يكن موفقاً عند النص في المادة (122/خامساً) على منع خضوع مجالس المحافظات لرقابة وإشراف حكومة المركز بأي صورة من الصور المتعارف عليها، وبالتأكيد فالمشرع العادي في قانون المحافظات لسنة 2008 لم ينص على جواز من الرقابة والاشراف إلتزاماً منه بنص الدستور أعلاه.
5. عدم النص على عدم إخضاع مجالس المحافظات لرقابة وأشراف أية وزارة لايمنع من رقابة مجلس النواب سواء بالمسائلة أو الاستجواب أو حل هذه المجالس بالأغلبية المطلقة.
6. مجالس المحافظات تخضع لرقابة القضاء من خلال المحكمة الاتحادية العليا التي تراقب على دستورية القوانين والانظمة والتعليمات وفض النزاعات بين سلطات المركز والمحافظات أو الأقاليم والحافظات التي لم تنتظم في إقليم، وتراقب أيضاً من خلال محكمة القضاء الإداري التي تنظر بالطعون المقدمة امامها من المجالس أو أحد أعضائها أو من المحافظين عند الاقالة أو مخالفة الدستور أو القوانين أو أي سبب قانوني آخر يتيح الطعن بالقرارات أمام القضاء الدستوري أو الإداري.
ثانياً / التوصيات:-
1. نوصي المشرع الدستوري بأن يرفع الخلط بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية لان اختصاصات المحافظات غير المنتظمة في إقليم وفق مبدأ اللامركزية الإدارية يجب أن ترد في قانون عادي وهو قانون المحافظات رقم 21 لسنة 2008، وإزالة الخلط يتم من خلال تعديل كل النصوص التي تضع المحافظات على قدم المساواة مع الاقاليم في بعض الاختصاصات الدستورية، كما في الاختصاصات الواردة في نصوص المواد (113 – 114 – 121) من دستور 2005.
2. نوصي المشرع الدستوري أيضاً بتعديل نص المادة (115) من دستور 2005 والمادة (2 / سادساً) من قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم من خلال جعل الاولوية عند التعارض بين قوانين المركز والمحافظات لقانون المركز، لان بقاء النص على ماهو عليه إنما يدل على محاباة المصلحة المحلية على حساب المصالح الوطنية وهذا مخالف وغير متوافق مع مبدأ اللامركزية الإدارية.
3. نوصي المشرع الدستوري بتعديل نص المادة (122/خامساً) التي لاتُخضع مجالس المحافظات غير المنتظمة بإقليم لسيطرة أو أشراف أية وزارة أو جهة غير مرتبطة بوزارة والنص على خضوعها لإشراف الوزارات والهيئات الرقابية كديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والنص في قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم على أن تشرف تلك الوزارات من خلال ممثلين لها في مجالس المحافظات وترفع تقاريرها كل حسب وزيره المختص ومن ثم لمجلس الوزراء أن اقتضى الامر ذلك، مع الابقاء على عدم سيطرة تلك الوزارات والهيئات المستقلة على مجالس المحافظات حفاظاً على استقلالها وعدم خضوعها لحكومة المركز، أي أن الامر يقتصر على الاشراف والرقابة دون تدخل في اجراء يُذكر، وهذا من أجل التوافق مع ماذهبت إليه مبادئ اللامركزية الإدارية من إرساء دعائم الرقابة الإدارية فضلاً عن رقابة مجلس النواب والقضاء.