التشريعات الاجتماعية ودورها في صيانة وتعزيز الأمن الإنساني
د. علاء إبراهيم محمود الحسيني
2023-10-07 07:22
التشريع نتاج المجتمع ويكاد لا يخلو مجتمع ما من التشريعات بمختلف صورها ومراتبها، والتي تمثل في حقيقتها التدخل المقصود والمخطط في الشأن العامل إحداث التغيير الإيجابي الذي تقصده السلطات العامة في حياة هذا المجتمع، ولذا يمكننا ان ننظر إلى هذه التشريعات على أنها مجموعة من القواعد القانونية المشرعة لتنظيم السلوك أو الأوضاع العامة وتنطوي على قسمين.
القسم الأول هو الجزء المادي المنظور والمتكون من سباكة لغوية معينة لعبارات تكون نصوصاً، أما القسم الآخر وهو غير المرئي بيد أنه محسوس ومدرك ويتمثل بالفلسفة أو الأيدلوجية التي تقف وراء النص والتي يحملها المشرع ويتأثر بها ويحاول ان يكرسها بما يصدر عنه، ولما كانت التشريعات عموماً والاجتماعية خصوصاً تمثل ضرورة لاستمرار الحياة الإنسانية في الدولة، فإنها تمثل وبحق حاجة إنسانية واجتماعية حقيقية لا يستقسم الأمر بدونها، لاتصالها بالأوضاع العامة من نواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحيث يقال ان القانون أبن البيئة التي صدر فيها وهو يمثل انعكاس للأوضاع العامة ويمثل الوسيلة الفضلى لمعالجة مواطن الخلل فيها.
لما تقدم فالتشريعات الاجتماعية هي الأخرى تعد المعبر الحقيقي عن الحاجات العامة التي يستشعرها المجتمع وتكون معبرة عن الآمال والتطلعات لأبناء المجتمع في زمان ومكان معنين، وليس من الصواب ان تكون هذه التشريعات جامدة وغير قابلة للتعديل الدوري، بل ينبغي ان تكون هذه التشريعات مرنة قابلة للاستجابة للتغير النوعي والكمي حسب الظروف التي تحيط بالأفراد والمجتمع.
وما تقدم يظهر بمظهرين الأول (التعديل الدوري من قبل البرلمان لمعالجة مواطن الخلل، ومنح السلطة التقديرية للجهة التنفيذية للاستجابة للحالات المستقبلية)، إذ ان التشريعات الاجتماعية من شأنها ربط النظام القانوني بالنظام الاجتماعي وصهرهما معا في بوتقة واحدة، فهذه التشريعات تمثل التشخيص التشريعي للمصالح واجبة الحماية لاتصالها ببنية ومقومات المجتمع، ولما كان علماء الاجتماعي ينظرون إلى النصوص القانونية على أنها ظاهرة اجتماعية لا سبيل إلى التخلص منها، بل أنها ضرورة اجتماعية وثيقة الصلة بالأفراد ومكونات المجتمع فهي تؤثر وتتأثر بالأوضاع العامة التي من شأنها التغيير المستمر بسبب تبدل الظروف لاسيما الاقتصادية والتقنية التي ألقت بظلالها على الجميع، وضاعفت من وظائف سلطات الدولة لتتنبأ بالمخاطر وتوجد الحلول التقنية بما من شأنه ان يحفظ التوازن الاجتماعي بين السلطة والحرية.
ومن نافلة القول المجتمع الذي تصدر أو تنفذ فيه هذه القواعد القانونية يتسم بعلاقات خاصة بين مكوناته وأفراده وله من الخصائص والسمات ما تميزه عمن سواه، لذا ينبغي لهذه القواعد ان تراعي ما تقدم لتجد طريقها إلى التنفيذ والحياة، وبعكسه سيتعثر تطبيقها وتزال رسميا أو على الأقل تعطل فعلياً.
وكل ما تقدم رهن بالتناسب مع الغاية التي صدرت من اجلها هذه التشريعات، وهى القدرة على حماية النظام العام والمصالح العليا للبلاد والتي تمثل التشخيص أو الانعكاس الذاتي لمصالح الجماعة والأفراد الذين يعيشون في هذا المجتمع، فالتشريعات بمختلف مسمياتها (الرسمية أو العرافة) ومختلف أنواعها (الدستورية أو العادية) أو مستوياتها الرسمية (الاتحادية أو الوطنية أو المحلية) فإنها تعد وبحق مجموعة من القواعد القانونية المصاغة بأسلوب مقصود تقف وراءها فلسفة اجتماعية واقتصادية وسياسية يؤمن بها القابض على السلطة ويحاول ان يكرسها في المجتمع لتكون جزء من البنية القانونية للدولة، بالعادة يسعى المشرع من ورائها إلى تنظم الواقع.
أما التشريعات الحقة الصادرة في المجتمعات الديمقراطية فالغالب أنها تهدف إضافة لما تقدم إلى حماية وتعزيز الحقوق والحريات العامة والفردية، إذ انتقلت بذلك المجتمعات من مجال التنظير إلى الواقع القانوني الذي جعل من النظريات الأخلاقية وكذلك الفلسفية والإيديولوجية واقعا يعيشه المجتمع لاسيما بعد ان تبني المشرع الدستوري هذه القواعد وضمنها صلب الوثيقة الدستورية لحماية الحقوق والحريات والارتقاء بها إلى مصاف النصوص المنظمة لهيئات الدولة، بل مضت الدول الحديثة في سبيل تعزيز ذلك إلى تأسيس هيئات متخصصة هدفها الأساسي مراقبة تنفيذ تلك النصوص وحماية الأفراد من مخاطر الانحراف السلوكي الرسمي أو الفردي المتضمن تقويض المبادئ المستوحاة من ضمير الأمة والإنسانية والمتفقة مع الفطرة السليمة لبني الإنسان.
وهو ما اتجه إليه المشرع الدستوري في العراق حين تبنى نظرية التضامن الاجتماعي والزم الدولة في المادة (30) ان تتكفل بتوفير الضمان الاجتماعي والصحي للفرد والأسرة العراقية إذ ورد النص على أن "تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرة كريمةٍ، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم، ثانياً: تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم، وينظم ذلك بقانون".
ونزولاً عند هذا النص صدر عن المشرع العراقي قانون الضمان الصحي رقم (22) لسنة 2020 والذي أشار في المادة الخامسة إلى أن أهداف القانون تتلخص في "تأمين التغطية الصحية للعراقيين، تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، تقليل الأعباء المالية على المواطن والحد من الفقر، تحسين جودة الخدمات الصحية، تشجيع القطاع الخاص والاستثمار في مجال الخدمات الصحية" فالقانون واضح من صياغة نصوصه أنه يهدف إلى حماية الحقوق والحريات والى ردم الفجوة ما بين السلطة والشعب بالقضاء على انعدام الثقة وعدم الارتياح الذي يميز العلاقة بين الحاكم والمحكوم في سنوات الحكم الديكتاتوري.
وتأكيدا لما تقدم صدر في العراق قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال رقم (18) لسنه 2023 والذي نشر في الوقائع العراقية في شهر (آب) المنصرم تضمن هذا القانون فلسفة تشريعية جديدة انتهجها المشرع العراقي ولأول مرة سعياً وراء تحقيق العدالة الاجتماعية وكذلك الارتقاء بفئة من فئات المجتمع المتمثلة بالعمال وجلهم من الشباب، إذ يهدف المشرع العراقي في المادة الثانية من القانون إلى "تحقيق العيش الكريم للعمال وأسرهم، تعزيز قيم التكافل الاجتماعي والوصول إلى معادلة منصفة تضمن العدالة في توزيع الدخل بين أفراد الجيل الواحد، ضمان وصول مظلة الضمان إلى فئات أكثر، توفير استقرار نفسي ومالي للعاملين والمتقاعدين وخلفهم، توفير الحماية اللازمة لحقوق المرأة العاملة والأحداث بسن العمل العاملين في العمل غير المنظم بما يتناسب مع ظروف العمل...
فإلى جانب الغايات الاقتصادية التي تغياها المشرع بهذه القوانين المتمثلة بتشجيع الشبان على الانخراط في العمل الخاص والحر وتقليص الاعتماد على الوظائف الحكومية، عند البحث عن فرص العمل، فإنه سعى إلى ترسيخ فلسفة تشريعية حديثة تحمل العديد من الإيجابيات في العراق بتكريس حالة العدالة الاجتماعية وتوفير الضمان للجميع بما يكفل الحياة الحرة الكريمة، أضف إلى ذلك هو يهدف إلى تكريس المساواة بين العراقيين التي أكدتها المادة الرابعة عشر من دستور جمهورية العراق بتساوي المركز القانوني للموظف والعامل لحسابه أو لدى الغير في الحقوق والحريات بتقرير راتب تقاعدي مقارب لما يحصل عليه الموظف الحكومي بعد ان يحال إلى التقاعد وتقرير مكافأة لمن تنتهي خدمته لأي سبب كان قبل بلوغ حد معين من الخدمة المضمونة، لذا يمكن القول ان القوانين المشار إليها أنفاً تهدف إلى تحقيق العيش الكريم للعراقيين جميعاً وتعزيز قيم التكافل والعدالة والمساواة ما بين أفراد الشعب العراقي.
مما تقدم يتبين لنا ان الحقوق والحريات تمثل أهم مرتكزات المجتمع المدني المتماسك والمستقر والذي ينعم بالأمن الإنساني حيث يكون للفرد والأسرة ما يشعرهم بالاطمئنان النفسي فيتحقق بالضرورة الأمن الاجتماعي والسلم المجتمعي، وبالتالي تكون هذه القوانين مقدمة لتحقيق تنمية حقيقية على جميع الأصعدة لاسيما التنمية البشرية والصناعية والزراعية والإدارية والثقافية، وتحقق الآتي أيضاً:
أولاً- سيادة حكم القانون: وحلول الدولة القانونية محل الدولة البوليسية كون التضامن الاجتماعي والتعايش من شأنه ان يشيع الامتثال الطوعي للقانون لشعور الفرد والمجتمع بالمساواة والانتماء المشترك والتضامن.
ثانياً- التضامن الحقيقي: لاسيما في أوقات المحن والظروف الاستثنائية فإن كان الشعب العراقي يحمل قيماً ثقافية راسخة غاية بالإنسانية كالشهامة والمروءة والكرم فإن ما تقدم من شأنه ان يرسخها ويجعل منها ثقافة يومية يعيشها الفرد والمجتمع.
ثالثاً- التسامح ونبذ العنف: فمن شأن اطمئنان الفرد على مستقبله ان يدفعه إلى التسامح وتقبل الآخر المختلف بسبب الشعور بوجود المشتركات الإنسانية والدينية والوطنية.
رابعاً- المشاركة في الشأن العام بإيجابية: من الواضح ان اطمئنان الإنسان على قوت يومه يجعل من تفكيره أكثر إيجابية ويمضي بالمساهمة في الشأن العام بإيجابية لاسيما في الحافل العامة التي من شأنها ان تقرر التداول السلمي للسلطة فيخف تأثير المال السياسي وينشد المواطن التغيير السلمي عبر الاقتراع فحسب.
خامساً- الشعور بالمسؤولية: من شأن العدالة والمساواة ان تكرس حالة الشعور الفردي بالمسؤولية تجاه الشأن العام.
..........................................