موقف القانون الدولي الإنساني من سياسة التهجير القسري
(إسرائيل نموذجا)
جميل عودة ابراهيم
2024-10-21 06:45
تواصل إسرائيل سياستها العدوانية القائمة على التهجير القسري الجماعي للشعبين الفلسطيني واللبناني، تحت حجة حماية الأمن القومي الإسرائيلي. ويتعمد الجيش الإسرائيلي قصف المناطق المأهولة بالسكان بالأسلحة الثقيلة والمحرمة دوليا، وهدم المنازل على رؤوس سكانها، وبث الذعر والخوف في نفوسهم، بقصد التهجير القسري والجماعي نحو مناطق داخلية لا تصلها نيران الجيش الإسرائيلي، أو اللجوء إلى أقاليم دول المجاورة.
ولم تُخف "إسرائيل" منذ الساعات الأولى لإحداث الـ 7 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نيتها تهجير الفلسطينيين من غزة ودفعهم باتجاه سيناء داخل الحدود المصرية، بحجة وقف التهديد القادم وتعزيز أمن المنطقة. وأعلن العديد من الوزراء والسياسيين الإسرائيليين العديد من التصريحات خلال الأشهر المنصرمة التي تروج لكون خيار تهجير الفلسطينيين الخيار المثالي الذي يتوافق مع السياسة الإسرائيلية، وهكذا فعلت إسرائيل بجنوب لبنان، وتحت الذريعة نفسها. وأصبح التهجير القسري الجماعي جزء من سياسة ممنهجة تستخدمها إسرائيل لتغيير الأوضاع الديمغرافية في المناطق التي تسيطر عليها أو المناطق التي تصل إليها نيران مدافعها.
لقد دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي إسرائيل باستمرار إلى الامتناع عن سياسة التهجير القسري، وتسهيل عودة الفلسطينيين، ورغم الدعوات والنداءات الصادرة عن الدول والمنظمات الأممية والإنسانية لإسرائيل بالكف عن ممارسة سياسة التهجير القسري الجماعي، وعدم مهاجمة المدنيين والأعيان المدنية، إلا أن إسرائيل لم تستمع قط إلى هذه الدعوات والنداءات وتجاهلتها كليا. ولم تعترف إسرائيل حتى بحق الفلسطينيين في العودة برغم القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي.
فما هو موقف القانون الدولي الإنساني من سياسة التهجير القسري الجماعي للمدنيين؟ وماهي الإجراءات التي ينبغي أخذها للحد من التهجير المدنيين؟ وفي ضوء عدم توقّف إسرائيل عن تهجير أعداد متزايدة من الفلسطينيين منذ عام 1948، واللبنانيين قسرا؛ هل يمكن استخدام ولاية محكمة الجنايات الدولية لردع السياسيين الإسرائيليين عن الاستمرار بارتكاب هذه الجريمة؟ هل يمكن محاسبة من قاموا بهذه الجريمة؟
يعرف القانون الدولي الإنساني التهجير القسري بأنه (إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها) ويعرّف التهجير القسري أيضا بأنه "ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات، أو قوى شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية، بهدف إخلاء أراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها"، فهو عملية إجبار للسكان المدنيين وإرغامهم على الابتعاد عن أماكنهم الأصلية باستخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد، ونقلهم إلى أماكن جديدة ضمن إقليم الدولة نفسها أو إخراجهم خارج البلاد إلى دولة أخرى، وفق سياسات محكمة مخطط لها، وذلك من أجل إقصاء السكان الأصليين، وتغيير بنية ديمغرافية، أو فرض واقع جديد، أو إحلال مستوطنين بدل عنهم.
وتشير المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، إلى حظر عمليات النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة. كما أن المادة (7/1 د) من نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدولية، تجرم عمليات الترحيل أو النقل القسري، حيث تنص على أن “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، يشكل جريمة ضد الإنسانية”. وبموجب المواد 2 و7 و8 من نظام روما الأساسي، فإن “الإبعاد أو النقل غير المشروعين” يشكلان جريمة حرب، وتعتبر المادة المتعلقة بحظر نقل السكان من مناطقهم جزءً من القانون الدولي الإنساني العرفي.
كما تعد عملية التهجير القسري جريمة ثلاثية الأركان، فهي تعتبر وفق أعراف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم ضد الإنسانية، والتي ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية في إطار هجوم واسع النطاق، كما تعتبر جريمة التهجير القسري ضمن زمرة جرائم الإبادة الجماعية، لأنها تتسبب بنقل المدنيين وأطفالهم قسرا إلى جماعات ومناطق أخرى بهدف التسبب بهلاكهم بشكل كلي أو جزئي، هذا إلى جانب اعتبارها من جرائم الحرب لكونها من الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المنصوص عليها عام 1949.
وتعد جريمة التهجير القسري انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وتنتهك حزمة واسعة من الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث تشير أدبيات الأمم المتحدة إلى أنها تتعارض مع الحق في الحياة والحق في عدم الخضوع لمعاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة، كما أنها تحرم الأشخاص من حقهم في الأمن والحياة في مستوى معيشي ملائم، إلى جانب كونها تنتهك حقوق حرية التنقل واختيار مكان الإقامة والحق في التمتع بخدمات الصحة والتعليم والعمل.
ومن جهة أخرى تنطوي جريمة التهجير القسري على حالة من الإجبار والإرغام التي تهدد حياة المدنيين، وإمكانية وصولهم للغذاء والخدمات الصحية والتعليمية، إلى جانب فقدانهم أملاكهم ومدخراتهم وأعمالهم وأوراقهم الثبوتية وممتلكاتهم، كما تحمل جانبا تمييزيا واضحا، فهي تستهدف السكان والشعوب الأصلية بهدف خلق واقع جديد، وغالبا ما تكون هذه المجموعات من السكان الأصليين مهمشة فقيرة محرومة من الحقوق، تعرضت خلال فترات طويلة للعديد من الضغوط لإرغامها نهاية على الامتثال لهذه الجريمة.
وتزيد جريمة التهجير القسري من حالة التمييز والعزلة وتكرس حالة الفقر وعدم المساواة، وتساهم في تأجيج الصراع الاجتماعي، وتحرم شريحة من السكان من حزمة من الحقوق بشكل مباشر أو غير مباشر، وإلى جانب ذلك تترافق مع معاملة لا إنسانية مهينة، مصحوبة بالعنف والتعرض للمضايقة أو الضرب أو الخطف أو الاعتقال أو الابتزاز أو حتى الاستغلال الجنسي، حيث يبدو تأثير تجربة التهجير واضحا بشكل جلي على النساء والأطفال الذين فقدوا المسكن والحماية والخصوصية، وتعرضوا لجرعات مضاعفة من الرعب والخوف والفقد وحالة من عدم اليقين، وأجبروا على الحياة في مخيمات وتجمعات وظروف لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة الكريمة.
بينت منظمة العفو الدولية في يوم إحياء ذكرى النكبة (إن التهجير القسري الجاري لقرابة مليونيْ فلسطيني، والتدمير الشامل لممتلكات المدنيين والبنية التحتية المدنية في قطاع غزة المحتل، يسلّطان الضوء على سجل إسرائيل المروّع في تهجير الفلسطينيين، ورفضها المستمر لاحترام حقهم في العودة على مدى الـ 76 عامًا الماضية. وتُحيي هذه الذكرى تهجير ما يزيد على 800,000 فلسطيني في أعقاب قيام دولة إسرائيل في عام 1948).
وقالت إريكا جيفارا روساس، مديرة البحوث وأنشطة كسب التأييد والسياسات والحملات في منظمة العفو الدولية (إن أجيالًا من الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي المحتلة تعرّضوا لصدمة اقتلاعهم من أرضهم ومصادرة ممتلكاتهم عدة مرات دون أمل في العودة إلى ديارهم، ما خلّف جرحًا عميقًا في أنفسهم. ومن المروّع جدًا رؤية المشاهد المخيفة (لكارثة) نكبة 1948 كما يسميها الفلسطينيون تتكرر مع اضطرار أعداد كبيرة من الفلسطينيين في قطاع غزة إلى الفرار من منازلهم سيرًا على الأقدام بحثًا عن الأمان مرة تلو أخرى، وإقدام الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المدعومين من الدولة على طرد الفلسطينيين في الضفة الغربية من منازلهم).
وأضافة إريكا جيفارا روساس إنه (في ذكرى النكبة هذه، يتعرّض مصير الفلسطينيين للخطر أكثر من أي وقت مضى، فقد حُرموا من أراضيهم، وتعرّضوا لانتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان في ظل احتلال وحشي، ويواجه سكان قطاع غزة أيضًا خطر الإبادة الجماعية الوشيك ويعانون من المجاعة. ولهذا السبب تزداد اليوم أكثر من أي وقت مضى أهمية إطلاق صرخة مدوية من أجل حق الفلسطينيين في العودة، وتذكير العالم بأن إسرائيل ما زالت تحرمهم من هذا الحق المشروع في انتهاك صارخ للقانون الدولي طوال أكثر من 76 عامًا).
وترى منظمة أوكسفام الخيرية إن الكثيرين داخل المجتمع الدولي (متواطئون في القتل الجماعي والتهجير القسري والمجاعة بحق أكثر من مليوني شخص في قطاع غزة". وانتقدت مديرة الشؤون الإنسانية في المنظمة مارتا فالديس جارسيا -في بيان صحفي لمنظمة أوكسفام- الأطراف الداعمة لإسرائيل في حربها على غزة، قائلة إنها متواطئة في القتل الجماعي والتهجير القسري والتجويع والحرمان لأكثر من مليوني فلسطيني. ووصفت جارسيا ما تسميه إسرائيل بالمناطق الآمنة داخل غزة بأنها مجرد سراب، فهي غير آمنة ولا يمكن الوصول إليها. كما عبّرت مسؤولة أوكسفام عن خشيتها من أن يضطر السكان إلى الخروج من غزة تحت ستار "السلامة"، وهو ما شأنه أن "يجبر النظام الإنساني على الاختيار بين مساعدة المدنيين، أو التواطؤ في ترحيلهم القسري).
وبما أن التهجير القسري في الأرض المحتلة ممنهج ويقع على نطاق واسع، فإنه يمكن الحديث عن أن جريمة التهجير القسري ترتكب كجريمة ضد الإنسانية في هذه الحالة. أما عن المتّهمين، فإنّ كل من يشارك في الجريمة، سواء كان مسؤولاً عسكرياً أو قضائياً أو سياسياً، أي كل من ثبت تورطه بطرد مدني سواء داخل الأرض المحتلة أو إلى خارجها يعتبر متورطاً جنائياً. لعل انضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية فرصة هامة لدحرجة عجلة المحاسبة والعدالة، فالتهجير القسري المستمر في الأرض الفلسطينية المحتلة يتخذ أشكالاً عديدة، ويتركز بشكل متزايد في القدس ومناطق (ج) من الضفة الغربية بالإضافة إلى ما يحدث في غزة ولبنان. ولا شك أن كل حالة تهجير منفردة تشكل جريمة حرب بحد ذاتها.
نخلص مما تقدم أن التغيير الديمغرافي يعد من أبشع الأساليب والتصرفات التي تمارس في إطار سياسة تمييزية ما، وأشدها إلحاقا للأذى بالسكان المدنيين. وقد أدان المجتمع الدولي في الكثير من الوثائق القانونية جريمة التغيير الديمغرافي والتهجير القسري للسكان الأصليين، وعلى ذلك نوصي ما يأتي:
1. إن التهجير القسري للسكان المدنيين يُعد جريمة ثلاثية الأركان، فهي من الجرائم ضد الإنسانية، لأنها ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية. وتُعد جريمة التهجير القسري من جرائم الإبادة الجماعية، لأنها تتسبب بنقل المدنيين وأطفالهم قسرا إلى جماعات ومناطق أخرى بهدف التسبب بهلاكهم بشكل كلي أو جزئي، هذا إلى جانب كونها من جرائم الحرب لأنها من الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المنصوص عليها عام 1949.
2. إن إسرائيل تمارس أعمالا عدوانية متعددة بحق الفلسطينيين واللبنانيين، مثل القتل والتدمير الممنهج والحصار الخانق، ومنع دخول المواد الغذائية الأساسية، والحرمان من الإسعاف والعلاج، وغيره على نطاق واسع بقصد التهجير القسري الجماعي للسكان.
3. إن أجيالًا من الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي المحتلة تعرّضوا لصدمة اقتلاعهم من أرضهم ومصادرة ممتلكاتهم عدة مرات دون أمل في العودة إلى ديارهم، ما خلّف جرحًا عميقًا في أنفسهم، وهذا ما يحدث في جنوب لبنان أيضا.
4. ينبغي للمجتمع الدولي أن يبذل كل ما في وسعه لمنع المزيد من التهجير القسري للفلسطينيين، وأن يغيّر وضع التهجير الدائم لجميع الفلسطينيين بتمكينهم من الممارسة الفعلية لحقهم في العودة.
5. إن حكومتي فلسطين ولبنان لهما الحق في إقامة دعوى أمام المحكمة الجنائية ضد السياسات الإسرائيلية العنصرية التي ينتج عنها تهجير قسري للسكّان. حيث إن تورط إسرائيليين في تصميم وتنفيذ هذه السياسة قد يعرّضهم لخطر المحاكمة الدولية والعقاب، وخصوصاً مع سهولة إثبات واقعة التهجير القسري والسياسة التي تستخدمها إسرائيل في التهجير.