ما بعد النظام الليبرالي الدولي
بروجيكت سنديكيت
2020-07-08 08:39
بقلم: جوزيف ناي
كمبريدج- يقول العديد من المحللين أن النظام الدولي الليبرالي انتهى مع صعود الصين وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ولكن إذا هزم جو بايدن ترامب، في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، هل ينبغي أن يحاول إعادة إحيائه؟ ربما لا، ولكن عليه استبداله.
ويشير النقاد بحق إلى أن النظام الأمريكي بعد عام 1945، لم يكن عالميًا ولم يكن دائمًا ليبراليًا إلى حد كبير. إذ أقصى أكثر من نصف العالم (الكتلة السوفيتية والصين)، وشمل العديد من الدول الاستبدادية. ودائما ما كانت الهيمنة الأمريكية تتسم بالمبالغة. ومع ذلك، يجب أن تضطلع أقوى دولة بدور القيادة في خلق منافع عامة عالمية، وإلا فلن يكون لها وجود- وسيعاني الأمريكيون.
إن الوباء الحالي مثال على ذلك. ويجب أن يكون الهدف الواقعي لإدارة بايدن إنشاء مؤسسات دولية مبنية على قوانين ومختلفة الأعضاء، من أجل معالجة قضايا مختلفة.
فهل ستوافق الصين وروسيا على المشاركة؟ خلال التسعينات من القرن العشرين وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لم تستطع أي من الاثنتين موازنة القوة الأمريكية، وقد تجاوزت الولايات المتحدة السيادة سعياً وراء القيم الليبرالية. إذ قصفت الولايات المتحدة صربيا، وغزت العراق، دون موافقة مجلس الأمن الدولي. وأيدت أيضا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2005، الذي تُكفل بموجبه "المسؤولية عن حماية" المواطنين الذين تعاملت معهم حكوماتهم بوحشية- وهو مذهب اعتمدته الولايات المتحدة في عام 2011، لقصف ليبيا بِمبرر حماية مواطني بنغازي.
ويصف النقاد هذا السجل على أنه غطرسة أمريكا بعد الحرب الباردة -شعرت روسيا والصين بتعرضها للخداع، لاسيما عندما أدى التدخل الذي قاده الناتو في ليبيا إلى تغيير النظام- بينما وصفه المدافعون على أنه التطور الطبيعي للقانون الإنساني الدولي. وعلى أي حال، وضع نمو القوة الصينية والروسية حدودًا أكثر صرامة للتدخل الليبرالي.
ماذا تبقى؟ تشدد روسيا والصين على معيار السيادة في ميثاق الأمم المتحدة، والذي بموجبه يمكن للدول أن تخوض الحرب للدفاع عن النفس فقط، أو بموافقة مجلس الأمن. إذ لم يتم الاستيلاء على أراضي الجار بالقوة إلا نادرا منذ عام 1945، وعندما حدث ذلك أدى إلى عقوبات مكلفة (شأنه في ذلك شأن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014). بالإضافة إلى ذلك، كثيرا ما أذِن مجلس الأمن بنشر قوات حفظ السلام في البلدان المضطربة، وحد التعاون السياسي من انتشار أسلحة الدمار الشامل والقذائف التسيارية. ولا يزال هذا البعد الذي يؤيد النظام المستنِد إلى القوانين حاسما.
أما فيما يتعلق بقوانين العلاقات الاقتصادية فستتطلب الخضوع للمراجعة. إذ قبل وقت طويل من انتشار الوباء، دعمت رأسمالية الدولة الهجينة في الصين النموذج التجاري غير العادل، الذي شوه عمل منظمة التجارة العالمية. وستكون النتيجة فصل سلاسل التوريد العالمية، خاصة عندما يكون الأمن القومي في خطر.
وعلى الرغم من أن الصين تشتكي عندما تمنع الولايات المتحدة شركات مثل Huawei (هواوي) من بناء شبكات اتصالات 5G (الجيل الخامس) في الغرب، فإن هذا الموقف يتوافق مع السيادة. فعلى أي حال، تمنع الصين Google (غوغل)، وFacebook (فيسبوك)، وTwitter (تويتر)، من العمل في الصين لأسباب أمنية. ويمكن أن يساعد التفاوض بشأن قواعد تجارية جديدة في منع استراتيجية الفصل من التصاعد. وفي الوقت نفسه، لا يزال التعاون في المجال المالي الحاسم قوياً، على الرغم من الأزمة الحالية.
وبالمقابل، يشكل الترابط الإيكولوجي عقبة لا يمكن التغلب عليها أمام السيادة، لأن التهديدات عبر وطنية. وبغض النظر عن الانتكاسات للعولمة الاقتصادية، فإن العولمة البيئية ستستمر، لأنها تطيع قوانين البيولوجيا والفيزياء، وليس منطق الجغرافيا السياسية المعاصرة. إن مثل هذه القضايا تهدد الجميع، ولكن لا يمكن لأي دولة أن تديرها بمفردها. وبالنسبة لقضايا مثل كوفيد-19، وتغير المناخ، تُسفر ممارسة السلطة عن حصيلة إيجابية.
وفي هذا السياق، لا يكفي التفكير في ممارسة السلطة على الآخرين؛ بل ينبغي أن نفكر أيضًا في ممارسة السلطة معهم. إن اتفاقية المناخ في باريس، ومنظمة الصحة العالمية تساعدنا، وتساعد الآخرين كذلك. ومنذ التقى ريتشارد نيكسون، وماو تسي تونغ في عام 1972، تعاونت الصين والولايات المتحدة على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية. وسيكون السؤال الصعب الذي سيواجهه بايدن هو ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة والصين التعاون في إنتاج المنافع العامة العالمية بينما تتنافسان في المجالات التقليدية التي تتنافس فيها القوى العظمى.
ويعد الفضاء الإلكتروني قضية جديدة مهمة– وقضية عابرة للحدود الوطنية إلى حد ما، ولكنه يخضع أيضًا لضوابط حكومية ذات سيادة. وإلى حد ما، يعاني الإنترنت من تصدعات بالفعل. ويمكن تطوير القوانين المتعلقة بحرية التعبير والخصوصية على الإنترنت إلى جانب دائرة داخلية من الديمقراطيات، ولكن لن تخضع لمراقبة الدول الاستبدادية.
ووفقًا لما اقترحته اللجنة العالمية حول استقرار الفضاء الإلكتروني، فإن بعض القواعد التي تمنع التلاعب بالبنية الأساسية للإنترنت تصب أيضًا في مصلحة المستبدين إذا أرادوا الاتصالية. ولكن عندما يستخدمون وكلاء لحرب المعلومات، أو للتدخل في الانتخابات (التي تنتهك السيادة)، يجب تعزيز المعايير بقواعد مثل تلك التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، خلال الحرب الباردة (على الرغم من العداء الأيديولوجي)، للحد من تزايد الحوادث التي تقع في البحار. وسيتعين على الولايات المتحدة والدول ذات التفكير المماثل أن تعلن المعايير التي تنوي الالتزام بها، وسيكون الردع ضروريًا.
إن الإصرار على القيم الليبرالية في الفضاء الإلكتروني لا يعني نزع سلاح الولايات المتحدة من جانب واحد؛ بل، يجب على الولايات المتحدة أن تميز بين القوة الناعمة المسموح بها للإقناع المفتوح، والقوة الصارمة لحرب المعلومات السرية، وفي هذه الحالة ستأخذ بالثأر. وسيُسمح لروسيا والصين أن تبثا البرامج علنا، ولكن هذا لن ينطبق على السلوك السري المنسق، مثل التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي. وستواصل الولايات المتحدة انتقاد سجلات حقوق الإنسان في هذه البلدان.
وتظهر الاستطلاعات أن الجمهور الأمريكي يريد تجنب التدخلات العسكرية، ولكن ليس الانسحاب من التحالفات أو التعاون المتعدد الأطراف. كما أن الشعب لا يزال يهتم بالقيم.
وإذا انتُخب بايدن، فإن السؤال الذي سيواجهه ليس هو ما إذا كان سيتم إعادة النظام الدولي الليبرالي؛ بل ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة العمل مع نواة داخلية من الحلفاء لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت التعاون مع مجموعة أوسع من الدول لإدارة المؤسسات الدولية اللازمة التي تستند إلى القانون لمواجهة التهديدات عبر الوطنية لاسيما تغير المناخ، والأوبئة، والهجمات السيبرانية، والإرهاب، وعدم الاستقرار الاقتصادي.