تنظيم لا قتال: وجه آخر للمناعة

Nature Masterclasses

2025-10-08 01:57

الخيار السهل، والركيك بعض الشيء، في وصف جهاز المناعة، بكامل تعقيد عملياته الحيوية، هو أنه: "جيش"، أو "خط دفاع". اكتسب هذا المجاز سطوة كاملة مع الوقت على أدبيات العلوم البيولوجية. أصبح مرادفًا سهلًا؛ جهاز المناعة يحمي، ويُجيّش أفراده للدفاع عن الجسم، فهو جيش إذن. في تلك الصورة جوانب نقص كثيرة، وتوجيه للخيال ليخلق عالمًا اختزاليًا، يخفي عنا جوانب أخرى لهذا الجهاز المذهل وعملياته الجزيئية متناهية الدقة.

في مقالهما "فهم المناعة" Understanding immunity، المنشور عام ٢٠٢٣، طرح الباحثان مارتن زاك وجريجور جريسليهنر فكرة مضادة، ليست بالجديدة، عن أن استخدام مجازات الجيش والدفاع في حديثتنا عن المناعة يجعلنا نغفل، كعادة المجاز، عمليات أخرى شديدة الأهمية يلعب جهاز المناعة الدور الأساسي فيها. 

تذهب جائزة نوبل لهذا العام (2025) في الفسيولوجيا أو الطب إلى هذه الناحية غير المطروقة عادة عند الحديث عن جهاز المناعة. سؤال يبدو بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه يحمل تعقيدًا لا يُصدق: ما الذي يجعل جهاز المناعة يستهدف الميكروبات لا الجسم؟ والإجابة عن ذلك تضمنت اكتشاف نوع من الخلايا المناعية يمنع الجسم من مهاجمة نفسه.

ساعد هذا الاكتشاف في تطوير عدد كبير من علاجات الأمراض المناعية، تخضع الآن للمراحل الأولى من التجارب السريرية، ومن المتوقع أن يكون لها دور كبير في التعامل مع أمراض تؤثر على حياة ملايين البشر، مثل السكري والأمراض الروماتيزمية.

اسمها الخلايا التائية

وهي تحمل هذا الاسم في العربية لأنها ترجمة مباشرة لـ T cells. والـT هنا اختصار للـThymus، وهذه "الثايمس" نعرفها في العربية باسم الغدة الزعترية، وتقع في الجزء العلوي من الصدر، في منطقة المنصف الأمامي، أمام عضلة القلب تمامًا. تكون كبيرة في الأطفال وتضمحل خلال فترة المراهقة والبلوغ. وما يعنينا منها أنها العضو الذي تنضج فيه الخلايا المناعية وتصبح فعّالة.

تنشأ الخلايا التائية، وهي خلية دم بيضاء، لم تصبح تائية بعد، في نخاع العظم، ثم تهاجر إلى الغدة الزعترية لتمر بمرحلة شديدة الأهمية من أطوار نموها، تتعلم فيها طريقة التفريق بين الخلايا السليمة والمعطوبة، وبين ما هو خلايا الجسم وما هو غير ذلك من فيروسات وبكتريا، ثم تخرج إلى مجرى الدم بعد ذلك، بعد أن كبرت ونضجت وأصبحت خلية تائية، لتنضم إلى ما نعرفه بجهاز المناعة، خلية مناعية تعرف خلايا الجسم ولا تهاجمها.

في عام 1995، اكتشف شيمون ساكاجوتشي، العالم ياباني الجنسية، نوعًا فرعيًا، لم يكن معروفًا من قبل، للخلايا التائية، أطلق عليها اسم الخلايا التائية المنظمة. تلعب تلك الخلايا دورًا محوريًا. مكابح من نوع خاص للجهاز المناعي، وهو مجاز آخر، يمنعها من التصرّف بجنون. تمثل هذه الخلايا المُنظمة ما نسبته 2% فحسب من إجمالي الخلايا التائية في الجسم، لكنها تملك سيطرة كاملة. اكتشف ساكاجوتشي أن هذا المسار البيولوجي، الذي يمنع الجسم من مهاجمة نفسه، يعني أن من بين الخلايا التائية، خلايا تائية مُحددة تختص بتنظيم عمل الخلايا التائية.

في تلك اللحظة من التاريخ، كان الإجماع بين علماء المناعة هو أن الجهاز المناعي يملك طريقة ذاتية للتنظيم. لكن أحدًا لم يعرف بالضبط كيف يستطيع الجهاز فعل ذلك، وبالتالي، كانت الأمراض المناعية لغزًا غير مفهوم.

في مجموعة من التجارب الشهيرة بين علماء المناعة، كشف ساكاجوتشي أن الفئران التي لا تملك هذه الخلايا تُصاب عادة بمجموعة من الأمراض المناعية، يهاجم فيها الجسم نفسه، تحديدًا أعضاءه الداخلية مثل الغدة الدرقية والبنكرياس. وأن حقن هذه الحيوانات بهذه الخلايا التائية المُنظمة كان يوقف تدهورها وتفاقم المرض بصورة واضحة.

استغرق الأمر ست سنوات حتى التقطت ماري إي. برونكو، وفريد رامسديل، وكلاهما أميركي الجنسية، طرف هذا الخيط، هذه المرة على المستوى الجيني. اكتشف العالمان أن هناك طفرة جينية، تحديدًا في جين FOXp3، تُسبب اضطرابًا مناعيًا شديد الخطورة عند الفئران، وأن لهذا الجين مقابل عند البشر. لم يكن هذا الاكتشاف بالأمر السهل. فالحقيقة أن التغيير المُسبب لهذه الطفرة شديد الدقة، لدرجة يصعب معها تمييزه، وإن كان أثره شديد الوضوح في الوقت نفسه.

الأمر الذي يبعث على الابتسام هنا، أن ساكاجوتشي عاد ليلتقط الخيط مرة أخرى، في عام 2003، مع إجراءه سلسلة من التجارب على هذا الجين تحديدًا، ليكتشف أن الفرضية صحيحة، وأن هذا الجين تحديدًا يظهر في الخلايا التائية المُنظمة، وأنه عنصر أساسي في أدائها لوظيفتها.

استعادة فرضية قديمة

مع منتصف سبعينيات القرن الماضي، طُرحت للمرة الأولى الفرضية التي نعرف صحتها الآن عن نوع خاص من الخلايا التائية المُنظمة. لم يجد العلماء أي أثر لها، لكنهم أدركوا وجودها. وأطلقوا عليها وقتها اسم: "الخلايا التائية القامعة". ربما، قالوا لأنفسهم، هناك سبب ما لحدوث الأمراض المناعية. لابد أن الجسم يهاجم نفسه، فهذه الأمراض لا تأتي من الخارج. ليست فيروسًا ولا بكتريا ولا طفيليًا من نوع ما. ليس كائنًا دقيقًا لا نراه. لا بد وأن الجسم يهاجم، لسبب ما، نفسه.

فشل العلماء مع ذلك في العثور على أي أثر أو دليل لهذه الخلايا. قالوا: لابد وأننا مخطئون إذن. لا جديد. مجرد فرضية أخرى خاطئة. مسار من المسارات الكثيرة التي يسلكها العلم، الطب هذه المرة، ليكتشف أنه أن الطريق لا يفضي إلى شيء، ومن ثمّ يعود الجميع أدراجهم بحثًا عن فرضية أخرى.

لم يعد ساكاجوتشي معهم. لسبب ما أصر على استكشاف هذه المساحة. وفي وقت كانت هذه الفكرة غير مطروقة في مجتمع العلوم المناعية، كان هذا العالم يجري مع فريقه سلسلة من التجارب الدقيقة، في محاولة للعثور على هذه الخلايا.

أطلقت اكتشافات ساكاجوتشي وبرونكو ورامسديل، الذين حصلوا على نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لهذا العام، موجة واسعة لا تزال آثارها ممتدة حتى الآن. مجال جديد خرج إلى النور فقط بسبب أفكار لم تكن مطروحة في السابق من الأصل. والفكرة هنا بسيطة أيضًا ومنطقية. لماذا لا نستخدم هذه الخلايا إذن في تطوير علاجات جديدة؟

تحاول أكثر من 200 تجربة سريرية في الوقت الحالي البحث عن علاجات مناعية توظف هذه النتائج لصالحها، تحديدًا فيما يتعلق بدور بعض الخلايا التائية المُنظمة في التعامل مع الأورام السرطانية. فمن الأمور المثيرة للاهتمام أن هذا النوع من الخلايا يُلاحظ وجوده عادة في بعض السرطانات، وهناك فرضية جديدة تقول إنها قد تلعب دورًا في تثبيط الاستجابة المناعية للأورام، ما يعني أن استهداف هذه الخلايا في سياق الأورام قد يحمل نتائج إيجابية على المدى البعيد.

وعلى النقيض من تلك الفرضية، فهناك علاجات أخرى تنظر في مسألة استخدام بعض الخلايا التائية المُنظمة كطريقة لوقف استجابة الجسم العنيفة بعد زراعة الأعضاء. ربما يكون بالإمكان تثبيط جهاز المناعة في هذا السياق، ومنعه من استهداف الأجسام الغريبة عليه، ربما فقط لو استطعنا توظيف هذه الخلايا.

لم يعد الأمر إذن يتعلق بمجازات بسيطة اختزالية. تجاوز العلم ذلك، أو نحن على وشك تجاوزه، ومع مرور الوقت، نكتشف شبكة تنظيمية دقيقة تلعب فيها الخلايا التائية المنظمة دورًا أساسيًا. أما ما كان فرضية منسية لا يُلقي لها أحد بالًا، فقد أصبحت واحدة من الآفاق الواعدة في هذه المساحة. حركة يغذيها الشك وغير المألوف، وأحيانًا حدس ليس هناك ما يؤيده.

ذات صلة

الشباب والتحديات الثقافية في العصر الرقميثلاثية الارتقاءدلالات المقاطعة والمقاطعينجيل زد المغربي.. يعبر عن غضب الشباب في العالمنفط الإقليم وقوته