الحرية مسؤولية والمسؤولية حرية
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2024-06-27 05:49
الأصل ان الإنسان يولد حراً وأن يعيش حراً في فكره وضميره وسائر شؤون حياته الخاصة، وهو حر في تكوين أفكاره واختار نمط ومكان العيش بذاته، وعلى المجتمع ان يكفل له (الحرية والكرامة) ومن المؤكد ان غياب أي منهما يعدم أي معنى للحقوق أو الحريات الأخرى، وإنهما الكفيلان بصيانة ذاته الإنسانية، فالحرية تعني قدرة الإنسان على الاختيار بشرط ان لا يضر بالآخرين وهو ما عبرت عنه المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي للعام 1789 "كل الناس أحرار والحرية هي إباحة كل عمل لا يضر أحداً.
وبناءً عليه لا حد لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني، ووضع الحدود منوط بالقانون دون سواه" وما تقدم لا معنى له ان لم تتوافر جملة من الظروف والعوامل الكفيلة بالقدرة الحقيقية على الاختيار بعيدا عن الاملاءات المادية منها أو المعنوية، كما ان الحرية مشروطة بضرورة عدم الإضرار بالآخرين، بمعنى ان التمتع بها لا يعني مخالفة الشرع المقدس أو القانون أو النظام العام أو الآداب العامة، فالحرية ليست مطلقة بلا قيود بل تحدها الضوابط والحدود التي يرسمها القانون العادل، حتى لا يساء استخدامها فتلحق ضررا بالمجتمع أو ببقية الأفراد، أو المصلحة العامة عموماً، وهو مصداق لما أمرت به المادة التاسعة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي جاء فيها "لكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة أعلاه واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية:
أ- احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
ب- حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة".
ولا تكتمل صورة الحرية بوجهها الأبهى إلا ان كانت المسؤولية إلى جوارها، بمعنى من يمارس حريته في مختلف شؤونه الحياتية اليومية يقع عليه واجباً ان يحترم الآخرين والقواعد القانونية والشرعية النافذة، ليتمكن الجميع من العيش بسلام ولذا يقع واجباً على الجميع معرفة حدود الحرية في النفس والأسرة، والمدرسة، والعمل، وسائر الممارسات اليومية في نطاق المجتمع والدولة وهو ما يعبر عنه بالنظام العام، وليس إلا الدستور والقانون من يضع ضوابط ومقيدات تلك الممارسات ويرسم حدود الحريات ويبين الجزاءات التي توقع على المخالف نتيجة قيام المسؤولية.
فالحرية والمسؤولية بمثابة كفتي ميزان لابد ان يكونا متقابلتين ومتوازنتين على سبيل المثال حرية التعبير عن الرأي التي كفلها المشرع الدستوري العراقي بدستور جمهورية العراق 2005 في المادة (38) والتي قضت بأن "تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب:
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل"، ولذا حين يمارس أي فرد عراقي حرية التعبير في وسائل الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء ولا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي ان يراعي خصوصية الآخرين ويحترم عقائدهم وحقوقهم وإلا فلن ينفعه التذرع بالحق في التعبير عن الرأي بشيء، إذ نلاحظ ان النص الدستوري تضمن الحرية ووفر لها غطاء الشرعية وبالوقت ذاته وضع لها قيداً وحداً يمنع الانحراف بها باتجاه الاعتداء، بعبارة أخرى المشرع الدستوري نظم الحرية والمسؤولية في آن واحد، وكذا الأمر بالنسبة لحرية الاتصالات حيث ورد في المادة الأربعون من الدستور العراقي أن "حرية الاتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والالكترونية وغيرها مكفولة، ولا يجوز مراقبتها أو التنصت عليها، أو الكشف عنها، الا لضرورةٍ قانونيةٍ وأمنية، وبقرارٍ قضائي "فحينما يمارس شخص ما حريته شتى ضروب الحياة يمكن ان تثار مسؤوليته ان أضر بالمصلحة العامة أو الخاصة على حد سواء، ونعني بالمصلحة المنفعة التي تعود على الفرد أو المجتمع سواءً منها المادية أو المعنوية فلا يعتدي على مصالح الآخرين بأي شكل من الإشكال أو لأي سبب من الأسباب.
لذا يغدو واضحاً ان الحرية لا يمكن ان تكون حقيقية بلا مسؤولية كونها ستتحول إلى فوضى ومفسدة وتخلف عدم الاستقرار على المستوى الفردي والجماعي بكل تأكيد، والفلسفة المبتغاة من اقتران الحرية بالمسؤولية كون الأولى تمثل المصلحة الذاتية إما المسؤولية فهي تعبر عن المصلحة الاجتماعية أو العامة، علما ان كلاهما مقترنتان ولا يمكن ان ينفصلا، بوصف الحريات العامة والخاصة تمثل مجموعة من القيم الإنسانية التي تعبر عن جوهر النظام الاجتماعي والقانوني والاقتصادي، والثقافي السائد في الدولة والمجتمع وتؤدي وظيفة مزدوجة تتمثل في تقديس ذات الإنسان من قبل السلطات العامة وتقود بالمحصلة الفرد والمجتمع إلى احترام طوعي للقانون وامتثال ذاتي لأحكامه ما يوصلنا إلى التطبيق السليم لأحكامه والشعور المتأصل بالانتماء للأمة أو المجتمع المحلي.
ولما المسؤولية بمثابة المعبر عن المصلحة العامة لذا يقتضي الأمر وجود توازن ما بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة وبالعودة إلى النص الدستوري نلحظ ان المشرع الدستوري في المادة الثامنة والثلاثون سابقة الذكر يؤكد ان حرية الاجتماع والتظاهر السلمي مكفولة بشرط ان تنظم بقانون، ومن وظيفة هذا القانون الموعود به ان يمثل حالة التوازن بين الحق الذاتي للأفراد بالتعبير عن أرائهم بالتظاهر وبين الحق العام أو المصلحة العامة التي تتمثل في الحفاظ على الأمن والنظام وعدم الإضرار بالآخرين بأي شكل من الأشكال، مع التأكيد على قناعة راسخة تتمثل في أن الحرية مسالة فطرية وليست منحة أو هبة من السلطة الحاكمة، والتمتع بها يعتمد بالدرجة الأساس على الفرد والمجتمع ذاته وما على السلطة الحاكمة إلا ان لا تضع العراقيل أو الموانع في مواجهتهم أو تسعى إلى الانحراف بالسلطة حين تدعي التنظيم فتذهب باتجاه التقييد غير الضروري للحقوق أو الحريات.
ويبدو واضحا ان ما تقدم يعتمد بالدرجة الأساس على تنشئه الفرد وما يتلقاه من معارف في كنف الأسرة والمدرسة والمجتمع في جميع محطات حياته التي يمرر بها، ونلحظ بشكل واضح ان الأمر مختلف من فرد إلى أخر ومكمن الاختلاف يعود إلى عدد من العوامل في مقدمتها نظام الحكم في الدولة وطبيعة المؤسسات العامة التي تتصل في نشاطها وخدماتها بالفرد فان كان نظام الحكم يؤمن بالديمقراطية والحرية الفردية ستكون المؤسسات العامة مهيأة لتسهم في تنشئة سليمة للفرد ليكون قادراً على التمتع بالحريات بشعور عالي بالمسؤولية فتلك المؤسسات بالتأكيد ستكون أساليبها ومناهجها وأفرادها تؤمن بحرمة الذات البشرية والكرامة الإنسانية فتنطلق في أداء واجبها في ضوء ان الفرد قيمة وتنمي في ذاته مفاهيم الشعور بالمسؤولية إزاء المجموع والشأن العام أيضاً، وبشكل متوازن مع التدريب اليومي على ممارسة الحقوق والحريات بشكل متوازن ولا يلحق الضرر بالغير، ما يفتح الباب واسعاً باتجاه الحصول على فرد إيجابي مبادر إلى المصلحة العامة، وفي المجتمعات غير الديمقراطية حيث تعشعش الأنظمة الاستبدادية نجد العكس تماماً إذ يحرص المستبد أو الديكتاتور على ان تكون التنشئة الفردية بطريقة التلقين وفرض السلوكيات والتركيز على إثارة النعرات وتغذية الشعور بالامتنان إلى الحاكم ومنجزاته الخرافية التي لا تتعدى الوهم والوهن عن القدرة على خدمة المبدأ إلى خدمة الذات.
لذا حين يغيب القانون والقدرة على الفرض ويكون الامتثال متأتي للقناعات عن مثل هذه المجتمعات نلاحظ بعض السلوكيات غير المنضبطة، فالخلل ليس في الحرية كما يحب الحاكم المستبد ان يصوره بل هو في التطبيق والتنشئة حين تكون ممتزجة مع الإقناع والشعور بالمسؤولية، ولما تقدم ينكشف أمامنا الغاية التي توخاها الأنبياء والأئمة والمصلحون بضرورة ان يكون الإنسان جوهر وغاية وليس مجرد وسيلة للوصول إلى غاية معينة، ولبلوغ ما تقدم لابد من إرساء أسس تربوية حقيقية وان يملك الفرد زمام السيادة على ذاته وتصرفاته يقول تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" وقال تعالى "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"، فالمنهج القرآني المتقدم يقوم على تكريم الإنسان وان الأصل في تقويم عوده الحرية وان الأخيرة مسؤولية كون إساءة استعمالها تقود إلى تبعات وأثار في الحياة الدنيا والآخرة.
..........................................