دور الاعتدال في السياسة الخارجية
مؤتمر الاعتدال في الدين والسياسة
2018-05-16 05:46
م. د. مصطفى إبراهيم سلمان الشمري/مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية - جامعة بغداد
م. د. ضاري سرحان حمادي الحمداني/كلية العلوم السياسية - جامعة تكريت
المقدمة
تحتل دراسة السياسة الخارجية للدولة أهمية محورية لما لها من دور متميز على صعيد العلاقات الدولية سواء في الماضي أو الحاضر، وحتى في المستقبل، وذلك لان الدولة هي الوحدة الأساس في المجتمع الدولي والفاعلة في النظام الدولي، وهي المؤهلة لممارسة السياسة الخارجية بما تملكه من مبدأ السيادة والإمكانيات المادية والعسكرية.
ومن هنا حظيت دراسة السياسة الخارجية باهتمام متزايد ومستمر من قبل الباحثين والأكاديميين وذلك لتعدد قضاياها وتزايد الوحدات الدولية وتنوعها في النظام الدولي، مما اكسب دراستها أهمية بالغة، فعن طريق دراسة السياسة الخارجية يمكن فهم التوجهات الخارجية للدول في علاقاتها فيما بينها، كما ان دراسة السياسة الخارجية تمكننا من كشف وفهم الاستراتيجيات القومية للدول تجاه بيئاتها الخارجية، سواء كانت هذه الدول كبرى أو إقليمية ومدى نفوذها وحجم أدوارها الخارجية، كما تمكننا كذلك من معرفة اسباب ضعف أدوار دول اخرى.
حاول الكثير من المهتمين في مجال السياسة الخارجية أن يقدموا تعريفاً محدداً لها، إلا ان واقع الحال يشير بان تعاريف السياسة الخارجية قد تعددت وذلك لتنوع المدارس الفكرية والباحثين.
تبرز من السياسة الخارجية قضية في غاية الأهمية وتتمثل تحديدًا بدراسة الاعتدال، ذلك ان عالم اليوم تسود في دوله الكثير من الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، فضلاً عن تصاعد الأيديولوجيات المتطرفة واليمينية، وهنا يأتي بحثنا كمحاولة علمية لتسليط الضوء على قضية أصبحت محط اهتمام لدى الباحثين وصناع القرار ألا وهي دور الاعتدال في السياسة الخارجية، وهذا يتطلب معرفة:
أولاً - مفهوم السياسية الخارجية.
وثانياً - مفهوم الاعتدال في السياسية الخارجية.
وثالثاً - أهمية الاعتدال في السياسية الخارجية.
وهذا ما سنحاول توضيحه تباعاً.
أولاً- مفهوم السياسة الخارجية:
اختلف الباحثون في تعريف وتحديد طبيعة السياسة الخارجية، وذلك لسبب أساس مفاده أنها تعكس معاني مختلفة لأشخاص يختلفون فلسفيًا وأكاديميًا عن بعض (1). وفي هذا الخصوص قال (روبي جونز): أن طبيعة السياسة الخارجية أمر غير متفق عليه بين الباحثين بل لدينا الاعتقاد بانه لن يكون هناك أتفاق على طبيعة السياسة الخارجية مستقبلاً وذلك كون مجال الاختيار في حقل دراسة وتحليل السياسة الخارجية متسع بشكل واضح (2). ويتفق الدكتور (محمد السيد سليم) مع هذا الرأي مؤكدًا على عدم وجود اتفاق في أدب السياسة الخارجية حول تعريفها حتى أن بعض دارسي السياسة الخارجية يعرفونها تعريفًا شديد العمومية لا يكاد يميز بين السياسة الخارجية وغيرها من السياسات، وعليه عدت السياسة الخارجية ذلك الباب الواسع الذي يفتقر إلى حدود منهجية (3).
وعلى هذا الأساس فهمت السياسة الخارجية بدلالة الخطة، وهذا ما ذهب اليه (فاضل زكي محمد) حيث عرفها بانها: "الخطة التي ترسم العلاقات الخارجية لدولة معينة مع غيرها من الدول" (4). وينحو (سموحي فوق العادة) نفس المنحى ويعرف السياسة الخارجية بأنها: "الخطط السياسية التي تنوي الدولة تنفيذها على المدى القريب والبعيد في علاقاتها مع غيرها من الدول في ضوء المصالح المشتركة" (5). وفي السياق ذاته قدم (بلانو وأولتون) تعريفًا للسياسة الخارجية يربط عنصر التخطيط بالمصلحة الوطنية "فالسياسة الخارجية هي منهاج مخطط للعمل يطوره صانع القرار في الدولة تجاه الدول أو الوحدات الدولية الأخرى بهدف تحقيق أهداف محددة في اطار المصلحة الوطنية" (6).
وهناك من نظر إلى السياسة الخارجية من منظور التحليل النظمي ويبرز في هذا الاتجاه (مودلسكي) الذي رف السياسة الخارجية بانها: "نظام الأنشطة الذي تطوره المجتمعات لتغيير سلوكيات الدول الأخرى، ولأقلمة أنشطتها طبقًا للبيئة الدولية"، كما عرفها (فيرنا و سنايدر) بانها: "مجموعة القواعد المختارة للتعامل مع مشكلة أو حدث معين حدث فعلاً أو يحدث في الحاضر أو يتوقع حدثه في المستقبل"(7).
في حين فهم البعض السياسة الخارجية سلوكيًا ويبرز في هذا الاتجاه تعريف الدكتور (علي الدين هلال) حيث عرفها بانها: "مجموعة الأنشطة والتصرفات التي تقوم بها دولة ما إزاء الدول الأخرى بقصد تحقيق أهدافها في ضوء الحدود التي تفرضها قواعد التعامل الدولي وقوة الدولة)، وأما الدكتور (مازن إسماعيل الرمضاني) فقد عرف السياسة الخارجية بانها: " أنماط السلوك السياسي الخارجي الهادفة والمؤثرة التي تتحرك من خلالها الدولة حيال الوحدات الدولية الأخرى منفردة أو مجتمعة " (8).
ومن جانبه عرف (تشارلز هيرمان) السياسة الخارجية بانها: "تتألف من تلك السلوكيات الرسمية المتميزة التي يتبعها صانعوا القرار الرسميون في الحكومة أو من يمثلونهم والتي يقصدون بها التأثير في سلوك الوحدات الدولية الخارجية"، كما عرفها (باتريك مورجان) بانها: "التصرفات الرسمية المحددة التي يقوم بها صانعوا القرار السلطويون في الحكومة الوطنية أو ممثلوهم بهدف التأثير في سلوك الفاعلين الوليين الاخرين" (9).
ورأى البعض في السياسة الخارجية انها تمثل أهداف الدولة في البيئة الدولية وأبرزهم (سيبوري) الذي عرف السياسة الخارجية بانها: " مجموعة الأهداف والارتباطات التي تحاول الدول بواسطتها من خلال السلطات المحددة دستوريًا أن تتعامل مع الدول الأجنبية، وكشاكل البيئة الدولية باستعمال النفوذ والقوة، بل والعنف في بعض الأحيان "، علمًا أن مطابقة السياسة الخارجية بالأهداف الخارجية قد يؤدي إلى نتائج مضلله، فضلاً عن ذلك أن السياسة الخارجية تتضمن ما هو أكثر من مجرد الأهداف، في حين عرفها الدكتور (محمد السيد سليم) بانها: "برنامج العمل العلني الذي يختاره الممثلون الرسميون للوحدة الدولية من بين مجموعة البدائل البرنامجية المتاحة من أجل تحقيق أهداف محددة في المحيط الخارجي"(10).
وقد قدم (روز ناو) أكثر التعريفات شمولاً حول السياسة الخارجية فهي " منهج للعمل يتبعه الممثلون الرسميون للمجتمع القومي بوعي من أجل أقرار أو تغيير موقف معين في النسق الدولي بشكل يتفق والاهداف المحددة سلفًا "، كما عرفها أيضًا بانها " التصرفات السلطوية التي تتخذها أو تلتزم باتخاذها الحكومات أما للمحافظة على الجوانب المرغوبة في البيئة الدولية أو لتغيير الجوانب غير المرغوبة " (11).
ثانيًا- مفهوم الاعتدال في السياسة الخارجية:
تعرف نظرية الاعتدال بانها "مجموعة من الفرضيات المترابطة التي تفسر العملية التي من خلالها الجماعات السياسية تتجنب القضايا المتطرفة لصالح سياسات أكثر اعتدلاً وتفضل الانتخابات عن طريق تبني سلوكيات غير تصادمية، والاعتدال يمكن أن يتم على مستويين وهما الاعتدال الأيديولوجي والاعتدال السلوكي مما يعزز بعضهما البعض" (12).
وقد عرفها وزير الخارجية الإيراني (محمد جواد ظريف) قائلاً: "أن الاعتدال يعني الواقعية وخلق توازن بين الاحتياجات المختلفة للدولة للنهوض بالسياسة الخارجية والسعي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية عن طريق وسائل معقولة وعقلانية وخطاب مناسب، وأن الاعتدال لا يعني نسيان القيم أو تجاهل المبادئ، كما لا يعني التقصير في حقوق البلاد، بل أن الاعتدال له جذوره في الثقة في النفس"، وأضاف: " أن عالم اليوم يحتاج إلى الاعتدال أكثر من أي شيء آخر"(13).
أكد من جانبه الرئيس الإيراني (محمد حسن روحاني) على أهمية الاعتدال في جميع المجالات بما في ذلك السياسة الخارجية، وبحسب روحاني فان الاعتدال في السياسة الخارجية هو "التفاعل البناء وليس المواجهة"، والحث على التفاعل والحوار مع الدول الأخرى على قدم المساواة على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وإزالة التوتر، وبناء الثقة المتبادلة، وأضاف: أن الاعتدال يجب ان يحقق التوازن بين الواقعية والمثالية، وان الاعتدال لن يكون ممكنًا دون الامتثال للقانون، ومن دون شفافية، وبدون إقامة الاتصال بين السلطة والشعب، كما ان الاعتدال والعقلانية يمكن ان تساعد في التغلب على مشاكل البلاد الداخلية والإقليمية والدولية (14).
وفي السياق ذاته أوضح (محمد نجيب تون عبد الرزاق) رئيس وزراء ماليزيا بان الاعتدال يستند إلى بعض المبادئ والقيم السليمة جداً مثل العدالة، والانصاف، واختيار الحوار على المواجهة والمفاوضات على النزاع، ونبذ التعصب والتشدد والفكر المتطرف، والعمل من أجل عالم أكثر سلماً، والبحث عن حلول للمشاكل العالمية، وأضاف: بان المشكلة اليوم ليست بين المسلمين والمسحيين واليهود بل بالأحرى هي بين المعتدلين والمتطرفين، كما دعا إلى إيجاد نوع من التحالف بين الذين يؤمنون بالاعتدال من جميع الأديان من أجل عالم أكثر سلامًا وأكثر اعتدالًا (15).
ولا بد من الإشارة إلى ان الأسباب الكامنة وراء فكرة الاعتدال في السياسة الخارجية ظهور التطرف وتصاعد الصراعات العرقية والدينية، وزيادة عدم التوازن الاجتماعي والاقتصادي والخصومات والمصالح الخارجية والمصالح السياسية، كما لا يوجد بلد واحد في الوقت الحاضر بمعزل عن تهديد التطرف والإرهاب، كما يلعب عدم التوازن بين مصالح الدول دورًا ملحوظًا في ادامة المشكلة، ومن الأسباب الجذرية الكبرى لحالة التطرف هي المشاكل السائدة في منطقة الشرق الأوسط وتداعياتها على الصعيد العالمي، فضلاً عن تنامي وصعود التيارات اليمينية في الدول الغربية(16). كل ذلك فرض على العالم الدعوة إلى تبني الاعتدال في السياسة الخارجية كأيديولوجيا وكسلوك. وعمومًا يمكن تقسيم الاعتدال في السياسة الخارجية إلى (17):
1- الاعتدال الأيديولوجي:
ويقصد به تحول الأفكار من الجمود والانغلاق النسبي إلى أفكار أكثر انفتاحًا وتسامحًا، وهذا يتطلب المشاركة الجماعية بشأن المبادئ الأيديولوجية الأساسية، مما يفضي إلى التعددية السياسية والديمقراطية.
2- الاعتدال السلوكي:
ويقصد به تغيير السلوك السياسي الخارجي للدولة بما يتفق مع القواعد العامة للاعتدال عن طريق البحث عن حل وسط مع الجهات الدولية الأخرى، وحل الخلافات السياسية بالطرق السلمية، وهذا يؤدي إلى تعزيز موقف النظام السياسي للدولة سواء داخليًا أو خارجيًا.
ولا بد من الإشارة إلى ان تحقيق ما تقدم يرتبط ارتباطًا مباشرًا بتبني خطاب سياسي خارجي قائم على الاعتدال ذا نهج وسط ومتوازن، على أن لا يكون ذلك على حساب القيم العليا للدولة أو مصالحها وحقوقها الوطنية، ومن شأن هذا الخطاب أن يعزز قدرة الدولة على مواجهة التحديات والتهديدات الخارجية، كما انه يمهد الطريق لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي، أي بعبارة أخرى أن خطاب الاعتدال يمثل أهم وأبرز نهج لحماية المصالح والقيم الوطنية للبلاد، اذ يسهم في تجنب خلق توتر غير ضروري وأزمة في العلاقات الخارجية، فضلاً عن الانخراط في تفاعل بناء وهادف مع اللاعبين الدوليين في البيئة الدولية، وتماشيًا مع هذه السياسة يجب على الحكومة ان تحافظ على قدرة البلاد على مواجهة كل أنواع التهديدات عن طريق الاستفادة من الإمكانيات المحلية، وعن طريق التعاون مع الحلفاء الخارجيين بالوقت ذاته (18).
ثالثاً- أهمية الاعتدال في السياسة الخارجية:
أن أهمية الاعتدال في السياسة الخارجية، والمزايا المترتبة عليه لا تنحصر على الصعيد الخارجي بل تمتد داخليًا أيضًا، وعليه سوف نتناول أهمية الاعتدال ومزاياه على النحو الاتي:
1- المزايا الداخلية:
قبل الحديث عن المزايا المترتبة داخليًا عن الاعتدال في السياسة الخارجية فان الامر يستوجب توضيح متطلبات الاعتدال السياسي داخليًا.
وعليه يتطلب الاعتدال السياسي تشكيل حكومة وطنية شاملة وتشاركية تحظى بتوافق الآراء من أجل التقدم السياسي استنادًا إلى رؤية مشتركة، وعليه لابد من بناء توافق في الآراء على نطاق واسع حول المستقبل السياسي للبلاد عن طريق الشمولية في تشكيل هوية وطنية قائمة على المشاركة، بدءً بالحوار الوطني، والاتفاق على الدستور مما يعزز التوصل إلى اتفاق واسع النطاق في الهيكل السياسي للدولة ومستقبلها، كما انه يتطلب توفير الدعم والموارد والتدريب، ودور وسائل الاعلام في نشر المعلومات للسكان مما يساعد على ضمان تشكيل هوية وطنية فعالة، فضلاً عن الدور المهم الذي تضطلع به النخب لدعم نموذج الاعتدال السياسي، كما ان ضمان مشاركة المرأة والأقليات أمر أساسي لنجاح عملية تشكيل هوية وطنية قائمة على الاعتدال السياسي، وهذا بالنتيجة يحول دون حدوث أو تجدد الصراعات العنيفة، ولهذا يمكن القول أن الاعتدال السياسي يعد ضروريًا لا سيما الدول التي خرجت من الصراعات والأزمات، عن طريق تحويل أهداف الحرب إلى أهداف سياسية غير عنيفة لتكون مفتاح لتحقيق الاستقرار (19).
ومن جانب آخر فان الاعتدال السياسي يسهم في تقديم مجموعة واسعة من القادة في العملية السياسية عن طريق السعي إلى أدراج أصوات الاعتدال مما يوفر الأمل بتحقيق استقرار دائم لمعالجة مشاكل الاستبعاد والأقصاء التي اتسمت به مدة الصراع العنيف بما في ذلك أولئك الذين تم تهميشهم بسبب الهوية العرقية أو السياسية أو الدينية أو حتى الفئات التي تم استبعادها سابقًا من ترتيبات تقاسم السلطة، فضلًا عما تقدم فان الاعتدال السياسي يتطلب متطلبات صعبة عدة منها: بيئة آمنة، ونظام فعال للعدالة، ونزع السلاح، وتسريح الجماعات المسلحة (20).
وأما بخصوص المزايا المترتبة على الاعتدال السياسي على الصعيد الداخلي فهي عديدة لعل أبرزها: الابتعاد عن الممارسات الاقصائية، والانفتاح على الفئات المستبعدة سابقًا لتصبح جزءًا من المنظومة السياسية (واللعب وفقًا لقواعد اللعبة)، وهي قواعد تحددها وتسيطر عليها الأنظمة القائمة، وهذه العملية أسماها (صموئيل هنتنغتون) بـ"المشاركة أو المقايضة المعتدلة" وهي نوع من "الصفقة الديمقراطية" بحيث تصبح جماعات المعارضة مؤهلة للاستفادة من الانفتاح السياسي بعد أن تعدل مطالبها، وتتبنى تكتيكات معتدلة عن طريق انتخابات ديمقراطية، ومجتمع مدني حر، واحتجاجات قانونية، وغالبًا تلجأ جماعات المعارضة إلى الاعتدال لأنه أقرب إلى النفعية والواقعية، كما أن الاعتدال يزيد من فرص جذب أعداد أكبر من الناخبين ما يعني الحصول على حصة أكبر من السلطة، ومن هنا نصل إلى نتيجة مفادها أنه بينما الاستبعاد السياسي للمعارضة يدفعها إلى تحويل نشاطها إلى السرية، فان الاستيعاب السياسي يمنح المعارضة وغيرها من الجهات الفاعلة سلسلة من الفرص، والسماح لها في الانخراط في الممارسة الديمقراطية، وتراجع حتى ولو نسبيًا في أساليب القمع من قبل الحكومات بالنسبة للأنظمة شبه السلطوية(21).
2- المزايا الخارجية:
تكمن أهمية الاعتدال على الصعيد الخارجي من عدة اعتبارات لعل أبرزها:
أ- ان الاعتدال يسهم في تأمين المصلحة الوطنية للدولة:
يعد مفهوم المصلحة الوطنية من المفاهيم الأساسية والمبهمة والمتميزة بالتعقيد إذ يصعب الاجماع حوله، حيث اختلفت الاطروحات بشأنه باختلاف المناهل الفكرية والعلمية للباحثين، غير أن الاهتمام الاوفر بهذا المصطلح كان من نصيب رواد النظرية الواقعية التي عدت المصلحة الوطنية أداة التحليل الرئيسة لرسم وفهم السياسات الدولية (22). ومن هذا المنطلق فان المدرسة الواقعية تفهم المصلحة الوطنية موضوعيًا، حيث رأت ان واقع الدولة السائد خلال مدة زمنية محددة يعكس نوعية إمكاناتها الموضوعية والذاتية، وان محصلة التفاعل بين مفردات هذه الإمكانات هي التي تحدد المصلحة الوطنية للدولة وتتحكم في نوعية سياساتها الخارجية، اذ رأت ان كل سلوك سياسي خارجي انما يرمي إلى تحقيق هدف معين ينبع من مصلحة الدولة وان اداته الأساسية هي القوة، ولهذا ربط دعاة المدرسة الواقعية بين القوة والمصلحة، وان كل ما يؤدي إلى تنمية قوة الدولة يؤدي إلى تحقيق مصلحتها (23).
وأما المدرسة السلوكية فقد عرفت المصلحة الوطنية انطلاقًا من رؤية ذاتية، فدعاة هذه المدرسة أكدوا أن أنماط السلوك السياسي الخارجي تعبر عن أفضليات ذاتية تتغير تبعًا لتغير قيم مجتمع هذه الدولة وحاجاته وتطلعاته، ولأن عملية ترجمة هذه القيم والحاجيات إلى واقع ملموس تناط رسميًا بصانع القرار، وعليه يتم فهم المصلحة الوطنية بدلالة ما تقرره الأمة من خلال صناع قراراتها (24).
وفي سياق الاهتمام بتحديد مفهوم المصلحة الوطنية ذكر الدكتور (ناظم عبد الواحد الجاسور) بان المصلحة الوطنية مفهوم واسع يختلف من دولة لأخرى، متغير من طرف دولي لآخر فهو "يحتوي على تلك المظاهر التي تسعى لها الدولة لتحقيق آمالها، والتي تحمل الصفة الدائمة والثابتة لظروف تلك الدولة"(25).
وقد عرف (هايم شيكد) المصلحة الوطنية بانها "مواصلة الحفاظ على استقلال الدولة ومؤسساتها وحماية قيمها وتحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، إلا أن الأمن القومي يعتبر أولوية أولويات بالنسبة للمصلحة الوطنية"، ويرى (جاك بلانو) أن المصلحة الوطنية هي "مفهوم عام يمتد للعناصر التي تتعلق بالحاجات الرئيسة للدولة، فهو يشمل بقاء الدولة والاستقلال وسلامة الإقليم والأمن والرفاهية الاقتصادية"(26).
في حين عرف الدكتور (إسماعيل صبري مقلد) المصلحة الوطنية بانها " القوة الدافعة والمحددة لاتجاهات السياسة الخارجية للدول، وكل اختلاف في تفسير مضمون المصالح القومية بواسطة أجهزة اتخاذ القرار لا بد ان يترتب عليه فورًا وبالضرورة اجراء تغييرات مماثلة في مضمون هذه السياسات الخارجية"(27).
عمومًا تتضمن المصلحة الوطنية: كل ما تحققه الدولة وتسعى للوصول اليه من تنمية اقتصادية، وتحقيق الرفاهية، وتعزيز التجارة الخارجية، والقدرة على المنافسة الدولية في الميدان الاقتصادي، كما يرى (دانيال باب) أنها يمكن ان تتضمن أيديولوجية الدولة، إضافة إلى كونها تشكل زيادة القوة حسب المفهوم الواقعي، ويضيف انها تتضمن الأمن القومي والأخلاق والثقافة والقيم (28).
ومما تقدم يتضح بان المصلحة الوطنية تتميز بالدينامية النسبية، بمعنى أن بعض مضامينها قابلة للتغير تبعًا للتغير الذي قد يطرأ على البيئة الداخلية والخارجية للدولة وادراك صانع القرار لها (29).
ومن الجدير بالذكر ان الاعتدال له دور كبير في ضمان تحقيق المصلحة الوطنية للدولة؛ ذلك ان الدولة التي تتسم سياستها الخارجية بالاعتدال لها القدرة الكافية على تأمين مصالحها الوطنية من التهديدات الخارجية بما ينسجم مع ما تمتلكه من عناصر القوة لديها، وعليه فإننا امام معادلة مفاده ان الاعتدال في السياسة الخارجية يعزز المصلحة الوطنية للدولة بناءً على ما تملكه من عناصر القوة.
ب- ان الاعتدال يعزز السلم والأمن الدولي:
أن مفهوم السلم والامن الدولي يُعد من المبادئ الأساسية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، ولهذا جاء في المادة الأولى من ميثاق الأمم ان من مقاصد الأمم المتحدة " حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها" (30).
ويغطي مفهوم الإخلال بالسلم كل الحالات التي تنسب فيها اعمال الحرب وتستعمل فيها القوة، وهو يشمل العدوان، وينتج تهديد السلم عن عدة أسباب كأن تقوم دولة بتهديد دولة أخرى بالدخول في حرب، أو القيام بأي عمل من أعمال التدخل، أو التهديد باستخدام احدى صور العنف، كما يتحقق تهديد السلم في حالة وقوع صدام داخل إقليم إحدى الدول ويكون على قدر من العنف والجسامة بحيث يؤدي إلى تعريض تجارة ومصالح الدول الأخرى للخطر، وبحسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة فان العدوان يشكل أحد أخطر الحالات المهددة للسلم والأمن الدولي التي تستدعي اتخاذ التدابير القمعية لمواجهتها، ويقصد بالعدوان هو استخدام القوة المسلحة من جانب دولة ضد سيادة ووحدة الأراضي الإقليمية، والاستقلال السياسي لدولة أخرى، أو بأية طريقة لا تتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة (31).
علمًا أن مفهوم السلم والأمن الدولي أصبح أكثر اتساعًا؛ ولذلك توسع مجلس الامن في بيان العوامل التي تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدولي فلم يعد يقصرها على المنازعات بين الدول، وأعمال القتال الواسعة النطاق داخل حدودها وانما اتسع مداها لتشمل الحالات التي يقع فيها قمع الأقليات والأعمال التي توصف بانها إرهابية والمآسي الإنسانية والتنكر للمبادئ الديمقراطية (32).
وبناءً على ما تقدم يتضح ان السلم والأمن الدولي يعد من أهم القضايا في الساحة العالمية ويمكن ان تقوم الدولة بدور مهم في ذلك من خلال سياسة تتسم بالاعتدال وتجنب التطرف داخليًا والعدوان خارجياً، كما ان الدولة يمكن ان تكون عنصر فاعل في المجتمع الدولي في هذا الأمر وذلك عن طريق: (تبني دبلوماسية وقائية لمنع أسباب التوتر واعمال العدوان، والتوسط في حل المنازعات، وتسوية المشاكل بالطرق السلمية، والاشتراك مع المنظمات الإقليمية والدولية لوضع حد لأعمال التطرف والعدوان).
ج- ان الاعتدال يمنح الدولة هيبة ومكانة دولية مناسبة:
في علم الجيوبوليتيك ما يصطلح على تسميته بـ"هيبة الدولة"، هذه الهيبة القادرة وحدها على صونِ المرتكزات الأخلاقية لأيّ ميثاق اجتماعي بين مختلف مكوّنات الدولة، وهيبة الدولة تصنعها أوّلاً العدالة بالقانون الذي يمتلك مقوّمات زجريّة تحمي الحريات والحقوق على حدٍ سواء، وتصنعها ثانياً ممارسة المؤسّسات الدستورية التي تمتلك الدولة سيادتها حصراً بمنأى عن أيّ استتباعاتٍ وارتهانات أو مسايرات(33).
ويطالب المفكرون والكتاب بضرورة توافر هيبة الدولة، وهو أمر حق فبذهاب الهيبة تذهب الدولة وتتقوض دعائمها، وكثيرًا ما تتولد الهيبة عن العدل، فالحاكم العادل مهاب الجانب، فلا يطمع القوي، ولا ييأس الضعيف (34).
فضلاً عما تقدم أن أهم سمات الدولة التي يوجد اتفاق حولها بين دارسي النظم السياسية أنها هي التي تحتكر أدوات القوة، بمعنى أنها تحتكر استخدام السلاح بحيث لا مجال لاستخدام جماعة في الدولة السلاح ضد المواطنين أو ضد الدولة نفسها، واستخدام أدوات القوة هنا يكون وفق القانون وبموجبه، أي ليس استخداماً مزاجياً أو خارج إطار القانون، ووفق هذه الرؤية فللدولة ومؤسساتها هيبة واجبة، فلا مجال للخروج على الدولة بالسلاح، ولا مكان لتحدى الدولة ومؤسساتها، والدول التي توجد بها جماعات مسلحة تناطح الدولة وتنازعها استخدام القوة هي دول هشة، ضعيفة، لا هيبة لها، ومرشحة للسقوط أو الانقسام في أي لحظة، أما الدول التي تشهد وجود جماعات تمارس العنف والإرهاب فتكون أمام تحدٍّ جوهري يتمثل في هزيمة هذه الجماعات أولاً بالقوة، فلا مجال لرضوخ الدولة أو تراجعها أمام جماعات تمارس العنف والإرهاب، والرضوخ هنا يعني سقوط هيبة الدولة، وسقوط الهيبة يمكن أن يكون مقدمة للسقوط المادي (35).
أن الغاية من عرض ما تقدم هي ان الدولة لا تستطيع فرض هيبتها ومكانتها في الخارج ما لم تثبته بالداخل، وبالتالي فان الدولة مطالبة أولاً بفرض هيبتها ومكانتها داخليًا، ومن ثم تفرض هيبتها ومكانتها في الخارج، ومن الملاحظ ان فرض الدولة هذه الهيبة والمكانة في سياستها الخارجية لا يشترط ان تكون من خلال القوة العسكرية فحسب بل يمكن فرضها عن طريق أدوات متعددة لعل أبرزها الأداة الاقتصادية، والتكنولوجية، والإعلامية، والثقافية، وغيرها.
وهو ما اصطلح على تسمية بـ" الهيمنة الحميدة " ويقصد بها " التركيز على إمكانية السيطرة بالإقناع وتحجيم العنف إلى أدنى درجاته، وترويج المنطلقات القيمية والمؤسسية للدولة لتوسيع نفوذها العالمي" (36).
ومن جانب آخر أن المفهوم الرئيس لمكانة الدولة في بنيان النظام الدولي يحدد إلى حد بعيد سلوكها إزاء الدول الأخرى، فالنظام الدولي يتسم بالتركيب التدريجي للوحدات الأساسية، ويتحدد تركيب كل دولة في هذا النظام طبقاً لمجموعة من المؤثرات التي بمقتضاها تنقسم الدول إلى وحدات عليا ووحدات دنيا فاذا تصورنا ان المؤشرات التي تحدد مكانة الدولة في النظام هي: القوة العسكرية، ومستوى التصنيع، ومستوى الدخل الفردي، فانه من المتصور ان تتمتع وحدة معينة بمكانة عالية مقارنًة بوحدة أخرى تتمتع بمكانة دنيا بالنسبة لتلك المؤشرات، وترى نظرية المكانة ان الدول غير المتوازنة في المكانة تكون اقرب لاستخدام القوة لتحقيق أمنها القومي، ولتحقيق التوازن في مكانتها الدولية، وبالتالي ستلجأ لأسلوب القوة الصراعي في علاقاتها الخارجية وخاصة تجاه الدول ذات المكانة العليا المتوازنة، ويُبنى منطق هذا التحليل على ان عدم توازن المكانة ينتج ضغوطًا مستمرة نحو التحرك إلى موقع التوازن، بحكم المعاملة المتفاوتة التي تلقاه هذه الدولة من الدول الأخرى. وان كان الواقع يؤكد ان السياسة الخارجية للدول ذات المكانة العليا تكون أنشط وأكثر فعالية لتحقيق أمنها القومي تجاه الدول ذات المكانة الدنيا بسبب محاولات الدول ذات المكانة الدولية العليا للسيطرة على الدول ذات المكانة الدنيا (37).
ولا بد من الإشارة إلى ان الدولة التي تلجأ إلى افتعال الازمات في الخارج، والخوض في الحروب يجعلها عرضة لانتقادات مما يحولها إلى دولة منبوذة بنظر المجتمع الدولي، وهذا يجعلها عرضة للتضيق وحتى الاقصاء من قبل المجتمع الدولي.
الخاتمة
بناءً على ما تقدم يتضح أن دراسة مضمون السياسة الخارجية ينصرف إلى الفعل الخارجي للدولة سواء أكان مع الدول الأخرى أو مع الوحدات الدولية من منظمات دولية وإقليمية.
ولعل أهم ما تجب الإشارة اليه أن السياسة الخارجية تفتقر إلى تعريف محدد يحظى بالأجماع من قبل الدارسين والمهتمين، ولهذا تعددت وتنوعت، وفهمت بدلالات مختلفة باختلاف مفكريها ومنظريها كلاً حسب رؤيته.
ومع ذلك فان السياسة الخارجية تبقى تحظى بمكانة في غاية الأهمية لكل دولة، فالعلاقة بين الدولة والسياسة الخارجية علاقة وطيدة، وذلك لإثبات كيانها على الساحة الدولية واستقلاليتها الرسمية.
وفيما يخص مفهوم الاعتدال في السياسة الخارجية فقد أصبح جليًا انها مبنية على أسس واضحة المعالم، ألا وهي: العدالة، والانصاف، واختيار الحوار على المواجهة والمفاوضات على النزاع، ونبذ التعصب والتشدد والفكر المتطرف، وتحقيق أهداف السياسة الخارجية عن طريق وسائل معقولة وعقلانية وخطاب مناسب وهذا لا يعني التقصير في حقوق البلاد، والاعتدال يمكن أن يتم على مستويين وهما الاعتدال الأيديولوجي والاعتدال السلوكي مما يكمل بعضهما البعض.
ومن الجدير بالذكر ان الاعتدال يحظى بأهمية خاصة في السياسة الخارجية لما له من مزايا عدة التي لا تنحصر على الصعيد الخارجي وانما تمتد إلى داخل الدولة ذاتها، ولعل من أهم المزايا المترتبة على سياسة الاعتدال في الداخل هي: الابتعاد عن الممارسات الاقصائية، والانفتاح على الفئات المستبعدة سابقًا لتصبح جزءًا من المنظومة السياسية، واحتواء المعارضة بعد أن تعدل مطالبها مما ينتج عنه تراجع ولو نسبي في أساليب القمع من قبل حكومات الأنظمة شبه السلطوية.
وأما بخصوص المزايا المترتبة على سياسة الاعتدال في الخارج فهي متنوعة لعل أبرزها: ان الاعتدال يسهم في تأمين المصلحة الوطنية للدولة؛ ذلك ان الدولة التي تتسم سياستها الخارجية بالاعتدال لها القدرة الكافية على تأمين مصالحها الوطنية من التهديدات الخارجية بما ينسجم مع ما تمتلكه من عناصر القوة لديها، كما ان الاعتدال يعزز السلم والأمن الدولي من خلال سياسة تتسم بالاعتدال وتجنب التطرف داخليًا والعدوان خارجياً، وان الدولة يمكن ان تكون عنصر فاعل في تعزيز السلم والأمن الدولي عن طريق: (تبني دبلوماسية وقائية لمنع أسباب التوتر واعمال العدوان، والتوسط في حل المنازعات، وتسوية المشاكل بالطرق السلمية، والاشتراك مع المنظمات الإقليمية والدولية لوضع حد لأعمال التطرف والعدوان)، فضلاً عما تقدم ان الاعتدال يمنح الدولة هيبة ومكانة دولية مناسبة وذلك عن طريق أدوات متعددة لعل أبرزها: الأداة الاقتصادية، والتكنولوجية، والإعلامية، والثقافية، والعسكرية، وغيرها، وبالعكس فان الدولة ذات النهج المتطرف ومفتعلة الأزمات يجعلها منبوذة من قبل المجتمع الدولي.
التوصيات
1- تبني خطاب سياسي خارجي قائم على الاعتدال ذا نهج وسط ومتوازن، على أن لا يكون ذلك على حساب القيم العليا للدولة أو مصالحها وحقوقها الوطنية.
2- تحقيق أهداف السياسة الخارجية بوسائل معقولة عن طريق الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
3- تنمية المصلحة الوطنية للدولة بناءً على ما تملكه الدولة من عناصر قوة وفق سياسة خارجية قائمة على تجنب التوتر، والتعاون الإقليمي والدولي.
* البحث المقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية