العالم على تخوم نظام حكم الكثرة
(البولياركي) Polyarchy
محمد بن سعيد الفطيسي
2015-04-28 01:30
البنية السياسية العالمية التي تطورت منذ انتهاء الحرب الباردة أبرزت العديد من المتغيرات والمتحولات الدولية العابرة للقارات والقوميات، كان على رأسها نهاية الثنائية القطبية العالمية بسقوط الاتحاد السوفيتي مع بداية تسعينيات القرن الـ20، ومن ثم بروز ما يطلق عليه بالهيمنة العالمية للولايات المتحدة الاميركية على رقعة الشطرنج الدولية حتى مطلع القرن 21 بشكل كامل وأحادي، تلاه تراجع في نظرية المركزية القطبية باتجاه واضح نحو نظام تعددي قطبي فضفاض يبدو فيه العالم على شكل تحالفات مصالح تحافظ فيه تلك الدول على مرونة قدرتها على تغيير شركاءها او لتشكيل تحالفات جديدة ردا على التغيرات الحاصلة في تطلعات نظرائها وقدراتهم.
أما اليوم، فأقصى ما يمكن الذهاب إليه من خلال ما يحدث وما يتوقع حدوثه بناء على المعطيات والتحولات الراهنة والمحتمل حدوثها خلال الـ 15 سنة القادمة حتى نهاية العقد الثالث من القرن 21 على هياكل البنية المتغيرة للسياسة الدولية وبناء عليها يمكن وصف النظام العالمي القادم، هو ذلك الوصف الذي أطلقه سيوم براون وهو أستاذ التعاون الدولي في قسم العلوم السياسية بجامعة برانديز في كتابه وهم التحكم – القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين 2004م – بقوله : ان النظام العالمي الذي نعيشه اليوم هو اقرب الى نظام تعددية قطبية فضفاضة، على تخوم نظام حكم الكثرة، في ظل الحضور الأحادي الطاغي في اغلب الأحيان للولايات المتحدة الاميركية.
وقد نتج عن ذلك المزيج من الاضطراب السياسي والجيوسياسي في هياكل البنية السياسية العالمية على مشارف القرن 21 الكثير من الصراعات والتدخلات السياسية والعسكرية والحروب العابرة للقوميات والحدود تركز اغلبها على رقعة الشطرنج الاوراسية وبشكل أكثر دقة وتحديد في نطاق حدود البيت السوفيتي القديم وخارطة الشرق الأوسط الجديد، هذه المنطقة الشاسعة كما يصفها زبغينو بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى 1999م (تمزقها الأحقاد المتأججة والتي يحيط بها جيران متنافسون أقوياء، مرشحة لان تتحول الى ساحة معركة كبرى للحروب ما بين الدول القومية، وعلى شكل أرجح للعنف العرقي والديني طويل الأمد).
وبالعودة الى هياكل البناء التاريخي للبنية المتغيرة للسياسة الدولية وأنظمة البناء السياسي والجيوسياسي للسياسة العالمية منذ أكثر خمسة قرون تقريبا نجد ان الحروب والصراعات كانت المرافق الدائم لتلك المتغيرات والتحولات الجيوسياسية كما يؤكد ذلك جاك.س.ليفي في كتابه الحرب في نظام القوى العظمى الحديث 1495-1975م حيث يقول : (ان الحروب كانت المرافق الثابت والعنصر الحساس لتوازن القوى المتعددة الأقطاب، فقد أعطى التوازن الأوربي التقليدي استقرارا بمعنى الحفاظ على استقلال معظم البلدان، ولكن كانت هناك حروب بين القوى الكبرى على امتداد 60% من السنوات منذ سنة 1500م).
وبالرجوع الى الفصل الأول من كتابي المفاجأة الروسية – نحو استشراف مستقبلي للإمبراطورية الروسية الحديثة على رقعة الشطرنج الدولية بالقرن الحادي والعشرين – والمنشور في العام 2008، الفصل الأول : كيف تشكل القرن الحادي والعشرين ص 55 – 90 اشرنا الى ان آليات الحركة السياسية الدولية قد تغيرت بشكل جذري بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما سبق واشرنا في الفقرة الأولى من هذا الطرح حتى وصلت الى ما يطلق عليه بالتعددية القطبية الفضفاضة او العهد الكلاسيكي الثاني للسياسة وقد أطلقنا عليه بالعهد الثاني كون العالم قد مر سياسيا وتاريخيا بنسخته الأولى حيث جرى الاقتراب إلى حدود معينة من حالة التعددية القطبية الفضفاضة في أوروبا خلال حقبة توازن القوة الكلاسيكية التي امتدت نحو مئة سنة قبل الثورة الفرنسية.
(ففي النظام الكلاسيكي كانت الدول تميل إلى التضافر لمعارضة أي دولة أو كتلة تهدد باحتلال موقع يمكنها من الهيمنة الطاغية، ولتمكين آلية مناهضة الهيمنة هذه من العمل بنجاح، وجب على الدول أن تحافظ على المرونة اللازمة لتغيير شركاء التحالف أو لتشكيل تحالفات جديدة ردا على التغيرات الحاصلة في تطلعات نظرائها وقدراتهم، فخلال حكم لويس الرابع عشر - 1643 / 1715 - تمخض الخوف من الهيمنة الفرنسية إلى دفع بريطانيا إلى تنظيم تحالف مناوئ لفرنسا ضم كلا من اسبانيا وهولندا، أما بعد أن أدى التوسع البريطاني فيما وراء البحار إلى جعل بريطانيا القوة المهيمنة الأكثر إثارة للخوف في منتصف القرن الثامن عشر، فقد سارعت اسبانيا وهولندا إلى الالتحاق بركب فرنسا في تحالف ثلاثي ضد بريطانيا).
الا ان هذا النظام أي نظام التعددية القطبية الفضفاضة الذي نعايشه اليوم وكما وصفه سيوم براون في العام 2004م في كتابه سالف الذكر، أي قبل عقد من الزمن تقريبا يعيش على تخوم نظام آخر وهو ما يعنينا في هذا الطرح أي نظام حكم الكثرة، فماذا نعني بان العالم على تخوم نظام حكم الكثرة او البولياركي Polyarchy ؟
بداية يجب ان نعلم انه لم توجد حقبة سياسية مماثلة وشبيهة عبر التاريخ السياسي الحديث يمكن ان توصف بهذه التسمية كما هو حال نظام الأحادية او الثنائية او حتى التعددية القطبية الفضفاضة التي نعيشها اليوم وتطرقنا الى وصفها وشرحها سلفا، حيث (ليس ثمة أي ظاهرة معروفة باسم حكم كثرة محكم ولعل مثل هذا النظام هو نظام مؤلف من عدد كبير من أنماط الأطراف الدولية الفاعلة المختلفة، الحكومية وغير الحكومية بعضها شديد الحرص على استقلاليته وبعضها الآخر يعول كثيرا على غيره طلبا للأمن والرخاء الأساسيين، وهو يمثل طيفا متباين الألوان من التحالفات وعلاقات الخصومة المتشكلة حول مئات القضايا والمشكلات وعلى مختلف الأصعدة.... وفي ظل نظام حكم الكثرة تتبارى الدول القومية والجماعات دون القومية والمصالح والروابط الخاصة العابرة للحدود القومية والمؤسسات متعددة القوميات فيما بينها على الموارد والتأييد والولاء في قواعدها التي تكون كثرة منها أعضاء في كثير من هذه الكيانات المختلفة في الوقت نفسه).
والمتتبع المتخصص لحال وواقع المشهد السياسي والجيوسياسي العالمي الراهن يشاهد تقاربا كبيرا مع الوصف السابق، حيث نلحظ ان القطبية المركزية او حتى الثنائية القطبية التي ورثتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لم تعد قادرة على إحكام قبضتها على رقعة الشطرنج الدولية، بل حتى ان العديد من القوى الإقليمية ان صح وصفها في أوربا واسيا كالاتحاد الأوربي وتركيا وإيران والصين والهند على سبيل المثال لم تعد تملك أي نوع من الجذب القادر على بناء تكتلات محكمة تربطها مصالح مشتركة لوقت طويل، يمكن التعويل عليها لبناء تحالفات استقرار واتزان في هياكل البناء السياسي العالمي، فاصدق ما يمكن ان نصف به السلطة والقوة في منتصف العقد الثاني من القرن 21 بأنها سلطة متعددة الأبعاد ومبعثرة كثيرا بما لا يسمح بذلك النوع من قوة الجذب التي كانت تمارسها مراكز الاستقطاب القديمة او الأطراف المهيمنة، مع سيطرة النزوع للتهديد والوعيد وعمليات عرض العضلات الآنية والمساومات حول قضايا أخرى من جهة ثانية.
كما ان الحلفاء والأصدقاء في هذا النوع من الأنظمة العالمية وفي وضع ومكان وزمان معين هم أعداء وخصوم في مكان وزمان ووضع آخر، حيث علاقات الخصومة المتشكلة ستغلب على علاقات التحالف في العديد من القضايا من جهة، وذلك بسبب العدد الكبير من اللاعبين ونوعياتهم التي تجعل من النظام العالمي نظام فوضوي ومتناقض التركيب، سريع التقلبات والصدقات والعداوات، في ظل غياب شركاء تحالف يعول عليهم، مما يجعل من تشكيل التحالفات وديمومتها أمر بالغ الصعوبة، وبالتالي وبناء عليه فانه من المفترض ان يكون نظام حكم الكثرة المتوقع ان يبرز على رقعة الشطرنج العالمية مع مطلع العقد الثالث من القرن 21 سيكون النظام الأشد نزوعا للحرب والصراعات والاقتتال العابر للقارات، الا انه لن ينطوي على حرب الجميع ضد الجميع كما توقع ذلك توماس هوبز نتيجة لوجود صلات التقاطع والتداخل بين الأمم والتي تستطيع ان تفعل وتولد الكابح للجهود المولدة للعداوة الكلية بين الأمم، لذا ستتركز تلك الحروب والصراعات حول جيوب وبقع عداوة مفرطة بين أطراف أحادية أكثر منها عالمية مجتمعة وخصوصا تلك التي تغرق في بحر من ثقافة العنف والطائفية والحزبية والمذهبية والقومية المفرطة، ونتوقع ان يبرز ذلك بشكل أكثر وضوح على رقعة الشطرنج الاوراسية، وخصوصا في الشرق الأوسط والبيت السوفيتي القديم.
خلاصة الرؤية الاستشرافية ان العالم مقبل وبعد ان عايش من وجهة نظري تراجع الهيمنة الاميركية مع بداية العقد الثاني من القرن 21 – انظر كتابي نهاية المركزية : الخارطة الجيوسياسية للقوى العالمية في العقد الثاني من القرن 21، وسيطرة نظام التعددية القطبية الفضفاضة والذي نتوقع استمراره حتى مطلع العقد الثالث من هذا القرن، مقبل على تخوم نظام عالمي جديد، وهو ما يطلق عليه بنظام حكم الكثرة او البولياركي Polyarchy والذي سيعيشه العالم وسيرزح تحت وطأته لسنوات طويلة نتوقع ان تستمر الى نهاية هذا القرن.