الحماية القانونية للحق في مجتمع خال من الفساد
(دراسة في ضوء الاتفاقيات الدولية)
مؤتمر الإصلاح التشريعي
2018-05-21 07:03
م.د أنسام قاسم حاجم/كلية الإمام الكاظم -ع- للعلوم الإسلامية الجامعة/بابل
بحث مقدم الى مؤتمر (الاصلاح التشريعي طريق نحو الحكومة الرشيدة ومكافحة الفساد) الذي اقامته مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام وجامعة الكوفة/كلية القانون 25-26 نيسان 2018
المقدمة:-
انطلاقاً من ضرورة توفير إطار قانوني واجتماعي يحترم حقوق الإنسان ويحميها، ومن تهيئة بيئة دولية ووطنية تضمن قيام مجتمع يسوده الأمن والاستقرار، كان لا بد من البحث في اثر الفساد على حقوق الإنسان من خلال البحث في حماية الحق في مجتمع خال من الفساد، حيث أن مسألة الفساد المتمثلة في إساءة استخدام السلطات لتحقيق مكاسب خاصة غير مشروعة او توظيف تلك السلطات لممارسة سلوك غير قانوني وغير أخلاقي واستغلال المنصب العام لغايات شخصية، تعد مشكلة خطيرة وظاهرة عالمية تهدد امن واستقرار المجتمع الدولي، لدرجة أصبحت ظاهرة خطيرة لها علاقة بالجرائم المنظمة والإرهاب والاتجار بالمخدرات والبشر وغسيل الأموال..، فهذه الجريمة تعد من الجرائم الخطيرة التي تقوض نظام العدالة وسيادة القانون وتنتهك حقوق الإنسان.
فالفساد بمعناه الواسع له تأثير كبير على حقوق الإنسان فهو يقوضها وينتهكها لأنه يشكل عقبة تمنع التمتع بها، وقد سعت أجهزة منظمة الأمم المتحدة المعنية بشؤون حقوق الإنسان على دراسة العلاقة المتبادلة بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان، فقد تبنت اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي عدة قرارات في هذا المجال، إذ أكد القرار(2002/2 في 9 أغسطس عام 2002) على إدانة الفساد وتقديم من يقترف أفعال الفساد الى العدالة الدولية إذا ما افلت من العدالة الوطنية، لذلك كان لا بد من استعراض واقع حقوق الإنسان في المجتمع الدولي ولا سيما في العراق، ومدى تأثره في الفساد المتفشي في البلاد، من اجل توضيح الالتزامات الدولية ومنها دولة العراق في مجال حماية هذا الحق، والسعي الى الإسهام في وضع آليات متطورة توازي تفاقم مشكلة الفساد خطورةَ وتطور طرقه، وهذا الأمر اقتضى الرجوع الى العديد من القوانين النافذة في العراق ابتداءً من دستوره مروراً بالقوانين الأساسية ذات الصِّلة بموضوع الدراسة، ولا سيما الاتفاقيات الدولية المختصة وجهود منظمة الأمم المتحدة بهذا الخصوص، فالحق في مجتمع خال من الفساد هي مسألة يحكمها القانون الداخلي، ولكن نتيجة لانتشارها على النطاق العالمي ولتقويضها نظام العدالة وسيادة القانون وانتهاكها لحقوق الإنسان وإعاقة التنمية، أصبح من الضروري تضافر الجهود الدولية لوضع حد لها، خاصة وان تلك الحماية تعد من المبادئ المشتركة التي اتفقت عليها الدول، بموجب م/ ٥٥ من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، لبلوغ سلام دائم بين الشعوب، وعدل اجتماعي يعزز ويكرس الأمن الجماعي.
مشكلة البحث:
في هذا البحث سنعالج مشكلة اختراق ظاهرة الفساد في تأثيرها على حقوق الإنسان حدود الدولة الواحدة الى المجتمع الدولي بأسره، مستفيدة من الفرص الملائمة التي تجعل احتمالات الاحتفاظ بثمار العمل الإجرامي تفوق احتمالات العقاب الرادع عليه، لعل أهمها صدور قوانين وقرارات دون دراسة كافية مما يترتب عليه ضعف استجابتها لظروف المجتمع وحمايتها للمصالح الخاصة دون العامة، والتزام الحكومة بالسرية التامة في جميع المجالات دون مبرر مما يتيح للمفسدين مجالاً واسعاً لممارسة أعمالهم الفاسدة تحت مظلة السرية، لذلك لا بد من تسليط الضوء على العوامل التي تساعد في ترسيخ السياسات التي تعزز مشاركة المجتمع او تأكيد النزاهة والشفافية والمساءلة وسيادة القانون، خاصة وانه وفقاً للتقرير السنوي لعام 2017 الصادر من منظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم، العراق صنف ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم.
منهجية البحث:
تعتمد الدراسة على الأسلوب القانوني الوصفي التحليلي القائم على بيان النصوص القانونية التي تناولت الفساد بأنواعه وتحليلها، ومقارنة النصوص الداخلية مع النصوص الدولية في ضوء اثر الفساد على حقوق الإنسان على ارض الواقع، من اجل التوصل الى أهم النتائج والتوصيات، لإيجاد أفضل السبل لتنظيم حماية الحق في مجتمع خال من الفساد وإعطاء نتيجة قانونيه منطقية وفقاً للخطة الآتية:
المبحث الأول/ التعريف بالحق في مجتمع خال من الفساد
المطلب الأول/ تعريف الفساد وأسبابه
المطلب الثاني/ اثر الفساد على حقوق الإنسان
المبحث الثاني/ حماية الحق في مجتمع خال من الفساد والتزام الدولة العراقية بذلك
المطلب الأول/ الوسائل الوقائية لمكافحة الفساد
المطلب الثاني/ الوسائل العقابية لمكافحة الفساد
المبحث الأول
التعريف بالحق في مجتمع خال من الفساد
إن الحق في مجتمع خال من الفساد يعد من الحقوق الأصيلة للإنسان، لان الحق في الحياة والكرامة والمساواة والحقوق والقيم الإنسانية الأخرى الأساسية تعتمد اعتماداً كبيراً على هذا الحق، ومن ثم فإن مكافحة الفساد وحمايته حقوق الإنسان بينهما علاقة وثيقة(1)، وتمتد جذور هذا الحق الى ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، حيث أشار في ديباجته الى الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأكد عليه أيضاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة في 10 كانون الاول1948، عندما أشار في ديباجته الى إن الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام، وللوقوف على اثر الفساد على حقوق الإنسان، لا من تعريف الفساد وأسباب وجوده في المجتمع، وهذا ما سيبحث في هذا المبحث من خلال مطلبين وكالآتي:
المطلب الأول
تعريف الفساد وأسبابه
ان الأثر المترتب على انتشار الفساد في أجهزة دولة ما، يؤدي الى فقدان ثقة رعاياها بدولتهم، لان هيبة الدولة واحترام قوانينها يعتمد على نزاهة حكومتها وتمسكها بمبادئ الوظيفة العامة، وان تعدد الصور والأفعال التي يتخذها الفساد في المجتمعات وظهور صور جديدة منه باستمرار، جعل من الصعوبة الوقوف على تعريف جامع مانع للفساد، لدرجة إن التعريفات التي تصدر في فترة زمنية معينة قد تصبح عديمة الجدوى مع تقدم الزمن(2)، فضلاً عن تعدد فروع النشاط الإنساني التي يمكن للفساد أن يستشري فيها، فهناك الفساد الإداري والمالي والاقتصادي والسياسي، لذلك قد يذهب احد الباحثين الى تعريف الفساد بشكل عام لاعتقاده أن الفساد هو الفساد اينما وجد لا حاجة لتخصيصه بمجال دون غيره، في حين يرى أخر الى إن الفساد كمفهوم يختلف وفقاً لاختلاف النشاط الإنساني(3)، لذلك لا يوجد في التشريعات العراقية أي تعريف لمصطلح الفساد، إلا إن الأمر رقم(55) لسنة 2004 الخاص بتشكيل مفوضية النزاهة العامة باعتبار الفساد قضية جنائية(4).
أما في ضوء الاتفاقيات الدولية، فأول اتفاقية عرفته هي الاتفاقية الأوربية لمكافحة الفساد بين موظفي الجماعات الأوربية لعام1997، في م/2 منها بأنه العامل المتعمد للمسؤول الذي يقبل الرشوة او عن طريق وسيط مزايا من أي نوع لنفسه أو لطرف ثالث أو الوعد بمنفعة من اجل القيام بعمل ما او الامتناع عنه والذي يشكل خرقاً لمهامه الرسمية (5)، أما اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد 1996(6)، لم تعرف الفساد وانما عددت افعال الفساد المجرمة ونهجت النهج ذاته اتفاقية القانون الجنائي بشأن الفساد لعام 1999 المعتمدة من قبل مجلس اوربا(7)، اما اتفاقية القانون المدني بشأن الفساد لعام 1999 المعتمدة من قبل مجلس اوربا فقد عرفته في م/2 منها بأنه((يعني طلب او عرض او اعطاء او قبول بشكل مباشر أو غير مباشر، رشوة أو أي ميزة غير مستحقة أخرى، الأمر الذي يشوه الأداء السليم من أي واجب أو سلوك مطلوب من متلقي رشوة، وميزة غير مستحقة او احتمال ذلك))(8)، إما بالنسبة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، فلم تعرف الفساد لكنها اكتفت بتوصيف الأعمال الإجرامية التي تعد سلوكاً فاسداً في الوقت الحاضر، تاركة للدول الأعضاء أمكانية معالجة أشكال مختلفة من الأعمال الفاسدة التي قد تنشأ مستقبلاًن على أساس إن مفهوم الفساد في مرونة تجعله قابلاً للتكييف من مجتمع لأخر(9)، وعرفت اتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع الفساد ومكافحته لعام 2003 في م/1(التعاريف)/ف/1 الفساد بأنه((الأعمال أو الممارسات بما فيها الجرائم ذات الصلة التي تحرمها هذه الاتفاقية))(10)، إلا ان الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لعام 2010، بعد ان جاءت بداية ديباجتها بالنص على ان الفساد ((ظاهرة إجرامية متعددة الأشكال ذات آثار سلبية على القيم الأخلاقية والحياة السياسية والنواحي الاقتصادية والاجتماعية))، ونصت المادة/2 على أفعال الفساد المجرمة مع النص على ان وصف هذه الأفعال المجرمة يخضع لقانون الدولة الطرف (11).
أما في إطار المنظمات الدولية فقد عرفت منظمة الأمم المتحدة الفساد بأنه سوء استعمال السلطة العامة لتحقيق فائدة خاصة(12)، وعرفه البنك الدولي بأنه استعمال المنصب العام لغرض مكاسب شخصية(13)، وعرفه صندوق النقد الدولي بأنه سوء استخدام السلطة العامة من اجل مكسب يتحقق حينما يقبل الموظف الرسمي رشوة أو يطلبها أو يبتزها(14)، وعرفته منظمة الشفافية الدولية بأنه كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب لتحقيق مصلحة ذاتية لنفسه او لجماعته(15)، استناداً لما تقدم يمكن ان يعرف الفساد بأنه كل سلوك مخالف للقانون والقيم الأخلاقية والاجتماعية، يقوم به موظف او مكلف بخدمة عامة، مستغلاً ما يتمتع به من سلطة او نفوذ من اجل تحقيق او تغليب مصلحة خاصة على المصلحة العامة.
أما أسباب الفساد فيمكن تلخيص تلك الأسباب الى سياسية، قانونية، ادارية، اقتصادية واجتماعية.
فبالنسبة للأسباب السياسية، فتتمثل بضعف السلطات الثالث، الذي يؤدي الى ضعف الأجهزة الرقابية المختصة في كشف الفساد، وضعف النظام القضائي بسبب التدخل السياسي، واخضاع التعينات القضائية الى نظام المحاصصة الحزبية دون الكفاءة، يؤدي الى قلة احتمال الوقوع في قبضة العدالة(16)، فضلاً عن ضعف الوعي السياسي والجهل بالآليات والنظم الإدارية التي تتم في ممارسة السلطة وهو أمر يتعلق بعامل الخبرة والكفاءة لإدارة شؤون الدولة(17).
أما الأسباب القانونية فاهمها سوء صياغة القوانين والأنظمة والتعليمات، مما يؤدي الى التهرب من تنفيذها او تفسيرها بطريقة تتعارض مع الغرض من وجودها ومع المصلحة العامة من اجل تحقيق منافع مادية(18)، وكذلك النقص التشريعي الذي يسمح باستغلاله لاختلاس الاموال العامة والرشوة والتواطؤ، فضلاً عن تعارض القوانين وكثرة الاستثناءات القانونية التي تعطي صاحب السلطة او النفوذ فرصة التهرب من تنفيذ القوانين او الذهاب ال تفسيره بطريقة تحقق مصالحه الخاصة، الامر الذي يؤدي ال انتشار الفساد بسهولة وعدم تنسق الآليات المعدة لمكافحة الفساد وعدم السيطرة عليه، وهذه الأسباب تؤدي الى فقدان هيبة القانون في المجتمع(19).
اما الأسباب الإدارية المتعلقة بالتنظيم الإداري، والمتمثلة بقصور الجهاز الإداري عن أداء واجباته الذي يعد اهم سبب لها هو تولي المسؤولية من قبل قيادات ضعيفة فقيرة الكفاءة وغير متخصصة في مجال عملها، وقصور عناصر الرقابة الداخلية في المؤسسات وبالتالي فقان الشفافية والمساءلة، والتساهل وغض النظر عن اخطاء الموظفين العموميين وعدم اتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة في حالة ارتكاب المخالفة، وهذا ما يدفع المواطن الى رشوة الموظف من اجل قضاء معاملاتهم بالسرعة الممكنة(20)، واخيراً عدم اعتماد الوسائل التكنلوجية الحديثة في ادارة شؤون المواطنين(21)
والأسباب الاقتصادية التي يقصد بها السياسات الاقتصادية المرتجلة وسوء توزيع الثروات والموارد والدخول، وتحميل الحكومة اعباء كبيرة دون متابعة ورقابة من قبله، فتعد من اكبر الأسباب المؤدية لانتشار الفساد، لصلتها المباشرة بحياة المواطنين(22)، واهم هذه الأسباب عدم وجود خطط استثمارية فعالة ومتكاملة تعتمدها الدولة، ضعف المستوى المادي للوظيفة الذي يؤدي الى احساس العاملين في أجهزة الدولة بان هذه الأجهزة اداة للسيطرة وليست خدمة للمجتمع(23)، فضلاً عن ضعف الأداء الاقتصادي في الدولة، حيث ان معظم العمليات الاقتصادية تتم عن ريق صفقات تجارية مشبوهة يحتل الفساد الإداري والمالي حيزاً واسعاً وهو ما ينعكس بشكل سيء على أداء الاقتصاد الوطني(24). ومن أهم الأسباب الاجتماعية التي تؤدي الى تفشي ظاهرة الفساد في المجتمع، هو انتشار الفقر والجهل والظلم وعدم وجود ثقافة عامة للنزاهة تتولى غرس القيم والأخلاق الحميدة في نفوس النشء الجديد مما يؤدي الى السلوكيات الإجرامية واللاأخلاقية، فضلاً عن الجهل بخطورة الرشوة، لدرجة أصبح مفهوم دفع مقابل لإنجاز المعاملات لا يعتبر رشوة بل إكرامية او هدية او أتعاب..الخ(25)، فضلاً عن فقدان المعرفة بماهية حقوق الإنسان لدى اغلب الافراد، الأمر الذي يترتب عليه عدم معرفة الدفاع عنها، وضعف مؤسسات المجتمع المدني الذي يمنعها من مكافحة الفساد.
المطلب الثاني
اثر الفساد على حقوق الإنسان
حقوق الإنسان هي الضوابط والمعايير والحاجات الأساسية التي لا يمكن للبشر العيش حياة طبيعية كريمة بدونها، وتعتبر حقوق الإنسان أساس العدالة والأمان، كما أنّ حمايتها تساهم في تنمية المجتمعات البشرية ونهوضها، وتُعرّف حقوق الإنسان أيضا أنّها كلّ الحقوق اللازمة لجعل الإنسان يشعر بإنسانيته الطبيعيّة التي خُلق عليها، وهي شاملة وجامعة لكلّ نواحي حياته المدنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة(26)، كما تعرف بأنها ((مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته والتي تظل موجودة وان لم يتم الاعتراف بها بل أكثر من ذلك حتى لو انتهكت من قبل سلة ما))(27)
يعد الفساد بكل أشكاله وصوره من الظواهر الخطيرة التي تواجه البلدان، ويهدد وينتهك حقوق الإنسان المنصوص عليها دستورياً، فتصبح صعبة المنال من قبل الأفراد سهلة الانتهاك من قبل الفاسدين، حيث إن حقوق الإنسان قد تنتهك بصور عديدة إلا إن أهم تلك الصور هي صورة الفساد الذي أصبح مشكلة عالمية ولا تكاد توجد دولة تسلم منه، وبالتالي فان الصلة بين الفساد وحقوق الإنسان قد تكون واضحة في كثير من الأحيان, وفي أحيان أخرى غامضة يكتنفها الغموض، ولكن عموما فان الفساد يمكن أن يشكل انتهاكاً مباشراً لحقوق الإنسان عندما يكون القصد منه على وجه الدقة تقييد تلك الحقوق والتمتع بها، فكلما ضعفت حقوق الإنسان كلما ازدادت فرص الفساد، ويقلل من قدرة الحكومة على احترام وحماية حقوق الإنسان, على سبيل المثال لا يمكن تصور إن هنالك احتراماً لحقوق الإنسان إذا كانت الشرطة أو الجيش لا تحترم تلك الحقوق أو إن القضاء مسيس أو يقبل الرشاوى، إن الفساد يعيق التنمية ويهدم هيبة القانون، ويؤدي إلى الإفلات من العقاب ويحبط محاولات حماية حقوق الإنسان(28).
فمن واجبات الدولة توفير البيئة الملائمة لتمكين الأفراد من التمتع بحقوقهم حسب ما حدده دستورها، وتمكينهم من الحصول على حقوقهم، وبالتالي فان قيام اجهزة الدولة سواء أكانت تنفيذية أم تشريعية أم قضائية أو غيرها، يوفر فرصاَ كبيرة للقائمين على توفير تلك الحاجات وتلبية تلك الحقوق على استغلال مناصبهم ومواقعهم لتحقيق غايات غير مشروعة، مما يجعل العلاقة عكسية بين حقوق الإنسان والفساد، إذ كلما ازداد حجم الفساد قل التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المنصوص عليها دستورياً، وقد يقوم اصحاب السلطة والنفوذ بتقديم الخدمات والتي تعد من الحقوق الطبيعية للإنسان على القيام بأفعال قد لا تعد انتهاكاً لتلك الحقوق ولكنها تؤدي بنتائجها الخطيرة إلى انتهاكها، كإقدامهم على استيفاء بعض الرسوم مقابل الخدمات التي يقدمونها للأفراد وهي بالأساس مجانية يتم توفيرها من قبل الدولة(29).
فالعلاقة بين الفساد والحرمان من الحقوق واضحة، فلا يمكن تصور حالة من حالات حقوق الإنسان إلا وتتأثر بالفساد بوصفه معوقاً لها، فهو يشجع على تجاهل القوانين والأنظمة وحتى النصوص الدستورية، فهو يؤثر على الصحة والسلامة والبيئة والتعليم والقضاء العادل، ويزيد من فرص الإجرام والعصابات المنظمة وغسيل الأموال والاتجار بالنساء والأطفال، بل إن هنالك من يرى بان الفساد أصبح ذا نطاق واسع جدا وعلى المستوى الدولي بحيث يمكن تصوره حتى في مجال الأسلحة النووية فيما بين الدول(30)، كما يؤثر الفساد بصورة مباشرة ومضاعفة على فئات معينة من الأفراد التي تتعرض لمخاطر معينة مثل الفقراء، المرضى، المهجرين، المعوقين، السجناء،اللاجئين بالإضافة إلى شريحة النساء والأطفال كون كل تلك الفئات بحاجة إلى رعاية خاصة، فيأتي الفساد ويؤثر على تلك الحقوق، من خلال تحويل الموارد المخصصة لمعالجة مشاكل تلك الفئات ومحاربة الفقر إلى جيوب الفاسدين من المسؤولين(31)، ومن ثم فإن مكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان مترابطان الى حد كبير، وعندما تفشل حكومة إحدى البلدان في استئصال الفساد، فإنها تخفق أيضا في تنفيذ التزاماتها بتعزيز وحماية حقوق الإنسان لرعاياها(32)،
والالتزامات الدولية في هذا الشأن تتمثل في اتخاذ تدابير لمنع انتهاكات حقوق الإنسان، وهذا يتطلب من الدولة القضاء على الدوافع التي تؤدي الى انتهاك حقوق الإنسان، وتوفير سبل الانتصاف القانونية عند حدوث الانتهاكات من اجل منع المزيد من الحرمان(33)، ووضع حد للجهات الفاعلة في الدولة يمنعها من انتهاك حقوق الأفراد، والامتناع عن اتخاذ إجراءات من شأنها حرمان الأفراد من التمتع بالحقوق أو عدم قدرتها على تلبية تلك الحقوق ولا سيما الحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن تعويض من أصابهم ضرر نتيجة الفساد، مثال ذلك شركة (اينرون) الأمريكية التي أعلنت إفلاسها عام 2000، حيث قام مصرفان كبيران في الولايات المتحدة الأمريكية بدفع تعويضات للمتضررين تقدر بـ(225) مليون دولار، وذلك لتورطهما في الغش الذي ارتكبته تلك الشركة، وأخيراً مراعاة مبدأ حسن النية عند مصادرة عائدات الجريمة او أعادتها الى بلدها الأصلي(34)، وفضلاً عن التزامات الدولة في هذا الشأن، فان النصوص الدستورية تفرض التزامات على الأفراد كذلك، وهذا ما نصت عليه م/27/اولاً من دستور العراق لعام 2005عندما جعلت للأموال العامة حرمة وحمايتها واجب على كل مواطن، وهذا الالتزام نصت عليه الاتفاقات الدولية المعنية بمكافحة الفساد حيث نصت م/10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 على أهمية توعية الناس بالفساد وخطورته ومخاطره وذلك من خلال التدابير الآتية: (زيادة الشفافية في عملية اتخاذ القرارات وتعزيز مساهمة الجمهور فيها؛ احترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها؛ الاضطلاع بأنشطة إعلامية تساهم في عدم التسامح بشأن الفساد وكذلك برامج تثقيف عامة تشمل المناهج المدرسية والجامعية؛ ضمان امكانية وصول الجمهور الى المعلومات فعلياً؛)(35)
كما نصت م/5/ف8 من اتفاقية الاتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته لعام 2003 على اعتماد وتعزيز آلية لتشجيع توعية السكان على احترام السلع العامة والمصلحة العامة وتوعيتهم بمكافحة الفساد والجرائم ذات الصلة بما في ذلك البرامج التعليمية في المدارس وتوعية وسائل الإعلام وتعزيز البيئة المناسبة لاحترام آداب المهنة، وكذلك الحال بالنسبة للاتفاقية العربية لمكافحة الفساد 2010، حيث تضمنت م/11 منها اهمية مشاركة المجتمع المدني في مكافحة الفساد وذلك من خلال توعية المجتمع بمكافحة الفساد والقيام بأنشطة اعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد وتعريف الناس بهيئات مكافحة الفساد، وتضمنت م/ 15 منها الالتزام باتخاذ قواعد اجرائية توفر لضحايا جرائم الفساد سبل الحصول على التعويض وجبر الضرر.
وقد اهتمت أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان على دراسة العلاقة المتبادلة بين مكافحة الفساد وحقوق الإنسان، فقد تبنت اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي عدة قرارات في هذا المجال، منها القرار (2002/2) الصادر في اغسطس 2002، الذي نص على إدانة الفساد وتقديم من يقترف أفعال الفساد الى العدالة اذا ما افلت من العدالة الوطنية(36)، والقرار (2003/2) الصادر في اغسطس 2003، الذي شدد على أن تتضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد على تدابير مشددة لتجريم ممارسات الفساد ومنع تحويل الأموال غير المشروعة وضبط الأموال غير المشروعة ومصادرتها(37).
الغياب المستغرب لأي إشارة إلى ظاهرة الفساد في الصكوك الرئيسية لحقوق الإنسان وعدم الإشارة إلى حقوق الإنسان في المعاهدات والقرارات المتعلقة بالفساد رغم أن كل حق محمي من حقوق الإنسان قد يتلاشى فعلياً بسبب الفساد والضعفاء أصلاً هم الضحايا، كما أن جميع حقوق الإنسان تتعرض للانتهاك حيث ينتشر الفساد، لأنه يقيد الحقـوق المدنـية والسياسية؛ وعندما تُحوَّل موارد الدولة عن مسار استخدامها في الشأن العام، تصبح الحكومـات عاجـزة عـن الوفـاء بالتزاماتها في مجال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية(38)، فتعزيز مبادئ حقوق الإنسان ومؤسساتها أمر ضروري لنجاح استراتيجيات مكافحة الفساد، لان انتهاك حقوق الإنسان تضعف الجهود لمكافحة الفساد وتقلل من فعاليتها، و يمكن الربط بين حقوق الإنسان والفساد من ناحية من حيث إمكانية وقوع انتهاك لحقوق الإنسان بسبب أفعال الفساد، ومن ناحية من حيث إمكانية وقوع انتهاك لحقوق الإنسان بسبب تدابير مكافحة الفساد، ونتيجة للتطورات أصبح من الواضح أن إفساد عملية التمتع بحقوق الإنسان أثر من آثار الفساد، وقد ذكرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان 2013 "أن الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية أقرت باطراد في بحر السنوات الأخيرة بآثار الفساد السلبية على التمتع بحقوق الإنسان"(39)
ولأن صور وافعال الفساد متعددة فمن الصعوبة احصاء جميع حقوق الإنسان التي يمكن أن ينتهكها الفساد، حيث إذا وقع فساد في قطاع التعليم فإن الحق في التعليم يمكن أن ينتهك، وإذا وقع فساد في الهيئة القضائية فإن الحق في الاحتكام إلى القضاء والحق في محاكمة عادلة يمكن أن ينتهكا. فكل الحقوق يمكن ان ينتهكها الفساد ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل الحق في العمل والحق في الغذاء والحق في المسكن والحق في الصحة والحق في التعليم والحق في الخدمات العامة والحق في التنمية؛ ومبدأ عدم التمييز؛ فضلاً عن الحقوق المدنية والسياسية، مثل الحق في محاكمة عادلة والحق في المشاركة في الحياة العامة(40)
المبحث الثاني
حماية الحق في مجتمع خال من الفساد والتزام الدولة العراقية بذلك
إن الفساد من الجرائم التي تقف عقبة في سبيل التطور المجتمعات، وان تفشيها في مؤسسات الدولة تعتبر من اشد العقبات خطورة في وجه التنمية، حيث انه يظهر في أفعال الفساد التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية المتمثلة باستغلال السلطة لأغراض خاصة سواء في تجارة الوظيفة (الرشوة، الاختلاس) او المتاجرة بالنفوذ، او الإثراء غير المشروع، او غسل الأموال المتحصلة من جرائم الفساد، ينتج عنها أثار سيئة وهي تحويل الموارد الحقيقية من مصلحة الجميع إلى مصلحــــة أشخاص حيث يتم تركيز المصلحة والثروة في يد فئة قليلة من المجتمع، وهذا ليس في صالح المجتمع على المدى البعيد بسبب أثاره السيئة والضارة.
ولما كان من الصعب أن يتحقق وجود مجتمع خال من الفساد تماماً، فإن الحق في مجتمع خالٍ من الفساد يعني الحفاظ على المجتمع وحمايته من الفساد ووقايته منه، خاصة وان الوقاية تعني الحماية والتطور، وهذا يكون من خلال وسائل علاجية ووقائية تتلاءم مع حجم خطورة الفساد وأثاره، وهذا ما سيبحث فيه في هذا المبحث من خلال مطلبين وكالاتي:
المطلب الأول
الوسائل الوقائية لمكافحة الفساد
نصت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، في الفصل الثاني/ المادة/5 منها على الوسائل والممارسات الوقائية لمكافحة الفساد، وذلك نظراً لأهمية دورها في عدم انتشار وتفاقم الفساد داخل الدولة الواحدة، فضلاً عن دورها في المحافظة على الإدارة الرشيدة وعلى المساءلة والشفافية، واهم الوسائل التي يتعين على الدول اتخاذها، التي تمثل الإستراتيجية الدولية لمكافحة الفساد، هي:
1- نصت م/5/ف1 على ان ((تقوم كل دولة طـرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بوضع وتنفيذ أو ترسيخ سياسات فعالة منسقة لمكافحة الفساد، تعزز مشاركة المجتمع وتجسد مبادئ سيادة القانون وحسن إدارة الشؤون والممتلكات العمومية والنـزاهة والشفافية والمساءلة ((. حيث يجب اعتماد سياسات فعالة ومنسقة لمكافحة الفساد تجسد سيادة القانون والنزاهة والشفافية وتعزز مشاركة الجميع
2- إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد(41) تتولى ما يلي:أ) ارساء سياسات فعالة تستهدف منع الفساد والترويج لها. ب) المراجعة الدورية للصكوك القانونية والتدابير الإدارية بشأن منع الفساد لبيان مدى كفايتها. ج) المشاركة في البرامج والمشاريع الدولية الرامية الى منع الفساد وذلك بالتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية المختصة بمكافحة الفساد(42)، وهذا ما نصت عليه فقرات م/5 من الاتفاقية أعلاه، وبقية الاتفاقيات الدولية المعنية بمكافحة الفساد، منها (م/3-ف9) من اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد لعام 1996، م/20 من اتفاقية القانون الجنائي بشأن الفساد لعام 1999، (م/2- ف1و2) و(م/3/ف1) و(م/5/ف3) من اتفاقية الاتحاد الإفريقي لمنع الفساد ومكافحته لعام 2003، والفقرات(1، 2، 3، 9، 10) من م/10 من الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لعام 2010.
3- وضع نظم تلزم الموظفين العموميين بالإفصاح للسلطات المعنية عن كل ما يؤدي الى تضارب المصالح مع مهامهم كموظفين عموميين مثل أنشطة خارجية أو هبات أو استثمارات أو منافع، وفرض قيود لفترة زمنية محددة على ممارسة الموظفين العموميون بعد استقالتهم أو تقاعدهم، لأنشطة مهنية أو العمل في القطاع الخاص وذلك عندما يكن لتلك الأنشطة أو العمل صلة مباشرة بالوظائف التي تولاها أو الموظفون أو اشرفوا عليها إثناء مدة خدمتهم(43).
4- استحداث قواعد وإجراءات تمكن عامة الناس من الحصول على معلومات عن تنظيم أدارة مؤسسات الدولة، وأدائها وظائفها وعمليات اتخاذ القرارات فيها، وتبسيط الإجراءات الإدارية عند الاقتضاء من اجل تيسير وصول الناس الى السلطات المختصة صاحبة القرار، فضلاً عن توعية الجمهور بوجود الفساد وأسبابه وخطورته ومخاطره، من خلال نشر المعلومات التي يمكن أن تتضمن تقارير دورية، واتخاذ تدابير عملية لتشجيع الاتصال بين الجمهور عامة والسلطات فيما يتعلق بالممارسات الفاسدة، من خلال تعريف الجمهور بهيئات مكافحة الفساد وكيفية الوصول إليها وإبلاغها عن أفعال الفساد (44).
5- الحرص على اعتماد الشفافية الإدارية التي تتحقق من خلال علنية الإجراءات واتخاذ القرارات الإدارية مما يخضعها للمراقبة وللتأكد من مدى صحة هذه القرارات ومطابقتها للقوانين والأنظمة والتعليمات(45)، ويكون ذلك من خلال وضع برامج تعليمية وتدريبية للموظفين العموميين، للفت انتباههم الى مخاطر الفساد على وظائفهم، واتخاذ تدابير تشريعية وإدارية لتعزيز الشفافية في تمويل الترشيح لانتخاب شاغلي المناصب العمومية وفي تمويل الأحزاب السياسية(46).
6- اعتماد النزاهة التي يقصد بها الجوانب الأخلاقية والقيم المرتبطة بقيام الموظف سواء في القطاع العام ام في مؤسسات المجتمع المدني ام في المنظمات الدولية، بأداء مهامه مثل الأمانة والصدق والعناية والإتقان والحفاظ على المال العام وصونه(47)، وقد نصت الاتفاقيات الدولية المعنية على التدابير الواجبة الإتباع لتحقيق ذلك، منها اعتماد مدونات سلوك الموظفين تعزز النزاهة والأمانة والمسؤولية بينهم، واعتماد تدابير تشريعية وإدارية تيسر قيام الموظفين بإبلاغ السلطات المعنية عن أعمال الفساد عند الانتباه الى مثل هذه الأفعال إثناء أداء وظائفهم (48)
7- تجسيد مبادئ سيادة القانون في الأحكام الوقائية من اجل دعم حكم القانون، وذلك لدورها في التصدي للفساد من خلال لتشريعات التي تتخذ إجراءات لمنع وقوع الفساد وعدم إفلات مرتكبيه من العقاب(49)، وقد نصت (م/1/ف3) من ميثاق الأمم المتحدة على تحقيق التعاون الدولي لغرض تعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو الجنس و أي سبب أخر، وحل المشاكل الدولية ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي والانساني، وقد تم إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي لتحقيق ذلك التعاون وتعزيز احترام حقوق الانسان، وكان له دور مهم في محاربة الفساد من خلال إنشاء لجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية فضلاً عن قراراته بهذا الشأن (50)
المطلب الثاني
الوسائل العقابية لمكافحة الفساد
إذا كان الوضع الغالب إن الفعل المجرم يرتكب من أشخاص منحرفين او جماعات خارجة عن القانون، الا ان ذلك لا ينطبق على افعال الفساد كونها ترتكب من خلال استغلال الوظيفة او النفوذ لتحقيق مصلحة خاصة على حساب المصلحة العامة، فهي ترتكب من موقع السلطة او بالقرب منها، لذلك أصبح من الضروري تعزيز الوسائل العقابية لمكافحة الفساد ووضع حد له، خاصة وإنها تعد من أهم وسائل مكافحة الفساد إذا أحسن العمل بها لتجنب نتائجها السلبية الخطيرة على الوظيفة العامة وحقوق الإنسان، واهم الوسائل العقابية هي:
الوسيلة الأولى: لما كانت الاتفاقيات الدولية المعنية بمكافحة الفساد قد حددت أفعال الفساد المجرمة، وهي الرشوة، الاختلاس، المتاجرة بالنفوذ، إساءة استغلال الوظيفة، الإثراء غير المشروع، غسل الأموال الناتجة من جرائم الفساد، إخفاء الأموال المتحصلة من جرائم الفساد وإعاقة سير العدالة(51)، ولما كان الأصل العام في مكافحة الفساد مسألة يحكمها القانون الداخلي الذي يعد من الوسائل الأساسية في ضمان حقوق الإنسان، لان كل تشريع يصدر إنما يستهدف حماية حق معين والذي يعبر عن المصلحة التي يعترف بها القانون ويسبغ عليها حمايته، خاصة في ضوء عدم فعالية التعاون الدولي في مكافحة جرائم الفساد، بسبب تعقيد الإجراءات واحتجاج الدول بمبدأ السيادة وبالنظام والأمن العام ومصالح الدولة(52)، لذا اصبح واجب على كل دولة ان تجعل نظامها القانوني يتلاءم مع خطورة الفساد وآثاره ومع الوثائق الدولية المعنية.
ولما كانت جمهورية العراق من الدول المصادقة على الاتفاقيات الدولية، وخاصة اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تعد أول وثيقة قانونية تحمل عنوان مكافحة الفساد، وتتناول جوانب الفساد بصورة كاملة، فقد تضمنت تشريعاتها العديد من القوانين التي تكافح وتجرم أفعال الفساد وتكرس مبدأ سيادة القانون وحماية الصالح العام، والتي تعد بحد ذاتها من أهم الضمانات لحماية حقوق الإنسان ضد الفساد، إلا أن فاعليتها تعتمد على:
- يجب أن تتضمن النصوص التي تجرم الفساد، اكبر عدد من أفعال الفساد، حيث ان اغلب تلك النصوص القانونية تغفل أفعال مهمة يتحقق بها الفساد، فلا يوجد نص قانوني في القانون العراقي يجرم الرشوة في أطار القطاع الخاص التي تدعو اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد 2003 في م/21، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد 2010 في م/4 الى تجريمها(53)، ولا يجرم الإثراء غير المشروع بالصورة التي دعت الاتفاقيات المذكورة أيضا الى تجريمها(54)، حيث ان قانون الكسب غير المشروع على حساب الشعب رقم 15 لسنة 1985، اكتفى ببيان ثلاث صور للكسب غير المشروع في المادة/4 منه وهي (كل مال حصل عليه بسبب استغلال نفوذه الوظيفي، كل مال حصل عليه بسبب تواطأ شخص طبيعي او معنوي مع الأشخاص المذكورين في المادة الأولى من القانون، كل مال لم يكشف عنه او لم يثبت له مصدر مشروع)، حيث أحال قانون هيئة النزاهة رقم (٣٠) لسنة ٢٠١١ النافذ في مجال بيان المصطلحات الواردة فيه، لبيان قضايا الفساد إلى قانون العقوبات العراقي رقم (١١١) لسنة ١٩٦٩ المعدل، إذ نصت المادة الأولى منه على إن قضية فساد تعني كل دعوى جزائية يجري التحقيق فيها بشأن جريمة من الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة وهي الرشوة والاختلاس وتجاوز الموظفين حدود وظائفهم وجرائم الانتفاع عن طريق استغلال نفوذ الوظيفة العامة، وأية جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادتين (٢٣3،٢٣4) المتعلقة بالجرائم الماسة بسير القضاء نتيجة توسط الموظفين والمكلفين بخدمة عامة لدى القضاء وإصدار الأحكام خلافاً للقانون نتيجة ذلك التوسط، المخلة بسير العدالة والمواد (٢٧1، ٢٧2) التي نصت على جريمة تسهيل هروب المحبوسين او المقبوض عليهم كأحد الجرائم المخلة بسير العدالة وعدها قانون النزاهة من صور الفساد، والمادتين (275، 276) اللتين تضمنتا الجرائم المخلة بالثقة العامة وهي جريمة تقليد وتزوير ختم الدولة أو ختم أو إمضاء رئيس الجمهورية أو ختماً أو علامة حكومية أو لأحد موظفيها أو توقيعه أو دمغات الذهب والفضة وكذلك جرائم استعمالها و على والمواد (٢٩0و ٢٩٣و ٢٩6) التي نظمت مسائل تدخل ضمن جرائم تزوير المحررات الرسمية، وأية جريمة يتوفر فيها أحد الظروف المشددة المنصوص عليها في الفقرات (5، 6، 7) من المادة (135) من قانون العقوبات المعدلة بالقسم (6) من القانون التنظيمي الصادر عن مجلس الحكم المنحل الملحق بأمر سـلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة المرقم (٥٥) لسنة ٢٠٠٤.
- ان يكون هدف هذه النصوص هو الردع العام للحد من عمليات الفساد، وان لا يكون هدفها الانتقام من المفسدين، او بث الرعب والخوف من تجبر وتحكم وتعسف الجهات العاملة في هذا الميدان.
- ان تكون محكمة وواضحة تسد مخارج الفساد ومداخله، تنظم وتصدر استناداً الى دراسة مستفيضة تتضمن المشكلة ونتائجها والحلول للمناسبة لها، تجعل تلك النصوص ترسم استراتيجية كاملة وواضحة لكل وسائل مكافحة الفساد التي تحقق نتائج مهمة في مكافحة الفساد، فضلاً عن جعل تلك الوسائل سياسة عامة كل التشريعات كفرض الشفافية على كل مؤسسات الدولة في كل النظام القانوني العراقي دون استثناء ووضع أسس الالتزام بها، واهم ما نص عليه قانون هيئة النزاهة الملحق بالأمر 55 لسنة 2004، وقد حدد القانون لهيئة النزاهة دور أساسي فاعل هي اقتراح التشريعات اللازمة للقضاء على الفساد، فكان يتعين بالهيئة دراسة مظاهر الفساد المتفشية بلجان بحثية واقتراح الحلول التشريعية لها بمقترحات قوانين(55)، إلا أن هيئة النزاهة عجزت عن تفعيل دورها في هذه الوسيلة لان قيادتها لم تكن تفكر إلا بالملاحقة الجزائية والفضائح ولان العاملين فيها كانوا عاجزين عن اقتراح قوانين تصمم لمكافحة الفساد بسبب تدني مستواهم العلمي وقلة خبرتهم وإمكاناتهم(56).
- الحد من النصوص التي تمنح الحصانة القانونية لمرتكبي جرائم الفساد مهما كانت مناصبهم او طبيعة أعمالهم من الملاحقة الجزائية، وإلغاء جميع النصوص التي تعطي اية حصانات قضائية لأية جهة، ويتوجب تجنب إقرار حصانة الإباحة، في ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد مطلقا(57)، حصانة الإباحة هي الحصانة التي تجعل فعل مجرم فعلا مباح، أما حصانة منع القبض إلا بأذن فيجب حصرها في أضيق نطاق ومنع إقرارها في القوانين إلا لفئات محدودة جدا تتطلب طبيعة وظائفهم ذلك مثل القضاة وأعضاء البرلمان فقط (58)
الوسيلة الثانية: وضع كل من يتولى منصب أمام مسؤولياته وإيجاد نظم لمراقبة أدائه وبخاصة في حال التقصير في الأداء او التخلف عن الأداء، وعرفها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أنها الطلب من المسؤولين تقديم التفسير اللازم لأصحاب المصلحة حول سبل استخدام صلاحياتهم وتصريف واجباتهم والأخذ بالانتقادات التي توجه إليهم وتلبية المتطلبات المطلوبة منهم وقبول المسؤولية عن الفشل أو عدم الكفاءة أو عن الخداع أو الغش(59)، فيجب أن يخضع كل من يتولى منصب في الدولة لعملية مساءلة من قبل الجهات التي قامت بتعيينه أو اختياره أما خلال فترة توليه المنصب لتقويم عمله وتحفيزه لتحسين أدائه وتصويبه، وأما بعد انتهاء مدة ولايته لتقييم عمله ومساءلته ومحاسبته على مجمل انجازاته وأخطائه ليكون ذلك عبرة لمن بعده وحثاً لهم وتصويب لمسار وخطط المؤسسة(60)، وهذه المساءلة لها ستة أنواع(61) هي:- 1؛ المساءلة الدستورية:- بواسطة المحكمة الدستورية او الاتحادية او المجلس الدستوري للتأكد من مطابقة القوانين للدستور ومنع مخالفتها له وانتهاك أحكامه من قبل السلطة التشريعية. 2؛ المساءلة البرلمانية:- عن طريق السؤال والاستجواب والمناقشة من قبل البرلمان ولجان التحقيق البرلمانية لمراقبة أعمال السلطة التنفيذية.3؛ المساءلة القضائية:- بواسطة المحاكم والجهات التحقيقية.4؛ مساءلة الهيئات الرقابية:- كديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة وهو نوع من المساءلة قد يتداخل مع المساءلة القضائية ولكنه قد يختلف عنها من حيث المدى لأنه لا يقف عند ما يعد جرائم من صور الفساد بل يتسع لتشمل صور الفساد غير المجرمة من المخالفات المالية والإدارية والقانونية، كما يتضمن مساءلة عن كفاءة الأداء وجدواه وحسن سير العمل وكفاية النتائج والانجازات. 5؛ المساءلة الداخلية:- وهي رقابة الإدارة على نفسها إما برقابة الرئيس الإداري على المرؤوس وأما برقابة المفتشين العموميين. 6؛ المساءلة الشعبية:- عبر الانتخابات او التظاهرات وعبر وسائل الإعلام
الوسيلة الثالثة: الزام كبار موظفي الدولة بدأً من أعضاء السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية والمحافظون ومن هم بدرجة وزير وغيرهم، ان يقدموا بيانات كاملة عن أموالهم وأموال غوائلهم حال توليهم الوظيفة وبعد انتهاء مدة توليهم، من اجل متابعة ثرواتهم ومدى زيادتها خلال ممارسة الوظيفة، فإذا ثبت ان أموالهم زادت بما لا يتناسب مع مواردهم المعروفة فيتوجب بالقانون أن يلزمهم لإثبات مصادر هذه الأموال، والا فانها تعد اموال غير مشروعة، ويتعين تجريم ذلك ومعاقبة الموظف الذي يثبت إثراءه غير المشروع بعقوبة جزائية مناسبة فضلاً عن مصادرة تلك الأموال(62)، وقد اخذ القانون العراقي بإلزام بعض كبار موظفي الدولة بتقديم تقارير كشف عن مصالحهم المالية(63)، الا انه لم يجرم ثبوت تضخم أموال الموظف ولم يرتب على ذلك أي اثر، لذا فلا قيمة لتقارير الكشف عن المصالح المالية تلك، فيتوجب تجريم ثبوت تضخم أموال الموظف المالية إذا ما عجز عن إثبات مصادر مشروعة لها والمعاقبة عليها.
الوسيلة الرابعة: يجب على الإعلام أن يأخذ دوره في نشر الفساد وتقييم عمل المؤسسات ونشر الشفافية والإشارة الى عمليات الفساد فيها بصورة نزيهة، بعيداً عن الإغراض السياسية أو من اجل كسب ود بعض الإفراد، لكي لا يجعل المواطن يفقد الثقة بأجهزة الدولة وموظفيها.
الوسيلة الخامسة: إيجاد طرق ناجحة للإخبار عن جرائم الفساد، ومكافأة من يقوم بالإخبار، وضرورة نشر الوعي وثقافة النزاهة وروح المواطنة بين الموطنين والموظفين على حد سواء، من اجل الابتعاد عن الإخبار الكاذب وتقوية دافع المصلحة العامة في الإخبار، لكي تحقق القوانين التي تنم ذلك فعالة.
الوسيلة السادسة: وجود جهاز قضائي يتمتع بالاستقلالية والنزاهة والحياد، يعد من اهم الوسائل اللازمة لمحاربة الفساد، اذ لا فائدة من نظام قانوني واضح وكامل ينظم مكافحة الفساد اذا لم يقترن بقضاء مستقل وقوي، فقضايا الفساد تتضمن امور معقدة تحتاج الى دراية وخبرة ومعرفة بسوابق قانونية، فضلاً عن ان من يقومون بها يمتلكون قوة ونفوذ، وبالتالي تطبيق القانون على الفاسدين الصغار يمكن ان يؤدي الى يقتنع كبار الفاسدين من ذوي النفوذ بانهم بمنأى عن الملاحقة وانهم فوق القانون، لذا فان استقلالية وشجاعة القضاة في التصدي لذوي النفوذ والسطوة في المجتمع ضرورية لتفعيل قوانين مكافحة الفساد والا فانها ستظل حبر على ورق(64).
فمكافحة الفساد هو عملية طويلة المدى ينبغي اعتماد إستراتيجية لها قد لا تقبل ان تقل مدتها عن مائة عام، لذا فان اعتماد الحلول قصيرة المدى لن يحقق شيء ولن يكافح فسادا بل سيؤدي الى زيادة الفساد القائم ونفقات واموال تنفق تحت مظلة مكافحة الفساد دون جدوى، وأن الفساد موجود بشكل أو آخر في كل دولة من الدول، ولكن البلدان تكون أقدر على احتوائه عندما تملك آليات قانونية ومؤسسية عاملة وتتمتع بالحكم المتسم بالشفافية والمسـاءلة وتحـترم حقوق الإنسان(65)، ولمنع الفساد أو التصدي لـه، لا بد من وجود آليات قانونية وشفافية في حقل الشأن العام ومنظومة قانونية فعالة.
الخاتمة:
ككل دراسة لابد أن تنتهي بمجموعة من النتائج التي ظهرت من خلال البحث، ففي ختام دراسة (الحماية القانونية للحق في مجتمع خال من الفساد)، يسجل الباحث النتائج التي يتوصل إليها من خلال عرض موضوع البحث، وكذلك أهم التوصيات التي يرى انه من المحبذ الأخذ بها أو الالتفات إليها لغرض معالجة إشكالية هذا البحث، لما يشكل من أهمية وهي:
1- الحق في مجتمع خال من الفساد أصبح من الحقوق الإنسانية الأساسية وذلك لان الحق في الحياة والكرامة والمساواة والقيم الإنسانية الأخرى تعتمد اعتمادا كبيرا على هذا الحق، كما ان هذا الحق لا يقصد به حق مثالي لانه من الصعب التحقيق بل المقصود به هو الحفاظ عل المجتمع وحمايته من الفساد اي بعبارة اخر وقاية المجتمع من الفساد ومسؤولية حماية هذا الحق لا تقتصر عل الدولة والمجتمع الدولي فق بل تقع على عاتق الأفراد ايضاً.
2- للفساد بكل أنواعه آثار على المستوى الوطني والدولي اذ يؤثر على نظام الحكم ويؤدي الى الفوضى والتمرد ويفقد الثقة بالدولة ومؤسساتها ويعرقل سير عجلة التنمية ويؤدي الى هروب الاستثمار الوطني والأجنبي وزيادة معدل التهرب الضريبي، كما يؤدي ايضاً الى تفاقم حالات الفقر وتراجع العدالة الاجتماعية وعد التكافؤ، فضلاً عن عزوف الكفاءات المهنية المؤهلة عن الخدمة العامة.
3- تباينت الاتفاقيات الدولية الخاصة بمكافحة الفساد في تعداد أفعال الفساد المجرمة ففعل الإخفاء وفعل إعاقة سير العدالة يقتصر تجريمها على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد لعام 2010، بخلاف الاتفاقيات الأخرى التي اقتصرت على تجريم الأفعال الأخرى
4- أحكام التعاون الولي لمكافحة جرائم الفساد المختلفة في ضوء الاتفاقيات الدولية تفتقر الى الفعالية بسبب تعقيدات الإجراءات وبطئها، وتحتج الدول تارة بمبدأ السيادة وتارة أخرى بالنظام والأمن العام ومصالح الدولة.
5- لابد ان يبدأ العراق بوضع خطة لمحاربة الفساد على كافة القطاعات ولتبدأ بالتعليم وإرساء القيم والأخلاق والمبادئ التي تقوم على الشفافية والنزاهة في الأجيال الناشئة بحيث يجعلهم يشبون على استنكار الفساد ومحاربته، وهي افضل وقاية من ذلك الخطر الداهم. خاصة وان المعاهدات الدولية لمكافحة الفساد تشجع الدول الموقعة بل وتلزمها ببذل الجهود في نظامها القانوني لتجريم بعض أنواع سلوك الفساد، ومع ذلك تشمل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد والاتفاقات الإقليمية لمكافحة الفساد تدابير وقائية (مثل المساءلة والشفافية والوصول إلى المعلومات العامة) التي على الدول الأعضاء تعزيزها، ودون إغفال هذه الجهود، تركز تدابير مكافحة الفساد على النظر في الجرائم الجنائية، والجزاءات الضرورية والتعاون الدولي في مجال المقاضاة، ومن شأن إدراج تدابير مكافحة الفساد في القانون الجنائي أن يحد من فرص الفاسدين.
6- ضرورة القيام بالكشف عن مواطن الفساد واقتلاعه من جذوره والإعلان عن ذلك أولاً بأول ليكون راعاً لمن تسول له نفسه الخوض في هذا الطريق.
7- وأخيرا من الضروري استثمار الأموال التي يتم استراها من الفاسدين في مشاريع عامة يعلن عنها وعن مصدر أموالها لتكون محل رقابة من الشعب، حيث انها في النهاية أمواله.