النجف الاشرف المدينة المقدسة
حكمت السيد صاحب البخاتي
2017-05-29 06:20
تنعت المدينة الدينية بالمقدسة، لان المقدس هو الجذر الاول في الدلالة الدينية، ويفسر علماء الأنثروبولوجيا المقدس بانه ممارسة يضفيها الانسان عبر مجابهة داخلية مع قوة لا تنتمي الى عالم الظاهر والمرئي. ويرى علماء الانثروبولوجيا ان المقدس سمة للدلالة الدينية. اما الرؤية الدينية فإنها ترى المقدس أكثر من مجرد سمة وانما هو مبعث كل دلالة دينية او جذر اول في الدلالة الدينية الذي يتشكل وفقها او من خلالها مفهوم المدينة الدينية باعتبارها دلالة دينية تنتج عن تموضع المقدس في تلك المدينة الدينية.
والمدينة الدينية مفصل مهم في كل الدورات الحضارية بل مفصلها الاهم في كل هذه الحضارات، فقد كان المعبد في مركز كل مدينة قديمة وتتشكل المدينة حوله او تتفرع عنه، واستمر المعبد ثم المدينة الدينية في بناء كل الحضارات الى ما قبل الحضارة الحديثة التي وان بدأت من المدينة الدينية روما الا انها كانت تسير باتجاه مغاير للمدينة الدينية مما جعلها تخسر مكانها او مكانتها لصالح المدينة العلمانية، او هكذا تراجعت مدينة الله لصالح مدينة الانسان كما ارادت تلك الحضارة ان تصور تبادل المواقع بين الله والانسان.
لكن بعد ان تراجعت المدينة الدينية هل فقدت اهميتها؟ او استأصلت حضارة الانسان امكاناتها؟ او نضبت ومنذ هذه اللحظة في بناء الحضارات؟ لكنها مدينة انغرست بعمق في تاريخ الانسان بل ان تاريخ الانسان بدأ معها لأنه تاريخ بدأ بالتدوين والعمران وما زال ذلك هو التاريخ الذي يستمر في بناء كينونته بالتدوين والعمران.
وقد بدأ التدوين باسم الاله واساطير الخلق الأولى، وكانت تلك المدينة القديمة تنمو في العمران باسم الاله، فالإله وفق الاساطير القديمة هو الذي يصنع المدينة ويهبها بركته وعطاء الوجود، وظلت تلك الحكاية سائدة في ما تنسجه الشعوب من اساطير حول مدنها واستمرت الآلهة تحرس بوابات المدن القديمة. وتطلق عليها اسماء ترمز الى دور الحماية الذي تمارسه كعنصر في ديمومة بقاء المدن القديمة. وتحولت تلك الآلهة الى شخصيات دينية تمارس مهمة الحماية هذه في تاريخ المدينة الدينية الاقرب تاريخيا.
ولعل صيغ التعبير عن العلاقة بالمدينة -الارض- الوطن- بالقداسة هو احدى ارهاصات المعنى الذي تنبثق عنه المدينة الدينية، وان هناك عقيدة قديمة في المدن القديمة، بأن لكل مدينة إله يحميها ويرعاها وقد يصب ـ في لحظة عدم رضا ـ جام غضبه عليها، وكان الوثنيون الرومان يعزون الكارثة التي حلت بروما عام 410 م بعد ان تعرضت الى غزو مدمر الى تحريم الامبراطور ثيودسيوس عام 391 م عبادة آلهة الرومان واغلاق هياكل الآلهة بعد اعتناقه المسيحية فتخلت تلك الآلهة عن حماية روما، كما يروي اوغسطين في كتاب (مدينة الله).
وحين قال سيد قريش وشيخ الحرمين مخاطبا ابرهة الحبشي: ان للبيت ربا يحميه، انما كان ينطلق في خطابه بل في ايمانه، ان هناك علاقة خاصة بين مدينته مكة وإلهه العظيم الذي هو (الله تعالى)، هكذا كانت المدينة الدينية ومازالت في تلك المدن منها والعصية على الزوال حاضرة الله. وكانت المدينة القديمة تتفرع وتنشأ عن حضور الاله في هذه المدينة الدينية ويسكنها الملك او الحاكم الذي يصطفيه الاله ويكون من نسله الالهي ويجعل الحكم قدرا في شخصه وسلالته.
وتشغل المدينة الدينية نقطة او ممر العبور بين الله والانسان او مجتمع الانسان وتنقل المدينة الدينية رسائل الاله وتسلمها الى الشعوب المعنية بأمرها وتشغل تلك الرسائل دساتير هذه المدينة ومجموعة المدن المحيطة بالمدينة الدينية.
وتتعدد المدن الدينية ومواقعها على خرائط الحضارات القديمة، فهناك مدن الآلهة الكبرى في العالم الابعد قدما، ومدن الله في العالم الاقرب قدما، ويحدث ان تنتقل تلك المدن من حاضرة الى اخرى؛ لأنها هوية وممارسة فالمدينة الدينية مقترح في الوصول الى الله تعالى، وهو مقترح يشترط في قوته وحجته العلم والسلوك او الممارسة. وأصف المدينة الدينية بالمقترح وهو وصف ينطبق على مدينة الله اكثر مما ينطبق على مدن الآلهة القديمة لان مدينة الله دعوة من الله ورغبة من الانسان ويبقى الخيار للإنسان (انا هديناه السبيل اما شاكرا وإما كفورا) الدهر، 3.
فكل مدينة دينية يكون العلم الديني فيها اصل الهوية لها، والسلوك الديني ممارسة تتفرع عن هذا الاصل وفي الحديث (الناس هلكى الا العالمون والعالمون هلكى الا العاملون).
ومع تنقية المدينة الدينية الاسلامية من شوائب الوثنية او مشتركات المدينة الوثنية فان معايير المدينة الدينية المزبورة سلفا تنطبق على هذه المدينة الدينية، وقد تمثلت اكثر في صيغة المدينة الدينية الامامية وفي احدى صيغ معاييرها فان هذه المدينة الدينية الامامية قد تنقلت بين حواضر متعددة في تاريخ الاسلام، حتى استقرت في النجف الاشرف ومنذ أواخر القرن الثاني عشر الهجري -القرن الثامن عشر الميلادي شغلت موقع عبور رسائل الله تعالى الى البشر بعد ان تعزز الموقع العلمي لها على اثر الانجاز الاصولي وهيمنة الخط الاجتهادي الذي بدت بواكيره الاولى مع الشيخ ابو جعفر الطوسي ت448 هـ النجف الاشرف، وتلك من مفارقات المدينة الدينية التي تشهد عودة متكررة لها وهو ما عرفته النجف الاشرف تاريخيا كمدينة دينية لأنها حاضرة الله تعالى.
ومن سمات المدينة الدينية الاسلامية او بوادر نشأتها هو انها ارض بكر وطأتها اقدام ولي من اولياء الله يتوسمه اصطفاء الهي في نظر اتباعه يتخذها مسجدا وتتخذه بعد وفاته مزارا وتعلو القبة في المدينة الدينية للتعبير عن صلتها صلة ارضها بإله سمائها، وبين المسجد والمزار تنشأ مدرسة علم ديني وتحيط بها اوقاف دينية.
وتندمج في هذه المدينة الدينية ثقافات متعددة ومشارب فكرية متنوعة تحملها الهجرات إليها، لكنها هجرات ليس مثل باقي الهجرات تكون تحت ظروف القهر والقسر والتشريد، انما هجرات تنبعث عن دافع ورغبة تقوية في مواصلة السير الى الله تعالى، من هنا فإن المدينة الدينية مقترح لان الدافع اليها رغبة تقوية والدعوة فيها لأنها محطات ظاهرة على طريق الله تعالى ويكون العلم الديني قصدها الاول ومجاورة الولي قصدا آخر لا يقل عن القصد الاول في الاهمية والقيمة الدينية.
ومن سمات المدينة الدينية الاسلامية كثرة قبابها وارتفاع مآذنها وانتشار مدارسها وكثرة قبور اوليائها، وحين تتداخل المدينة الدنيوية، المدينة العلمانية، مدينة الانسان، مع المدينة الدينية وتنخرط في بدء امرها مع مساراتها الدينية لا تلبث ان تتغلب عليها على هويتها وتستحوذ عليها وتسيرها باتجاهها الدنيوي وتتمخض العلمنة فيها -بغداد نموذجا- عن الاشتغال عن العالم الآخر الا ان المدينة الدينية تقصي المدينة الدنيوية العلمانية عن مجالاتها في محاولات خداعها واستلابها، فإنها تنجو وتظل مدينة دينية –النجف نموذجا–.
وتختلف مدينة الله عند اوغسطين عن المدينة الدينية الإسلامية، فهذه المدينة مؤسسة حقيقة تاريخية تظل تشغل موقعها في نظام التشريع الذي مصدره الله تعالى حتى وان كان اجتهادا بشريا فانه يبرر سلطته بمصدرية الله تعالى له بينما لا تصنف مدينة الله عند اوغسطين بانها مؤسسة حقيقة او وحدة روحية لكنها ممثلة في الارض بالكنيسة وتبقى الكنيسة تهيئة للحياة الابدية – الموجز في التصوف المسيحي والزهدي، يعقوب افران منصور، ص 462- التي يبدو ان مدينة الله تسكنها وهي ايضاَ تقيم مؤقتاَ في الأرض، ويبقى اوغسطين يتحرك بين السماء والارض في تحديد موقع مدينته، ويقول اوغسطين ان المدينة السماوية او مدينة الله هي من صنع الله الحق وهي نفسها القربان الحقيقي وهي تختلط بالمدينة الارضية مع تفاوت القصد بينهما ويفصل بينهما يوم الدينونة او يوم الحساب – م.ن، ص466.
وهناك نقطة اخرى في المدينة الدينية في الاسلام مبرمجة في تاريخ التطور الروحي للمسلمين او في تاريخ الاسلام الروحي بينما مدينة اوغسطين المدينة المسيحية مخطط لها ضمن ترتيبات ومفهوم العدالة فهو تأسيس لمفهوم دولة دينية عادلة لاسيما وان اوغسطين يقارن بين مدينته دائماَ والدولة الأرضية، الدولة الرومانية.
المدينة الدينية الذاكرة والخلود
المدينة الدينية تتوثق في الذاكرة وتتخلد في التجديد فهي لا تكف عن ان تستحضر ذاتها وتدفع بهويتها الى معانقة الأزمنة، لكنها ازمنة تفوق التاريخ. من هنا فإنها لا تكتفي بالتوثيق وتبقى اوراق التاريخ والتراث التي تدون ذاكرتها وحدثها وتوثق سيرتها في طموحات تاريخ المدينة الدينية. لكنها تنشد الى الجغرافيا، فالجغرافيا صلة وصل بالإله من هنا نشأ المكان المقدس او مفهوم الارض المقدسة (ادخلوا الارض المقدسة) المائدة، آية 21، وحين بلغ شعاع القباب عيون اقوى سلاطين زمانه (سلمان القانوني) سرت في اوصاله الرعشة وخاض غمار الرهبة فاستفتح بآي القران فجاءت آية (اخلع نعليك انك بالواد المقدس طوى) طه، آية 21.
فترجل عن فرسه وخلع نعله واستقبل المدينة الدينية محتفيا بروحه حافيا بقدمه لان المدينة الدينية لا تستقبل الا من خلع الهوى ورغبة الدنيا وسار لا يعرج على الورى فهو سير من الخلق الى الحق وفي الجوار ملازمة الحق؛ ذلك ان عليا في الحديث (مع الحق يدور حيثما دار)، والوادي المقدس في التفسير هو ارض النجف (مأوى علي)، والجوار مفهوم نشأ ثانيا في النجف على أثر من استوطن الارض المقدسة طلبا للجوار المقدس للإنسان المقدس (علي) فالوادي المقدس طوى بوابة الارض على السماء. وهبة السماء الى الوادي الخلود وفي تلك الارض المقدسة بحث كلكامش عن الخلود واكتشف المعنى في الخلود في خلاصة ملحمته في ذلك الوادي المقدس، من هنا تنشدّ المدينة الدينية الى الجغرافيا بأفقها الديني والاعتقادي وهنا تكون الجغرافيا بوابة الخلود بينما التاريخ مجرد راوي او قاص عن الخلود.
لكن الخلود يمر عبر المضمون والتجديد فالنجف ارض خواء تطل على الصحراء وتقف على اعتاب زوايا الموت في الارض.
ويفسر اسمها البعض بانها اشتقاق من بحر قد جف فصارت نجف ولا يهمنا هنا التفسير ولكن الدلالة الكامنة فيه. فهو قد جف لكن الحياة فيه لم تجف فهي (واقعة في كبد الصحراء على حاشية الطفوف المطلة على الوهد الفسيح المتصل ببر الشام وكثبان نجد والحجاز جنوباَ)، كلمات الشيخ محمد حسين الكاشف الغطاء-العوامل التي جعلت من النجف بيئة شعرية، جعفر الخليلي، ص20-
وهنا تبدو مفارقة النجف في انها تجف في الحياة ومشهدها الذي يتشكل في رمزية الجنائز الوافدة اليه انما يكشف عن ذاته بانه بوابة السماء وصيغة الخلود (ولو تكشف لك الغطاء يا كميل لرأيتهم حدقاَ حدقاَ يجلسون ويتحدثون)، هكذا كان يقول الامام علي بن ابي طالب (ع) في الكشف عن جوهر مدينته، فالني (البحر) الذي قد جف تفتقت الارض فيه عن ذلك المضمون وكشفت عن حسابات الخلود وهي من سمات المدينة الدينية حيث ارتهنت الذاكرة فيها بالمولى الوصي وبالجدث المطهر للإمام الذي تروق به وله الإمامة. وكانت ارض النجف تدخر له لحدا هو ما اختصه نبي الله نوح الى علي وصي رسول الله محمد.
فالمدينة الدينية تطأها دوما وقصدا اقدام الانبياء والاولياء في السير نحو الله تعالى ولهم في ذلك دافع وباعث. لكن الشيخ النبي ذي القصد السني قد ادخر لحداَ (لعلي) وهنا تبدو مفارقة في المدهش فاللحد سر في الخلود وجواره صيغة في الخلود. والخلاب فيها هو ذلك المضمون. وكيف لا تخلب اللب ارض الغري وقد تضمنت بدن (علي).
التداخل المقدس.. الهوية والمدرسة
لكن المدهش والخلاب يغرس السؤال الديني، والسؤال علامة اثارة في المعرفة، والمعرفة لحظة تأسيس في العلم، والعلم الديني يرتهن او يندمج او تنبجس عنه قضية الخلود.
من هنا تحمل رمزية هجرة الشيخ ابو جعفر الطوسي ت 448 هـ الى ارض النجف ونشأة العلم الديني الامامي ومدرسته على اثر هجرته تلك، حتى قيل فيه شيخ الطائفة، واقصائه عن بغداد حاضرة الدنيا والسلطة وجواره للحد المعظم للإمام العالم بل مصدر العلم الديني واسه رمزية تحمل تداخلات المكان المقدس وتنبثق في اشعاعات القباب في عيون الخاص والعام. وفي تلك التداخلات تنبثق الهوية الدينية في المدينة الدينية وفق قوانين النشوء والتطور فيها ومما يدل على رسوخ الهوية الدينية في المدينة النجفية انه كلما انتقل العلم ومدرسته منها عاد اليها، ويستشف من بعض الروايات انه لم يكن انتقالاَ كلياَ فحيث ما وطأ العلم الديني والامامي ارضاَ عاد الى ارض الغري وتكشف بعض الروايات عن سبق المدرسة والعلم فيها عصر الطوسي وهجرته.
واقدم ذكر لمدرستها في القرن الخامس الهجري وهناك روايات تشير الى اقدم من هذا العصر فقد وفد عضد الدولة البويهي الى المشهد العلوي سنة 371هـ وتصدق واعطى الناس على طبقاتهم، وكان نصيب الفقراء والفقهاء ثلاثة الاف درهم وهي رواية السيد ابن طاووس- العتبات المقدسة، جعفر الخليلي، قسم النجف،ج2 ص32- ولعله يعني بالفقراء جماعات الصوفية وكانت لهم مدرسة في صحن المشهد كما يروي ابن بطوطة في قرن لاحق. وفي المشهد المقدس كان محمد بن علي بن الفضل الكوفي يروي الحديث وقد سمع منه الشيخ الصدوق سنة 354 هـ في بقعة المشهد المباركة وروى عنه، والكوفي هذا كثير الرواية ثقة عين، روى عنه عدد كبير من رجال القرن الرابع الهجري كما في رجال المامقاني-م ن،ص31- وهناك من يرى او يرجح انها ورثت مدرسة الكوفة في القرن الثاني الهجري-م ن،ص71 -هذه المدرسة التي صاغت جزءا كبيراَ وواسعاَ من العالم الاسلامي في علومه ومعارفه وآدابه وثقافته، ولم تكن النجف بالتي تصغر عن اداء هذا الدور واتمامه فقد نشرت العلم والمعرفة وكانت تخرج منها عيون الفقه والادب. وتتوزع على مدارات عالمها الاسلامي وكان العراق مدارها الاول وقطبها الاقرب فالنجف درة ارض العراق وهوية الثقافة فيه.
وقد تكشف المطابع والمكتبات عن حجم هذا الاثر ودوره بل اكثر ما يكشف عن ذلك هو تاريخ تلك المطابع والمكتبات وانها دخلت مبكراَ ارضاَ لم تكن بكراَ في العلم والمعرفة وكانت عيون النوادر والمخطوطات تصدر عنها وتبعثها مطابع النجف ومكتباتها الى اصقاع القطر العراقي. وقبل ذلك مدارسها التي بلغت 37 مدرسة علوم دينية امتدت على مدى ستة قرون في اثرها وتأثيرها وفيها ابلغ عبرة.
واقدم مدرسة فيها هي مدرسة المقداد السيوري التي انشأت سنة 832 هـ/1427م، واخرها مدرسة البهبهاني حيث انشأت سنة 1387 هـ/1967 م، وفق الوثيقة المعتمدة في كتاب (تاريخ النجف الاجتماعي) لمؤلفه د. عبد الستار شنين الجنابي. وكانت كل مدرسة تحمل معها قصة تأسيس وحكاية نشأة. وابلغها أثراَ وحكاية، رواية وتاريخ المدرسة الاصولية في النجف الاشرف، فقد ظهرت الحركة الاصولية في كربلاء على يد الاستاذ الشيخ وحيد البهبهاني ت 1208 هـ اواخر القرن الثاني عشر الهجري وبدايات القرن الثامن عشر ميلادي وبرزت وهيمنت في النجف الاشرف في القرن الثالث عشر الهجري، النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي وعلى يد تلامذة الشيخ البهبهاني لاسيما الدور التأسيسي الاول للنجف مدينة علم وحاضرة زعامة دينية للسيد مهدي بحر العلوم الذي جاء لقبه هذا تعبيراَ عن منزلته الدينية والعلمية في العالم الشيعي والامامي، وكانت تطورات المدرسة الفقهية والاصولية الامامية قد تكاملت ونضجت في هذا الدور الاخير لها في مدرسة النجف الاشرف حتى اطلق بعض الكتاب على هذا الدور (عصر الكمال العلمي) وقد بلغت الحركة العلمية ذروتها في النتاج الاصولي والفقهي مع تكامل ادوار هذه المدرسة الاصولية حتى شرع الكاتب النجفي جعفر الخليلي في تقسيم هذا النتاج على اساس الكتب التي الفت وصدرت في كل مرحلة وهي تقترن بمرتبة من مراتب هذا النتاج العلمي والمدرسي وحسب التسلسل الزمني للمؤلفين وقد بلغت في تقويمه أربعة مراتب –م ن،ج2،ص85-89.
والكتاب الممهور بمهر المدينة الدينية هو ناموس او قانون في طبيعة الاشياء والموجودات ضمن علاقة مفروضة دينياَ معها، وهي تدخل في صلة الاشياء والموجودات بالله تعالى او توجيه العلاقة بها نحو الله تعالى. من هنا فان الكتاب في المدينة الدينية يكتب له الخلود او جزء كبير من الخلود واحد اسبابه انه نتاج المدينة الدينية ويكون مستغرقاَ في محاججته العقلية التي تمكن من ترسيخ القناعة الدينية به، وحسناَ فعل الاستاذ الجعفري حين قسم ادوار ومراحل المدرسة الدينية والامامية على ضوء الكتب التي الفت في ازمنتها وتاريخها المنتقل بين المدن الدينية.
وقد ترك هذا الرصيد الاصولي والفقهي من الكتاب والتأليف العلمي أثره على حركة العلم والمعرفة في النجف الاشرف وكانت انتقالات العلم والمعرفة تمر عبر الكتاب ومدرسته الى انحاء العراق ومناطقه.
المدرسة الدينية تواصل أثر وديمومة عطاء
النجف في هذه المرحلة صارت مقصداَ لطلاب العلم الديني ومن مناطق العراق وخصوصاَ من مناطقه الوسطى وجنوبه، وكانت عودتهم تحمل معها دفاتر العلم الذي ادركوه وحصلوا عليه، وكان اهم ما يرجع به اولئك الذين تعارف عليهم النجف بـ(الطلبة) هو آداب اللغة وعلوم الفقه في الاحكام والشرائع لاسيما وانهم كانوا يتأثرون بأجواء النجف الادبية والثقافية من خارج درسهم العلمي والفقهي الخاص.
فقد انتشرت في النجف وعلى اثر تمكن الحركة الاصولية العلمية ظاهرة الادب المتعاطي من الشعر والنوادر الادبية بين سكان النجف وانتشرت بينهم مراسلات الشعر وخبرة اللغة وآدابها حتى بلغ البقالين والعطارين من اهل النجف، ويروي المرحوم الاستاذ جعفر الخليلي ان العلامة طه الراوي سأل نجفياَ في معهد المعلمين عن المستثنى بالا وحين عجز عن الاجابة قال له الراوي لو وجهت هذا السؤال الى بقال من بقالي النجف لأجاب عليه. وقد ذكرت في مرويات التراث النجفي اسماء البقالين والعطارين الذين تداولوا الشعر وصنعة الادب، وهي مسألة تبعث على استشعار مديات العلم والادب في هذه المدينة الدينية وصنعها في اهلها وان كان صنعتهم غير العلم والادب.
ويعلل الاستاذ الخليلي هذا الولع باللغة وآدابها في النجف الاشرف بان ثقافة الاسلام تختلف عن ثقافات الاديان الأخرى، لأنها ثقافة تدور على محور الدراسات الادبية والاضطلاع باللغة الواسعة المباني والمعاني، وهي الدرس الاول في فهم الإسلام. وحين يقضي طالب العلم والوافد من مناطق العراق بل والعالم الاسلامي سنوات من عمره وعيشه في هذه المدينة الدينية فانه يكتسب تلك الطباع الاجتماعية والاهتمامات الادبية اضافة الى درسه وتحصيله العلمي ويكون وسيلة في انتقال ذلك الاثر الادبي والثقافي الذي يحف كمعنى ثان بالمعنى التأسيسي الاول للمدرسة الاصولية العلمية في النجف الاشرف، لاسيما وان مجتمع النجف هو مجتمع المدينة الدينية بالأمس البعيد والقريب كان يتموضع بين المعنى التأسيسي والمعاني الحافة به، وكانت البيئة الاولى للطالب تتلقى هذا التأثير عبر الوظيفة الدينية والاجتماعية التي كان يؤديها طالب العلم هذا حين يعود مكلفاَ بمهام دينية وشرعية توكله اليه المؤسسة المرجعية، او يوكلها اليه ضميره الديني وحسه العلمي والثقافي، ولعل من عاش تجارب هؤلاء الوكلاء المعتمدون من قبل المؤسسة المرجعية في مناطق العراق يدرك هذه الحالة الثقافية عن كثب وتحقيق.
وقد اثرى التوافد على النجف لغرض الدرس والتحصيل ومن مختلف الاصقاع والبلدان القدرة الادبية والشعرية في هذه المدينة وقد بدأ هذا التوافد او الهجرة طلباَ للعلم منذ القرن الخامس الهجري -الحادي عشر الميلادي- واستمرت في القرون اللاحقة.
وقد اشار الشيخ علي الشرقي الى ان هذه الهجرات قد نقلت النتاج الفكري من كل هذه المدن والبلاد الى النجف الاشرف وانها اوجدت حركة فكرية امتازت عن الحركة الفكرية في امهات المدن العراقية مثل بغداد والبصرة والموصل _م ن،ص32- ويعلق الاستاذ الجعفري بان النجف قد تأثرت فكرياَ بانصهار هذه الثقافات وانه حين افتتحت اول مدرسة عصرية في العقد الاول من القرن العشرين وهي المدرسة العلوية لم تكن هذه المدرسة لتحتاج الى جلب معلمين من خارج النجف لتدريس العلوم العصرية واللغات الأجنبية، وانما استعانت بالمهاجرين من العلماء والطلبة الى النجف-م ن.
وهذا الانصهار الثقافي لمجمل ثقافات عالمنا الاسلامي في النجف الاشرف يشكل عنصراَ مهماَ من عناصر ديمومة التواصل بينهما وبين مدنها ومداراتها في عالمها الاسلامي لاسيما قطرها الاقرب العراق. وفي التواصل تختزن المدينة الدينية قدرة التأثير على روح الانسان المؤمن وبيئته وثقافته، وهكذا الوفود من والى المدينة الدينية انعتاق روح وتواصل أثر وديمومة في انبثاق عطاء، وهكذا يتجدد معنى الخلود في الوفود الى المدينة الدينية، وتنضاف الى المدرسة في المدينة الدينية المطبعة والمكتبة كعناصر في الهوية العلمية وعناصر التواصل والاثر والتأثير.
وسنعمل جردا في المطبعة والمكتبة النجفية وتاريخها حتى نستبين عناصر التأثير ومكامن القوة في تواصل النجف في تشكيل الفضاء العلمي والثقافي في العراق، واول تلك المكتبات هي المكتبة العلوية التي تعود الى القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي وقد فسرت شهرتها بعدد المخطوطات التي اوقفها عليها الملوك والامراء، وكان عضد الدولة البويهي ت 372 هـ -982م، ثم اتسعت بعد القرن الثامن الهجري– القرن الرابع عشر الميلادي بعد ان احترقت سنة 755هـ وقد سعى الى بنائها وتأسيسها السيد صدر الدين بن شرف الدين المعروف بالاوي مستعين بفخر المحققين ابي طالب محمد بن حسن الحلي ت 771 هـ وسميت بالخزانة العلوية او المكتبة العلوية واستمرت هذه المكتبة الى اواخر القرن الثالث عشر الهجري – القرن التاسع عشر الميلادي وقد نقل الشيخ كاظم الدجيلي صورة مؤثرة عن هذه المكتبة في مجلته لغة العرب سنة 1332 هـ – 1914 م، وذلك هو شأن المدينة الدينية فانها تحتفل بأصولها وكتبها الدينية استمرارا منها في ذاكرتها الدينية ووظيفتها الشرعية لا سيما وان عدد المصاحف المستنسخة فيها كبير وان من هذه المصاحف قد استنسخ بخط الائمة عليهم السلام وخصوصاَ ما نسب الى الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وبلغ عدد المصاحف فيها اربعمائة مصحف بخطوط مختلفة، وقد نقل الشيخ جعفر محبوبة ان رجال العلم كانوا يترددون الى هذه الخزانة للمطالعة والاستنساخ وكان ذلك في اوائل القرن العاشر والحادي عشر الهجريين – السادس عشر والسابع عشر الميلاديين وهذا يعني ان اثرها العلمي والثقافي كان ينقل من النجف الاشرف عبر عملية الاستنساخ والنشر له، ولعلها كانت مكتبة مدرسة دينية ضمن الصحن الشريف وهي التي عناها ابن بطوطة حين زار النجف الاشرف في الثلث الاول من القرن الثامن الهجري ووصف مدرسة يدخل اليها الزائر من باب الحضرة.
وقد اعقبها في التأسيس مكتبات اخرى لا تقل عنها اهمية مثل مكتبة الملالي التي اسسها الشيخ عبد الله بن شهاب الدين اليزدي ت 981 هـ، وهو صاحب كتاب (الحاشية على تهذيب المنطق) ثم مكتبة الصدر التي اسسها محمد حسين خان وزير الدولة القجارية في ايران في النصف الاول من القرن الثالث عشر الهجري – القرن التاسع عشر الميلادي وقد استمرت حتى الربع الاول من القرن الرابع عشر الهجري – القرن العشرين الميلادي، ثم تأتي مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء وقد أسست اواخر القرن الثالث عشر الهجري – التاسع عشر الميلادي وكانت المكتبة الاولى في الشرق بجمعها للنادر والمفقود من الكتب وقد عرف عن الشيخ مؤسسها اهتماماَ استثنائيا في استنساخ الكتب وجمعها وكان يجول البلدان بحثاَ عن الكتب واقتنائها، وذكر جرجي زيدان في كتابه تاريخ اللغة وآدابها ان اكثر كتبها مكتوب في العصور الخالية- عتبات، مصدر سابق، ص 224، 246.
هكذا نشهد ان مكتبات النجف الاشرف قد بكرت في التأثير الثقافي والعلمي في العراق منذ بداية القرن العشرين وحفظت لنا ونقلت تراث الامة الى اجيالها ويحتاج الحديث عن مكتبات النجف الاشرف الى قلم مسهب ووقت مكلف وقد بلغت اعدادها اكثر من خمسين مكتبة بين عامة وخاصة توزعت في تأسيسها ونشأتها بين القرن الثالث عشر الهجري – التاسع عشر الميلادي والقرن الرابع عشر الهجري – القرن العشرين الميلادي ما خلا خزانتها القديمة المعروفة بالمكتبة العلوية وقد اعتمدنا جرد الاستاذ جعفر الخليلي في موسوعته العتبات المقدسة
واما المطابع التي كانت تنقل اثار النجف الاشرف العلمية وتأثيراته الثقافية في البلدان العراقية فان اول مطابعها هي:
1 – مطبعة الحبل المتين/ 1327هجري/1908
2- المطبعة العلوية/1328 هجري/1909
3- المطبعة الحيدرية/جاءت بها حكومة الاحتلال واشتراها الشيخ صادق الكتبي
4- المطبعة المرتضوية/1340 هجري/1921 ميلادي
5- المطبعة العالمية /1352 هجرية /19933 ميلادي
6- مطبعة العربي /1339 هجري /1920 ميلادي
7- مطبعة دار النشر والتأليف
8- مطبعة الراي
9- مطبعة الزهراء
10- مطبعة النجف/1955 ميلادي/1374 هجري
11- مطبعة النعمان 1376 هجري /1957 ميلادي
12- مطبعة القضاء 1376 هجري /1957
13- مطبعة الآداب/1377 هجري/1958 ميلادي
14- مطبعة صاحب الذريعة/1354 هجري/1956 ميلادي
15- مطبعة دار الكتب التجارية
16- مطبعة دار الحكمة
17- مطبعة الباقر/1963 ميلادي/1382 هجري
وهنا يتوقف جرد المطابع الى السنة التي صدر فيها كتاب (معجم المطبوعات النجفية) لمؤلفه الاستاذ محمد هادي الاميني والذي صدر في سنة 1385 هـ/1966 م.