القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية
حاتم حميد محسن
2015-09-26 02:07
القانون الطبيعي هو الفلسفة بان قيماً وحقوق معينة هي متأصلة بفعل طبيعة الانسان، ويمكن ملاحظتها عالميا من خلال عقل الانسان. تاريخيا، يشير القانون الطبيعي الى استخدام العقل في تحليل كل من طبيعة الانسان الاجتماعية والشخصية للتوصل الى قواعد ملزمة للسلوك الاخلاقي. ولأن قانون الطبيعة، يتقرر بالطبيعة، فهو قانون عالمي.
رغم ان القانون الطبيعي يتداخل مع القانون العرفي، لكن الاثنين متميزان. القانون العرفي لا يرتكز على الحقوق الفطرية، وانما هو تقليد قانوني بموجبه يتم الاعتراف قانونيا بقيم وحقوق معينة لأنها اكتسبت سلفا اعترافا قضائيا. القانون الطبيعي هو عادة في تضاد مع القوانين التي يصنعها الانسان (القانون الوضعي) لجماعة سياسية معينة او مجتمع او دولة. في النظرية القانونية، تفسير القوانين التي هي من صنع الانسان يتطلب الاشارة الى القانون الطبيعي. بعض القضاة والباحثين يستخدمون القانون الطبيعي بشكل متزامن مع العدالة الطبيعية او الحقوق الطبيعية، بينما آخرون يميزون بين القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية.
ان نظريات القانون الطبيعي كان لها تأثيرا عميقا على تطور القانون العرفي الانجليزي common law. اما الفلسفة القانونية الامريكية فترى ان تأسيس الولايات المتحدة كان مرتكزا على القانون الطبيعي. ونظرا للالتقاء بين القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، فان القانون الطبيعي جرى استخدامه كعنصر في اعلان الاستقلال للولايات المتحدة. في اعلان الاستقلال، وتأسيساً على القانون الطبيعي، استبدلت الفلسفات (مثل فلسفة رضا المحكومين) عقيدة حكم العالم القديمة القائمة على الحق الديني للملوك. هذه الفلسفات مثل نظرية العقد الاجتماعي جاءت اثناء التنوير من خلال افراد كجون لوك، لكن هذه الافكار يمكن العثور عليها ايضا في القانون الروماني والفلسفة اليونانية ونصوص البوذية القديمة. نظريات القانون الطبيعي كانت موجودة في فلسفة توما الاكويني وريتشارد هوكر وتوماس هوبز وهيجو غروتيوس وجون لوك وآخرين.
نظرة تاريخية
افلاطون
رغم ان افلاطون لم يضع نظرية واضحة في القانون الطبيعي (هو نادرا ما استخدم عبارة "قانون طبيعي" ماعدا في غورجس 484 وتيماوس 83e). فان مفهومه للطبيعة، طبقا لجون وايلد، يحتوي على بعض العناصر الموجودة في العديد من نظريات القانون الطبيعي. طبقا لافلاطون نحن نعيش في كون منظم. اساس هذا العالم المنظم او الطبيعة هي الاشكال، واكثرها جوهرية هو شكل الخير الذي يصفه افاطون بأزهى منطقة في الوجود. شكل الخير هو علة جميع الاشياء وعندما يُشاهد شكل الخير سيقود الفرد للتصرف بحكمة. في كتابه (symposium)، يقترن الخير بقوة مع الجمال. كذلك في نفس الكتاب، يصف افلاطون كيف ان تجربة سقراط في الجمال مكّنته من مقاومة اغواء الثروة والجنس. وفي كتاب الجمهورية، ورد ان الجماعة المثالية هي ".. المدينة التي تتأسس طبقا للطبيعة."
ارسطو
الفلسفة اليونانية اكدت على الفرق بين "الطبيعة" (الفيزياء) من جهة و"القانون"، "العادات"، او "الاعراف" من جهة اخرى. ما امر به القانون اختلف من مكان الى اخر، لكن ما كان بفعل "الطبيعة" يجب ان يكون هو ذاته في كل مكان. سقراط وافلاطون وارسطو افترضوا وجود العدالة الطبيعية والحقوق الطبيعية، ارسطو عادة قيل عنه ابو القانون الطبيعي.
اقتران ارسطو بالقانون الطبيعي ربما ناتج عن التفسير الذي اعطي لعمله من جانب توما الاكويني. ولكن ما اذا كان الاكويني صائبا في قراءة ارسطو هو محل خلاف. يرى البعض ان الاكويني يخلط بين القانون الطبيعي والحق الطبيعي. طبقا لهذا التفسير، كان تأثير الاكويني هو في اسلوبه غير الموفق في ترجمة المقاطع القديمة، بينما الترجمات الحديثة جعلت تلك النصوص اكثر حرفية. لاحظ ارسطو ان العدالة الطبيعية هي نوع من العدالة السياسية. مشروع العدالة التوزيعية والتصحيحية الذي يمكن ان يتأسس في ظل افضل جماعة سياسية، كان يأخذ شكل القانون، وهو ما يمكن تسميته القانون الطبيعي، رغم ان ارسطو لم يناقش هذا واقترح في "السياسة" ان احسن نظام ربما لا يحكم بالقانون ابدا.
احسن دليل على ان ارسطو اعتقد بوجود القانون الطبيعي نجده في كتاب "البلاغة"، حيث لاحظ ارسطو انه بمعزل عن القوانين "المعينة" التي وضعها كل شعب لنفسه، هناك قانون "عام" مطابق للطبيعة. هو اشار:
القانون العالمي هو قانون الطبيعة. لأنه حقا، كما يدرك كل فرد بدرجة ما، هناك عدالة طبيعية وغير طبيعية ملزمة لكل الناس، حتى اولئك الذين لا ارتباط او اتفاق بينهم. هذا هو ما اشارت له سوفكليس حين قالت ان دفن بولنسيس كان عملا عادلا رغم تحريمه: هي تقصد انه عمل عادل بفعل الطبيعة.
"القانون يشمل كل شيء، من خلال عوالم السماء غير المتقطعة بامتدادها، والارض المتسعة".
بعض النقاد يعتقدون ان سياق هذه الملاحظات يشير فقط الى ان ارسطو نصح بانه من المفيد بلاغيا الاستعانة بهذا القانون، خاصة عندما يكون قانون معين لمدينة الفرد في تعارض مع الوضع القائم، وانه ليس هناك وجود حقيقي لهذا القانون. الطريقة الاقناعية لارسطو في القانون الطبيعي بالنتيجة هي كانت مثار للخلاف.
الرواقيون والقانون الطبيعي
ان الفلاسفة الرواقيين هم اول من اكتشف القانون الطبيعي، تطور العدالة الطبيعية الى القانون الطبيعي يُنسب عادة الى الرواقيين. صعود القانون الطبيعي كنظام عالمي توافق مع صعود الامبراطوريات والممالك في اليونان القديمة. وبينما يمكن للمرء اللجوء الى القانون الاعلى الطبيعي الذي اقترحه ارسطو، فان القانون الطبيعي الرواقي كان لا يختلف عن المصدر الديني او الطبيعي للقانون: الرواقيون اكدوا على وجود نظام هادف وعقلاني للكون (قانون خالد او ديني)، والقانون الطبيعي كان هو الوسيلة التي عاش بها الكائن الرشيد طبقا لهذا النظام، والذي يوضح افعالا تتفق مع الفضيلة.
تجربة سقراط المأساوية أظهرت ان حكم القانون، وليس الانسان، كان صحيحا. هذا اعاد السؤال عن "ماهو القانون". ليست جميع القوانين عشوائية، يجب ان تكون هناك قوانين تُطبّق عالميا بسبب الطبيعة العالمية للانسان. القوانين التي تحكم الانسان، او على الاقل بعضها، يجب ان تُشتق من واقع خارجي موضوعي، وليس من الرغبات العشوائية للحاكم. اي قانون تسنّه هيئة شرعية كالجمعية الاثنية (في اثينا) سيكون بالضرورة شرعيا، لكن التاريخ يكشف ان ذلك زيفا واضحا، فالقوانين بالتأكيد ليست كلها شرعية.
هناك قانون حقيقي، اي، المنطق الصحيح، الذي وفقا للطبيعة، ينطبق على كل الناس، وهو ابدي ولا يتغير. (شيشرون) جادل امام محكمة روما ان احد القوانين لم يكن شرعيا، متعارضا مع قانون الطبيعة، موجداً سابقة قانونية استمرت في العالم الغربي لمئات السنين. حجج الرواقيين واستدلالاتهم حظيت بقبول عام لكنها لم توضع موضع التطبيق ولذلك لم تُختبر بقوة لأكثر من الفي سنة.
لم يكن هناك تغييرا مدهشا في النظرية السياسية كالتغيير الذي جسّده شيشرون و في الانتقال من نظرية ارسطو الى الرؤية الفلسفية اللاحقة. هذا يُعتبر افضل تجسيد لنظرية المساواة في الطبيعة الانسانية. ان فكرة المساواة بين الناس هي مساهمة عميقة للرواقيين في الفكر السياسي، وان تأثيرها الكبير هو في تغيير التصور عن القانون الذي نتج عن تلك النظرية.
الرواقيون اعتقدوا بان الله في كل مكان، وان بين الناس "ومضة الهية" تساعدهم ليعيشوا طبقا للطبيعة. الرواقيون شعروا ان هناك طريقة صُمم الكون فيها وان القانون الطبيعي ساعد الناس للانسجام مع هذه الطريقة.
شيشرون Cicero
كتب شيشرون في حواراته (De Legibus) ان كل من العدالة والقانون ينحدران في الاصل مما منحتهُ الطبيعة للانسان، مما اعتنقهُ عقل الانسان، من وظيفة الانسان، ومن كل ما يساعد في توحيد الانسانية. بالنسبة لشيشرون، القانون الطبيعي يلزمنا للمساهمة في الخير العام للمجتمع الاكبر. الهدف من القوانين الوضعية هو توفير "الأمن للمواطنين، والحفاظ على الدولة، وهدوء وسعادة الانسان". وفق هذه النظرة، "القوانين الشريرة وغير العادلة" هي ليست الا قوانين، لأن تعريف مصطلح "قانون" يتضمن فكرة ومبدأ اختيار ما هو عادل وحقيقي. يرى شيشرون ان القانون يجب ان يكون مصلحا للأشرار وحافزا للاخلاق. هذه الفكرة عبّر عنها شيشرون بالقول ان "الفضائل التي يجب غرسها تميل دائما لسعادتنا، وان احسن وسيلة لتعزيزها هي في العيش مع الناس في إحسان و اتحاد تام يتجسد في المنافع المتبادلة.
شيشرون اثّر في النقاش عن القانون الطبيعي لعدة قرون لاحقة، حتى عصر الثورة الامريكية. النظام القانوني للامبراطورية الرومانية القديمة تعود جذوره الى شيشرون، الذي اثّر بقوة على تصورات الاجيال اللاحقة كوسيط لانتشار تلك الافكار التي صنعت القانون والمؤسسات في الامبراطورية. تصوّر شيشرون للقانون الطبيعي وجد طريقه اثناء القرون اللاحقة لاسيما من خلال كتابات سانت ايزيدور وسيفيل. توما الاكويني في خلاصته عن القانون الطبيعي للقرون الوسطى اقتبس من تأكيد شيشرون بان "الطبيعة" و"العادة "هما مصدر قوانين المجتمع.
مؤرخ عصر النهضة الايطالي ليناردو بروني اعتبر شيشرون الرجل الذي حمل الفلسفة من الاغريق الى ايطاليا، وصقلها في النهر الذهبي لبلاغته.
توماس هوبز
مع القرن السابع عشر تعرضت الرؤية التيلولوجية للقرون الوسطى الى نقد عنيف من بعض الجهات. توماس هوبز أسس نظرية تعاقدية للوضعية القانونية يتفق عليها جميع الناس: ما يسعى له الناس (السعادة) كان موضوعا للخلاف، لكن اجماعا واسعا تشكّل حول ما يخشون منه (الموت والعنف من الآخرين). القانون الطبيعي كان حول كيفية تصرف الكائن الرشيد في سعيه للبقاء والتقدم. القانون الطبيعي، لهذا السبب، اكتُشف بالنظر الى الحقوق الطبيعية للبشرية، بينما في السابق كان يمكن القول ان الحقوق الطبيعية اكتُشفت بالنظر الى القانون الطبيعي. وفقا لهوبز ان الطريقة الوحيدة التي يمكن ان يسود بها القانون الطبيعي هي ان يخضع الناس لأوامر السيادة. وبسبب ان المصدر النهائي للقانون يأتي الآن من السيادة، وان قرارات السيادة لا تحتاج لتتأسس على الاخلاق، فان الوضعية القانونية تكون قد ولدت. جيرمي بينتهام بدوره اجرى تعديلات على الوضعية القانونية بالشكل الذي طور النظرية الى حدود ابعد.
توماس هوبز في رسالته Leviathan، اعتبر القانون الطبيعي قاعدة عامة اوجدها العقل، بموجبها يُمنع الانسان من العمل بالشكل المدمر لحياته، او سلب وسائل الحفاظ عليها.
طبقا لهوبز هناك 19 قانون للطبيعة سنذكر فقط القانونين الاولين:
1- اول قانون للطبيعة ان كل انسان يجب ان يسعى للسلام، بقدر ما لديه من امل في الحصول عليه، وعندما لا يستطيع الحصول عليه، فهو سيسعى ويستخدم كل الوسائل والامتيازات التي بحوزته لأجل الحرب.
2- القانون الثاني للطبيعة هو ان الانسان يرغب بالسلام، عندما يرغب الاخرون بذلك، ويدافع عن نفسه حين يرى ذلك ضروريا.
فلسفة هوبز شكّلت هجوما مباشرا على المبادئ المؤسسة للتقاليد القانونية الطبيعية المبكرة، فهو تجاهل الارتباط التقليدي للأخلاق بالسعادة، وأعاد تعريف القانون ليزيل اي فكرة لتكريس الخير العام. هوبز رفض الربط الارسطي للطبيعة مع كمال الانسان، معتمداً نهجاً معاكساً للاستخدام الارسطي لكلمة طبيعة. هوبز عرض الحالة البدائية غير المرتبطة التي يُبدي بها الانسان، ميلا طبيعيا لإيذاء الغير وادّعاء الحق بكل شيء حتى بأجسام الاخرين، ولاشيء غير عادل في هذه الحرب التي يشنها الجميع ضد الجميع، وحيث تكون الحياة فقيرة ومقرفة وقاسية وقصيرة. هو رفض رؤية شيشرون بان الناس يرتبطون بالمجتمع من خلال روح اجتماعية معينة غرستها الطبيعة في الانسان. هوبز يصرح بان الناس يرتبطون بالمجتمع بهدف اخراج انفسهم من تلك الظروف المأساوية للحرب، والتي هي نتيجة ضرورية للعواطف الطبيعية للانسان، وحيث لا توجد قوة مرئية يشعرون تجاهها بالرهبة.
ان رؤية هوبز هي في تناقض مباشر مع حجة القانون الطبيعي القائلة بان الانسان حيوان اجتماعي تكيّف بفعل الطبيعة ليعيش معظم حياته بسلام مع رفاقه الاخرين. هوبز اعتبر الدولة لها حق مطلق في ممارسة القوة، الصحيح هو كل ما تقوله الدولة عبر قوانينها بانه صحيح، والخطأ كل ما تقوله الدولة في قوانينها انه خطأ. "القانون غير العادل" هو عبارة متناقضة لأن رغبة الدولة ذاتها هي معيار العدالة، ولذا فان الحاكم لن يرتكب خطأ. الحاكم مسؤول امام الله، لكن اي شخص آخر مسؤول فقط امام الحاكم.
هوبز اعتبر الحقوق نتاج لقوة الدولة، فلكي نمتلك افضل واكثر الحقوق، لابد لقوة الدولة ان تكون مطلقة وكلية. الدولة يجب ان تسود وتسيطر على جميع العلاقات لتوفر لكل شخص العدالة والحقوق، وتقمع اي شكل من المؤسسات التي لم توجدها او تسيطر عليها، وعلى الدولة إسكات اي نقد ضد سلطتها المطلقة (لكي نكون اكثر حرية).
جادل هوبز بانه حتى لو عرف الانسان ما هو عادل، فهو سوف لن يعمل ذلك الشيء العادل، وهذا سوف يقود الى الحرب. مع ان هذه الحجة قد تكون صحيحة، لكنها لا تقود للاستنتاج بان الناس يجب عليهم الخضوع للحكم المطلق. عكس ذلك تماما، كما جادل لوك، وكما اظهر القرن العشرين، بان عدم المساواة في الحكم لا تقود الى استخدام قليل للقوة غير العادلة، وانما الى المزيد من استخدام تلك القوة. شرور الانسان هي حجة للحرية وليست حجة لأشكال الحكم المطلق.