سنغافورة ترسم مستقبل التنقل
بروجيكت سنديكيت
2021-08-14 01:49
بقلم: كارلو راتي
بوسطن ــ لم يكن تيزيانو تيرزاني من عشاق سنغافورة. استكشف الكاتب والصحافي الفلورنسي كل ركن في آسيا. وقد شهد سقوط سايجون في يد جيش فيتنام الشعبي والفيت كونج، وسقوط بنوم بنه في يد الخمير الحمر. عندما زار سنغافورة، خلص تيرزاني إلى أنها لم يكن لديها ما تقدمه سوى مطارها: "حيث يتركز كل ما تستطيع سنغافورة إظهاره للناظرين: كفاءتها، ونظافتها، ونظامها." بخلاف ذلك، لم تكن الدولة المدينة الثرية في نظره أكثر من "أكبر سوبرماركت للسلع الاستهلاكية، والعبثية، والتفاصيل الدقيقة في آسيا".
لا يخلو تقييم تيرزاني من بعض الحقيقة، لكنه ليس مكتملا بأي حال. الواقع أن الفوائد المترتبة على دقة سنغافورة في التعامل مع التفاصيل تتجاوز كثيرا مجرد جعل كل شيء في المطار يجري بسلاسة؛ فهي تسمح أيضا بتحويل الأفكار إلى عمل فعلي بسرعة مذهلة. ونتيجة لهذا، أصبحت سنغافورة أشبه بمختبر للإبداع الحضري.
لقد عاينت هذه العملية بنفسي. في عام 2013، مع اقتراب الذكرى السنوية الخمسين لاستقلال سنغافورة، طلب رئيس الخدمة المدنية في المدينة رأيي في ما يتصل بالمعالم أو التجارب التاريخية التي يجب أن تكون مركزية في الاحتفالات بهذه المناسبة. اقترحت أن سنغافورة ربما يجب أن تركز على المستقبل، وليس الماضي، فتدفع الابتكار والإبداع، على سبيل المثال، في القطاع الذي امتازت فيه بتفوق دائما: التنقل.
مرت أيام قليلة فقط قبل أن أتلقى مكالمة هاتفية تخبرني بأن الحكومة قررت إنشاء مجموعة عمل تحت مسمى "لجنة النقل البري المستقل في سنغافورة"، لدراسة الانتقال إلى السيارات الذاتية القيادة، وأنني مدعو للمشاركة. منذ ذلك الحين، اجتمعت اللجنة بعدد من أصحاب المصلحة الرئيسيين ــ من القطاعين العام والخاص ــ عدة مرات في السنة، من أجل إرساء الأساس.
أصبحت المركبات الذاتية القيادة متقدمة بدرجة مذهلة بالفعل، لكن التحدي الذي يواجه تطويرها ليس تكنولوجيا فحسب. إذ يتطلب تحويل التنقل الحضري أيضا إعادة النظر في المساحات التي تعمل فيها سياراتنا المستقلة حديثا ــ وأين يمكن تخزينها.
إذا كانت خدمات مشاركة السيارات والركوب طمست التمييز التقليدي بين النقل العام والخاص، فقد تتسبب السيارات الذاتية القيادة في محوه تماما. بعد ذهابهم إلى العمل، لا يحتاج أغلب الناس إلى إيقاف سياراتهم خارج منازلهم أو مكاتبهم طوال اليوم. وإذا كانت السيارة ذاتية القيادة، فيمكنها استغلال وقتها الخامل في نقل أفراد الأسرة، أو الجيران، أو المعارف، أو أي شخص آخر في المدينة.
وعلى هذا فإن السيارات المشتركة قد تصبح الوضع الطبيعي الجديد. ومع انخفاض إجمالي عدد المركبات المتداولة التي تعمل بمحرك، تنخفض أيضا احتياجات وقوف السيارات في المدينة. وفقا لتقديرات مختبرنا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، المدينة الحساسة (Senseable City)، فإن الانتقال إلى السيارات المشتركة الذاتية القيادة من الممكن أن يعمل على تمكين سنغافورة من التخلص من نحو 80% من أماكن وقوف السيارات التي يبلغ عددها 1.3 مليون مكان.
ومن الممكن أن تحفز الأرض المتوفرة حديثا إعادة تصور للمناطق السكنية، حيث لا تصطف طوابير من السيارات وعدادات محاسبة الوقوف على جوانب الأرصفة، بل مقاعد خارجية للمطاعم، وملاعب، وحدائق مصغرة. كما يمكن تخصيص المساحة لمحطات شحن المركبات الكهربائية، ومناطق تحميل وتفريغ لخدمة التجارة الإلكترونية، ومواقف للدراجات البخارية والدراجات المشتركة.
في معظم المدن، ستوضع مثل هذه الرؤية في ملف جذاب ومدروس جيدا ــ ثم تُـتـرَك ليغطيها الغبار والأتربة. ولكن ليس في سنغافورة. فهناك، تحرك الجهاز الحكومي المنضبط في المدينة والقوى الصناعية الرئيسية في تساوق تام. وبعد بضع سنوات فقط، كان قدر التقدم المحرز مذهلا.
من المفيد الحصول على الدعم من مجلس التنمية الاقتصادية في سنغافورة وصندوق الثروة السيادية، اللذين لاحقا استثمارات منسقة وكبيرة الحجم في شركات التنقل الجديدة البادئة مثل nuTonomy. تأسست هذه الشركة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبدأت اختبار أول خدمة سيارات أجرة ذاتية القيادة بالكامل في سنغافورة في عام 2016. وفي العام التالي، بيعت الشركة بمبلغ 450 مليون دولار، لتحقق عوائد مالية ضخمة للحكومة.
والمزيد من الإبداع في الطريق. ساعدت شركة التصميم التابعة لنا في إنشاء CapitaSpring، وهي ناطحة سحاب يبلغ ارتفاعها 280 مترا ــ ومن المقرر أن تُـفتَـتَح في نهاية هذا العام ــ وقد روعي في بنائها الانتقال الوشيك إلى أنظمة التنقل المستقبلية. فمرأب السيارات، على سبيل المثال، مصمم ليكون أعلى قليلا من المعتاد وأرضيته غير مائلة، حتى يتسنى إعادة توظيفها، مع انخفاض الطلب على مواقف السيارات، كمكاتب تطل على خليج مارينا.
ليس من قبيل المصادفة أن تحقق سنغافورة، وهي جزيرة بلا موارد طبيعية وفيرة، واحدا من أعلى مستويات نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم في غضون خمسين عاما فقط. وقد أظهر قادتها على نحو لا ينقطع القدرة على الرؤية البعيدة الأمد والعمل الحاسم.
من المؤكد أن سنغافورة بعيدة عن الكمال. فقد حمل عبء التقدم عدد كبير من المهاجرين، الذين يعملون في وظائف خطرة منخفضة الأجر مع القليل من الحقوق أو فرص التقدم. ورغم أن الإدارة العامة تتسم بالسرعة والإقدام عند قمة هرم المسؤولية، فإن الرتب الوسطى تظل بطيئة وكارهة للمجازفة. أخيرا، من الواضح أن النظام المرتب الدقيق الذي أصاب تيرزاني بالملل الشديد يخنق الإبداع. الواقع أن اقتصاد الشركات البادئة، الذي يعمل على تحويل العديد من العواصم الأوروبية اليوم، لا يزال يكافح لترسيخ قدميه في سنغافورة.
على الرغم من هذه القيود والحدود، ربما تكون سنغافورة المختبر الحضري الأكثر تقدما في آسيا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالتنقل. وهي تستحق الدراسة والإعجاب من نواح كثيرة.