في معنى الحوار
محمد محفوظ
2019-08-03 06:31
لعل من أهم الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب وإدراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود. فهي قاعدة تكوينية شاملة وناموس كوني ثابت، وأي سعي إلى إلغائها بدعوى المماهاة والمطابقة وضرورتهما وفوائدهما، هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس، ويريد تبديل الوجود وهذا ليس بمقدور الإنسان فعله.
والصراعات والنزاعات الدائمة، لا تنشأ من وجود الاختلاف والتنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها.
والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها.
وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجددا ومعا في النظر إلى الأمور. والدين الإسلامي أولى العناية والاهتمام بقيمة الحوار والدعوة والمجادلة بالتي هي أحسن، وذلك لأنه لا دين بالفرض والقهر والإكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (1) وقال تعالى (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (2).
والحوار بين التعبيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، يفتح آفاق التعاون، ويبلور أطر التضامن، ويدخل الجميع في قافلة الدفاع عن المقدسات ومواجهة التحديات.
"وبالحوار يكون الإسلام قاعدة للفكر والعاطفة والحياة، فلا يثير في داخل البشر شعورا سلبيا لا داعي لإثارته، ولا يواجههم بأفكار سريعة تحتاج في وصولها إلى أفكارهم إلى مقدمات طويلة، تهيئ الجو النفسي، وتمهد الأرضية الفكرية لذلك. ولا يحطم مشاعرهم بالقسوة في الكلمة والحركة والأسلوب. بل يعمل على أن يلامسها باللطف واللين والحكمة. لتكون المدخل الطبيعي للثقة والعاطفة المتبادلة التي تمنح الفكر حالة الهدوء، والشعور حالة الطمأنينة. وهما المدخل الطبيعي لتكوين القناعات والوصول إلى روحية الإيمان. ولعلنا لا نبالغ حين القول أن التكليف الرباني الأول للإنسان على وجه هذه المعمورة وهو خلافة الإنسان، كان الباري عز وجل يحاور ملائكته ويوضح لهم دواعي اختياره. ويختم الباري عز وجل حوارهم عند حدود المعرفة التي يملكونها بقوله (إني أعلم مالا تعلمون). وأضحى الحوار بعد ذلك هو أسلوب الأنبياء والأوصياء والصالحين عبر التاريخ." (3)
وإن عظمة أية ثقافة في انفتاحها، وقدرتها على تأصيل مفهوم الحوار والنقد في مسيرتها، فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها من جراء الانفتاح والتواصل والحوار. والثقافة التي تصطنع الانفصال والانغلاق تبتر التاريخ وتقف موقفا مضادا من الوعي التاريخي. وإن الثقافة الحوارية، هي المهاد الضروري إلى التقدم الاجتماعي والسياسي والحضاري. فالحوار يعيدنا جميعا إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف، ويدفعنا جميعا إلى التخلي عن تلك الخيارات العنفية والتي تمارس النبذ والإقصاء.
وظائف الحوار:
وعلى المستوى السياسي، فإن حوار وتواصل القوى السياسية والاجتماعية، يساهم في تبديد حالة الجمود التي تعانيها ساحاتنا العربية والإسلامية، كما يساهم في بلورة آفاق الحل والمعالجة لحالات انسداد الأفق التي نعانيها في مجالات مختلفة.
وبإمكاننا أن نحدد غايات الحوار ووظائفه في الدائرتين العربية والإسلامية في النقاط التالية:
1) التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل:
وتعميق عوامل التفكير الحر والسليم.. لعلنا لا نبالغ حين القول، أن الحوار بين البشر هي الوسيلة المثلى للتعارف وإضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر. لذلك أكد القرآن الحكيم على هذه القيمة، واعتبر أن التعدد والاختلاف الموجود بين البشر، ليس من أجل الاستعلاء والانحباس والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولا إلى تعميق عوامل وأواصر التفكير الحر والسليم.. قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). (4).
لذلك فإن مقولة الحوار تتجاوز السجالات والمجادلات العقيمة والمماحكات، التي لا توفر للأطراف جميعا فرصة التعارف المباشر على الأطراف الأخرى.
من هنا فإننا حينما ندعو إلى الحوار، ونعتبره هو وسيلة الإنسان الحضارية للتعرف على بني جنسه، فإننا نؤسس لغائية حميدة ينبغي أن لا تحيد عنها عملية الحوار.. فهو من أجل كسر حواجز الجهل، وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية على الآخر، حتى يتوفر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي، لخلق نمط إنساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة.. وذلك لأنه وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا البعض، ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما أنه يبلور وبفعالية عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب).
2) المشاركة في توفير أسباب العدل والمساواة:
فالحوار لا ينحبس في مجرد تداول الأفكار والقناعات والأخبار والأحوال، وإنما يتعدى ذلك من أجل سبر إمكانات الواقع، وفتح مجالات جديدة للتفكير والعمل، باتجاه توفير الأسباب والعوامل المفضية إلى تعميق خيار العدل والمساواة في المجتمع. وبالتالي فإن الحوار، مشروع مفتوح على إمكانات الواقع والإنسان لتوظيفهما لصالح مشروع العدالة والمساواة في المجتمع. لذلك فإننا ضد كل أشكال الحوار التي تبرر الظلم أو تسوغ التفاوت الاجتماعي الصارخ أو تدعو إلى تبني نظرة شوفينية أو عنصرية أو طائفية تجاه الآخرين.
فالحوار الذي ندعو إليه، هو الذي يؤسس حقائق العدل والمساواة في المحيط الاجتماعي. أما الحوار الذي يشرعن الظلم أو يدعو إلى الخضوع والخنوع إليه، أو يمارس منطقا استعلائيا وعنصريا تجـاه الآخرين، فإننا نرفضه ولا نعتبره الحوار الحضاري المنشود.
فإننا مع كل حوار، يتطلع إلى نبذ الظلم ونصرة المظلومين ومحاربة الظلم واجتثاث جذوره وموجباته من المجتمع والأمة. لذلك نهى القرآن الحكيم عن ظلم الآخرين المختلفين والمغايرين وتجاوز كل مقتضيات العدالة.. قال تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (5).
فينبغي أن تكون كل تصرفاتنا ومواقفنا وأفعالنا وردود أفعالنا في نطاق وفضاء العدالة. واختلاف الآخرين معنا، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تجاوز مقتضيات العدالة , بل هناك دعوة قرآنية صريحة إلى البر والرفق بالمخالفين الذين لم يحاربوننا ويحملوا السلاح في وجوهنا.
لذلك ينبغي أن يتجه الحوار دائما، إلى توفير أسباب العدالة والمساواة في المجتمع. ومن الأهمية بمكان، أن نمتلك الوعي العميق والعزم الصادق والإرادة المستديمة، حتى نتمكن من إبقاء مسيرة الحوار في نطاق توفير متطلبات العدالة وعوامل المساواة في المجتمع والوطن.
3) تنمية القناعات والمساحات المشتركة:
فالقرآن الحكيم يعلمنا، أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها.. قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) (6).. فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش.. فـ "الإسلام يدعو إلى التحرر من كل القيود التي تمنع الإنسان من الانطلاق في خط الحرية والمسؤولية أمام الله تعالى، كما أنه يدعو أيضا إلى الخروج من كل الضلالات والجهالات التي تمنعه من أن يكون خليفة لله تعالى على الأرض، وهو يتمكن من ذلك حينما يقـــدر على إصـــلاح نفسه ومجتمعه علـــى ضــوء التشريع الإلهي من خلال الالتزام به" (7).
وينهى القرآن أيضا عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخا نفسيا يحول دون تنمية القواسم المشتركة.. قال تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (8).
وقال تعالى (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجـل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) (9).
فإننا مطالبون جميعا، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعا بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا.
وكما يقول أحد المفكرين الإسلاميين (10): أن الحوار بحاجة إلى ثقافة وفكر يحترم الفروق والتنوع، ويرى أن الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد.
انه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقا من توسط مشرف من غير أن يجنح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوم أو يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل.
ولقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات أن التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة، كان أشد فتكا من تصادم الجماعات البشرية المختلفة. وما يجري من قتل وفظاعات وتدمير أعمى في الجزائر وأفغانستان وبعض دول القرن الأفريقي، يؤكد هذه الحقيقة، ويجعلنا نجزم أن ضحايا الحروب الداخلية والاقتتال الأهلي، أكثر فظاعة وتدميرا من كل الحروب الخارجية التي خاضتها البلدان العربية والإسلامية.
ولقد أوضح الدكتور (عبد المنعم سعيد) هذه الحقيقة بالأرقام وقال: أن الصراع مع إسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي 200 ألف من الضحايا، ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية بين البلدان العربية والإسلامية كلفت 5ر2 مليون ضحية ومن حيث التكلفة المالية، فإن الصراع الأول كلف الدول العربية حوالي 300 بليون دولار أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 2ر1 تريليون دولار.
وهكذا نجد أن (80%) من الحروب والصراعات والنزاعات تقع تحت عنوان الحروب الداخلية التي تتنازع فيها القوى المختلفة حول السلطة والثروة والنفوذ.
ويشير أحد المفكرين إلى هذه الحقيقة بالقول: وما تزال الحياة تحتضن الحوار، وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنيفة التي تريد أن تخنق الحوار بالجو الخانق الذي تصنعه، وبالقوة المادية الغاشمة التي تحشدها، وبالعقليات الضيقة التي تربيها ويقف الحوار أمام القوة كما وقف الأنبياء ليعلموا القوة أنها لا تستطيع أن تبني الحياة التي تصنعها إلا من خلال الحوار. لأن القوة التي تفقد ذلك سوف تدمر نفسها في نهاية المطاف. لأنها لا تجد أمامها إلا الحجارة التي ترجم حجارة، دون هدف أو معنى. إن الحوار يعطي القوة المضمون الذي تتحرك من خلاله، والهدف الذي تسعى إليه والروح التي تعيش فيها.
لهذا فإن الحوار الثقافي والتواصل الإنساني، ينبغي أن لا يتوقف عند الأحكام القاطعة والكاسحة، والتي هي صدى أو انعكاس لحقبة التضيفات الأيدلوجية، وبذور الحوار والتلاقي الذي يقمع بالإدانات والتهويش والتخوين، وقد كلفت هذه المرحلة العالم العربي والإسلامي الكثير من الضحايا والجهود والإمكانات.
وإن الحوار في الحقل الثقافي والإنساني يقتضي العمل على مستويين في آن واحد، مستوى الذات والعمل على التخلص من رواسب لغة النفي والإقصاء والتخوين وكل المفردات التي تلغي المختلف والمغاير، ولا تسمح بأي شكــل من الأشكال بأي مستوى من الحوار معه.
ولذلك فإن تنظيف النفس والعقل من كل المفردات والمنطق السائد في تلك الحقبة التاريخية، يعد من الأعمال الجوهرية التي ينبغي أن نتوجه إليها وتكون لدينا الشجاعة الكافية، لإعلان نهايتها ودخولنا في حقبة تاريخية جديدة تشجع الحوار وتؤسس للتسامح وتؤصل الحرية لرأي الآخر.
ومستوى الواقع الذي ينبغي أن يسوده الحوار ونتدرب فيه على احترام التنوع وإدارة الاختلاف بعقلية حضارية منفتحة وبعيدة كل البعد عن التعصب المقيت الذي لا يفضي إلا إلى المزيد من الحروب والاقتتال الداخلي.
والحوار الثقافي الذي يخرج من هذا السياق أو النطاق، يتحول إلى حوار طرشان لا يفضي إلا إلى المزيد من التعصب للرأي وسيادة عقلية الخصم والإفحام وهي العقلية التي تدفع بشكل جنوني إلى خيارات عنيفة، تدمر الجميع وتحيل الأوطان إلى أرض خربة تعشعش فيها الغربان والحيوانات المفترسة.
الحوار والتواصل:
والحوار لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة، أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين. إنه اعتزاز بالذات، لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية.. وقد قال الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) "العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم" (11).
كما أن الحب ينبغي أن لا يخرج الإنسان عن ضرورات التواصل مع الآخرين، وتحكيم المثل الأخلاقية في طريقة التعاون معهم. فقد روي عن الإمام زين العابدين (ع) أنه (أحبونا حب الإسلام) (12). ويعلـــق السيد محمد حسين فضل الله على هذه الرواية بقوله: " أن خط أهل البيت (ع) هو أن ينطلق المسلم في حركة العاطفة، فيما هو الحب الروحي لأهل البيت (ع)، من خلال الصفة الإسلامية لمضمون الحب لا من خلال الصفة الذاتية، ما يجعل الإسلام في انفتاحه أساسا للعلاقات بالمستوى الذي يخضع فيه للموازين الإسلامية الأصيلة، فيؤدي إلى الانفتاح من موقع الحوار والمحبة " (13).
وتؤكد التوجيهات الإسلامية، على ضرورة الانفتاح والتواصل مع مختلف دوائر ومكونات المجتمع الإسلامي.. فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (أوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه (قولوا للناس حسنا) (14) عودوا مرضاهم، وأشهدوا جنائزهم، وأشهدوا لهم وعليهم، وصلوا معهم في مساجدهم). (15) فمن الأهمية بمكان إيجاد مسافة موضوعية بين الآراء والمعتقدات. فليس كل رأي هو عقيدة، وإن أي محاولة للدمج بين الآراء والمعتقدات، يفضي في المحصلة النهائية إلى سيادة التعصب الأعمى بكل أشكاله وصنوفــه. لذلك فإنــه ويل لأمة (على حد تعبير الشيخ محمد تقي القمي) تتحول فيها الآراء إلى معتقدات.
فالالتزام بالفكرة، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة ومجالاتها وآفاقها..والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا وتواصلنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة، وبهذه العقلية والروحية تتجذر مفاهيم حقوق الإنسان وتتأكد قيم التسامح والتعاون والتضامن.
الحوار فعالية:
والحوار قبل أن يكون أطرا وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.
والحوار لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والائتلاف. فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة، وبالحوار تضمحل الخلافات وتزول أسباب الصراع العنفي. وبدون إرساء دعائم الحوار المتواصل مع تعبيرات الأمة ومؤسساتها وفعالياتها المتعددة، يتم التعامل مع العديد من القيم والمبادئ كتهويمات أيدلوجية مجردة عن وظيفتها الحضارية، وبعيدة كل البعد عن النسيج المجتمعي.
وهكذا فإن الإنسان، لا يجسد قيمه إلا بالمزيد من الحوار. حوار الإنسان مع ذاته، وحواره مع دوائره الاجتماعية المتعددة، وحواره مع ظواهر الطبيعة لمعرفة أسرارها لتسخيرها بما يخدم العمران والتقدم الإنساني.
والحوار بين التعبيرات السياسية ومكونات الأمة الفكرية والاجتماعية، هو مشروع مفتوح على كل التجارب، ويفيد من كل الممارسات والمكاسب الإنسانية، لذلك فإن عملية الحوار مطلوبة لذاتها، وبحاجة إلى عمل الجميع من أجل إرساء دعائم وتقاليد الحوار الحضاري في فضائنا المعرفي والسياسي.
وفعالية الحوار تنبع من انه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول، لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث أنها تحرك الراكد، وتساءل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة ممكنة، وفي المحصــلة النهائية تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة.
ونستطيع القول وبقناعة تامة، أن النص القرآني، نص حواري بامتياز فتحدث عن كل الموضوعات والقضايا بدون موانع وعقبات، واستخدم في ذلك أدق التعبيرات وأبلغها دلالة ومعنى، وأكد في آياته على ضرورة التفكر والتعقل والتدبر والنظر والتأمل، ووبخ أولئك النفر الذين يسيرون بلا هدى وبصيرة، أو يقلدوا الآخرين بدون علم ومعرفة إذ قال تعالى (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) (16). وقال تعالى (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمــعون بها أولئك كالأنعـــــــام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (17).
وقال تعالى (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (18).
ولقد علمتنا التجارب، أن غياب الحوار كاستراتيجية لتنظيم العلاقات بين مجموع القوى المتوفرة في الوطن والأمة، يهدد الجميع بانقسامات وتشظيات تهدد الجميع وتدخلهم في دهاليز القهر والعنف المتبادل.
لذلك من الضروري أن نؤمن إيمانا عميقا، أن الحوار هو سبيلنا جميعا لحل مشكلاتنا وتجاوز موروث الحقد والضغينة.
ولكي نصل إلى المستوى الأخلاقي لممارسة الحوار بعيدا عن المسبقات الفكرية أو المواقف الجاهزة، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس، والتغلب على الأهواء والنوازع الضيقة، والانعتاق من كل أشكال التعصب الأعمى للذات أو لأفكارها وقناعاتها، والسعي الحثيث نحو الاقتراب من الآخر، ومحاولة فهمه بشكل مباشر. وذلك من أجل أن يكون الحوار في الداخل العربي والإسلامي، هو الأصل والثابت الذي لا نحيد عنه، مهما كانت النوازع ومهما كانت المشكلات التي تحول دون ذلك.
و "إن تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة، فئات أو أفردا، يفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، وذلك لدخول هذه الأطراف في استفادة بعضها من بعض، حيث إن هذا الطرف أو ذاك قد يأخذ في الانصراف عن رأيه متى تبيّن له، عند مقارعة الحجة بالحجة، ضعف أدلته عليه، ثم يتجه تدريجيا إلى القول برأي من يخالفه، أو يأخذ، على العكس من ذلك، في تقوية أدلته متى تبينت له قوة رأيه، مستجلبا مزيد الاهتمام به من لدن مخالفه، حتى ينتهي هذا المخالف إلى قبوله والتسليم به، وهكذا، فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفــرق، فإن الحــوار ينزل منزلة الدواء الذي يشفي منه" (19).
وإن الضرورة الحضارية تفرض علينا وعيا مزدوجا لعملية الحوار الثقافي، وعي مستوى الحوار الثقافي والإنساني الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدمة بين دولها وتياراتها ومدارسها الفلسفية والفكرية والسياسية.
ووعي واقعنا العربي والإسلامي وتلمس الممكنات المتوفرة لانطلاق هذه العملية الحضارية والعقبات التي تحول دون ذلك.
ومن خلال هذا الوعي المزدوج لعملية الحوار الثقافي تتأسس الظروف الموضوعية والذاتية لانطلاق مبادرات نوعية في هذا المجال.
ودون هذا الوعي تبقى الكثير من الخطوات شكلية ولا تخرج في كثير من مفرداتها عن موضعة الاستهلاك ورمي الكرة في مرمى الطرف المختلف والمغاير. وفي هذا الوضع تتجلى في الحياة الثقافية كل الأشكال الخادعة والمستعارة لعملية الحوار الثقافي.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن الحوار الثقافي الذي يأتي في سياق وعي اللحظة التاريخية لواقعنا العربي والإسلامي ومتطلباته الحضارية، ووعي اللحظة التاريخية التي تعيشها المجتمعات المتقدمة، فإن هذا الحوار يعد نواة صلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل لخلق حالة ثقافية بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين أما أسود أو أبيض.
وليس ما أقوله هنا إسقاطا لمفهومات غريبة عن تطلعات حياتنا الثقافية، وإنما هي من تطلعاتها الجوهرية ومطامحها الأولى.
وبالتالي فإن الحوار الثقافي ليس تصدعا في الذات الثقافية، بل هو إثراء لها وإضافة نوعية إلى بنائها وسياقها المعرفي.
وإن أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه أنها ترفع الأوابد عن الإبداع وآفاق الثقافة الجديدة.
وعلى كل حال من الأهمية بمكان على جميع الصعد والمستويات، أن لا تدفعنا اختلافاتنا الفكرية والسياسية إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة، لا لكي نتنقل في قناعاتنا، وإنما من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض، ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات الفكرية والسياسية، ولكي يتم تنشيط دور القواسم المشتركة بين الجميع، بحيث الاختلافات لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن.
إن ما يشهده الواقع العربي والإسلامي من أحداث وتطورات خطيرة، تؤكد على ضرورة إعادة الاعتبار إلى الفريضة الغائبة في هذا الواقع، وهي فريضة الحوار والتعارف والتواصل الإنساني المتعدد والمتنوع. فالحوار هو طريق إجلاء الحقائق والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الإنساني، وسبيلنا للحفاظ على مكتسبات الأمة والوطن.
لقد عانت شعوبنا الويلات وما زالت تعاني من جراء التعصب وسوء الظن والنزوع الاستبدادي والعقلية المتحجرة التي تساوق بين أفكارها ومشروعاتها وبين الحق والحقيقة.
وأن الـــدرس العميق الذي ينبغي أن نستفيده من تجارب العديد من الدول العربية والإسلامية، التي عــــانت وما زال بعضها يعــاني من العنف والتطرف والقتل المجاني هو: أن الفريضة التي ينبغي أن يتجه الجميع إلى إحيائها هي فريضة الحوار. فهي وسيلتنا لصون الحرمات، وحل المشكلات، وتحول دون الكارثة والتدمير الشامل.
والحوار هو سبيلنا إلى التجدد والتطور، والهويات الثقافية لا تقوم على المطابقة والتماثلية المميتة، وإنما على التعدد والتنوع المفضي إلى إثراء المضمون الحضاري لمفهوم الهوية الثقافية. وبالحوار يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية جديدة، تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة.
ولنتذكر دائما وصية الحكيم لقمان لأبنه حينما قال: يا بني، كذب من قال أن الشر بالشر يطفأ، فإن كان صادقا فليوقد نارين ولينظر، هل تطفئ أحدهما الأخرى، بل يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار.
وإن الحوار العميق والجاد بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الأمة والوطن، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة لترجمة وتنفيذ الكثير من المشروعات السياسية والمجتمعية.
بمعنى أن الحوار يساهم بشكل أساسي في تذليل عقبات الواقع، التي تمنع من تنفيذ الكثير من الطروحات والمشاريع. وفي المقابل فإن الاستبعاد والإقصاء، يقضي على كل الممكنات المناسبة للقاء والائتلاف، كما أن هذا المنطق يحرك كل غرائز ونزعات الخصام والتباغض والكره بكل أشكاله ومستوياته.
الحوار والنقد:
والحوار لا يمنع النقد، وإنما يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة، التي تجعل النقد بناءا وبعيدا عن التصفية والتحطيم.
فالنقد هنا لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد، وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المـــزيد من الحوار والتلاقي. وذلك لأن " النقد هو اجتراح ممكنات للتفكير، بتشكيل موضوعات جديدة أو افتتاح حقول جديدة تتغير معها علاقتنا بالمسائل المطروحة، بقدر ما تفضي إلى فتح علاقات مغايرة مع الحقيقة أو إلى استخدام أدوات معرفية تغير تعاملنا مع المعرفة بالذات.. بهذا المعنى أن النقد ابعد ما يكون عن النفي أنه لا يقوم على دحض المقولات واكتشاف الأخطاء، بقدر ما هو فاعلية فكرية تتيح، عبر استنطاق الخطابات وتأويلها، أو عبر الحفر في طبقات النصوص وتفكيك أبنيتها، تجديد القول ومضاعفة النص، بإشعال بؤرة للأسئلة، أو بافتتاح منطقة لعمل الـفكر، أو بانتهـــاج منحـــى مغــاير في التفـــكير، أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة" (21).
وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية، تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للعمل والحركة، وآفاق راهنة للتطلع والتحشيد وبلورة الطموح.
وبهذا فإن الحوار والنقد يتكاملان، فلا نقد بناء بدون حوارات مستديمة ومتواصلة، تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل، وتعميق أسباب الفهم والمعرفة. كما أنه لا حوار جاد ومفضي إلى الحيوية والفعالية، بدون عملية نقد، تساءل السائد، وتناقش الموروث، وتبدد الرين النفسي والفكري.
فالحوار يكسب الإنسان التعدد والتنوع في القناعات والأفكار والخيارات، والنقد يؤسس لعملية انفتاح خصبة سواء على مستوى المعاملة أو التجربة. وكلاهما (الحوار والنقد) يفضيان إلى غنى في الشخصية على مختلف المستويات. وأن العلاقة بين مختلف التعبيرات والأطياف، لا يمكن أن تبنى بعقلية الإقصاء ومنطق التحطيم والمحو، لأنها العلاقة مآلها الأخير المزيد من القهر والعنف والأحقاد المتبادلة..
لذلك فإن من الأجدى لنا جميعا أفرادا وجماعات، أن تبنى علاقاتنا بمنطق التواصل والحوار وبفتح أفكارنا وعقولنا ونفوسنا جميعا على حقائق التنوع والتعدد. لأن هذا المنطق هو الكفيل بإزالة ما تراكم من سوء في الخطابات والممارسات، في المواقف والقناعات، في الرؤية إلى الذات وإلى المختلف والمغاير.
لذلك فإن المطلوب دائما، هو الانخراط في مشاريع حوارية، وذلك من أجل إرساء تقاليد للحوار والتعايش والتساكن الحضاري، وحتى يتعمق خيار المنافسة السلمية وبوسائل ديمقراطية، لا تلغي ما عدانا، ولا تضخم ذواتنا، بحيث لا نراها إلا هي على مستوى الوجود والممارسة المتميزة. وبالتالي فإن مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية. والإنسان الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطور علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقدا للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظراءه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.
والتعصب الأعمى للأفكار والقناعات الذاتية، ليست هي الوسيلة الإسلامية والحضارية للدفاع عنها وحمايتها. وذلك لأن هذا التعصب ينطوي على مخاطر وتهديدات، تناقض في كثير من الأحيان جوهر الأفكار وماهية القناعات التي تعصبت من أجل الدفاع عنها. فالأفكار بحاجة إلى اختيار وإيمان وقناعة طوعية بها، وكل هذه العناصر لا تتحقق بالتعصب الأعمى لها، وأن هذه الوسيلة تزيد من نفور الناس من هذه الأفكار والقناعات.
ويشير إلى هذه المسألة أحد المفكرين المعاصرين بقوله: أما ما هو مشروع، بل ضروري، بشأن العلاقة بين الأفكار وأصحابها فهو: الإيمان بهذه الأفكار، والإيمان شأن آخر يختلف جوهريا عن التعصب، ونلاحظ أن كلمة التعصب مشتقة من العصب والعصبية. والعصب جهاز في الكائن البشري يستنفره الغضب والخوف والشهوة وما إلى ما هنالك من الأحاسيس ذات المرجعية العصبية. أما الأيمان فمرجعيته العقل ـ جهاز الوعي والتدقيق والمراقبة والتحليل والحسابات المتأنية. ولا يقلل من مرجعية الإيمان العقلية كونه (الإيمان) يستقر في القلب والوجدان والأحاسيس. لأن الإيمان بالدرجة الأولى هو من مقولة العقل. وحتى عندما يستقر في القلب أو الوجدان أو العاطفة، فليس قبل أن يمحصه العقل.
والسؤال المركزي هو: كيف يتم تطوير العقلية الإيجابية المتسامحة، وبلورتها وتعميقها في المحيطين العربي والإسلامي؟
1. التواصل الإنساني والثقافي:
وهو يعد ضرورة إنسانية ومساحة حرية وحيوية وتفاعل متبادل. وإن غيابه يعادل خطر غياب قيمة أساسية من قيم الإنسان والحضارية في هذا العصر.
فالتواصل الإنساني بكل مستوياته قيمة حضارية ثمينة، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة.
وإن هاجسنا جميعا ينبغي أن يتجه إلى ضرورة إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف الأطياف والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصليا شامل، حتى تمارس كل هذه الثقافات دورها في البناء والتطوير.
والوحدة الداخلية في أي مجتمع عربي وإسلامي قائمة على احترام التنوعات والتعدديات، وهو الوجه الآخر لتقدم هذا المجتمع وتطوره في مختلف المجالات. بمعنى أنه لا تقدم اقتصادي واجتماعي حقيقي، بدون وحدة داخلية توفر كل مستلزمات التقدم وشروطه المجتمعية.
وفي منظورنا وتقديرنا أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء.
2. تأصيل قيم الحوار والتسامح
والكرامة الإنسانية في المحيطين العربي والإسلامي، والعمل على تحويل هذه القيم إلى حقائق ووقائع تزيد من فرص الحوار وتعمق خيارات البناء والعمران.
ولا بد من الإدراك أن الحوار بكل متوالياته وأشكاله ومستوياته، هو البديل الطبيعي لعلاقات التنابذ والنفي المتبادل لجملة المدارس الفكرية والسياسية. وأن سيادة هذه العقلية الإيجابية ومفرداتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، هو الذي يحول دون نجاح مشاريع التفكيك الجديد للمجتمعات العربية والإسلامية.
ومن خلال هذه القيم والعناصر، نستمد وعينا الحياتي ونصيغ علاقاتنا وتحالفاتنا، ونحدد مواقفنا من مختلف الظواهر الإنسانية.
وإن موجبات النهوض ومتطلبات مواجهة التحديات المصيرية، بحاجة دائما إلى تنقية الأجواء العربية والإسلامية الداخلية من كل ما يعكر صفو التضامن والوحدة والعمل معا من أجل توفير كل مستلزمات النهوض السياسي والحضاري.
والوحدة الداخلية للعرب والمسلمين، بحاجة دائما إلى إطلاق عملية حوار مستديم، تزيل ركام الماضي، وتؤسس لنمط جديد من العلاقة قوامها العزة والحكمة والمصلحة.
فالتنوع الفقهي والفكري في التجربة التاريخية الإسلامية، لم يكن وليد الانقسام والتشرذم والتفرق المذموم، وإنما كان تعبيرا عن حيوية عقلية وعلمية أدت إلى تعدد الآراء والمتبنيات المنهجية في عملية الاستنباط ودلالات النصوص، مما أتاح للمسلمين في تلك الحقبة الكثير من الآراء والأفهام وأشكال الحوار المستند إلى العلم والمنطق. ولا نعدو الصواب حين القول: أن العديد من منجزات الحضارة الإسلامية ومكتسباتها العلمية والمعرفية والإبداعية، كانت بفعل هذه العقلية وبفضل هذه الروحية السامية.
لذلك فإنه بدون تحرير الواقعين العربي والإسلامي، من تلك العقلية التي تحوّل التمايزات الطبيعية إلى مصدر للنزاع والصراع واستخدام القوة، ستبقى إرادة هذا الواقع مرهونة إلى صراعات وحروب مغلقة، لا تزيدنا إلا ارتهانا وضعفا. وإن مستقبلنا لن يكون كما نريد إلا إذا عمل الجميع كل من موقعه وخندقه إلى تأصيل قيم التسامح والحوار وتحرير الإرادة العربية والإسلامية من كل القيود التي تكبلها. وحده الحوار المستديم والمفتوح على كل القضايا والأمور، هو الذي يفكك الأفخاخ الداخلية ويعطل دورها السلبي والخطير. وذلك لأن في الحوار السليم الاعتبار دائما إلى الحجة والمنطق والرأي الموضوعي المتجرد.
وآن الأوان لنا جميعا أن نقف مع ذواتنا، ونعرض قناعاتنا أمام قيمنا الكبرى ومبادئنا العليا، ونراجع ممارساتنا وسلوكنا الخـاص والعام لتقويمهما ولردم الفجوة بين الواقع والمثال.