عن فشل الحرب وأسبابه
غزو روسيا لأوكرانيا وحدود القوة العسكرية
اندبندنت عربية
2022-06-23 05:24
بقلم: لورنس فريدمان
في 27 فبراير (شباط)، وبعد مرور أيام قليلة على غزو روسيا لأوكرانيا، شنت القوات الروسية عملية للاستيلاء على قاعدة تشورنوبايفكا الجوية الواقعة بمحاذاة خيرسون المطلة على ساحل البحر الأسود. كانت خيرسون أول مدينة أوكرانية تسقط في يد الروس، ولأنها تقع على مقربة من معقل القرم الروسي، اكتسب مطارها أهمية لا سيما بالنسبة إلى المرحلة التالية من الهجوم، لكن الرياح لم تجر بما اشتهته سفن موسكو. ففي نفس اليوم الذي استأثر فيه الروس بالقاعدة الجوية، شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً بطائرات مسلحة من دون طيار وسرعان ما ضربت المروحيات التي كانت تحلق بالإمدادات من شبه جزيرة القرم.
ووفقاً لمصادر دفاعية أوكرانية، شن الجنود الأوكرانيون في أوائل مارس (آذار) غارة ليلية ضروس على مهبط المروحيات، فأطاحوا بأسطول من 30 مروحية عسكرية روسية. وبعدها بأسبوع تقريباً، دمروا سبع مروحيات أخرى. وبحلول 2 مايو (أيار)، نفذت أوكرانيا 18 هجوماً منفصلاً على المطار إياه، وبحسب كييف، فإن هذه الهجمات لم تقض على عشرات المروحيات فحسب، بل قضت كذلك على مستودعات للذخيرة واثنين من الجنرالات الروس إضافة إلى كتيبة روسية كاملة. وعلى الرغم من هذا كله، لم تتوقف القوات الروسية عن نقل المعدات والعتاد بالمروحيات. وفي غياب استراتيجية متماسكة للدفاع عن المهبط والافتقار إلى قاعدة بديلة مناسبة، اكتفى الروس بالتمسك بأوامرهم الأصلية، والنتيجة كانت كارثية.
وعلى حد وصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن معركة تشورنوبايفكا أصدق تعبير عن عدم كفاءة القادة الروس الذين لم يتوانوا عن سوق "قادتهم العسكريين إلى جبهات التهلكة"، لكنها ليست الوحيدة والأمثلة المماثلة كثيرة من الأسابيع الأولى للغزو. وعلى الرغم من أن القوات الأوكرانية كانت تعاني من نقص مستمر في السلاح، عرفت كيف تستغل أخطاء روسيا المتكررة وفشلها في تغيير تكتيكاتها. منذ بداية الحرب والتباين في نهج القيادة سيد الموقف في الحرب الروسية- الأوكرانية، ومن شأن هذا التباين أن يسهم إلى حد بعيد في تفسير الأسباب الكامنة وراء أداء الجيش الروسي الضعيف والمخالف للتوقعات.
في الأسابيع التي سبقت غزو 24 فبراير (شباط)، انشغل القادة والمحللون الغربيون والصحافة الدولية بطبيعة الحال بالقوة العسكرية المهولة التي كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحشدها على حدود أوكرانيا، حيث وصل عدد الجنود الروس الراغبين في غزو جيرانهم إلى 190 ألف جندي منظمين في 120 مجموعة تكتيكية من الكتائب، لكل مجموعة دروع ومدفعية ودعم جوي متفوق. آنذاك، لم يتصور كثيرون أن بإمكان القوات الأوكرانية الصمود فترة طويلة في وجه الجيش الروسي وكاد السؤال الأساسي بشأن الخطط الروسية يقتصر على ما إذا كانت القوات المحشودة كافية لاحتلال بلد بحجم أوكرانيا بعد حسم المعركة، ولكن اتضح أخيراً أن التقديرات فشلت في مراعاة العناصر العديدة التي تشكل مقياساً حقيقياً للقدرات العسكرية.
فالقوة العسكرية لا تقتصر على عتاد الدولة ومهارة استخدامه، بل تشمل أيضاً موارد العدو ومساهمات الحلفاء والأصدقاء بين مساعدات عينية وتدخلات ميدانية مباشرة. وصحيح أن القوة العسكرية تقاس في الغالب بقوة النيران، من خلال جرد مخزونات الأسلحة وحجم الجيوش والقوات البحرية والقوات الجوية، إلا أن كثيراً يتوقف على نوعية المعدات وحسن صيانتها ومستوى التدريبات والحوافز المخصصة للعناصر التي تستخدمها. وكما هي الحال في أي حرب، كلما طال أمد المعارك والمواجهات بين الأطراف المتنازعة، اتسعت أهمية الاقتصاد ودوره في الحفاظ على المجهود الحربي ومرونة الأنظمة اللوجيستية لضمان وصول الإمدادات إلى الخطوط الأمامية عند الضرورة. والأمر سيان بالنسبة إلى قدرة كل طرف على حشد الدعم المحلي والعالمي لقضيته والحفاظ عليه وتقويض جهود العدو، وهذه كلها مهام تتطلب اختلاق روايات مقنعة لتبرير الانتكاسات وتوقع الانتصارات، لكن فوق كل شيء، يرجع قياس القوة العسكرية إلى القيادة الفعالة، ونعني بها قادة البلاد السياسيين الذين يتصرفون كسلطة عليا وأولئك الذين يسعون خلف أهدافهم العسكرية كقادة عمليات.
وقد سلط غزو بوتين لأوكرانيا الضوء على دور القيادة المفصلي في حسم كفة النجاح العسكري، من دون أن ينفي ما يمكن أن تفعله قوة السلاح لأي دولة. فكما تبين للقادة الغربيين في أفغانستان وإيران، يمكن للأعتدة العسكرية وقوة النيران المتفوقة أن تمكن القوات من مصادرة إحدى المناطق، ولكنها لن تأتيهم بمنفعة تذكر إذا ما أرادوا إدارة هذه المنطقة بنجاح. وفي أوكرانيا، واجه بوتين صعوبات كبيرة حتى في محاولته بسط السيطرة على أراضي جارته، والطريقة التي خاضت بها قواته الحرب ضمنت بالفعل أن أي محاولة للحكم، حتى في شرق أوكرانيا الذي يفترض أنه موال لموسكو، ستقابل بالعداء والمقاومة. الحقيقة أنه باتخاذه قرار المضي قدماً في خطط غزو الأراضي الأوكرانية، ارتكب بوتين الخطأ المألوف، لكن الكارثي، المتمثل في الاستخفاف بالعدو على افتراض أن صلبه ضعيف من جهة، والإعلاء من شأن قواته والثقة المفرطة بقدراتهم من جهة أخرى.
مصير الدول
الأوامر هي تعليمات ملزمة يجب إطاعتها من دون سؤال. وفي إطار المنظمات العسكرية التي تمارس أعمال عنف منضبطة ومتعمدة، لا بد من التعويل على تسلسل قيادي قوي لإصدار مثل هذه التعليمات وتنفيذها. ففي أوقات الحرب، يواجه القادة تحدياً خاصاً يتمثل في إقناع مرؤوسيهم بالتصرف ضد غريزة البقاء لديهم وتجاوز الموانع الطبيعية التي تنهيهم عادة عن قتل إخوانهم من البشر. وقد ينطوي هذا الأمر على كثير من المخاطر، كونه يضع مصير الدول في أيدي القادة العسكريين الذين يجب أن يكونوا على دراية عميقة باحتمالية مواجهتهم إذلالاً وطنياً في حالة الخسارة ومجداً وطنياً في حالة النصر.
في الغالب، توصف القيادة العسكرية على أنها شكل من أشكال القيادة، وكما هو موضح في الأطروحات ذات الصلة، كثيراً ما تكون الصفات المطلوبة في القادة العسكريين ملائمة لأي حالة تقريباً: المعرفة المهنية العميقة والقدرة على استخدام الموارد بكفاءة ومهارات تواصل جيدة والقدرة على التواصل مع الآخرين والشعور بالالتزام الأخلاقي والمسؤولية والاستعداد لتقديم الدعم والرعاية للمرؤوسين، لكن المخاطر الكبيرة للحرب وضغوط القتال تفرض مواصفاتها الخاصة أيضاً. ونذكر من بين هذه المواصفات على سبيل المثال لا الحصر: غريزة الحفاظ على المبادرة ورؤية المواقف المعقدة بوضوح والقدرة على بناء الثقة والاستجابة بنباهة للظروف المتغيرة أو غير المتوقعة، فضلاً عن الجمع بين القرار- "العزم على تحقيق النصر"- والحكم، أو القدرة على استخدام التجارب السابقة لقراءة المواقف، كما تقول المؤرخة باربرا توكمان. فالتصميم والذكاء الاستراتيجي الشديدان يحققان للقائد نتائج مبهرة، فيما العزم المقترن بالغباء يؤدي به إلى الخراب.
وما كل المرؤوسين ينفذون الأوامر بصورة تلقائية. ففي بعض الحالات، تكون الأوامر غير ملائمة، ربما لاستنادها إلى معلومات استخباراتية قديمة وناقصة قد يغفل عنها حتى أكثر الموظفين الميدانيين اجتهاداً. وفي حالات أخرى، قد يكون تنفيذ الأوامر ممكناً، لكن غير حكيم، في ظل وجود صيغة أفضل للوصول إلى الأهداف نفسها. وفي أي حالة من هذه الحالات وعندما يتلقى المرؤوسون أوامر لا تروق لهم أو يرتابون منها، قد يسعون إلى إيجاد بدائل عن العصيان، كأن يماطلون أو يتبعون الأوامر بفتور أو ينفذونها بطريقة تتناسب بشكل أفضل مع الموقف الذي يواجههم.
ولتجنب مثل هذه التوترات، ارتأى الغرب اتباع فلسفة قيادة حديثة مفادها تشجيع المرؤوسين أكثر فأكثر على أخذ زمام المبادرة للتعامل مع الظروف المطروحة، وإيلاء القادة ثقتهم للعناصر المقربين منهم لاتخاذ القرارات الحيوية، على أن يكونوا على أهبة الاستعداد للتدخل إذا ما انحرفت الأمور عن مسارها. وهذا هو بالتحديد النهج الذي تبنته القوات الأوكرانية لمجابهة فلسفة القيادة الروسية التي تتسم ببنية أكثر هرمية. من حيث المبدأ، تسمح العقيدة الروسية بالمبادرة المحلية، لكن الهياكل القيادية القائمة لا تحفز المرؤوسين على المخاطرة بعصيان الأوامر المعطاة لهم. فبرأي هؤلاء، يمكن لأنظمة القيادة غير المرنة أن تؤول إلى حالة من الحذر المفرط مع التركيز على تكتيكات معينة حتى لو لم تكن مواتية والتستر عن "الحقيقة الأساسية"، بحيث لا يجرؤ المرؤوسون على الإبلاغ عن المشكلات ويصرون على أن كل شيء على ما يرام.
وبالنسبة إلى مشكلات روسيا مع القيادة في أوكرانيا، فهي ليست نتيجة للفلسفة العسكرية بقدر ما هي نتيجة للقيادة السياسية الحالية. ففي الأنظمة الاستبدادية، على غرار النظام الروسي، لا بد من أن يفكر المسؤولون والضباط مرتين قبل أن يتحدوا رؤساءهم، لأن حياتهم ستكون أسهل بكثير لو امتثلوا لرغبات القائد من دون نقاش. ولا شك أن قرارات الديكتاتوريين جريئة بشأن الحرب، لكنها تستند على الأرجح إلى افتراضاتهم الخاصة غير المستنيرة ولا تمت إلى عملية صناعة القرار الدقيقة بأي صلة. فالمعروف عن الديكتاتوريين ميلهم إلى إحاطة أنفسهم بمستشارين يفكرون بالأسلوب ذاته ومكافأتهم كبار القادة العسكريين على أساس ولائهم وليس على أساس جدارتهم.
من نجاح إلى جمود
يعكس استعداد بوتين للثقة في حكمه بشأن حرب أوكرانيا حقيقة أن قراراته السابقة باستخدام القوة كانت في محلها ومضت على نحو جيد. ففي تسعينيات القرن الماضي وقبل توليه سدة الرئاسة، كان الجيش الروسي في حالة يرثى لها، والدليل على ذلك حرب الرئيس بوريس يلتسين في الشيشان بين 1994 و1996. وكان يلتسين قد خاض هذه الحرب في نهاية عام 1994 بعد أن طمأنه وزير الدفاع آنذاك بافيل غراتشيف وأكد له أن باستطاعته وضع حد نهائي للجهود التي تبذلها الشيشان من أجل الانفصال عن الاتحاد الروسي عن طريق إرسال قوات مسلحة إلى العاصمة الشيشانية غروزني بأسرع وقت.
في تلك الأثناء، كان يعتبر الكرملين أن الشيشان هي مجرد دولة مصطنعة تتفشى فيها العصابات ولم يتوقع أبداً أن يضحي عدد كبير من مواطنيها بحياتهم من أجلها، لا سيما في مواجهة الجيش الروسي بكامل قوته- افتراضات مضللة تشبه إلى حد ما الافتراضات المحيطة على نطاق أوسع بالغزو الحالي لأوكرانيا. وإبان الحرب الشيشانية، تضمنت الوحدات الروسية عدداً كبيراً من المجندين غير المدربين بشكل كاف، وفشل الكرملين في تقدير مدى قدرة المدافعين الشيشان على الاستفادة من التضاريس الحضرية. فكانت النتائج كارثية، حيث خسر الجيش الروسي في اليوم الأول للهجوم أكثر من 100 آلية مصفحة، بينها دبابات. وخلال فترة وجيزة، بدأ الجنود الروس يقتلون بمعدل 100 جندي في اليوم. وفي مذكراته، وصف يلتسين الحرب على أنها اللحظة التي "تخلت فيها روسيا عن وهم مريب للغاية لكنه عزيز– بشأن عظمة جيشنا... ولا خضوعيته".
وفي عام 1996، انتهت الحرب الشيشانية الأولى على نحو غير مرض. وبعدها بسنوات، قرر فلاديمير بوتين الذي أصبح رئيس وزراء يلتسين المريض في سبتمبر (أيلول) 1999، شن حرب ثانية، لكنه هذه المرة تأكد من استعداد روسيا التام لها. كان بوتين في السابق رئيساً لـ"جهاز الأمن الفيدرالي" (FSB)، خليف جهاز "كي جي بي" السوفياتي، حيث بدأ مشواره المهني. ولما تعرضت المباني السكنية في موسكو وأماكن أخرى للقصف في سبتمبر (أيلول) 1999، وجه أصابع الاتهام نحو الإرهابيين الشيشان (علماً بوجود سبب وجيه للاشتباه في محاولة "جهاز الأمن الفيدرالي" خلق ذريعة لحرب جديدة) وأمر القوات الروسية بالسيطرة على الشيشان بـ"كل الوسائل المتاحة". فكانت الحرب الشيشانية الثانية التي اتسمت بمعارك أكثر ضراوة ووحشية وأفضت إلى احتلال غروزني. وعلى الرغم من استمرار القتال لبعض الوقت، فإن التزام بوتين الواضح بخنق التمرد الشيشاني كان كافياً لضمان فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية في ربيع عام 2000. وفيما كان يخوض بوتين حملته الانتخابية، سأله الصحافيون عن القادة السياسيين الذين يعتبرهم "الأكثر إثارة للاهتمام". فأجابهم بنابليون– الأمر الذي اعتبره الصحافيون مزحة– ثم شارل ديغول، بوصفه ربما خياراً طبيعياً لكل من يريد استعادة فعالية الدولة بسلطة مركزية قوية.
وبحلول عام 2013، كان بوتين قد قطع شوطاً طويلاً في طريقه إلى تحقيق هذه الغاية، حيث منحته أسعار السلع المرتفعة اقتصاداً قوياً وعزز تهميش المعارضة السياسية في الداخل نفوذه. وإن كان على علاقته بالغرب، فقد ازدادت سوءاً، لا سيما في ما يتعلق بأوكرانيا. فمنذ الثورة البرتقالية 2004-2005 وبوتين يخشى من محاولة الحكومة الموالية للغرب في كييف الانضمام إلى حلف الناتو، وقد تفاقمت خشيته واشتدت عندما طرحت القضية على طاولة الحوار في قمة الناتو في بوخارست عام 2008، لكن الأزمة لم تحدث فعلياً حتى عام 2013، لما كان فيكتور يانوكوفيتش، رئيس أوكرانيا الموالي لموسكو، على وشك توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي. حينها، وضع بوتين ضغوطاً شديدة على يانوكوفيتش ليوافق على عدم التوقيع، لكن رجوع يانوكوفيتش عن قراره أشعل فتيل الانتفاضة الشعبية التي كان يخشاها بوتين- حركة الميدان الأوروبي– التي أسقطت يانوكوفيتش وتركت كامل أوكرانيا في أيدي القادة الموالين للغرب. عندئذ، حسم بوتين أمره بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا.
ولما بادر بوتين إلى تنفيذ خطته، كان متفوقاً على خصمه بقاعدة بحرية في سيفاستوبول وبدعم شريحة كبيرة من السكان المحليين. ومع ذلك، ظل يحسب خطواته بحذر، متبعاً استراتيجية واحدة تتمثل في تقديم أي تحرك روسي عدواني على أنه مجرد استجابة لنداءات أشخاص يحتاجون إلى الحماية. وبعد نشره قوات مسلحة بزي رسمي يخلو من أي علامات تعريف، عرفوا بـ"الرجال الخضر الصغار"، نجح الكرملين في إقناع البرلمان المحلي بالدعوة إلى استفتاء حول إلحاق شبه جزيرة القرم بروسيا. ولما تكشفت هذه الأحداث، أبدى بوتين استعداده للتراجع إذا ما أرادت أوكرانيا أو حلفاؤها الغربيون التصدي له، لكن أوكرانيا كانت في حالة من الفوضى- لم يكن لديها سوى وزير دفاع بالوكالة ولم يكن لديها سلطة قرار قادرة على الرد– أما دول الغرب، فلم تتخذ أي إجراء ضد روسيا باستثناء عقوبات محدودة. ومن هذا المنطلق، اعتبر بوتين أن الاستيلاء على شبه جزيرة القرم، من دون أي أضرار تذكر، ووقوف الغرب وقفة المتفرج كرساه قائداً محنكاً.
لكن بوتين لم يكن راضياً عن النصر الذي أتاه على طبق من فضة. وفي ربيع وصيف العام نفسه، دفع روسيا إلى الانخراط في صراع أكثر تعقيداً في منطقة دونباس في شرق أوكرانيا. هنا، لم يستطع بوتين أن يطبق الصيغة التي نجحت في شبه جزيرة القرم: كانت المشاعر المؤيدة لروسيا في الشرق أضعف من أن توحي بتأييد شعبي واسع للانفصال. وخلال وقت قصير جداً وعلى خلفية ادعاء موسكو بأن الميليشيات الانفصالية تعمل بصفة مستقلة عنها، تحول الصراع في دونباس إلى نزاع عسكري. وبحلول الصيف، لما بدا وكأن الجيش الأوكراني سيهزم الانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك، الجيبين المؤيدين لروسيا في دونباس، أرسل الكرملين قواته النظامية للتدخل. وصحيح أنه لم يكن لدى الروس آنذاك أي مشكلات مع الجيش الأوكراني، إلا أن بوتين ظل يتوخى الحذر. ولم يقم بضم الجيبين إلى روسيا، كما أراد الانفصاليون، إنما انتهز الأحداث فرصة للتوصل إلى اتفاق في مينسك يقضي باستخدام الجيوب الانفصالية كورقة ضغط ضد سياسات كييف.
وبالنسبة إلى بعض المراقبين الغربيين، كانت حرب روسيا في دونباس بمثابة استراتيجية جديدة قوية للحرب الهجينة، في إطارها، نجحت روسيا في تضييق الخناق على خصومها من خلال التقريب بين القوات النظامية وغير النظامية من جهة، والجمع بين الأنشطة العلنية والسرية والأشكال الراسخة من العمل العسكري والهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات من جهة أخرى، لكن تقييم المحللين بالغ في تقدير مدى تماسك النهج الروسي. فعلى أرض الواقع، افتعل الروس أحداثاً ذات عواقب لا يمكن التنبؤ بها، مستعينين بأفراد لم يتوانوا عن الكفاح من أجل السيطرة مدفوعين بأهداف لم يفصحوا عنها بالكامل. وبقيت اتفاقية مينسك حبراً على ورق ولم يتوقف القتال. وفي الأغلب، حقق بوتين أفضل ما في العمل السيئ، حيث احتوى الصراع وعاث خراباً في أوكرانيا مع الحرص على تقويض قدرة الغرب على التدخل فيها. وفي دونباس على العكس من القرم، لم يظهر بوتين بمظهر القائد القوي بل بمظهر القائد المتردد بعد أن ترك الجيوب الانفصالية في وضع معلق، غير منتمية لأي بلد، وترك المجال مفتوحاً أمام أوكرانيا للتقرب من الغرب.
قوة مخيبة للآمال
بحلول صيف عام 2021، كان قد مضى على وصول حرب دونباس إلى حالة من الجمود أكثر من سبع سنوات. ومن أجل تحريك الأمور والوصول بها إلى خاتمة، قرر بوتين المضي قدماً بخطة جريئة. ولما لم يتمكن من استخدام الجيوب للتأثير على كييف، استغل محنة الانفصاليين لبناء قضية ضد النظام الأوكراني والتأكد من عودته تحت جناحي موسكو وتخليه عن فكرة الانضمام إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيفتح الطريق أمامه واسعاً لتنفيذ غزو كاسح على أوكرانيا.
ومن المعلوم أن مثل هذا النهج يتطلب التزاماً كبيراً من القوات المسلحة وحملة جريئة، لكن بوتين لم يكلف نفسه عناء التجهيز واكتفى بجرعة الثقة الزائدة التي تلقاها أخيراً من نجاح التدخل العسكري الروسي في سوريا الذي وفر الدعم لنظام بشار الأسد والجهود المبذولة من أجل تحديث القوات الروسية المسلحة. يضاف إلى ذلك، تقبل فئة كبيرة من المحللين الغربيين لمزاعم روسيا عن اتساع قوتها العسكرية واشتمالها على أنظمة وأسلحة جديدة، من قبيل "الأسلحة فرط الصوتية" التي بدت مثيرة للإعجاب على أقل تقدير، وسط احتياطيات مالية روسية سليمة قادرة على أن تحد من تأثير أي جزاءات عقابية وغرب منقسم وغير مستقر بعد رئاسة دونالد ترمب، بدليل الانسحاب الأميركي الفاشل من أفغانستان في أغسطس (آب) 2021.
وعندما أطلق بوتين ما سماه "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، قلقت دول غربية عديدة من نجاحه، فقد استمر المراقبون الغربيون شهوراً طويلة يشاهدون روسيا وهي تحشد قواتها على الحدود الأوكرانية، وعندما بدأ الغزو، سارع الاستراتيجيون الأميركيون والأوروبيون إلى طرح تصوراتهم بشأن التداعيات المحتملة لانتصار روسي يهدد بضم أوكرانيا إلى روسيا أوسع نطاقاً وأكثر حيوية. وفي حين سارعت بعض دول حلف الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلى إرسال إمدادات عسكرية إلى أوكرانيا، أحجمت دول أخرى عن مثل هذه الخطوة معربة عن تشاؤمها من إمكانية وقوع العتاد الإضافية بين يد الروس أو وصولها إلى الوجهة المنشودة بعد فوات الأوان.
لكن أحداً لم يلحظ أن حشود القوات الروسية- على الرغم من حجمها الهائل– لا تكفي إطلاقاً للاستيلاء على كامل أوكرانيا والسيطرة عليها، مع العلم أن المخاطر كانت واضحة جداً بالنسبة إلى عناصر من الجيش الروسي أو من المرتبطين به. ففي أوائل فبراير (شباط) 2022، أشار إيغور "ستريلكوف" جيركين، أحد قادة الانفصاليين الروس الأصليين في حملة 2014، إلى أن الجيش الأوكراني أكثر استعداداً مما كان عليه قبل ثماني سنوات، وأن "القوات التي حشدت ولا تزال تحشد غير كافية"، لكن بوتين لم يأخذ برأي الخبراء بشأن أوكرانيا، إنما اعتمد على أقرب مستشاريه- رفاقه القدامى من جهاز الأمن الروسي- الذين رددوا وجهة نظره المتعالية والمتمثلة في اعتبار أوكرانيا فريسة سهلة في يد القوات الروسية.
وما إن بدأ الغزو حتى تكشفت نقاط الضعف المركزية في الحملة الروسية. في الظاهر، كانت الخطة المنشودة حرباً قصيرة، مع تقدم حاسم في أجزاء مختلفة من البلاد في اليوم الأول، لكن تفاؤل بوتين ومستشاريه دفعهم إلى وضع خطة تستند بشكل أساسي إلى عمليات سريعة لوحدات النخبة القتالية ولا تولي اللوجيستيات وخطوط الإمداد سوى القليل من الاهتمام، وهو ما حد من قدرة روسيا على مواصلة الهجوم بمجرد توقفه وسرع وتيرة استهلاكها لجميع مقومات الحرب الحديثة، من غذاء ووقود وذخيرة. والحقيقة أن محاور التقدم المتعددة هي التي تسببت بحروب منفصلة تدور رحاها في وقت واحد، ولكل منها تحدياته وبنيته القيادية الخاصة، من دون أن تكون هناك آلية مناسبة لتنسيق الجهود وتخصيص الموارد فيما بينها.
وما حدث في مطار هوستوميل بالقرب من كييف هو أول دليل على أن الأمور لا تسير وفق خطة بوتين، فقد قيل للمظليين النخبة المرسلين لوضع اليد على المطار ليكون مهبطاً لطائرات النقل المقبلة، إنهم لن يواجهوا مقاومة تذكر، ليتفاجأوا بهجوم أوكراني مضاد. في الأخير، تمكن الروس من احتلال المطار، لكن عندما تم لهم ذلك، كان المرفق الجوي قد تضرر شر ضرر بحيث لم يعد له أي قيمة. وفي مكان آخر، تعرضت وحدات الدبابات الروسية الهائلة على ما يبدو لاعتداء من قبل مدافعين أوكرانيين مزودين بأسلحة خفيفة. وطبقاً لإحدى الروايات، فإن مجموعة مكونة من 30 جندياً أوكرانياً فقط هجمت على رتل ضخم من الدبابات الروسية وهو في طريقه إلى كييف. وكانت المجموعة قد اقتربت من الرتل ليلاً على متن دراجات رباعية ودمرت عدداً من مركبات الطليعة، تاركة الباقي عالقاً عند طريق ضيق وعرضة لمزيد من الهجمات. تجدر الإشارة إلى أن كمائن مماثلة نفذها الأوكرانيون في مناطق أخرى عديدة ونجحت.
يبدو أن القوات الأوكرانية قد شهدت إصلاحات حيوية وخططت دفاعاتها بعناية بمساعدة الغرب. وعلى أرض المعارك، أظهر عناصرها حماساً شديداً على عكس عديد من نظرائهم الروس الذين لم يكونوا متأكدين من سبب وجودهم هناك، وشكلت الوحدات الرشيقة التي اعتمدت بالدرجة الأولى على الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات من دون طيار، فعلى المدفعية، مفاجأة كبرى للقوات الروسية. وفي النهاية، لم يتحدد المسار المبكر للحرب بعديد أكبر وقوة نيران أعظم، إنما بالتكتيكات المتفوقة والالتزام والقيادة.
أخطاء مضاعفة
لما بدأ الغزو، كان التناقض بين النهجين الروسي والأوكراني للقيادة واضحاً وصارخاً. وقد تمثل الخطأ الاستراتيجي الأصلي لبوتين في افتراضه أن أوكرانيا عدائية بما يكفي للانخراط في أنشطة معادية لموسكو، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن الوقوف في وجه القوة الروسية. ولما وصل الغزو إلى طريق مسدود، بدا بوتين غير قادر على التكيف مع الواقع الجديد وأصر على أن الحملة كانت في الموعد المحدد وتسير تبعاً للخطة، حتى إنه منع وسائل الإعلام الروسية من ذكر الأعداد المرتفعة للضحايا الروس والانتكاسات العديدة في ساحات المعارك، الأمر الذي عزز بلا هوادة الدعاية الحكومية للحرب. في المقابل، رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، المستهدف الأول من العملية الروسية، عروضاً من الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى لنقله إلى بر الأمان وتشكيل حكومة في المنفى، وهو لا يزال إلى اليوم في كييف حياً، حراً، طليق اللسان، يواظب على حشد شعبه والضغط على الحكومات الغربية للحصول على مزيد من الدعم المالي والعسكري. فبفضل تبيانه مدى التزام الأوكرانيين بالدفاع عن بلدهم، استطاع زيلينسكي تشجيع الغرب على تقويض روسيا بعقوبات أكثر صرامة مما كانت ستكون عليه لولا إصراره، وتخصيص أوكرانيا بإمدادات من الأسلحة والعتاد الحربي. بالمختصر المفيد، بينما كان بوتين يصر على تكرار نفسه مع تعثر "عمليته العسكرية الخاصة"، كان زيلينسكي يكتسب مزيداً من الثقة بالنفس ويعزز مكانته السياسية.
ولم تفلت القرارات الاستراتيجية الرئيسة الأخرى لموسكو من التأثير المشين لبوتين، أولها، قرار الجيش الروسي الذي تلا الانتكاسات الأولية وقضى بتطبيق التكتيكات الوحشية التي سبق أن اتبعها في كل من الشيشان وسوريا: استهداف البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المستشفيات والمباني السكنية. ومما لا شك فيه أن هذا النوع من الهجمات قد تسبب في معاناة ومشقة هائلة، لكنه لم يحبط العزيمة الأوكرانية كما كان متوقعاً بل على العكس، بمعنى آخر، أدت التكتيكات بدورها إلى نتائج عكسية. ومع اقتران الكشف عن جرائم حرب محتملة اقترفتها القوات الروسية في مناطق حول كييف، مثل بوتشا، بهجمات روسية على أهداف غير عسكرية، تأكد القادة في واشنطن وعواصم غربية أخرى من عبث محاولة التوسط من أجل التوصل إلى تسوية وسطية مع بوتين. وبدلاً من ذلك، قررت الحكومات الغربية تسريع تدفقات الأسلحة إلى أوكرانيا، مع التركيز المتزايد على الأنظمة الهجومية والدفاعية. وقد لا تكون هذه هي الحرب التي لطالما روجت لها أبواق الدعاية الروسية بين موسكو وحلف الناتو، لكنها سرعان ما أصبحت أقرب شيء إليها.
أما القرار الاستراتيجي الرئيس الثاني، فقد جاء في 25 مارس (آذار) عقب تخلي روسيا عن هدفها الأقصى المتمثل في الاستحواذ على كييف، وتركيزها بدلاً من ذلك على "تحرير كامل" منطقة دونباس. وعلى الرغم من أن هذا الهدف الجديد يعد بشرق أكثر بؤساً، إلا أنه أكثر واقعية، وكان سيكون أكثر واقعية بعد لو أنه كان الهدف الأولي للغزو. إلى ذلك، عين الكرملين قائداً روسياً شاملاً لتولي مسؤولية إدارة دفة الحرب، وهو جنرال صاحب مقاربة أكثر منهجية تستخدم مدفعية إضافية لتمهيد الطريق للمدرعات وعناصر المشاة، لكن وقع هذه التحولات كان محدوداً، لأن بوتين كان بحاجة إلى نتائج سريعة ولم يمنح القوات الروسية وقتاً للتعافي والاستعداد للجولة الثانية من الحرب.
بالجدول الزمني لبوتين. وبحسب توقعات بعض المحللين، فإن كل ما أراده بوتين هو إنجاز يسميه نصراً ويتباهى به في 9 مايو (أيار)، ذكرى نهاية "الحرب الوطنية العظمى" وانتصار روسيا على ألمانيا النازية. والأرجح أنه كان يرغب وكبار قادته العسكريين بتحقيق مكاسب ميدانية في شرق أوكرانيا قبل أن تتسنى لهذه الأخيرة فرصة تأمين أسلحة جديدة من الولايات المتحدة وأوروبا. ولذلك، أرسل القادة الروس الوحدات التي كانت قد انسحبت تواً من الشمال للقتال في الشرق، لم يكن هناك متسع من الوقت لإعادة تزويد القوات أو معالجة أوجه القصور التي ظهرت في المرحلة الأولى من الحرب.
وإبان الهجوم الجديد الذي انطلق بصورة جدية في منتصف أبريل (نيسان)، لم تحقق القوات الروسية سوى القليل من المكاسب، في ظل هجمات أوكرانية مضادة ما فتئت تنهش بمواقعها. ومما يزيد الوضع إحراجاً غرق السفينة الروسية "موسكفا" في البحر الأسود بعد تعرضها لاعتداء أوكراني مدمر. وبحلول 9 مايو (أيار)، لم يكن هناك ما يستدعي الاحتفال في موسكو، حتى مدينة ماريوبول الساحلية التي هاجمتها دونما رأفة وحولتها إلى أنقاض في بداية الحرب، لم تقوَ على إخضاعها بالكامل إلا بعدها بأسبوع. حينذاك، أشارت التقديرات الغربية إلى فقدان روسيا لثلث قوتها القتالية الأولية، بين عديد وعتاد. وسرت إشاعات عن محاولة بوتين استغلال العطلة الوطنية للإعلان عن تعبئة عامة يلبي بها حاجة الجيش للقوى البشرية، لكن إعلاناً مماثلاً لم يصدر أبداً لسببين: الأول، ما كانت هذه الخطوة لتحظى بتأييد شعبي كبير في روسيا، والثاني، إرسال المجندين والاحتياطيين إلى الجبهة يستغرق وقتاً طويلاً، وإلى حين وصولهم ستظل روسيا تواجه نقصاً مزمناً في المعدات.
وهكذا، بعد سلسلة غير منقطعة من القرارات القيادية السيئة، باتت خيارات بوتين محدودة. ومع دخول الهجوم على أوكرانيا شهره الرابع، بدأ عديد من المراقبين يلاحظون أن روسيا علقت في حرب لا يمكن أن تفوز بها ولا تجرؤ على خسارتها. وبدأت الحكومات الغربية وكبار مسؤولي حلف الناتو يتحدثون عن صراع قد يستمر شهوراً عديدة وربما سنوات. وهذا يعتمد على قدرة القادة الروس على مواصلة القتال بقوات مستنفدة ذات روح معنوية منخفضة من جهة، وقدرة أوكرانيا على الانتقال من استراتيجية دفاعية إلى استراتيجية هجومية من جهة أخرى. ربما لا يزال بإمكان الجيش الروسي إنقاذ شيء من الموقف أو ربما يرى بوتين في مرحلة ما أنه قد يكون من الحصافة الدعوة إلى وقف إطلاق النار حتى يتمكن من جني المكاسب التي حققها في وقت مبكر من الحرب قبل أن يطيح بها هجوم أوكراني مضاد، حتى ولو اعتبر تصرفه هذا اعترافاً بالفشل.
قوة لا هدف لها
لا بد من الحذر عند استخلاص الدروس الكبيرة من الحروب التي لها سمات خاصة، لا سيما تلك التي لا تزال نتائجها الكاملة غير معروفة بعد. من المؤكد أن المحللين والمخططين العسكريين سيدرسون الحرب في أوكرانيا لسنوات عديدة، باعتبارها مثالاً على محدودية القوة العسكرية، وسيحاولون جاهدين البحث عن تفسير للأسباب التي آلت بواحدة من أقوى وأكبر الجيوش المسلحة في العالم، بقواتها الجوية والبحرية الهائلة ومعداتها الجديدة وخبرتها القتالية الحديثة والناجحة، إلى التهلكة. فقبل الغزو، عندما كان يقارن الجيش الروسي بقوات الدفاع الأوكرانية الأصغر حجماً والأقل تسلحاً، لم يكن هناك شك حيال من ستكون له الغلبة، لكن العوامل النوعية والبشرية هي التي تحدد مسار الحرب الفعلية، ولا يخفى على أحد أن تكتيكات الأوكرانيين كانت الأقوى والأذكى لناحية صدورها وتطبيقها من قبل بنية قيادية كفؤة، من أعلى قائد سياسي فيها إلى أبسط قائد ميداني.
إذن وقبل كل شيء، حرب بوتين في أوكرانيا هي دراسة حالة لفشل قيادي على أعلى المستويات. كلنا يعلم أن النمط الذي تحدد به الأهداف والحروب التي يشنها القائد الأعلى هي التي تطبع الأحداث المستقبلية وترسم مسارها. وبالنسبة إلى الأخطاء التي اجترحها بوتين، فهي ليست فريدة من نوعها، إنما هي الأخطاء المعتادة للزعماء الاستبداديين الذين يقعون ضحية حملاتهم الدعائية. وقبل أن يمضي الرئيس الروسي قدماً بالغزو، لم يتحقق من افتراضاته المتفائلة حول السهولة التي يمكنه بها تحقيق النصر ووثق بقواته المسلحة، غير مدرك أن التحديات التي سيواجهها في أوكرانيا مختلفة تماماً عن تلك التي واجهها في الشيشان وجورجيا وسوريا سابقاً. وفوق هذا كله، سلم أمر العمليات والمعارك لهيكل قيادي صارم وهرمي تبين أنه غير قادر على استيعاب المعلومات الميدانية والتكيف معها، والأهم من ذلك، غير قادر على تمكين الوحدات الروسية من الاستجابة بسرعة للظروف المتغيرة.
وستكون قيمة السلطة المفوضة والمبادرة المحلية من بين الدروس الرئيسة الأخرى المستقاة من الحرب الأوكرانية. ولكي تؤتي هاتان الممارستان ثماراً نافعة، على الجيش المعني أن يكون قادراً على تلبية أربعة شروط. أولاً، يجب أن يكون هناك ثقة متبادلة بين الرتب العليا والرتب الأدنى منها، بحيث تثق القيادات العليا بذكاء مرؤوسيها وقدرتهم على التصرف بشكل صحيح في الظروف الصعبة، ويثق المرؤوسون بأن القيادات العليا مستعدة لأن تقدم لهم ما أمكنها من الدعم. ثانياً، يجب أن تتاح للمشاركين في القتال سبل الوصول إلى المعدات والإمدادات التي يحتاجون إليها لاستكمال مهامهم. وإن كان الأوكرانيون قد استفادوا من استخدامهم لأسلحة محمولة مضادة للدبابات والدفاع الجوي، ومن قتالهم بالقرب من قواعدهم الأصلية، فهذا لا يعني أبداً أنهم لم يكونوا بحاجة إلى أنظمة لوجيستية فعالة.
ثالثاً، يجب أن يتميز كل من يضطلع بدور قيادي صغير بدرجة عالية من الكفاءة. فتحت إشراف الغرب، عمد الجيش الأوكراني إلى إنشاء فيلق من ضباط الصف ليكون مسؤولاً عن تلبية المتطلبات الأساسية للجيش أثناء التحرك، من صيانة المعدات إلى الاستعداد الفعلي للقتال. وعند الممارسة العملية، تبين أن عدداً كبيراً من الذين عادوا إلى مناصبهم بعد دعوة أوكرانيا إلى الحشد هم من قدامى المحاربين الذين يتمتعون بخبرة عالية وفهم طبيعي لما ينبغي القيام به.
لكن الشرط الثالث ينقلنا إلى الشرط الرابع، حيث تتطلب القدرة على التصرف بفاعلية عند أي مستوى من مستويات القيادة حساً بالالتزام وفهماً للهدف السياسي. ولم يكن لهذين العنصرين أي وجود عند الجانب الروسي بسبب الطريقة التي شن بها بوتين حربه: لم تواجه القوات الروسية العدو الذي كانت تتوقعه ولم يكن الشعب الأوكراني ينتظر تحريره كما قيل لهم. وكلما زادت عبثية المعارك، تدهورت المعنويات وقل انضباط المقاتلين. وفي ظل هذه الظروف، قد تفضي المبادرات المحلية بكل بساطة إلى عمليات نهب أو انشقاق. وهذا ما لا يمكن أن يحدث عند الجانب الأوكراني الذي يدافع عن أرضه ضد عدو عازم على تدميرها. خلاصة القول، لم تكن محفزات القتال متناسقة بين الطرفين المتنازعين، وانعدام التناسق هذا أثر على مسار المعارك منذ البداية، وهو ما يعيدنا إلى الحماقة التي ارتكبها بوتين باتخاذه قرار المضي قدماً بالغزو. من الصعب قيادة القوات وحضها على التحرك دعماً لوهم.