القصف العشوائي على المدنيين في لبنان

جميل عودة ابراهيم

2024-10-06 05:13

خلف القصف الإسرائيلي العشوائي على جنوب لبنان مئات القتلى من المدنيين والطواقم الطبية والصحفيين، وألوف الجرحى منهم، حالات بعضهم خطيرة، وتدمير العشرات من المباني والبيوت والبنى التحتية، ونزوح نحو مليون مواطن باتجاه العاصمة بيروت، ولجوء المئات منهم إلى سوريا والعراق، بالإضافة إلى استخدام التهديد بالعنف لبث الرعب بين السكان، وإجبارهم على المغادرة.

وعلى ما يبدو أن إسرائيل قررت أن تستنسخ تجربتها في غزة من قتل للمدنيين من الأطفال والنساء، ومن تدمير كامل للبنى التحتية، ومن موجات النزوح الداخلي، وخلق بيئة لا تصلح للعيش البشري في لبنان أيضا، بقصد القضاء كليا أو جزئيا على سكان الضاحية الجنوبية، وإفراغ المنطقة من التواجد السكاني.

والسؤال هنا ما هو موقف القانون الإنساني الدولي، والقانون الدولي لحقوق الإنسان من الأعمال العدوانية الإسرائيلية التي تستهدف المدنيين والصحفيين والطاقم الطبي، وتعمل على تدمير ممنهج للبنى التحتية، بقصد خلق بيئة غير صالحة للعيش البشري، سواء في فلسطين أو لبنان؟ وما هي الإجراءات القانونية التي يمكن اتخاذها للتصدي للمخالفات الجسيمة من الجانب الإسرائيلي للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في جنوب لبنان؟ وماذا ينبغي أن يفعل المجتمع الدولي لردع إسرائيل عن مواصلة جرائمها بحق الشعبيين الفلسطيني واللبناني؟ 

القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان هما فرعان قانونيان مختلفان، ولكنهما متكاملين. وكلاهما معنيّ بحماية الأرواح والصحة وصون الكرامة. إذ ينطبق القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة، بينما ينطبق قانون حقوق الإنسان في جميع الأوقات، في السلم والحرب على حد سواء.

ويقع على عاتق الدول واجب قانوني باحترام وتنفيذ القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان. ويتطلب الامتثال للقانون الدولي الإنساني من الدولة أن تضع تشريعات وطنية لتنفيذ التزاماتها، وتدريب قواتها العسكرية، ومحاكمة المشتبه في ارتكابهم انتهاكات جسيمة بحق القانون الدولي الإنساني. ويتضمن قانون حقوق الإنسان أيضًا أحكامًا تلزم الدولة باتخاذ التدابير التشريعية وغيرها من التدابير المناسبة لتنفيذ قواعده والمعاقبة على الانتهاكات.

تتمثل القاعدة الأساسيّة في القانون الإنساني الدولي أثناء النزاعات في أنّ جميع الأطراف ملزمة بالتمييز في كل الأوقات بين المقاتلين والمدنيين. لا يجوز أبدا استهداف المدنيين والأعيان المدنيّة بالهجمات؛ ويجوز للأطراف المتحاربة فقط استهداف المقاتلين والأعيان العسكريّة. لا يكفي ببساطة الاكتفاء بقول إنّ المدنيين ليسوا أهدافا للهجمات؛ حيث يفرض القانون الإنساني الدولي على أطراف النزاع اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لتقليص الضرر اللاحق بالمدنيين والأعيان المدنيّة. وكذلك تُحظر أيضا الهجمات التي لا تُفرّق بين المقاتلين والمدنيين أو التي يُتوقع أن تتسبّب في أضرار غير متناسبة للسكّان المدنيين مقارنة بالمكاسب العسكريّة.

عند شنّ هجوم قد يؤثر على السكان المدنيين، تفرض قوانين الحرب على الأطراف إعطاء "إنذار مسبق بوسائل مُجدية"، ما لم يكن ذلك مستحيلا. وإذا كان المدنيون عاجزين عن المغادرة في اتجاه منطقة أكثر أمانا، لن يكون الإنذار مجديا. لكن إعطاء الإنذار لا يُعفي الأطراف من واجب حماية المدنيين. ويجب الاستمرار في حماية المدنيين الذين يُخلون المكان بعد الإنذار، حتى في هذه الحالة يجب عدم استهدافهم، ويجب على المهاجمين اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة لحمايتهم. كما تُحظر التصريحات التي لا تمثل إنذارات حقيقيّة لكنها تهدف إلى استخدام التهديد بالعنف لبث الرعب بين السكان، مثل تلك التي تجبرهم على المغادرة.

وبناء على ما تقدم فان القانون الإنساني الدولي مُلزم للدول، بما في ذلك إسرائيل، وإنّ قواعد القانون لا تخضع للمعاملة بالمثل، أي أنّها تنطبق بغض النظر عمّا فعله الطرف الآخر. فلا يُمكن أبدا تبرير الانتهاكات –مثل استهداف المدنيين عمدا أو فرض عقاب جماعيّ عليهم– بادّعاء أنّ الطرف الآخر ارتكب انتهاكات، أو أنّ هناك اختلال في موازين القوى أو غير ذلك من المظالم.

لذلك تُعدّ الغارات الجويّة والهجمات الصاروخيّة التي تشنها إسرائيل على غزة في فلسطين، والضاحية الجنوبية في لبنان، والتي تستهدف المدنيين أو العشوائيّة انتهاكا لقوانين الحرب، وتُعتبر جرائم حرب كونها أدت إلى مهاجمة المدنيين عمدا، وأخذ الرهائن، والعقاب الجماعي. ووجدت هيومن رايتس ووتش ومنظمات حقوقيّة أخرى أيضا أن السلطات الإسرائيلية ترتكب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضدّ الإنسانيّة، في حق ملايين الفلسطينيين.

قال وزير خارجية لبنان في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة "إن إسرائيل تجنح أكثر فأكثر نحو التطرف "مشيرا إلى اتساع رقعة الحرب لتطال العمق اللبناني والنموذج "القبيح والمقزز" في تحويل أجهزة إلكترونية مخصصة للاستخدام المدني "إلى قنابل موقوتة"، والتدمير "الممنهج" الذي تتعرض له القرى الحدودية اللبنانية، "والعقاب الجماعي للسكان وحرق الأراضي الزراعية بالفوسفور الأبيض وجعلها غير قابلة للاستثمار لسنوات طويلة".

ويُعد قصف المساكن غير مستخدمة لأغراضٍ عسكرية قصفاً تدميرياً، كذلك قصف وتدمير مساجد ومستشفيات مع التهديد بعدم إبقاء السكان على قيد الحياة ولو تواجدوا في أماكن سكنهم، وكذلك تعمد استهداف المدارس وقوافل سيارات الإسعاف (آخرها في جنوب لبنان) وأعمال الإغاثة والإنقاذ والمستشفيات ومواقع ووسائط الخدمات الطبية ومرافق الخدمات العامة كأحد الأهداف غير المشروعة للحرب كلها جرائم حرب.

لا تزال إسرائيل مستمرّة بشن حرب شاملة تستهدف الفلسطينيين من دون تمييز، حرب تستهدف أهل غزة كمجموعة بشرية، فيصبح التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، جنبًا إلى جنب مع الفصل العنصري، جرائم متعددة ضمن نكبة واحدة مستمرة منذ 75 عامًا. ومنذ 8 تشرين الأوّل، ومع اشتعال جبهة جنوب لبنان، ونحن نشهد على هجمات إسرائيلية، قتلت جدّات وأمّهات وأطفال، وخطفت شبّان وشابات وكهول، وأحرقت أكثر من 40 ألف من أشجار الزيتون، وقضت على مئات الهكتارات من المساحات الحرجية، وتسبّبت بنزوح عشرات الآلاف.

وتشير المنظمات الإنسانية أن لبنان يشهد أكبر عمليات نزوح، منذ بدء المواجهات في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ لم تقتصر عمليات النزوح على المناطق القريبة من خطوط المواجهة الحدودية، بل شملت أيضا مناطق أوسع جغرافيا في جنوب لبنان، أصبحت غير آمنة تحت وطأة الغارات الجوية الإسرائيلية. فقد شهدت الطرق المؤدية من مدينة صور الساحلية إلى العاصمة بيروت حركة نزوح غير مسبوقة، إذ امتلأت الشوارع بسيارات تقلّ النساء والأطفال مع بعض الأمتعة البسيطة، مما تسبّب في ازدحام مروري خانق امتد على طول الشريط الساحلي واستغرق ساعات لعبور مسافات لا تتجاوز بضع كيلومترات.

وبناء على ذلك؛ فان كل من يرتكب جريمة حرب يتحمل المسؤولية الجنائيّة، وكذلك المسؤولون عن إصدار أوامر بارتكاب جرائم حرب أو المساعدة على ارتكابها أو تسهيلها. ويتحمل القادة والزعماء المدنيون الإسرائيليون أيضا المسؤولية الجنائيّة بموجب مبدأ مسؤولية القيادة إذا كانوا على علم أو كان عليهم أن يعلموا بجرائم ارتكبها مرؤوسوهم دون منعها أو معاقبة المتورطين فيها بالشكل المناسب، ويجب أن تُفضي الجرائم الدوليّة إلى المحاسبة حيث تتمتع "المحكمة الجنائيّة الدولية" في لاهاي بولاية قضائيّة على جرائم الحرب وغيرها من الجرائم الدوليّة الخطيرة التي تُرتكب في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة وفي جنوب لبنان، والمحاسبة الفعّالة شرط حيوي لوضع حدّ للفظائع.

مما تقدم نوصي بما يأتي:

1. ضرورة ممارسة الضغوط وحملات المناصرة لجماعات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية، لوقف العدوان البربري على فلسطين ولبنان، وتقديم الجناة الإسرائيليين إلى العدالة.

2. ضرورة توثيق الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين والأعيان المدنية في فلسطين ولبنان، وكذلك توثيق تحريض المسؤولين الإسرائيليين على الإبادة الجماعية ضدّ المدنيين اللبنانيين، وذلك استنادًا إلى التهديدات بتدمير حياتهم بالكامل أو جزئيًا لتكون دليلا ملموسا على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم وإبادة جماعية بحق الشعبين، ولكي تبقى هذه التوثيقات شاهدة على جرائم إسرائيل وتعديها على المنظومة القانونية الدولية، وعلى المبادئ الإنسانية. وهذه الجرائم لا تسقط بتقادم الزمن، وسيأتي يوم المحاسبة عليها.

3. ضرورة تقديم بلاغات إلى المقرّرين الخاصين لدى الأمم المتحدة المعيّنين من قبل مجلس حقوق الإنسان، مثل المقرّر الخاص المعنيّ بحالات الإعدام خارج القضاء أو تعسّفًا، بشأن قتل المدنيين واستهداف سيارات الإسعاف المحميّة، والمقرّرة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان للمشرّدين داخليًا، بشأن التشريد الداخلي للبنانيين من منازلهم، والمقرّرة الخاصة المعنية بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، بشأن الاعتداءات والهجمات على الصحافيين. وضرورة إرسال شكوى إلى اليونسكو بما يخصّ قتل واستهداف الصحافيين، لما لصلاحية اليونسكو بحماية الصحافيين.

4. ضرورة اللجوء إلى “الإجراء 1503“، وهي تقديم شكوى ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية إلى مجلس حقوق الإنسان. حيث تسمح هذه الآلية بتقديم شكوى ضدّ أي دولة من دون الحاجة إلى التحقق ممّا إذا كانت قد صادقت على معاهدة معيّنة أو حدّدت التزاماتها بموجب الصكّ.

5. ضرورة مطالبة مجلس حقوق الإنسان بإنشاء لجنة تحقيق أو بعثة تقصي حقائق، للتحقيق في الجرائم الخطيرة التي طالت جنوب لبنان، وهو ما يتطلّب من الحكومة اللبنانية أن تبذل جهودها الدبلوماسية بهذا الخصوص لحصد موافقة الثلث لجلسة استثنائية لمجلس حقوق الإنسان للتصويت على لجنة تقصي حقائق.

6. ضرورة أن يمارس المجتمع الدولي دوره في تحقيق العدالة الجنائية، وأن يوجه الجرائم الإسرائيلية بمحاكمات عادلة حيث إن بقاء مرتكبي انتهاكات القانون الدولي الإنساني دون مساءلة وعقاب هو أمر غير أخلاقي بل مخزي ومدمر...

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

ذات صلة

بين التجربة والمجازفة.. الخبرة والعقلمعنى أن تكون مُعلّماًالحرب والسلام: لعبة عض الاصابعأزهار الدم: من غزة إلى لبنانلكي ننتصر