موقف مالك بن نبي من الحوار الحضاري مع الغرب
مجلة الكلمة
2019-08-28 04:15
بقلم: الدكتورة نعيمة إدريس/المدرسة العليا للأساتذة، قسنطينة، الجزائر
تمهيـــــد
إن حوار الحضارات كمفهوم وسلوك بات يفرض نفسه بحكم الاختلاف والتباين بين الشعوب، وبرز بقوة عقب أحداث 11 سبتمبر التي وضعت المسلمين في الواجهة أمام العالم كمصدر للتهديد العالمي، لتؤكد نبوءة هنتنغتون والمستشرقين المعادين للإسلام والعرب على حد سواء، الداعين إلى إقامة قطيعة معهم، وجعلهم العدو الأول والأخير المناهض لتطلعاتهم المستقبلية، والحائل دون تحقيق أهدافهم.
فرض هذا على المسلمين التحرك للدفاع عن أنفسهم ككيان يناهض العنف، ويدعو إلى الحوار مع الآخر، أيًّا كان دينه أو توجهه أو عرقه، في قالب يتسم بالوسطية والشمول وبالعمق.
إن الصراع مهما كانت مبرراته يعتبر حالة عارضة في مسيرة التاريخ الإنساني، وقوى الخير تغالب قوى الشر وتنتصر عليها في نهاية المطاف، كذلك الصراع دعوة إلى الشر ومصدر له، بينما الحوار بين الحضارات دعوة إلى الخير ومصدر للسلم والتعايش في جميع الأحوال.
عالم اليوم يقف على مفترق طرق، تتقاذفه أمواج العولمة العاتية، وتتجاذبه فكرة صراع الحضارات التي أصبحت مبعث ذعر على الصعيد العالمي، ومصدر تهديد للشعـوب والأمم والحكومات والدول، وبهذا فالحوار ضرورة فرضتها الأوضاع، بالرغم من وجود عوائق تحول دون تحقيق هذا الحوار، المتمثلة في النظرة الدونية للآخر، إلا أن هـذا لم ينل من عزيمة الشعوب في تحقيق آمالها والوصول إلى تطلعاتها.
لقد صار من الضروري فتح باب الحوار مع الدول والمجتمعات الغربية من أجل تصحيح الأخطاء، وبعث فرص التعاون والتكامل والتعايش حتى يتم الانتقال من حالة الصراع إلى حالة الحوار والاستقرار.
وهنا نود التحدث عن موقف مفكر عالمي الأبعاد، إنساني الروح إلى أبعد ما تكون الإنسانية معطاءة، إنه مالك بن نبي الذي عرف بتناوله لمشكلات الحضارة واهتمامه بموضوع نهضة العالم الإسلامي، لكنه كان يدرك أن عالمنا الإسلامي لا ينبغي له أن يعيش في عزلة بعيدًا عن مجرى ما يحدث في الضفة الأخرى، ضفة ما نسميه العالم الغربي والحضارة الغربية، من الضروري أن ينخرط المسلم في عالم اليوم ويقدم خطابه ويسمعه للآخر ويضع بصمته، شرط أن يكون مزودًا بالآليات التي تمكنه من تحقيق ذاته في عالم قوي تكنولوجيًّا وماديًّا عالم يحتدم بالتحديات التي تتطلب الكثير من الوعي والعمل الجادين.
ولتحقيق الصعود أو الإقلاع الحضاري كما يسميه مالك بن نبي لا بد من عامل الثقافة، وثقافة النخبة الفاعلة لتحريك الأمة في عالم اليوم الذي بات غربي الملامح.
من هنا كان مالك بن نبي من المؤيدين للحوار مع الغرب دون أي عقد نقص، بل ومن السباقين أيضًا فقد ناصر فكرة الحوار قبل أن تظهر الأحداث التي دعت إليها كضرورة ملحة، وهذا يعود إلى عدة عوامل منها دراسته ومعايشته العميقتين للغرب مما مكنه من معرفة قيمه الإيجابية والسلبية، هذا ما نحاول التطرق إليه تفصيلًا.
أولًا: حوار الغرب مع المسلمين.. من الصراع إلى الحوار
يلاحظ المتتبع لموضوع الحوار أنه في العقود الأخيرة من القرن العشرين صدرت دراسات كثيرة حول علاقة الشرق بالغرب ونوع ومستقبل العلاقات بين الحضارات، وفي هذا السياق تعتبر فكرة صدام الحضارات التي جاء بها صاموئيل هنتنغتون من أخطر النظريات الصدامية التي أنتجها المفكرون الغربيون لما تحمله من أفكار عنصرية اتجاه الحضارات الأخرى وخاصة الحضارة العربية الإسلامية، وبالأخص الدين الإسلامي، وحسب قول هنتنغتون: «المشكلة الأساسية بالنسبة للغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام، فهو حضارة مختلفة، أفرادها مقتنعون بسمو ثقافتهم ومهووسون بضعف قوتهم»[1].
وبهذا أرجع هنتنغتون أسباب اتساع الهوة بين الحضارات إلى الدين والتاريخ واللغة، في احتكاكها مع بعضها، بالإضافة إلى عوامل أخرى، كتأثير التغيرات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية على الهويات القومية والوطنية، مما ولد الرغبة في صيانة هذه الهويات ضد الاختراقات الأجنبية[2]، يقول هنتنغتون: «إن أكثر الصراعات انتشارًا وأهمية وخطورة لن تكون بين طبقات اجتماعية غنية وفقيرة، أو جماعات محددة على أسس اقتصادية، ولكن بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة»[3].
وبناء على هذا التحليل يصنف هنتنغتون طبيعة هذه العلاقات القائمة بين الغرب والحضارات الأخرى إلى ثلاث تصنيفات، متخذًا صفة العداء كمعيار تقوم عليها، وهي:
الحضارات المتحدية: وتشمل الحضارة الإسلامية والصينية.
الحضارات المتأرجحة: وهي الحضارة الروسية واليابانية والهندوسية.
الحضارات الضعيفة: وهي حضارات أمريكا اللاتينية وإفريقيا[4].
وفي محاولة استشرافية يتوقع هنتنغتون نوع العلاقة بين هذه الحضارات مثلًا: الحضارة الكونفوشيوسية الصينية قد تتحد مع الحضارة الإسلامية ضد الحضارة الغربية، هذا ما يؤكده في قوله: «إن المجتمعات الإسلامية والصينية ترى الغرب عدوًّا لها، ولهذا لديهما السبب للتعاون مع بعضهما البعض ضد الغرب مثلما فعل الحلفاء وستالين ضد هتلر»[5].
غير أن هذه الصورة العدائية للإسلام والدعوة إلى الصدام معه لم تكن مقترنة بهنتنغتون وحده، بل اقترنت كذلك بمجموعة من المستشرقين كان هدفهم منذ البداية، الحيلولة دون تسرب مبادئ القرآن وأفكاره إلى شعوبهم فتفقد التوراة والإنجيل مصداقيتهما، بالإضافة إلى هذا التقليل من قيمة القرآن وإضعاف مكانته في قلوب المسلمين من أجل تنفيذ مخططاتهم الغربية. وهذا ما أكد عليه وليام إيوارت جلادستون حين قال: «ما دام هذا القرآن موجودًا فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق وأن تكون في أمان»[6].
ومن أجل الوصول إلى هذين الهدفين عمدوا إلى دراسة القرآن الكريم دراسة شاملة لاكتشاف خباياه واستقصاء موضوعاته من أجل القضاء على الإسلام، وهذا ما يشير إليه جون تاكلي بقوله: «يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضي عليه تمامًا يجب أن يتبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديدًا وأن الجديد فيه ليس صحيحًا»[7].
كذلك نجد غوستاف فون غرونيوم، وهو واحد من هؤلاء المستشرقين المعادين للإسلام والعرب على حد سواء، ينظر إلى العرب نظرة دونية، فهم عنده بلا ثقافة، وأن ثقافتهم لم تقدم أي إسهام نظري في المعرفة، وأن دينهم غير خلّاق، غير قادر على التطور، استبدادي ومناهض للإنسانية. ولهذا فهو يتهم العرب بأنهم غير قادرين على التغير وعلى فهم طبيعتهم وتاريخهم، وأنهم يتميزون بالخمول والسلبية، لذلك فإن علاجهم الوحيد هو تلقي الإشارة من الغرب المتطور[8].
في حين ورد في كتاب حول العرب في التاريخ لصاحبه برنارد لويس، أن الحضارة العربية هي غير عربية، وأن العرب ليس لديهم حضارة، كما يرى في كتابه حول الشيوعية والإسلام أن الإسلام ذو طبيعة استبدادية عدوانية، وأنها خصائص مشتركة بين الشيوعية والإسلام»[9].
ودون أن نطيل مع موقف هنتنغتون المتشائم والعدائي وأنصاره نحو الإسلام والمسلمين، نجد في مقابل هذا الموقف المتعصب تيارًا منفتحًا معتدلًا، يدرك جيدًا أهمية الحوار الحضاري والتواصل الفكري مع الآخر، يصبو إلى ربط جسور الصداقة والتفاهم، فعالم الغد مهما كانت الحضارات متباينة فيه، يجب أن يكون عالمًا للتعاون وليس للصراع، ولا يمكن إقامة تعاون مخلص إلا إذا اعترف الجميع بحق كل واحد مهما كان وضعه، كحضارة وكشعب بحق العيش الحر الكريم دون تدخل خارجي[10]، إذ أشار المستشرق سان سيمون في كتابه «علم الإنسان» إلى الدور الذي لعبه المسلمون في بناء الحضارة الإنسانية المختلفة لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوروبا الحديثة»[11].
أما أوجست كونت فقد أدرك قدرة الإسلام في التعامل واحتواء جميع العقول والفلسفات والأفكار الإنسانية، وعبر عن ذلك بقوله: إن عبقرية الإسلام وقدرته الروحية لا يتناقضان البتة مع العقل كما هو الحال في الأديان الأخرى، بل ولا يتناقضان مع الفلسفة الوضعية نفسها؛ لأن الإسلام يتماشى أساسًا مع واقع الإنسان كل إنسان، بما له من عقيدة مبسطة ومن شعائر عملية مفيدة.
ومع الحاجة الملحة إلى الحوار بين الحضارات، جاءت نتاج مخلفات وتحديات العولمة، وما ولدته من أفكار وسلع وخدمات عبر البلدان وبين الشعوب، ونزوعها نحو توحيد العالم في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية، وهو لا يخلو من المخاطر، فأثار هذا حفيظة الدول العربية إلى عقد مؤتمرات الغرض منها النظر في العولمة لدرء خطرها.
وجاءت الرغبة إلى الحوار أيضًا نتيجة يأس الإنسان المعاصر من الوصول إلى أهدافه المشروعة أو غير المشروعة عن طريق العنف، ولم تكن نتيجة لميل أو تطور طبيعي حميد في عقلية الإنسان المعاصر، فقد خاض حربين عالميتين لتحقيق أطماعه ولم ينل منها إلا الدمار والخراب[12].
فالحوار الحضاري يستند إلى معايير بعيدة عن منطق القوة والغرور والهيمنة، فالحضارة تتعرض للزوال والاندثار حينما تكون الحروب قانون الحياة الأساسي، لكنها «تتوهج إشعاعًا حينما يكون الدفاع عن الحوار دفاعًا عن القيم الحضارية الإنسانية عمومًا»[13].
ما من تاريخ أكد أن الحرب هي حل للصراع والنزاع، وما من تاريخ يؤكد أن استمرار الحضارات وتفاعلها يكون بالصراع، ولكن يثبت بأن الشعوب والحضارات لن تتواصل ولن تستمر إلا بالحوار والحوار وحده.
ثانيًا: حوار المسلمين مع الغرب.. موقف مالك بن نبي
كما أسلفنا فإن آراء الغرب تجاه العرب والمسلمين والدعوة إلى الحوار معهم كانت بين رافض متعصب وداعٍ متسامح إلى ذلك، الآراء نفسها نجدها في عالمنا الإسلامي، فالموقف المحافظ والمتعصب يرى في قبول الحوار مع الغرب المسيحي العلماني خطورة تؤدي إلى فقدان الدين والهوية؛ باعتبار الغرب أقوى منا، بل قبول الحوار عنده خيانة وانخراطًا في المؤامرة ضد الإسلام.
أما الموقف المؤيد يرى في الحوار عودة إلى سنة حميدة من سنن الإسلام، كما يترجم إيجابية المسلم التي تسمح بالاطِّلاع على ثقافة الغرب والتعرف إلى نقاط القوة والضعف فيه، مدركًا أهمية الحوار الحضاري والتواصل الفكري مع الآخر في تعزيز الإسلام حتى لا يبقى منزويًا بعيدًا عن مجرى الأحداث[14].
ومن هؤلاء الداعين للحوار مفكرنا مالك بن نبي، الذي سعى بكل موضوعية وجدية وعقلانية إلى ربط جسور الصداقة والتفاهم والتعامل الطيب بين العالم الإسلامي والغرب، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: ترى ما هي المميزات التي يتوفر عليها مالك بن نبي والتي مكنته من امتلاك هذه الرؤية الراقية الحضارية المتسامية نحو الحوار مع الغرب وكل الشعوب الأخرى، دون أن يفرط قيد أنملة في هويته ومقوماته ودون أن يتملق الآخر أو يغض الطرف عن عيوبه ومآخذه؟
1- بن نبي تجربة حياة تشجع على الحوار
إن مالك بن نبي المولود في مدينة قسنطينة في 1905 والابن الوحيد في أسرته، والذي تلقى تعليمًا لا بأس به بالجزائر، وبعد إنهائه دراسته الثانوية توجه إلى فرنسا بغرض الدراسة فيها، وفي عام 1930 سافر مرة أخرى كي يدرس الحقوق في معهد الدراسات الشرقية ولكنه لم يوفق في دخول هذا المعهد، وهناك تعرف إلى جمعية اسمها «الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين» فانتسب إليها وكان المسلم الوحيد فيها، حيث تعرف إلى الوجه الثقافي أولًا، وبعدها تعرف إلى الوجه التكنولوجي للحضارة الغربية من خلال متحف الفنون والصناعات حيث درس الكيمياء التطبيقية فيه[15].
تزوج مالك من امرأته الأولى الفرنسية بعد أن أعلنت إسلامها وكان لها الأثر الكبير في حياته، يقول: «أتصور أن الأقدار التي سخرتني كوسيلة تعرفت خديجة بواسطتها على الإسلام، قد سخرها هي لأتعرف بواسطتها على الوجه الأصيل للحضارة الفرنسية»[16].
من هذه التجارب -التي عاشها وعايشها على حلوها ومرها- تشكلت الرؤية الإيجابية لمالك بن نبي نحو الحوار، رؤية سوف تتبلور بكل ما تربى عليه واكتسبه ابتداءً من تعلُّمه للقرآن الكريم في الكُتَّاب، ومن معاناته مع المحتل الفرنسي، إلى رحلاته إلى فرنسا والتي تُوِّجت بدراسته واحتكاكه بالآخر، بل وزواجه من فرنسية هناك، كلها عوامل مكنته من استنباط وصياغة رؤيته نحو التفاعل الحضاري الإنساني والذي لا يمكن أن يتحقق دون توفر شرط أساسي يعول عليه بن نبي كثيرًا والمتمثل في الثقافة.
2- الثقافة شرط الرؤية الحضارية العالمية
يعول مالك بن نبي على عامل الثقافة في تفعيل الحوار الحضاري الإنساني، لهذا يولي موضوع الثقافة أهمية بالغة في مشروعه الحضاري، أو علاجه لما أسماه بمشكلات الحضارة.
يرى مالك بن نبي أن موضوع الثقافة من أهم المواضيع التي يجدر بالمثقف أن يشتغل بها بشكل خاص، لأن أي إخفاق يسجله المجتمع في إحدى محاولاته، إنما هو التعبير الصادق على درجة أزمته الثقافية، بهذا تكون الثقافة عند ابن نبي «مجموعة الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريًّا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه»[17].
وبناء على هذا التعريف للثقافة «فهي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته... الذي يعكس حضارة معينة والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر، وهكذا نرى هذا التعريف بين دفتين فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي معطيات الإنسان ومعطيات المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد»[18].
كذلك يؤكد مالك بن نبي أن الثقافة التي ينشدها الفكر الإسلامي ثقافة إنسانية شاملة، مستمدًا ذلك من عالمية رسالة الإسلام، وهذا ما تقرره نصوص الوحي مثل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[19].
إلا أن الثقافات الموجودة والمهيمنة اليوم ثقافات تفتقد للبعد الإنساني، بل هي استعلائية استلابية مبنية على مرجعيات لا تجعل للوحي وزنًا، وهذا طبيعي لأن جذورها المعرفية تدل على فلسفتها المادية السلطوية العنصرية، فهي الغرس من الخارج بعد تفريغ الداخل، وليست ذاتية المصدر، جوانية المنبع، لهذا فإن التعامل معها يكون تعامل مستفيد يميز بين الصالح والطالح.
على نقيض ذلك العالم الإسلامي -في اعتقاد مالك بن نبي- انتظمت حياته عن طريق الربط بين المغرب والمشرق بفكرة الثقافة، والتي تجمع في ردائها قيم الفكر والتقاليد والعادات، مؤكدًا هذه الصلة الموجودة عن طريق المناقشات التي دارت رحاها بين كل من الغزالي في المشرق وابن رشد في الأندلس بالرد والتمحيص[20].
إن الواقع العربي الإسلامي تراجع عن دوره الحضاري الريادي السالف، ومن ذلك دور المثقف العربي الذي -حسب مالك ابن نبي- لم يشهد هذا التراجع والانفصام في حياته إلا بعد انحراف النظام العربي وسقوطه في فخ علمانية الغرب على مستوى نظام الحكم، والنتيجة هي تغرب المثقف باعتباره الممثل الأول لمرجعية الأمة، والحارس الأمين لقيمها الثقافية، والبديل الذي يقدمه ابن نبي لهذا الاغتراب ضرورة وجود صلات حميمة بين النخبة المثقفة وفئات معينة من المجتمع القادر على الاضطلاع بمهمة التدعيم المادي لنشاط الفكر[21].
من جهة أخرى يحلل مالك بن نبي بعمق وينتقد نظرة المثقف العربي الخاطئة في تقدير المدنية الغربية وانبهاره بها، موضحًا بقوله: «وليس من شك في أن نظرات المثقفين إلى المدنية الغربية لمؤسسة على غلط منطقي؛ إذ يحسبون أن التاريخ لا يتطور ولا تتطور معه مظاهر الشيء الواحد الذي يدخل في نطاقه... إن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة... وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية التي أنتجت الحضارة الغربية من عهد شارلمان؟ ولسوف تصل في النهاية إذا ما تتبعنا كل مدني من مظاهر الحضارة الغربية إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة»[22].
بهذا التحليل يكون مالك بن نبي قد شخّص العلة أو وضع يده على مربط الفرس كما يقال، قارن بين الفكرة والمادة، مؤكدًا أهمية الروابط الدينية في وسم أيَّة حضارة كانت.
من هنا فإن المثقف المسلم حسبه ملزم أن يعي حقيقة الأشياء والأفكار، وأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي[23]. كما يعتقد ابن نبي أن عالم الأشخاص لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعال إلا إذا انتظم وتحول إلى تركيب اجتماعي، فالفرد المنعزل حسب رأيه لا يمكن أن يتقبل الثقافة ولا أن يرسل إشعاعها، وكذلك الأفكار والأشياء لا يمكن أن تتحول إلى عناصر ثقافية إلا إذا تلاقت أجزاؤها وأصبحت تركيبًا، فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبدًا[24].
ما يمكننا الوقوف عليه أن مالك بن نبي يرى ويؤكد أن من بواعث الحوار الحضاري الانفتاح على العالمية، الانغلاق والعزلة مجافيان لطبيعة الإسلام الحركية الاتصالية المتطلعة للقاء والتعارف، كما أن التقدير السليم للأمور والأفكار يتطلب أكبر قدر من الانفتاح على العالمية. يقول مالك بن نبي محللًا: «فالضمير الإنساني الذي لم يألف العمل على حدود الثقافات تسيطر عليه عادات جذبية مزمنة تحمله على أن يرى الأشياء من زاوية ضيقة»[25]، وهذه النظرة تحرمه من التواصل الحضاري وممارسة دوره الثقافي والحضاري الإنساني.
إذن من الضروري ومن الأولويات بالنسبة للمجتمع المسلم أن يتخلص من النفسية الانعزالية الموروثة عن قرون الانحطاط، حتى يثبت حضوره في العالم ولا سيما عندما يؤلف الطبقة المثقفة في البلاد[26].
كما لا يغفل مالك بن نبي دور القيم الأخلاقية في تيسير التفاعل الثقافي الإنساني، فالأخلاق هي التي تقوم بوظيفة ربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض بأواصر المحبة والتعايش، ودون قيم التسامح وتقبُّل الآخر لا يمكننا تأسيس أي بناء ثقافي الذي هو عماد أي بناء حضاري، ومسؤولية المسلم مضاعفة في هذا المقام.
ثالثًا: المسلم الشاهد الحضاري ومسؤولية إنقاذ الآخر
يوضح ابن نبي دور المسلم من خلال المنهج القرآني، أن اختيار المسلم يفترض أن يكون ضمن ما اختاره له الله سبحانه وتعالى ولا يخرج عنه، وذلك في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[27]، وبهذه الآية يحدد الله دور المسلم بعامة، وليس لنا أن نختار له دورًا أشرف وأفضل منه، وإنما نلفت النظر إلى خطورة هذا الدور وإلى مقتضياته[28].
فالمسلم كونه إنسانًا معاصرًا للناس، شاهد عليهم بالتقوى والورع بنزاهة الشاهد الصادق الخبير الواعي لقيمة شهادته، إذا أتى المسلم هكذا في صورة الإنسان المتحضر الذي اكتملت حضارته بالبعد الذي يضيفه الإسلام إلى الحضارة وهو بعد السماء، عندئذٍ ترتفع الحضارة كلها إلى مستوى القداسة أي إن الوجود الذي فقد القداسة في القرنين الأخيرين خصوصًا في هذا القرن تعود إليه قداسته، لأن القداسة من الله وحده، ولا شيء يعطي القداسة لهذا الوجود غير الله[29].
إن دور المسلم كفاعل وشاهد (حضاري) هو اشتراك مزدوج يفرض عليه التوفيق بين حياته المادية الروحية ومصائر الإنسانية، لكي يقوم بدور فعال في حركة التطور العالمي ينبغي أن يعرف العالم، وأن يعرف نفسه، وأن يعرف الآخرين بنفسه، فيشرع في تقويم قيمه الذاتية إلى جانب تقويمه لما تملكه البشرية من قيم[30].
إن العالم كله يعيش في حالة يطلق عليها ابن نبي حالة طوارئ، فالبشرية في شقاء مادي وروحي، وهذه الحالة تتطلب الإنقاذ، إنقاذ الذات وإنقاذ الآخرين، فهذه هي رسالة المسلم، وإنه بفضل إسلامه لا غير، يستطيع اليوم إنقاذ الإنسانية المتورطة في الضياع رغم علمها، ولكي يقوم برسالته لا بد من تحقيق أمرين: الاقتناع والإقناع، وأول الإعجاز هو الاقتناع؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وذلك بأن يقتنع المسلم بأن له رسالة لا بد من تبليغها، ثم يقوم بعد ذلك بإقناع الآخرين، و لا يتوفر ذلك إلا بتغيير ما في داخل المسلم في أغوار نفسه وحول المسلم في محيطه الخاص أو في محيطه العالمي وهذا شرط جوهري لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[31].
إذن لكي يتحقق التغيير في الواقع المحيط لا بد أن يتحقق أولًا في أنفسنا، و لكي يتحول التغيير إلى واقع عملي يفي بمهمة الإنقاذ فيجب على كل مسلم أن يحقق شروطًا ثلاثة:
* أن يعرف نفسه.
* أن يعرف الآخرين.
* أن يعرف الآخرين بنفسه.
إذ لا يجوز له أن يجهل ما في نفوس الآخرين، ولا أن يشعر بأنه أعلى منهم، بل عليه أن يعلم ما في نفوس الآخرين ليتقي شرهم وليخاطب جانب الخير فيهم، ولتبليغهم برسالة الإسلام، بالحكمة والقدوة الحسنة، في حين يتم تعريفه للآخرين بنفسه عن طريق التغلب على رواسب التخلف والتأخر وإعطاء صورة محببة كما جاء بها الإسلام، وإذا استطاع تحقيق هذه الشروط فهو بذلك يقوم بإنقاذ الإنسانية من الأزمة الراهنة التي تعاني منها، ويستطيع أن يرتفع إلى مستوى الحضارة من جديد[32].
وقد أكد مالك بن نبي على هذا الدور المنوط بالمسلم من خلال المسلمين الأوائل في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبالرغم من قلة عددهم وعدتهم استطاعوا أن ينقذوا الإنسانية، فقد كانوا يعلّمون الآخرين ويخاطبونهم بأنهم أتوا لإنقاذهم لأنهم لم يكونوا يشعرون بمركب النقص أو الانهيار أمام التفوق المادي الذي كان عند الفرس والروم، بل إنهم كانوا يشعرون أمام الإمكانيات الحضارية الكثيرة بإرادة حضارية تفوق كثير منها ما لدى المجتمعات المتحضرة في ذلك العصر[33].
هذا هو الأساس الأخلاقي في الإسلام، الذي يعتمد منهج التغيير الذي يحقق النهضة وليس الوعظ النظري فقط، من ذلك ما قام به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ومن ثمة ميلاد أول مجتمع إسلامي أصبح كجسد واحد، يقول ابن نبي: «قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام ولكن أي إسلام؟ الإسلام المتحرك في عقولنا وسلوكنا والمنبعث في صورة إسلام حركي، وقوة التماسك هذه تؤلف النهضة المنشودة وفي يدها ضمانا لذلك تجربة طويلة وحضارات ولدت على أرض قاحلة وسط البدو ورجال الفطرة والصحراء».
وبهذا أعطى مالك بن نبي للإسلام الدور الفعال، وكذلك للدور المنوط بالمسلم إلى إقامة الحوار الفعلي بين الحضارات على أسس من الأخوة والصداقة والتبادل الفعال، يقول مالك بن نبي: «وما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثر خلاق إلا إذا قامت على أساس المؤاخاة بين المسلمين لا على أساس الأخوة الإسلامية، وفرق بين المؤاخاة وبين الأخوة، فإن الأولى تقوم على فعل ديناميكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات، والمؤاخاة الفعلية هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي مجتمع المهاجرين والأنصار»[34].
رابعًا: مالك بن نبي وصور الغرب
مما لا شك فيه أن مالك بن نبي كانت لديه العديد من المواقف اتجاه الغرب منها موقفه من فكرة الفصل بين العلم والضمير، وحسبه من كانت تلك أحواله فهو لا يصلح أن يكون مصدرًا لغيره أو قدوة يستأنس بها أثناء الانطلاق، إلا أن هذا لا يعني أنه لم تكن لديه مواقف أخرى اتجاه الغرب ولم يقبل من الغرب أفكارًا أو أشياء، بل إن مواقفه تنوعت بتنوع الصور التي كان يلتقطها للغرب[35].
في مؤلفات مالك بن نبي نجد نماذج متعددة للغرب يمكن اختزالها في ثلاثة أنواع رئيسية:
أولًا: الغرب المستعمر، وهو أخبث الشرور التي عرفها الإنسان بصفة عامة وعرفها المسلم بشكل خاص، وقد أطلق عليه اسم الشيطان وفي هذا نجده يقول: «فالاستعمار يعد في نظر كل مسلم الشيطان، وما ينبغي أن نضيفه فورًا أن الاستعمار يعلم ذلك جيدًا...»[36].
ومالك بن نبي في تصنيفه للغرب في هذه الخانة ووصفه إياه بهذه النعوت، إنما يصدر عن تجربة عاشها وكان شخصه موضوعًا لها، فالظاهرة الاستعمارية تمثّل جزءًا من حياته الواقعية والاجتماعية، حيث يقول: «ولست أدين فيما أقدم هنا إلى بعض آراء تخطئ أو تصيب، ولكن أدين إلى وقائع محددة شاهدتها بنفسي، وسجلتها تجربتي الاجتماعية»[37].
كما يؤكد مالك بن نبي أن أخطر ما أقبل عليه الغرب المستعمر في تنفيذ مخططه للسيطرة على من احتله هو تشيئته، حيث سعى لجعل غيره ساكنًا لا يتحرك، بأن يخرجه بالتدرج من عالم الإنسان إلى عالم الأشياء لا ينتظر منه أبدًا أن يقدم خيرًا أو يفعل حسنًا يعود على غيره بالنفع. ولبيان ذلك أشار مالك بن نبي إلى فلسفة الإنسان في الغرب، وحسب قوله: «والواقع أن فلسفة الإنسان لا زالت في الغرب رهينة تعابير ومصطلحات، لا تسمح للذهن الغربي أن يتصور وحدة الإنسان وتضامن ملحمته على وجه الأرض، فهناك كلمات مثل: الأهلي، الأسود، والجلد الأحمر.. تعبر في الغرب عن عينات إنسانية سفلى، وهناك عبارات تضفي على بعض الأجناس صفات أو ألقابًا معينة إلى الأبد مثل العربي غير المكترث، والصيني الغامض»[38].
فمالك بن نبي هنا يبين موقف الغرب إزاء الإنسانية بصفة عامة منها، فهو يتربص بها الدوائر كي يجعل حاجة منها يملكها وشيئًا يغتصبه عندما تدق ساعة الفتوحات الاستعمارية[39].
ثانيًا: الغرب المستشرق، إن اهتمام الكتّاب الغربيين بالفكر الإسلامي وبالحضارة الإسلامية أثار انتباه مالك بن نبي بشكل مباشر[40]، حيث يقول: «إن الدراسات الإسلامية التي تظهر في أوروبا بأقلام كبار المستشرقين واقع لا جدال فيه، و لكن هل نتصور المكانة التي يحيلها هذا الواقع في الحركة الفكرية الحديثة في البلاد الإسلامية»[41].
فالغرب المستشرق في فكر مالك بن نبي قد مثّل عاملًا كبيرًا من عوامل القلق على واقع النهضة الإسلامية الحديثة، وعلى السير العادي للإنسان المسلم نحو هدفه الحضاري[42].
والمستشرقون -حسب ابن نبي- قسمان: قدامى ومحدثين، وقسّم المحدثين إلى قادحين في التاريخ الإسلامي والثقافة الإسلامية ومادحين لهما، فالفئة القديمة لم تتدخل في نسيج الفكر الإسلامي بشكل ولم تؤثر فيه[43]، وهذا ما أكده بقوله: «إنه لمن الواضح أن المستشرقين القدماء أثّروا وربما لا يزالون يؤثّرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي، دون أيَّما تأثير على أفكارنا نحن معشر المسلمين»[44].
أما بالنسبة للفئة الحديثة القادحة، قد أثرت بشكل محدود لما كان في نفوس المسلمين من استعداد لمواجهة أثره تلقائيًّا، وفي هذا يقول ابن نبي: «على فرض أنه مس ثقافتنا إلى حد ما لما كان في نفوسنا من استعداد لمواجهة أثره تلقائيًّا، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي».
أما الفئة الحديثة المادحة والتي يمثلها –دوزي وآسين بلاثيوس– قد كتبت لنصرة الحقيقة العلمية وللتاريخ وكل ذلك من أجل مجتمعهم الغربي[45]، ولكن مالك بن نبي يرى أن أفكار هؤلاء «كان لها وقع أكبر في المجتمع الإسلامي في طبقاته المثقفة» إذ «إن الجيل المسلم الذي انتسب إليه يدين إلى هؤلاء المستشرقين الغربيين بالوسيلة التي كانت بين يديه لمواجهة مركب النقص الذي اعترى الضمير الإسلامي أمام ظاهرة الحضارة الغربية»[46]، ومن هذا المنفذ حسب مالك بن نبي تسلل الغرب المستشرق إلى الفكر الإسلامي، ليزرع فيه تلك المخدرات التي تخدر ضميره وتسليه ويتقبلها بكل شغف بل واعتراف بالجميل.
وبهذا ينتهي مالك بن نبي إلى حقيقة موضوعية، وهي أن الغرب المستشرق بنوعيه كان شرًّا على المجتمع الإسلامي، سواء في صورة المديح التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وغمستنا في النعيم الذي نجده في ماضينا، أو في صورة القدح والتقليل من شأننا بحيث صيرتنا مدافعين عن مجتمع منهار.
ثالثًا: الغرب المتحضر(الأليف)، هو ذاك الغرب القريب من مالك بن نبي الذي أحبه كثيرًا، لأنه يعكس سلوكًا راقيًا واندفاعًا واعيًا نحو الفطرة التي فطر الإنسان عليها.
إنه غرب آخر لا علاقة له بالحياة المضطربة والمصطنعة التي تضلل السائل عن الحضارة الغربية[47]، فمالك بن نبي لم يكن له أن يتعرف إلى الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية لو لم يحتك بهذا الوسط، وكان ذلك عند سفره إلى فرنسا عام 1930م حيث تعرف إلى منظمة شبابية في باريس تدعى «منظمة الوحدة المسيحية للشباب الباريسيين»، كما سبقت الإشارة إليه، ولم يجد مانعًا من الانتساب إليها، وقبل كأول عضو مسلم في هذه المنظمة[48].
إلا أن مالك بن نبي يعترف بأنه لم يكون علاقات صداقة في البداية؛ وذلك للأفكار المسبقة الموجودة عند الأنا على الآخر أو العكس، وفي هذا يقول: «أجل لم تتكون لي بعد علاقة في الوسط الجديد، لقد كان الأمر باديًا للأنظار، فقد كان الجزائري في تلك الحقبة بمجرد دخوله وسطًا أوروبيًّا ينزوي في قوقعته، وذلك بسبب أفكاره المسبقة عن الآخرين وأفكار الآخرين المسبقة عنه، وتاريخ قوقعتي بدأ في يوم بعيد من أيام طفولتي حينما كنت ألعب على رصيف مدينة... إذ أصابني رجل أوروبي بركلة ولكن بقدر ما كان يتكلم معي يظهر رأسي تدريجيًّا من القوقعة كالسلحفاة عندما يمر الخطر...»[49].
ولقد كان لانتساب ابن نبي لهذه المنظمة دور كبير في فكره، حيث تعرف من خلالها إلى حقيقة الثقافة الفرنسية وأبعادها السلوكية، كما كان لها تأثير في عقله وروحه. إن الأقدار سخرت له أن يتعمق أكثر في معرفته بالمجتمع الغربي، وذلك من خلال تعرفه على زوجته الأوروبية التي دخلت الإسلام وسمت نفسها بخديجة، واحتكاكه بعائلتها، وفي هذا يقول: «كان يوم الجمعة من 1931 قد تولى الله الأمر فهداني إلى زوجي وهداها هي فسمت نفسها خديجة»[50]، حيث عن طريقها تعرف إلى الحياة الأصلية في الحضارة الفرنسية، فقد تمكن أثناء زيارته لها في إحدى القرى الفرنسية من الوقوف على الوجه الآخر للغرب، حيث اكتشف مع زوجته المبدعة مفاتيح الثقافة المتوازنة المتمثلة في المبدأ الأخلاقي السليم والذوق الجمالي الراقي[51].
نفهم من هذين المحطتين في حياة مالك بن نبي، أنهما كانتا بمثابة فرصة حضارية تحقق فيها التعارف والحوار بين ثقافتين مختلفتين إسلامية وغربية.
مالك بن نبي درس الغرب في كيانه الحضاري، وحلل بشكل دقيق صوره المختلفة، ونزع القناع عن وجهه الاستعماري، وعلى الرغم من معاناته النفسية بسبب كشفه لأسرار الصراع الفكري في تعطيل المشروع الحضاري الإسلامي، أنصف مالك بن نبي الغرب في أحكامه، فلم ينكر عليه دوره الفعال وإسهامه الضخم في البحث العلمي، وتوفير أسباب الراحة المادية للبشرية، ولم ير مانعًا في التفاهم مع الغرب وتنظيم علاقات معه تكون قائمة على الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك.
وقد تنبّه مالك بن نبي إلى الأخطار التي تهدد الحضارة الغربية، والتقت تصوراته في كثير من الأحيان مع تصورات العلماء، وفلاسفة غربيين عبروا عن بداية أفول الحضارة الغربية بسبب تهميشها للدين والأخلاق، وثقة الإنسان الغربي العمياء في الفكر والعلم المادي، وعجزها عن حل المشكلات الإنسانية التي أفرزتها حركة التصنيع والتطور السريع الذي شهدته أوروبا في القرنيين التاسع عشر والعشرين.
وفي هذا يقول ابن نبي: «فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الأوروبية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع هذا العالم الغربي أعظم خصبًا لتظفر الصفوة المسلمة إلى حد بعيد بمنوال تنسج عليه فكرها ونشاطها، ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نفهمها في صلاته بالمشكلات الإنسانية عامة وبالتالي بالمشكلة الإسلامية. إن تحليلًا كهذا يتيح للمسلم حتمًا أن يقف أمام نظام أوروبا بوصفه إنسانًا لا مستعمرًا، وبذلك تنشأ حالة من التقدير المتبادل والتشارك الخصيب بدلًا من تلك العلاقة المادية الصرف، التي لم تعد في جوهرها علاقة أوروبا المستعمرة بالعالم الإسلامي القابل للاستعمار، ولن تقتصر فائدة هذا التعديل على عالم الإسلام فحسب، إذ إن الواقع الاستعماري إذا كان قد أضر بحياة المسلمين ضررًا بليغًا فإنه قد أضر كذلك بالحياة الأوروبية ذاتها، لأن الاستعمار الذي يهلك المستعمر ماديًا يهلك أصحابه أخلاقيًّا»[52].
وفي السياق نفسه يؤكد مالك بن نبي ضرورة اتجاه المجتمع المسلم نحو الانفتاح والتعايش، «إن العالم الإسلامي لا يمكنه أن يعيش في عزلة، بينما العالم يتجه في سعيه إلى التوحد، فليس المراد أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم هذه العلاقات معها»[53].
من جهة أخرى يذكر مالك بن نبي أن الأوروبيين استفادوا كثيرًا من الحضارة الإسلامية خلال الحروب الصليبية، إذ جنوا حصادًا طيبًا من الحضارة الإسلامية، وهذه الآثار ما زالت قائمة إلى اليوم تشهد على هذا التفاعل الحضاري، والحروب الصليبية شكلت حقًّا منعطفًا في تاريخ الغرب المسيحي، فالاحتكاك بين الشعوب الأوروبية والإسلامية تحول بعد الحروب والمعارك إلى اكتشاف للآخر، والتعرف إلى عاداته وثقافته ولغته وحقيقة دينه، وأدى ذلك إلى تغيير صورته الذهنية عنه ولو بشكل ضعيف، وأكثر من ذلك، نقل الصليبيون معهم كنوز الحضارة العربية التي استفادوا منها في مسيرتهم الحضارية، وحركتهم النهضوية[54].
فالحضارة الغربية هي في واقع الأمر حصيلة تراكم نتاج الحضارات السابقة كالإغريقية الرومانية الإسلامية والمسيحية التي انتقلت إلى أوروبا، كانت بمثابة محرك دفع الغرب نحو النهضة الحضارية والتمدن[55].
خاتمة
إن الحوار فهم للذات من خلال الآخر، وفهم للآخر من خلال الذات، سعيًا نحو الاعتراف بوجود الذات والآخر. كذلك الحوار يعد أعلى مراتب التفاهم بين الأمم والشعوب؛ لهذا فهو دعوة حضارية تعكس قيمًا أخلاقية، سياسية، إنسانية، ثقافية عالية جدًّا.
كذلك الحوار عبارة عن ظاهرة إنسانية تميز المجتمع البشري وهو ضرورة للتعامل بين الناس، إذ يقتضي اعتراف الشخص بوجود الآخر والاعتراف بأن غيره لا يقل شأنًا عنه. فالحوار أخذ وعطاء وطريق للتفاهم والتخاطب بين الناس، كما أنه يجعل الإنسان يتفتح على الآخر، ويسهل بذلك التعامل معه، ويقوم بتقريبه وذلك ما يؤدي إلى اتساع الشراكة بينه وبين الآخر.
من هنا لا نستغرب اختيار مالك بن نبي للحوار أسلوبًا للتحدث مع الغرب رغم أخطائه ومآخذ حضارته الرائدة في عالم اليوم. ابن نبي الذي تأثر بموقفه هذا من دينه الإسلام، من قراءته للقرآن الكريم الذي يدعو للتعارف بين خلق الله دون تمييز، كذلك تأثر بمواقف السيرة النبوية الطاهرة التي تعكس انفتاحًا مع مختلف أطياف المجتمع العرقية والدينية، إلى جانب تأثره بتجربته الشخصية خاصة زواجه من فرنسية، ودراسته بفرنسا، هي عوامل اجتمعت لتنصهر وتشكل رؤية مالك بن نبي نحو الحوار مع الغرب، رؤية تنصرها الدراسات التي أتت بعد مغادرته الحياة، والتي تجمع على ضرورة الحوار كآلية لحل المشاكل والتقارب بين المسلمين والغرب.
إن أعمال مالك بن نبي محطة لافتة، تعبر عن لحظة حضارية مهمة جدًّا في عالمنا الإسلامي مازالت لم تستثمر رغم كثرة الذين اشتغلوا على هذه الأعمال ومازالوا من الباحثين والمفكرين، وما نأمله أن نحقق الإقلاع الحضاري الذي عمل لأجله كثيرًا.