تحقيق الجنائية الدولية في فلسطين: أي تداعيات قانونية وسياسية على إسرائيل؟
عبد الامير رويح
2021-03-17 04:20
قرار المحكمة الجنائية الدولية والقاضي بفتح تحقيق رسمي في جرائم حرب أو فظائع ارتكبت في الأراضي الفلسطينية المحتلة من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي، اعتبر العديد من المراقبين، انتصار جديد للقضية الفلسطينية رغم اعتراض إسرائيل وحلفائها على ذلك، يأتي هذا القرار وكما نقلت بعض المصادر، بعد أكثر من عشر سنوات من المحاولات الفلسطينية تحميل إسرائيل المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب التي تقوم بها، وقد بدأت أولى هذه المحاولات بعد الحرب على غزة في عام 2008/ 2009، لكنها لم تنجح.
ومع تعثر المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تغيرت سياسة السلطة في اتجاه السعي لانتزاع الاعتراف بوجود دولة فلسطينية تحت الاحتلال، وذلك عن طريق تفعيل إعلان الدولة في عام 1988، والانضمام الى الأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى. وبعد أن منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين وضع "دولة مراقب غير عضو" في عام 2012، أصبحت الطريق ممهدة للانضمام إلى مؤسسات ومعاهدات دولية. وبعد الحرب على غزة في عام 2014، ازدادت الضغوط والمطالبات الشعبية على السلطة الفلسطينية بالانضمام إلى ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، والذي يعني فعليًا الانضمام إلى المحكمة والقبول باختصاصها؛ الأمر الذي حصل فعلًا في عام 2015.
ومع أن الانضمام حصل في عام 2015، فإن طلب الانضمام يعطي المحكمة الاختصاص القضائي على دولة فلسطين اعتبارًا من 13 حزيران/ يونيو 2014، أي قبل بداية العدوان على غزة. وبعد الانضمام، قرر مكتب الادعاء إجراء تحقيق أولي في "الحالة في فلسطين"، والتي تعني مجموعة من الجرائم التي توجد مؤشرات على وقوعها. ويضع قرار فتح التحقيق إسرائيل أمام تحديات قانونية وسياسية خطيرة، اذ أدانت المحكمة منذ تأسيسها عام ٢٠٠٢ تسعة متهمين بارتكاب جرائم، تم تبرئة أربعة منهم بعد ذلك، كما أصدرت ثلاث وثلاثين مذكرة اعتقال حتى الآن.
وتهكم بنيامين نتنياهو على قرار المحكمة الجنائية متسائلاً هل يعتبر اليهودي الذي يعيش في وطنه مجرم حرب، بينما رحبت حركة حماس بقرار المحكمة مؤكدة أن مقاومتها حق مشروع يكفله القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، في حين أدانت الولايات المتحدة قرار المحكمة، وأعربت عن مخاوفها من اخضاع إسرائيليين لتحقيقاتها.
تذرعت إسرائيل بأن فلسطين لا تمتلك مقومات دولة ذات سيادة، مؤكدة أن مظاهر السيادة التي تمتلكها تبلورت من خلال اتفاقياتها معها، وأن تلك الاتفاقيات تقوم على أساس حل النزاعات بالتفاوض. وأخلت إسرائيل بالتزاماتها في اطار اتفاق أوسلو الذي نص على انسحابها من الأراضي المحتلة خلال خمس سنوات من توقيعه والتفاوض حول قضايا الحل النهائي خلال تلك الفترة. وترفض إسرائيل التفاوض مع الفلسطينيين منذ أكثر من عقد من الزمان، وتتجاهل مطالبهم المستمرة بوقف الاستيطان وتواصل تغيير واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة بالعمل على تهويدها في الضفة الغربية والقدس. وتحاصر إسرائيل قطاع غزة وتفصله عن امتداده الطبيعي مع الضفة الغربية.
وتنتهك إسرائيل قانون حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة مصادرة حق الفلسطينيين في الحياة والمحاكمة العادلة والملكية، وهي أبسط الحقوق الإنسانية التي نصت عليها القوانين الدولية. وتمارس إسرائيل القتل العمد للمقاومين خارج نطاق القانون، وللمدنيين وللمتظاهرين العزل والطواقم الصحفية والطبية. ولا يحق لإسرائيل استئناف نتائج التحقيقات، لرفضها المشاركة في إجراءات المحكمة.
وفي الرأي الذي صدر عام ٢٠١٩، حددت فاتو بنسودا ثلاثة أنواع من الجرائم التي تعتقد المحكمة أن إسرائيل ارتكبتها، الأولى خلال حربها على قطاع غزة عام ٢٠١٤، والثانية خلال مسيرات العودة على حدود قطاع غزة عام ٢٠١٨، والثالثة جريمة بناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية والقدس ونقل اليهود اليها. وسقط في حرب عام ٢٠١٤ أكثر من ٢٣٠٠ شهيد. وقتلت إسرائيل خلال مسيرات العودة أكثر من ٢٠٠ فلسطيني وأصابت آلاف المتظاهرين منهم مئات يعانون اعاقات دائمة. وغيرت إسرائيل من الطابع الديمغرافي للأراضي الفلسطينية بعد أن بنت عليها مئات المستوطنات ونقلت اليها مئات آلاف من اليهود للإقامة فيها.
جرائم حرب
فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا رسميا في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في قرار رفضته بشدّة واشنطن وندّد به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو معتبرا أنه يعكس "جوهر معاداة السامية". ورحّب الفلسطينيون بقرار المدعية العامة فاتو بنسودا بوصفه "ضرورة ملحة وواجبة" للتحقيق في الوضع في قطاع غزة المحاصر وفي الضفة الغربية المحتلة والشطر الشرقي من القدس منذ حزيران 2014.
ويزج هذا القرار بمحكمة لاهاي، والتي كثيرا ما واجهت انتقادات من إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، في أحد أقسى النزاعات في العالم ويهدد بتأجيج وضع متوتر أصلا. وقالت بنسودا إنها قررت أن هناك "قضايا محتملة مقبولة" عند كلا الطرفين، مع تركيز التحقيق على حرب غزة عام 2014، والتي قتل فيها أكثر من ألفي شخص.
واعتبرت أنه "بنهاية الأمر، يجب أن ينصب جوهر اهتمامنا على ضحايا الجرائم، الفلسطينيون منهم والإسرائيليون، والناجمة عن الدوامة طويلة الأمد من أعمال العنف وانعدام الأمن ما تسبب بمعاناة كبيرة ويأس لدى جميع الأطراف". وأوضحت بنسودا، المولودة في غامبيا، إن التحقيق الرسمي يعقب تحقيقا أوليا "مضنيا" استمر خمس سنوات متعهدة إجراء التحقيق بشكل "مستقل وحيادي وموضوعي، دون خوف أو محاباة".
ورفضت إسرائيل الانضمام إلى المحكمة التي تأسست عام 2002 للنظر في أسوأ الجرائم في العالم. ومهد قضاة المحكمة الجنائية الدولية الطريق أمام تحقيق في جرائم حرب، عندما أعلنوا أن الاراضي الفلسطينية تقع ضمن الاختصاص القضائي للمحكمة نظرا لعضوية الفلسطينيين فيها. وسينصب التحقيق على "عملية الجرف الصامد" العسكرية التي شنتها إسرائيل في صيف 2014 بهدف وقف إطلاق الصواريخ عليها من جانب حركة حماس.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في رسالة فيديو نشرها على تويتر تعليقا على قرار فتح تحقيق "تتعرض دولة إسرائيل لهجوم" مضيفا أن "المحكمة في لاهاي اتخذت قرارا يمثل جوهر معاداة السامية". وقال وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكينازي إن إسرائيل "ستتخذ كل الخطوات اللازمة لحماية مواطنيها وجنودها من الاضطهاد القانوني" مضيفا أن التحقيق سيؤثر على عملية السلام المتوقفة. وأضاف نتنياهو على تويتر "هناك رد واحد فقط: هو القتال من أجل الحقيقة بكل ما أوتينا من قوة في أنحاء العالم ومن أجل حماية جنودنا".
وفي معرض تعبيره عن رفض اختصاص الجنائية الدولية، قال مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة إن القادة الإسرائيليين قد يحاولون إقناع البريطاني كريم خان، الذي انُتخب في الآونة الأخيرة مدعيا عاما للمحكمة بداية من 15 يونيو حزيران، بتحويل تركيزها. وقال السفير جلعاد إردان لإذاعة الجيش الإسرائيلي إن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية "غير منطقي ولا أخلاقي، وينبغي يقينا ألا يكون أولوية لمحكمة يُفترض أن تبحث الفظائع الجسيمة التي ترتكبها أنظمة مثل سوريا وإيران". وأوضح إردان أن التحقيق قد يجعل ضباطا كبارا في الجيش الإسرائيلي وقادة وساسة عُرضة للاعتقال عند سفرهم للخارج. بحسب فرانس برس.
من جانبها رحّبت السلطة الفلسطينية بقرار بنسودا. وأصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بيانا واصفا التحقيق بأنه دفاع عن "الحقوق والحريات"، وقال إنه يغطي كذلك حرب عام 2014 بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة وبناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. وقال وزير الخارجية رياض المالكي في بيان إن "الجرائم التي يرتكبها قادة الاحتلال الإسرائيلي (...) هي جرائم مستمرة وممنهجة وواسعة النطاق وهذا ما يجعل الإنجاز السريع للتحقيق ضرورة ملحة وواجبة".
ووصفت منظمة هيومن رايتس ووتش القرار بأنه "بالغ الأهمية"، وقالت بلقيس جراح مستشارة برنامج العدالة الدولية بالمنظمة إن القرار "يقدم أخيرا بعض الأمل الحقيقي في العدالة لضحايا جرائم خطيرة بعد نصف قرن من الإفلات من العقاب". وبعد قرار المحكمة الأخير، أصبح الشروع في تحقيق رسمي في الجرائم هو الخطوة العملية القادمة. ولا يعني هذا بالضرورة أن محاكمة الضباط والسياسيين الإسرائيليين أصبحت قريبة؛ فالتحقيق في الجرائم لن يركز فقط على الطرف الإسرائيلي، بل سوف يشمل أمورًا أخرى قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية مثل إطلاق الصواريخ على تجمعات السكان الإسرائيلية. وسوف تستغرق التحقيقات فترة طويلة قد تصل سنوات.
إسرائيل تتحرك
قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس إن إسرائيل تقدر أن المئات من مواطنيها قد يكونون عرضة لتحقيقات بشأن جرائم حرب من المحكمة الجنائية الدولية، التي ترفض إسرائيل سلطتها القضائية، وتبحث عن سبيل لحمايتهم. وقال جانتس الذي قد يكون شخصيا من بين الذين تستهدفهم المحكمة "لم أخَف مطلقا من عبور خطوط العدو، سأواصل الصمود أينما تطلب ذلك".
وإسرائيل ليست عضوا في المحكمة وترفض ولايتها القضائية وهو موقف تدعمها فيه حليفتها الوثيقة الولايات المتحدة. ورحب الفلسطينيون بالحكم باعتباره فرصة لتحقيق العدالة لضحايا الهجمات الإسرائيلية.
وفي مقابلة على الحدود مع غزة وصف جانتس، الذي يتولى أيضا وزارة العدل، الحكم بأنه "تطور سلبي" وأضاف "لدينا فرقنا الخاصة التي تعمل في (أماكن) مختلفة للمحاولة (و) التأثير (على المحكمة الجنائية الدولية)". وكان جانتس رئيس الأركان أثناء حرب في 2014 بين إسرائيل ومسلحين في غزة الخاضعة لسيطرة حركة حماس. وأشارت المحكمة الجنائية الدولية إلى هذا الصراع باعتباره محل تحقيق محتمل. وفي سؤال عن عدد الإسرائيليين، بمن فيهم هو نفسه، الذين ربما يكون عرضة للاعتقال إذا أفضى التقصي إلى تحقيقات جنائية، قال جانتس "على ما أظن عدة مئات، لكننا سنهتم بالجميع". بحسب رويترز.
ووصف جانتس هذا بأنه "تقدير" رافضا الكشف عما إذا كانت إسرائيل وضعت قائمة بالمسؤولين. وقال إن إسرائيل ستقدم المساعدة القانونية لأي إسرائيليين سيشملهم الأمر وستعطيهم تحذيرات قانونية بشأن السفر إذا اقتضت الضرورة. ولدى سؤاله عن عزمه تغيير خطط سفره في ضوء تقصي المحكمة الجنائية الدولية، قال جانتس "حتى الآن، لا".
قالت ديانا بوتو، المحامية الدولية والمستشارة القانونية السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية، إن الفلسطينيين ما زالوا يواجهون الكثير من العقبات. وتابعت بوتو "الطريق إلى العدالة الفعلية طويل لأن المحكمة الجنائية الدولية ستواجه بلا شك ضغوطا سياسية لعدم المضي قدما". وأضافت أنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها محكمة دولية أن الأعمال الإسرائيلية غير قانونية، وفي السابق "لم يفعل العالم شيئا ردا على ذلك". وقال الجيش الإسرائيلي إنه يأسف لقرار المحكمة الجنائية الدولية وسيواصل الدفاع عن أمن إسرائيل ومواطنيها "مع الالتزام التام بمدونة أخلاق جيش الدفاع الإسرائيلي وقيمه والقانون الوطني والدولي".
واشنطن تعارض
وفي واشنطن، أبدت الخارجية الأميركية "معارضتها الشديدة" لخطوة بنسودا، مؤكّدة دعمها لإسرائيل. وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين "نحن نعارض بشدّة ونشعر بخيبة أمل إزاء إعلان المدّعية العامّة للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق بشأن الوضع الفلسطيني". وأضاف "سنواصل التمسّك بالتزامنا القوي تجاه إسرائيل وأمنها، بما في ذلك من خلال معارضة الأعمال التي ترمي إلى استهداف إسرائيل بشكل غير عادل"، مذكّراً بأنّ الدولة العبرية لا تقبل الولاية القضائية للمحكمة.
وكانت الولايات المتّحدة فرضت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات على بنسودا بعد أن قرّرت المدّعية العامّة فتح تحقيق في جرائم حرب أميركية مفترضة في أفغانستان. غير أنّ الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن قال إنّه سينتهج سياسة أكثر تعاوناً مع المحكمة، لكنّه لم يرفع بعد العقوبات عن بنسودا. وقال برايس "نحن ملتزمون بتعزيز المساءلة واحترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة لضحايا الفظائع". وأضاف "بقدر ما نختلف مع إجراءات المحكمة الجنائية الدولية المتعلّقة بالوضع الفلسطيني، وبالطبع بأفغانستان، فإننا نجري مراجعة دقيقة للعقوبات". وكانت الخارجية الأميركية قد عبرت في شباط/فبراير عن "مخاوف جدية" بشأن قرار المحكمة الجنائية المتعلق بالاختصاص القضائي، مضيفة أن إسرائيل لا ينبغي أن تكون ملزمة قرارات المحكمة كونها ليست عضواً فيها.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية في 2002 لنظر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان عندما تكون الدول الأعضاء غير راغبة أو غير قادرة على فعل ذلك بنفسها. ويمكنها البت في الجرائم التي يرتكبها مواطنو الدول الأعضاء أو التي تقع على أراضي الدول الأعضاء بواسطة أطراف أخرى. وهناك 123 دولة عضوا بالمحكمة، وتبلغ ميزانيتها السنوية نحو 150 مليون يورو (180 مليون دولار).
وأدانت المحكمة خمسة رجال بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، جميعهم من قادة الجماعات المسلحة في أفريقيا، من جمهورية الكونجو الديمقراطية ومالي وأوغندا. وتراوحت العقوبات بالسجن بين تسع سنوات و30 عاما. وأقصى عقوبة يمكن أن تصدرها المحكمة هي السجن مدى الحياة. وتجري المحكمة الجنائية الدولية حاليا 13 تحقيقا رسميا آخر في قضايا، يتعلق بعضها بأفغانستان وبنجلادش/ميانمار وجورجيا. وهناك 13 تدقيقا مبدئيا آخر، منها ما يتعلق بفنزويلا والفلبين وأوكرانيا.
وأبرز مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية هو الرئيس السوداني السابق عمر البشير، المطلوب فيما يتصل بجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور. وكان أول رئيس دولة سابق يمثل أمام المحكمة هو لوران جباجبو، رئيس ساحل العاج السابق الذي تمت تبرئته من جميع التهم في 2019 بعد محاكمة استمرت ثلاث سنوات. ورغم دعم الكثير من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي للمحكمة، فإن قوى كبرى أخرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وإسرائيل ليست عضوا بها وترى أنه يمكن استغلالها في محاكمات ذات دوافع سياسية.